معمودیة المسیح
[وكانت معمودية المسيح بالماء إعداداً لمعموديته بالدم، كان لابد للحمل أن يُغسل بالماء قبل أن يُقدم لذبيحة المحرقة وكان لابد للمسيح أن يظهر بين الخطاة. في معمودية الأردن شارك الخطاة، وفي معمودية الموت حمل خطاياهم.] (شين)
18 – المعمدان يُعطي المعمودية للمسيح
وأخيراً وصل المسيح بعد رحلة طويلة من الناصرة حتى بيت عبرة. كانت الرحلة بأيامها الثلاثـــة فرصة كبيرة ومهولة ليسترجع فيها المسيح كل ما سمع من أمه كيف تقبلت البشارة من الملاك وكيف أن البشارة بميلاده هو شخصياً تقوم أساساً على إرساء عملية الخلاص الكبرى على أكتافه ليخلص الشعب من خطاياهم.
كان يسير وهو يتصور ثقل الرسالة، ولكن الروح كان يعدّ فكره لتقبل حركات السماء لتستعلن له كل ما يختص بإرساليته أولاً بأول وعملاً بعمل بل وتوجيهاً دائماً بالصوت الداخلي.
صحيح أن إعطاء المعمودية بالماء للمسيح وهو بلا خطية يُربك القارئ البسيط إن لم يسعفه الشرح اللاهوتي الحقيقي والمناسب جداً. إذ لا يمكن أن يتصور أحد أن المسيح يخضع للمعمودية بالماء على مستوى فكر الآخرين وحالهم ونفس غرضهم؛ إذ تنعدم كلية أية علاقة للتوفيق بين العماد بالماء من المعمدان ووجود الخطية أو حتى افتراضها في شخص المسيح للتطهير، لأنه هو نفسه الفادي الذي جاء ليرفع الخطية ويبطلها بدمه.
ولكن الحاصل أمامنا أن المسيح تقدَّم ليتقبَّل المعمودية من المعمدان تحت فرض هذه المعاني ! وإلى هنا كان يمكن للمعمدان أن يستمر في ظنه أن المسيح كان في حاجة إلى معموديته لو لم ترتفع رؤيته باستعلان داخلي ليدرك فيها مدى الهوة التي تفصله عن قامة المسيح الإلهية. وهذا نراه بوضوح في إنجيل ق. متى وحده المحسوب أنه الإنجيل الكنسي الطقسي الأول، عندما تمت المقابلة لأول مرة؛ إذ بادر المعمدان المسيح بقول واضح اعترف فيه بعدم استحقاقه هو أن يُعمد المسيح، بل وبالتالي أنه هو نفسه الذي يحتاج أن يعتمد من المسيح.
+ «حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه. ولكن يوحنا منعه قائلاً: أنا محتاج أن أعتمد منك، وأنت تأتي إلي ! فأجاب يسوع وقال له: اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر. حينئذ سمح ا له.» (مت 3: 13-15)
أما الشرح الكتابي، فالبر هو بر الاتضاع بالنسبة للمسيح.
أما الشرح اللاهوتي، فالمسيح جاء إلى المعمودية وهو حامل البشرية كلها في جسده، فهو ليس من أجل نفسه جاء لأنه “القدوس ابن الله” بشهادة الملاك، ولكن من أجل البشرية التي يحملها في نفسه. فبعماده يكون قد أكمل للمعمدان عماد كل إنسان – قبل أن يعتمد منه – : يهوداً كانوا أو أمماً!!
ولكن قدَّم لنا المعمدان نفسه تفسيراً آخر غاية في الحبك والإبداع، يقوم على أساس أنه إنما جاء ليعمد حتى يُستعلن المسيًّا في شخص يسوع حينما يأتي إليه كإنسان عادي، فتشهد السماء أنه المسيا وابن االله هكذا: «وأنا لم أكن أعرفه. لكن ليظهر لإسرائيل لذلك جئت أعمد بالماء. وشهد يوحنـــا قائلا: إني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقر عليه. وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء، ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الذي يُعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله.» (يو 1 : 31-34)
وكما عبر موسى بشعب إسرائيل – في البحر الأحمر – لنقله من العبودية إلى الحرية، هكذا عَبَرَ المسيح في مياه الأردن وفي كيانه البشرية بأجمعها. ولما نزل عليه الروح القدس بشبه حمامة كــــان كأن الله يُقدِّمه ذبيحة للفقراء معلناً أن “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”، فهو ذبيحة سماوية. وسواء حمامة أو حمل فهو ذبيحة عن الخطية مقدَّسة بالروح القدس وهو ارتضى أ أن يعتمد في مائنا ليشترك فيما لنا من خطية، لنعتمد نحن في موته لننال ما له من فداء وخلاص.
ولما خرج من الماء وأخذ يصلّي انفتحت السماء ونزل الروح بشبه حمامة واستقر عليــــه، فكــــان وكأنه نوح الجديد والمياه الجديدة مياه النجاة للتجديد، والحمامة استقرت عليه كما على الأرض الطيبة. وكأنما نحن في طوفان جديد ونجاة وسلام لحياة رضا من الله ومسرة.
السماء تتدخل لتدعيم استعلان المسيح كابن الله
«حدث هذا عند خروج المسيح من ماء الأردن بعد العماد مباشرة، إذ بينما كان واقفاً يصلّي كالتحام مباشر بين الابن والآب – انفتحت السماء وجاء صوت من السموات قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ .» (مت 17:3)
وهذا هو الذي أعطى للمعمدان الشهادة التي شهد بها: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله .» (يو 34:1)
وبهذه الشهادة المضاعفة من يوحنا المعمدان النبي، ومن الآب من السماء المفتوحة، دخل المسيح إلى خدمته مؤيَّداً بصوت النبوَّة من الأرض وصوت الآب من السماء.
استمرار المعمدان في خدمته بعد عماد المسيح
لأول وهلة وبالقراءة السطحية يصير هذا نفسه سؤالاً ضد المعمدان، فإن كان نور الشمس قــــد أشرق وسطع ودخلنا يوم الرب، فلماذا بعد مصباح الليل؟
ولكن على القارئ أن يتأنى في الحكم. فصحيح أن المعمدان أدرك سر المسيا في شخص يسوع ونسب إليه بالضرورة كل ما سبق وقاله العهد القديم بجميع أنبيائه، باعتباره مؤسس الملكوت الموعود. ولكن من هذا المنظور نفسه كان يعتقد المعمدان وكان ينتظر أيضاً أن يُعلن المسيح عن عمله الإلهي ويباشر بأعماله استعلان نفسه وعمله من جهة هذا الملكوت فلا يعود يحتاج بعد إلى شهادة المعمدان أو عماده بالماء! وحينئذ كان عليه أن يكفَّ مباشرة وفي الحال عن خدمته وعمله ورسالته التي أخذها من السماء، وكان بناء على ذلك مفروضاً أن يوجه تلاميذه إلى اتباع المسيَّا، إذ لا يكون لهم ولا له عمل بعد.
ولكن لعدم حدوث ما كان يتوقعه المعمدان من المسيح بعد استعلانه في المعمودية ونزول الروح القدس عليه، اضطر أن يحتفظ برسالته كما هي: يُعدُّ الطريق لملكوت المسيَّا، ويستمر في ذلك إلى أن يُعلن المسيا ملكوته بل ويفتتحه باعتباره الملك الآتي للخلاص، ويرفع راية ملكوته حتى ينضوي الكل تحت عمله. أما الإعلان عن ملكوته كما كان ينتظره المعمدان فبإعلان واضح سماوي الأرض ليجلس ملكاً على إسرائيل جهاراً.
إذن، فالمعمدان كان صادقاً لرسالته وأميناً للدعوة في استمراره للإعداد للملكوت حتى يكمل ظهور المسيح. يزكي هذا التصرُّف مدى خصوصية رسالة المعمدان بينه وبين الله، وليس للشعب دخل في ذلك. وبالتالي لا تدخل العلانية في تصرفاته التي حتمت عليه هذا السلوك.
المعمودية وماهيتها عند المعمدان وعند المسيح
+ «الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله .» (يو 5:3)
الأمر في معمودية يوحنا استوفته الأناجيل. فقد اتضح أن المعمدان إنما جاء ليعمد حسب قوله، لكي يتقبل علامة من السماء أثناء العماد حينما يأتي المسيح إليه فيعرفه ويقدمه للشعب. وكان قــــد سبق وأعلن ذلك حتى لا يختلط الأمر على الناس فيظنونه أنه هو مسيا.
أما المعمودية بالنسبة للمسيح، أي لماذا اعتمد المسيح؟ فبحسب روح الإنجيل، إن كانت خبرة المعمدان عن المعمودية هي كونه ينفتح على إعلان من السماء ليعلن له عن المسيا القادم إليه، تكون المعمودية غير مقبولة بهذا الوصف بالنسبة للمسيح وتتعارض كلية مع طبيعته وشخــصـه كـابن الله . ولكن تعليل معمودية المسيح يتحتَّم أن يبتدئ من نقطة جوهرية وأساسية وهي الإيمان المطلق بلاهوت المسيح، القائم فيه، وغير المستحدث بأي حال من الأحوال. وحينئذ ممكن أن نرى أن اللوغس الإلهي باتخاذه جسد البشرية لكي يجدّده أو يخلقه خلقاً جديداً روحياً من طبيعته، كان يلزمه بالضرورة قبل أن يتعامل معه بالروح القدس للميلاد الثاني من فوق أو الخلقة الجديدة بالروح، أن يعبر به معمودية يوحنا التي بالماء. وواضح لدينا من حادثة عماد المسيح أنه بعد أن أكمل معمودية الماء من يد المعمدان، انفتحت السموات للتو ونزل الروح القدس واستقر على المسيح. وبذلك يكون قد قبل المسيح الروح القدس من السماء ليدعم به البشرية التي عبر المعمودية بها، والتي اتخذها لنفسه من العذراء تمهيدا لدخوله الخدمة والمناداة بالملكوت.
ولكن لا يُقبل بأي حال من الأحوال أن نفهم أن الروح القدس حل على المسيح لأنه لم يكن فيه الروح سابقاً فامتلأ من الروح القدس في المعمودية، لأن المسيح مولود بالروح القدس وملء الروح القدس لم يفارقه لحظة واحدة ولا طرفة عين كونه هو الإله ابن الله الذي أخذ ناسوته من العذراء. بهذا نفهم تماماً أن الروح القدس حلَّ على البشرية التي يحملها المسيح كما هو حال فيه أصلاً، فكان حلوله على المسيح كالمثيل على المثيل. فإن قيل كما في الإنجيل إن المسيح رجع من نمر الأردن وهو ممتلئ من الروح القدس، فهذا إشارة إلى امتلاء البشرية التي فيه؛ أما هو فلم يوجد قط لا قبل الميلاد ولا بعد الميلاد بدون ملء الروح القدس.
وكما جاز المسيح الآلام بالجسد فقيل إننا تألمنا معه، ، وأيضاً جاز الموت بالجسد فقيل إننا متنا معه؛ هكذا جاز المسيح العماد بالجسد فينبغي أن يُقال إننا اعتمدنا معه. فكون المسيح هو ابن الله الذي لا يموت فهذه حقيقة مطلقة، ولكن لم تمنعه من أن يموت بالجسد مشتركا . البشرية في عقوبة موتها ولعنتها حتى يوفي الموت واللعنة معها ليرفعها عنها إلى الأبد بقيامته. كذلك فالمسيح لم يكن بحاجة أن يعتمد كما أنه كان ليس بحاجة أن يتألّم ،ويموت ولكنه اعتمد من أجل البشرية التي فيه، وامتلأ بالروح القدس النازل من السماء من أجل البشرية التي فيه. إذن، فكل ما جازه المسيح في حياته على الأرض على المستوى البشري كان ضرورة لكي تكمل البشرية التي فيه بالكمال اللاهوتي الذي له. كذلك كل ما حصل عليه من الاستعلانات والإلهامات الإلهية النابعة من مع أعماقه كانت أيضاً لكمال البشرية التي فيه فالمسيح كان يحيا ويعمل بانسجام كلي ومطلق بين اللاهوت والناسوت أي البشرية التي فيه.
فالمسيح لما تقدَّم للعماد كان على وعي كلي وإلهي أنه ابن الله المدعو للقيام بعمل مسيا الدهور بحسب الأنبياء، وكان يعلم علم اليقين حينما ذهب إلى العماد أنه إنما ذهب ليعتمد بهذا الجسد ليكمله إلى الكمال اللائق أن يجوز به الفداء. فكما كان يتحتّم على ذابح خروف الفصح أن يتأكد غسله بالماء وتطهيره أولاً وإلا لا يذبحه، هكذا الفصح الذي قدمه المسيح بجسده كان يليق به أن يغتسل أولاً في الأردن. لقد نزل المسيح المعمودية، والمعروف عنه عند الناس أنه ابن مريم، وخرج من المعمودية وقد عُرف يقيناً بصوت الله من السماء أنه ابن الله بشهادة الآب من السماء والمعمدان يسمع ويشهد! الذي لم يكن إلا مجرد استعلان عن واقع.
ماء المعمودية وعمله
إنه يُحسب كتعبير قوي وبليغ أن المسيح يحمل بشرية موحدة ومصالحة معه بمعمودية واحدة للجميع فيه. وذلك بحسب جوهر القصد من معمودية يوحنا: «أنا أعمدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعـــدي هو أقوى مني. … هو سيعمدكم بالروح القدس ونار» (مت 11:3) ،إذن فمعمودية الماء إعداد وتمهيد لمعمودية الروح القدس، تماماً كما نفهمها في العهد الجديد في طقس المعمودية في الكنيسة حيث معمودية الدفن في الماء باسم الثالوث تميّئ للخروج من الماء (القيامة) وتلقي الروح القدس بالميرون. فإذا أخذنا معمودية المسيح نفسها كرمز نبوي يكون اعتماده بالغطس تحت الماء ثم الخروج لتقبل الروح القدس من السماء هو تصوير قوي لما سيجريه المسيح في نفسه بعبور الموت ثم القيامة بقوة الروح القدس. سر