حول طقس العماد

13 – هل للعماد زمان معين؟

فى سفر أعمال الرسل قبل خصى كنداكة المعمودية على يدى فيلبس الرسول وهو فى طريق رحلته إلى بلده، فقد حرص الرسل فى بدء الكرازة بالمسيحية أن يقدموا المعمودية للمؤمنين فى أى وقت، انتهازاً لكل فرصة لخلاص المؤمنين. وما نقوله عن الخصى بشأن كرنيليوس وأهل بيته (أع10: 48) وسجان فيلبى والذين معه (أع16: 33) الخ.

وفى القرن الثانى إذ انتشرت المسيحية فى كثير من الدول ألزمت الكنيسة طالبى العماد بالدخول فى فترة إعداد طويلة بحرص شديد ومهابة، وبالتالى ظهرت ايضاً مواسم معينة لخدمة المعمودية. فيحدثنا العلامة ترتليان عن الفصح (عيد القيامة) والعنصرة (عيد البنطقستى) كموسمين للعماد المقدس: [الفصح هو الوقت الذى فيه نحتفل بآلام المسيح والذى فيه نعتمد، فإنه ليس من الخطأ أن نفسر رمزياً الحقيقة التالية وهى أنه عندما أراد الرب أن يحفظ الفصح قال لتلميذيه: يلاقيكما إنسان حامل جرة ماء (مر14: 13)، فمن خلال علامة الماء أظهر موضع الاحتفال بالفصح. أما الوقت الأكثر اتساعاً لممارسة الحميم فهو فصل البنطقستى (العنصرة) حيث عرفت قيامة الرب بين التلاميذ ومُنحت نعمة الروح القدس وظهر رجاء مجئ الرب… ومع هذا فإن كل يوم بل وكل ساعة هى للرب. كل وقت مناسب للعماد. فإن كان هناك فارق فى العيد لكن ليس الفارق فى النعمة ([417])].

هنا يُوضح لنا العلامة ترتليان عادة العماد المقدس فى عيدى الفصح والبنطقستى، لكن العماد فى نعمته – كما يقول – لا يختلف أن يُتمم فى عيد أو فى غيرعيد.

الآن فى كنيستنا القبطية الأرثوذكسية فقد خصص يوم الأحد السابق لعيد الشعانين للعماد ودعى بأحد التناصير. أما سرّ ارتباط القيامة بالمعمودية فهو أن عيد قيامة الرب هو محور حياة الكنيسة ومركزها. قيامة السيد هى الصخرة التى تتكئ عليها الكنيسة لتعيش مطمئنة وسط دوامة هذا العالم، لا تخاف أمواجه أو عواصفه أو شروره، بل تحيا على رجاء القيامة مرتبطة بعريسها الذى لا يموت، مبّررة ومقدسة فيه. هذا الرجاء وهذا التبرير وهذا التقديس لا يمكن التمتع به إلا من خلال المعمودية التى فيها ندفن مع ربنا يسوع ونقوم، أى نقبل فصحه كفصح شخصى لنا. وكما يقول الرسول “أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع اعتمدنا لموته. فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً فى جدة الحياة” (رو6: 3 – 4).

لكن ما نريد أن نؤكده أن الآباء حذروا من التأخير فى نوال سرّ العماد وأوصوا بعدم الانتظار حتى لعيد من الأعياد مادام قد حان الوقت المناسب لنوال العماد. يقول القديس باسيليوس الكبير: [لا يوجد وقت خاص للعماد، لأن عمر الإنسان كله للمعمودية. كل وقت هو وقت مقبول لقبول الخلاص سواء أكان بالنهار أم بالليل، كل ساعة ودقيقة ولحظة تصلح للمعمودية ([418])].

14 – لماذا كانت تسجل أسماء طالبى العماد؟ وكيف؟

وصفت الراهبة الأسبانية اثيريا Etheria هذا الطقس كما شاهدته فى أورشليم فى القرن الرابع: [كان من يرغب فى تقديم اسمه فى عشية بداية الصوم الأربعينى يتقدم، فيقوم قس بتدوين الأسماء. وفى اليوم التالى، أى فى بداية الصوم حيث تبدأ الأسابيع الثمانية وفى الكنيسة الوسطى المعروفة باسم الاستشهاد Martyrium يجلس الأسقف على كرسى ويقود القس كل راغب فى المعمودية واحداً يلو الآخر إلى الأسقف. ويأتى الرجال مع أشابينهم والنساء مع أشابينهم. عندئذ يسأل الأسقف الذين جاءوا مع طالب العماد وخصوصاً جيرانه: هل يعيش بتقوى؟ هل يكرم والديه؟ هل يسكر ويكذب؟ فإن وُجد طالب العماد بلا لوم وشهد عنه الذين قدموه عندئذ يُسجل الأسقف اسمه بيده، أما إذا وجد لوماً ضده فى شئ ما، فيقول له: “اذهب أصلح حياتك وعندئذ تقدم للمعمودية ([419])].

هكذا يمتزج تسجيل الأسماء بنوع من الاختبار حيث يُفحص فيه طالب العماد فحصاً دقيقاً فى وجود الإشبين والجيران للتأكد من صدق نيته وسيرته قبل تسجيل اسمه، على أن يعود الأسقف ويفحصه مرة أخرى قبيل عماده مباشرة.

دعا القديس ديونسيوس الأريوباغى فى كتابه “الرئاسة الكهنوتية” سجل الكنيسة هذا “سفر الحياة”، ورأى القديس غريغوريوس النيسى فى هذا العمل إصبع الله نفسه تسجل أسماءهم، إذ يقول: [أعطونى أسماءكم لكى ما أكتبها بالحبر، ولكن الرب نفسه ينقشها على ألواح لا تفسد، يكتبها بإصبعه كما سبق فكتب شريعة العبرانيين ([420])].

كانت الكنيسة تهتم أولاً بنية طالب العماد، فكما جاء فى التقليد الكنسى للقديس هيبوليتس: [ليُمتحنوا من جهة السبب الذى لأجله جاءوا إلى الإيمان، وليشهد لهم الذين يُحضرونهم]، [ليتأكدوا من جهة صدق نيّة طالب العماد. إن كان عبداً فليُنظر ان كان سادته يشتكون عليه]، [وإن كان متزوجاً ليُنظر إن كان يتمم مسلمات قانون السلوك المسيحى ([421])]. وفى حديث القديس كيرلس الأورشليمى لطالبى العماد: [إن كنت ها هنا بجسدك دون ذهنك فلن تنتفع شيئاً، فإنه حتى سيموت الساحر جاء يوماً إلى الجرن (أع8: 13) واعتمد دون أن يستنير. فمع أنه غطس بجسده فى الماء لكن قلبه لم يستنر بالروح. نزل بجسده وصعد، واما نفسه فلم تُدفن مع المسيح ولا قامت ([422])].

15 – ما هى مدة تعليم الموعوظين؟

تسجيل أسماء الموعوظين راغبى العماد فى بدء الصوم الكبير واختبارهم لا يعنى بدء علاقتهم بالكنيسة، فإنهم غالباً ما يكونوا قد بقوا تحت رعاية الكنيسة مدة ثلاث سنوات ([423])، ينتقلون فيها من فئة إلى أخرى حتى تطمئن الكنيسة على حسن نيتهم وجدّيتهم فى طلب الخلاص وتمسكهم بالإيمان وتقوى سيرتهم فينتقلون إلى آخر درجة من الموعوظين وهى “طالب العماد”. هذا الانتقال يختلف من شخص إلى آخر حسب غيرته ودراسته الفردية الخاصة، قبل أن ينضم إلى صفوف الموعظين أو أثناءها. جاء فى التقليد الكنسى للقديس هيبوليتس: [إن كان إنسان ما غيوراً مثابراً حسناً… فليُقبل، فليس الزمن هو الذى يحكم بل السلوك ([424])]. أما درجات الموعوظين فثلاث:

أ. السامعون: كان يُسمح لهم بحضور الوعظ وسماع فصول الكتاب المقدس، ثم يُخرجهم الشماس ([425]). إنهم لا يتمتعون مع الراكعين بحضور صلوات قداس الموعوظين.

ب. الراكعون: يحق لهم حضور قداس الموعوظين، فيتمتعون بسماع الفصول من الكتب المقدسة والعظة ثم الصلاة الخاصة بالموعوظين ([426]) وهى جزء من الأواشى تُصلى بعد العظة، ثم يأخذون وضع اليد للبركة وهم ركوع.

ج. طالبوا العماد: ويُدعون بالمستنيرين أو الذين سيُعمدون.

لم تكن الكنيسة جامدة فإنها تسمح للموعوظ فى أية فئة بنوال سرّ العماد إن كان فى خطر الموت، كما ذكر القديس باسيليوس فى رسالته إلى القنصل الرومانى Anneheus الذى قبل المسيحية عن طريق زوجته، وكان فى خطر الموت فعُمد فوراً، ويقول القديس أبيفانيوس أسقف سلاميس بقبرص أن الموعوظ الذى آمن بالقيامة من الموت وسكن هذا الرجاء فى قلبه كان يُعمد إذا تعرض للموت لكى لا يموت رجاؤه.

على أى الأحوال كانت فترة الصوم الكبير هى الفترة التى تُعبأ فيها الطاقة لتعليم الموعوظين يومياً، إذ تقول الراهبة اثيريا: [العادة هنا أن يأتى الذين سيتعمدون كل يوم فى فترة الصوم الكبير].

يصف القديس كيرلس الأورشليمى فى فترة الصوم كيف يجتمع الرجال معاً ليقرأ أحدهم بينما يُصغى الباقون، وتجلس الحدثات معاً يُلحن المزامير أو يقرأن، لكن بصوت خافت فتتحرك شفاهن دون ان يسمع أحد أصواتهن. كما تجلس النساء المتزوجات معاً ويصلين، وتتحرك أيضاً شفاهن دون أن تُسمع اصواتهنن لكى يُوهب لهن صموئيل وتلد أنفسهن (العواقر) الخلاص الذى هو “الله يسمع الصلاة (صموئيل)” إذ هذا هو تفسير اسم صموئيل ([427]).

16 – من هم معلمو الموعوظين؟

كانت الكنيسة منذ نشأتها منطلقة للكرازة، تنفذ كلمات الرب: “من لا يجمع معى فهو يفرق” (مت12: 30؛ لو11: 23). فالكل يشعر بمسئوليته نحو الشهادة للسيد المسيح، إن لم يكن بالكلام فبالسيرة الصالحة، وكما يقول العلامة أوريجينوس: [كل تلميذ للمسيح هو صخرة، فيه تكتمل الكنيسة الجارى بناؤها بيد الله ([428])]. ويُحمل القديس كيرلس الأورشليمى مسئولية تعليم الموعوظين أطفالاً كانوا أو بالغين على الآباء والأشابين، إذ يقول: [إن كان لك ابن حسب الجسد انصحه بهذا، وإن كنت قد ولدت أحداً خلال التعليم فتعهده برعايتك ([429])]. لقد دخل القديس غريغوريوس العجائبى قيصرية الجديدة وبها سبعة عشرة مسيحياً فقط، وحينما تنيح بسلام لم يكن بها سوى سبعة عشرة وثنياً.

على أى الأحوال لم يكن يُحرم كاهن ما من خدمة الموعوظين المنظمة فى الكنيسة، بل يقوم كل منهم بنصيب فيها. أما المرحلة الأخيرة من التعليم فغالباً ما كان يقوم بها الأسقف نفسه أو كاهن له قدرته التعليمية بالنسبة لهم.

17 – ما هى مادة التعليم للموعوظين؟

أ. تقدم دراسات خاصة للذين كانوا من أصل يهودى تختلف عمن كانوا من أصل وثنى، كل فئة لها ما يناسبها حسب ثقافتها ودرساتها السابقة وبيئتها.

ب. يقوم معلم (ديدسكالوس) بالقراءة لهم من الأسفار المقدسة وبعض الكتب الكنسية الهامة. وقد أشار العلامة أوريجينوس إلى هذه الأسفار، وهى غالباً ما تمتاز بالاهتمام بالحياة السلوكية مثل إستير ويهوديت وطوبيا والحكمة ([430])، كما أشار البابا أثناسيوس الرسولى إلى ذات الأسفار مع بعض الكتب الكنسية مثل الديداكية والراعى لهرماس.

ج. تُقدم لهم دراسات تأملية لاهوتية مبسطة تضم أهم العقائد المسيحية، ظهرت فى شكل “قانون الإيمان للرسل ([431])، والذى كان أشبه بدستور للإيمان المسيحى، وقد صار نواة لقانون الإيمان الأثناسيوسى الذى وضعه مجمع نيقية المسكونى عام 325م، وكمله مجمع القسطنطينية عام 381م. ويُعتبر هذا القانون ملخصاً يُقدم للموعوظين مع شرح له لكى يفهمونه ويحفظونه.

جاء فى القوانين (الدساتير) الرسولية: [على الموعوظين أن يتسلموا قبل المعمودية معرفة الله الآب والابن الوحيد والروح القدس، ونظام خلق العالم والإعلانات الإلهية، ولماذا خُلق الإنسان والعالم ويتعلم من ناموس الطبيعة لكى يعرف الهدف الذى خُلق لأجله. ويتعلم كيف يعاقب الرب الخطاة بالماء والنار وكلل قديسيه فى كل جيل، مثل شيث وأنوش وأخنوخ ونوح وإبراهيم وملكى صادق الخ. ويتعلم تجسد المسيح وآلامه وقيامته وصعوده، وما معنى جحد الشيطان والدخول مع المسيح فى عهد ([432])]. ويظهر اهتمام الكنيسة بتسليم قانون الإيمان أن الأسقف بنفسه هو الذى يقوم بهذا العمل، فقد كتب الأسقف أمبروسيوس إلى أخته مرسيلينا: [فى اليوم التالى، إذ كان يوم الرب، بعد الدرس والعظة، كما خرج الموعوظين، سلمت طالبى العماد قانون الإيمان فى معمودية البازليكى ([433])].

وكتب الأنبا يوحنا الأورشليمى للقديس جيروم: [العادة عندنا أننا نسلم التعليم بالثالوث القدوس بصورة عامة خلال الأربعين يوماً للذين سيتعمدون].

د. بعد تسليم قانون الإيمان وشرحه يتسلم طالبوا العماد الصلاة الربانية. وكما يقول القديس أغسطينوس أنه بعدما نعرف من نؤمن به نصلى إليه، فإنه كيف نصلى لمن لا نعرفه ولا نؤمن به؟!

ﮪ. فى الفترة الأخيرة يقوم المعلمون بتحفيظهم بعض التلاوات أى الصلوات القصيرة.

و. أخيراً تُقدم لهم الكنيسة مائدة دسمة عن شرح طقس العماد والميرون وسرّ الإفخارستيا فى اختصار يمكننا تقسيم مادة التعليم السابقة إلى قسمين رئيسيين: دراسة سلوكيه وعقيدية مبسطة، ثم دراسة مبسطة لشرح أسرار الكنيسة.

18 – ما هو الإعداد الروحى لنوال سرَ العماد؟

إعداد طالبى العماد لا يقف عند مجرد الاستماع إلى التعاليم وحفظ قانون الإيمان وبعض الصلوات، وإنما كما يقول العلامة ترتليان: [يجدر بالآتين إلى المعمودية أن ينشغلوا على الدوام بالصلوات والأصوام والمطانيات والأسهار، كل هذا مع الاعتراف بالخطايا السابقة ([434])]. كما جاء فى الدساتير الرسولية: [ليصم من يتقدم للعماد قبل ان يعتمد ([435])]. ويقول القديس كيرلس الكبير: [هيئوا قلوبكم لقبول التعليم من أجل شركة الأسرار السمائية الخالدة. صلوا بأكثر مثابرة لكى يجعلكم الله مستحقين الأسرار السمائية الخالدة. لا تنقطعوا عنها نهاراً وليلاً، بل عندما يُطرد النوم من أعينكم فلتتحرر أذهانكم للصلاة. وإن ثار فيكم أى فكر معيب حوّلوا أذهانكم إلى التأمل فى الدينونة فتذكرون الخلاص. قدموا أذهانكم كلها للدراسة حتى تحتقروا الأمور الدنيئة].

فاصل

من كتاب: كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ3 – الكنيسة ملكوت الله على الأرض – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى