كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي - القمص متى المسكين
التقليد التفسيري يجمع شمل الكنيسة
ويحفظها من الإنقسامات الداخلية
هذه كانت يقظة الآباء الرسوليين (القرن الثاني) والأساقفة الذين تسلموا منهم الكنيسة حسب التقليد الرسولي، ووقوفهم ضد الهرطقات اليهودية والغنوسية والمانية في القرنين الثاني والثالث بتفسيراتهم للتقليد الرسولي في كتاباتهم ورسائلهم ودفاعهم المجيد عن قانون الإيمان، كان هذا كفيلاً بعرقلة نمو البدع والهرطقات تماماً، حتى إنه في بداية القرن الثالث ابتدأ ينقلب ميزان القوى بسبب اليقظة، فارتدت الغنوسية والوثنية الجبارة على أعقابها ووقفت تدافع عن نفسها، ولكن ببزوغ القرن الرابع سقطت عظمة الوثنية ومعها الهرطقات التابعة :
أولاً : بسبب قدرة الإيمان المسيحي وما كان يسنده من مؤلفات فاقت في قوتها ورصانتها وأسلوبها الفلسفي والمنطقي والروحي كل كتابات الوثنية وفلاسفتها.
وثانياً: نبذ الدولة اليونانية والرومانية للوثنية كدين للدولة واحتضانها للمسيحية، وهذا ولو أنه ظهر من وجهة العدل أنه تحيز للمسيحية وأن الضربة الأخيرة التي سددتها المسيحية للوثنية وهرطقاتها كانت بيد و بسلطان الحكومات، وليس بالمنطق والمحاجاة أو برهان الروح؛ إلا أن هذا مردود عليه، لأن الوثنية كانت سابقاً وأصلاً ديناً للدولة، فكون الدولة تنبذها وتقبل المسيحية فهذا برهان ضمني على تفوق المسيحية جذرياً من جهة المنطق والمحاجاة والروح والله وكل شيء !! وهذا بفضل تقليدها الرسولي الرصين.
ولكن هذا لم يعدم قيام هراطقة من داخل الكنيسة نفسها من المسيحيين المنتمين لتقليدها المقدس والذين كانت لهم درجات كهنوتية ورئاسة، الذين ازعجوا الكنيسة في كل مكان. فالشيطان الذي ألقى بذار التعاليم المزيفة وأضل فكر الشيع اليهودية والغنوسية خارج الكنيسة، استطاع من حين لآخر أن يلقي نفس البذار داخل الكنيسة لعله يشقها من الداخل .
وأولى هذه الهرطقات «الداخلية» كانت هرطقة المقاومين للثالوث الأقدس الذين كانوا يدعون باسم Monarchians أي الموحدين بالله، وهي أصلاً من كلمة يونانية أرثوذكسية أصيلة كان يستخدمها الآباء بالنسبة الله الآب، بصفته الأصل الواحد الذي ولد منه الابن وانبثق منه الروح القدس: أي وحدة الرأس أو الرئاسة أو البداية. ولكن استخدام هؤلاء الهراطقة لهذه الكلمة أفسد معناها التقليدي. كما كانوا يسمون أيضاً باسم موحدي الثالوث Unitarian
وهذه الهرطقة انقسمت إلى قسمين :
الأول: ينكر لاهوت الإبن ولاهوت الروح القدس مطلقاً، حيث اعتبروهما قوتين من قوات الله ، وأن المسيح لم يكن أكثر من إنسان حلت فيه قوة الله ، وهذه الشيعة تحمل رجعة إلى اليهودية « الإيبونيم».
الثاني: يؤمنون بلاهوت الإبن ، ولكن باعتبار الآب والابن مجرد ظهورين متعاقبين الله الواحد، وهذه رجعة إلى الغنوسية الدوسيتية ( الدوسيتيزم Docetism ) وهي «الشَّبَهية» ، أي أن التجسد ليس حقيقة بل هو وهم وخداع ، فلم يكن جسد ولا آلام ولا صلب وإنما شُبه لهم.
وأئمة القسم الأول من هذه الهرطقة هم:
– ألوجي Alogi من آسيا الصغرى وقد نبذ إنجيل يوحنا كله وسفر الرؤيا ، وقد حوكم وقطع سنة 170 م .
– ثيودوتس Theodotus من بيزنطة وكان له أتباع في روما ـ حوكم وقطع ( 190 202 م).
– آرتمون في روما ـــ حوكم وقطع (202-217) .
– بولس السمساطي ( 260م) أسقف أنطاكية وقائد مدني في نفس الوقت للملكة زينوبيا ملكة بالميرا. وهو أخطر هؤلاء الهراطقة جميعاً لكونه كان أسقفاً لإحدى كبريات كنائس الشرق. وقد سبب انزعاجاً عظيماً لكل سوريا. وحكم عـلـيـه مجمع محلي ( 180 أسقفاً) وقطع . و بسقوط بولس السمساطي عدو الثالوث القدوس سقطت بدعة المونارخيين « الموحدين بالله».
وأئمة القسم الثاني من هذه الهرطقة:
وهؤلاء هم الذين قالوا بأن الإبن هو الآب نفسه، فالله الآب باتضاعه تجسد، أي أن المسيح لا يوجد له آب فهو الله الوحيد، وقد أسمتهم الكنيسة لذلك باسم «مؤلمي الآب Patripassian » .
وقد لاقت هذه الهرطقة مساندة بعض الوقت من كرسي روما نفسه:
1- براکسیاس Praxeas من آسيا الصغرى ورحل إلى روما في زمان مرقس أوريليوس . وقد هاجمه ترتليان ببراعة ودعاه «حامل رسالة الشيطان المزدوجة» الأولى أنه مطارد للروح القدس والثانية أنه صلب الآب.
2 – نوئيتوس Noetus من سميرنا ( 200 م ) . ذاعت شهرته في روما ووجد تعضيداً هناك .
3- كالليستوس Callitus بابا روما (218-224)، تبنى تعاليم نـوئـيـتـوس وعلم بها قائلاً إن الإبن هو مجرد ظهور للآب في شكل بشري . فالآب والإبن والروح القدس شيء واحد أسماء لشخص واحد . وكان له أتباع يُلقبون بـ «الكاليستيين» ، هؤلاء أزعجوا كنيسة روما في الربع الأول من القرن الثالث، وقد قاومه هبولیتس مقاومة عنيفة.
[ونوئيتوس Noetus الذي من سميرنا … طلع علينا بهرطقته التي نقلها عن إبيجونوس Epigonus ووصل بها إلى روما … وقد أيدها كاليستوس وخرج منها بهرطقة خاصة به، ولكنها مستمدة من هرطقة النوئيتين… و يقول إن الله الآب خالق الكون هو الذي تسمى أيضاً بالإبن… وهذا الشخص الواحد هو مقسم إسمياً فقط.]
و بعد موت كالليستوس انتهت هذه الشيعة نهائياً من روما .
4ـ بريللوس Beryllus أسقف بصرة ببلاد العرب (بالقرب من بترا جنوب البحر الميت – البطراء الآن) يذكره يوسابيوس. وقد ذهب إليه أوريجانس العلامة المصري وأقنعه ، فتاب عن خطئه، وشكر أوريجانس . وتعتبر هذه من المحاكمات النادرة التي انتهت بالسلام و ببناء الكنيسة.
5- سابيليوس Sabellius كان أقوى وأشد وأذكى خصم للثالوث الإلهي في كل زمان ما قبل نيقية. وكانت طريقته ومنهجه من أخطر التعاليم التي واجهتها الكنيسة، لذلك فكانت تختفي وتظهر من خلال الأجيال حتى القرن التاسع عشر، فقد تبنى نظرية سابيليوس ضد الثالوث العلامة اللاهوتى الألماني شلير ماخر!
ويُظن أن سابيليوس كان من ليبيا ( المدن الخمس). وقد ذهب إلى روما واســتماله كــالـلـيـسـتـوس الأول بـابـا روما إلى بدعة مؤلمي الآب Patripassianism . وفي سبيل ذلك، أذاع سـابـيـلـيوس في روما بدعته الخاصة، كما أذاعها في المدن الخمس (كانت تابعة لمصر)، ولكن البطريرك ديونيسيوس الإسكندري حاكمه وقطعه سنة 260 م.
وعندما استغاث أتباعه ببابا روما الذي كان أيضاً يسمي ديونيسيوس ( وهو من أصل يوناني) حكم بقطعهم (262م) وأصدر بيانه الأرثوذكسي الذي أشار إليه القديس أثناسيوس في كتاباته الذي يقول فيه بعدم قبول تقسيم اللاهوت الواحد إلى ثلاثة آلهة ولا جعل الإبن هو الآب وملاشاة الثلاث أقانيم «فالثالوث ينبغي أن يُدرك في وحدة اللاهوت».
وقد أدخل سابيليوس في محاولاته لملاشاة عقيدة الثالوث أقنوم الروح القدس، معتبراً أن الثالوث هو مجرد ثلاثة ظهورات أو استعلانات لشخص الله الواحد بدون تغيير ذاتي، وأنه بعد تكميل الفداء عاد إلى وحدته الذاتية الأولى. فالآب هو استعلان الله في العهد القديم بإعطاء الناموس، والإبن استعلان الله نفسه في التجسد، والروح القدس استعلان الله نفسه في الإلهام. واستعلان الإبن انتهى بالصعود وبقي استعلان واحد لله هو الروح القدس للتجديد والتقديس . والثالوث نفسه ( كظهورات) هو مستحدث على الله ، فالله لما خلق العالم لم يكن ثالوثاً، وكذلك فإن اللوغس ( الكلمة) ليس هو الإبن بل هو الله نفسه المتكلم، ولأن اللوتس أكمل رسالته في العالم فإنه عاد إلى أصله وانتهى بذلك الثالوث.
وقد تتبع القديس أثناسيوس بدعة سابيليوس فوجدها ذات أصول رواقية فلسفية وثنية، وأنها تتوقف على صفة التضخم والإنكماش في طبائع الآلهة عند الرواقيين ، وكذلك وجد أن هذه البدعة ذات صلة بالكليمنتية المزيفة التي ظهرت في القرن الثاني.)
وكانت بدعة سابيليوس هي أول من فتح الطريق أمام الكنيسة في مجمع نيقية لتثبيت عقيدة الثالوث القدوس في ملء معناها الإلهي كثلاثة أقانيم قائمة دائماً أبداً من الأزل وإلى الأبد في الله الواحد ذي الجوهر الإلهي الواحد، عاملة معاً بانسجام كامل في الخلق والفداء والتقديس .
كتب القمص متى المسكين | دخول التقليد في عصر المجامع | ||
كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي | |||
المكتبة المسيحية |