المعمودية أيام الرسل
من كتاب المعمودية: الأصول الأولى للمسيحية
للأب متى المسكين
الفصل الأول
الجزء النظري
12 – المعمودية أيام الرسل
لقد افتتح المسيح الحديث عن المعمودية وطقسها أيام الرسل بقوله قبل صعوده: » لأن يوحنا عمَّد بالماء، وأمَّا أنتم فستتعمَّدون بالروح القدس، ليس بعد هذه الأيام بكثير … لكنكم ستنالون قوة متى حلَّ الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً في أُورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض. «(أع 1: 5-8)
هذا معناه أن معمودية يوحنا ستتغيَّر إلى معمودية الروح القدس التي تقبَّلها المسيح على الأُردن. وهنا نلمح علاقة سريَّة بين معمودية المسيح ويوم الخمسين، وأوضح ما فيها نزول الروح القدس بعلامة والتي كانت مع المسيح على هيئة جسمية مثل حمامة، وعلى الرسل كألسنة نار منقسمة استقرت على رؤوسهم. وهكذا بانتهاء عمل المسيح استلم الرسل العمل وبنفس الروح القدس. ومعمودية الروح القدس التي كانت حلماً مستقبلياً عند يوحنا المعمدان صارت حقيقة بمجرَّد قيامة المسيح وصعوده. وهكذا صارت معمودية الروح القدس اسخاتولوجية محقِّقة في ملء الزمن بانسكاب الروح القدس من عند الآب حسب “الموعد” (لو 49:24، أع 4:1) وباسم ا لمسيح.
والروح القدس الذي انسكب على الرسل أسّس في الحال حسب أمر المسيح الإرساليات والتبشير بالمسيح الرب: » جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم ربًّا ومسيحاً «(أع 36:2). وجميع المعجزات والقوات التي عملها الروح القدس آلت إلى تقدُّم الإنجيل، وتمَّ وعد يوئيل النبي بالرجاء المنتظر في الاسخاتولوجيا وانسكاب الروح على كل بشر.
وأول من أعلن تحقيق الصلة بين الروح القدس والمعمودية كان هو المسيح للتلاميذ بخصوص يوم الخمسين، وقد ابتدأت هذه المعجزة بالفعل مع الرسل، والرسل مارسوها من خلال معمودية الماء لكل الداخلين في الإيمان، حيث التحمت معمودية الرسل بالروح القدس مع معمودية الماء للتوبة وغفران الخطايا بالنسبة للشعب. وتمَّ الرجاء المنتظر منذ القديم أن يمتلك الشعب الروح القدس كبركة مستقبل الدهور لعهد الله الجديد مع الإنسان، واجتمع الرسل معاً والروح القدس:
+ » رأينا وقد صرنا بنفس واحدة، أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبينا برنابا وبولس … لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر غير هذه الأشياء الواجبة. «
(أع 15: 25و28)
+ » أمَّا الكنائس في جميع اليهودية والجليل والسامرة فكان لها سلام، وكانت تُبني وتسير في خوف الرب، وبتعزية الروح القدس كانت تتكاثر. «(أع 31:9)
+ » احترزوا إذن لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة، لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه. «(أع 28:20)
وارتفع مفهوم سكنى الروح القدس في المؤمنين حتى صار فكراً لاهوتياً كنسياً:
+ » وأمَّا أنتم فلستم في الجسد بل في الروح، لأن (since) روح الله ساكنٌ فيكم. ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح، فهو ليس من خاصته does not belong to him. «(رو 9:8)
وإلهام الروح القدس صار هو قوة الإيمان للإنسان الذي اعتمد:
+ » وليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلاَّ بالروح القدس. «(1كو 3:12)
+ » … لننال التبني. ثمَّ بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآبُ. «(غل 5:4و6)
فإذا وضعنا في الاعتبار أن الروح القدس لا يتغيَّر، فهو هو الذي حلَّ على المسيح وهو هو الذي حلَّ على الرسل، وهو هو الذي يحل على مَنْ آمن ودعى باسم الرب. فكل معمودية لأي فرد مربوطة بمعمودية المسيح ومسحته لأن الروح واحد. فالروح القدس هو الرباط الذي يجمع ويوحِّد الرب يسوع سواء في معموديته أو قيامته أو صعوده مع الذين يعتمدون باسم المسيح ويصيرون أعضاء في جسده. فهم يشتركون في ذات مسحة المسيح على الأُردن كما يقول ق. يوحنا:
+ » مَنْ يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه، وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا. «(1يو 24:3)
+ » بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا أنه قد أعطانا من روحه. «(1يو 13:4)
فالروح القدس هو الصلة وهو الرباط الذي يربط المؤمن بالمسيح، ومن خلال شركة الروح تتكوَّن الكنيسة وتُبرز المسيح إلى الوجود وتستعلن محبته. لهذا فمن يحوز على الروح القدس فهو يقبض على الحقيقة وعلى الوعد الأخروي بآن واحد، محقِّقاً في حياته صورة للدهر الآتي. وهو ضامن أن يتغيَّر بالنهاية إلى الكمال.
وبقبول المعمودية من أيدي الرسل يصير المعمَّدون الجدد تابعين للمسيح وأعضاءً مع المؤمنين
تحت اسم المسيح، وباشتراكهم في مسحة الروح القدس ينالون نصيباً في مسحة المسيح لعهد المسيَّا الذي قد حضر.
¯v¯
قصة هامة:
أمَّا المعمودية الآن وفي أيامنا فقد صارت كما يقول المثل “أثراً بعد عين”، والمعنى أنها بعد أن كانت عيناً قائمة لها مهابتها وجمالها وعظمتها، صارت آثاراً يطويها الزمن. فقد عاينت بنفسي حال بنايات المعمودية في الأديرة، ففي دير السريان في وادي النطرون معمودية ولكن أثراً بعد عين. ففي دير السريان غرفة هامة تسمَّى “آلجوْ al goo” أي المخزن بالسرياني، وكنت كلما أدخلها أشعر برهبة خاصة وقشعريرة. فسألت أحد الشيوخ ما سرّ هذه الغرفة وهي مساحتها تقريباً 8 متر × 8 متر ولها قبة هائلة مهيبة ترتكز على الجدران الأربعة، وموقعها غرب الكنيسة ملاصقة لها، فقال لي هذه الغرفة كانت مغطس يغطس فيها الآباء ليلة عيد الغطاس بعد القداس، حيث يكون الزمان شتاءً والبرد قارساً. فأدركت بحسِّي أنها كانت المعمودية وضاع زمانها فكانوا يملأونها ماءًا للغطس ليلة الغطاس تكريماً لغطاس المسيح. فلمَّا قدم هذا الطقس أيضاً وشاخ واستكثر الرهبان هذا الإجراء الشديد القسوة، ملأوا المغطس تراباً وصارت الغرفة مخزناً للمأكولات.
هذه النبذة هي قصة واقعية ولكنها تحكي حال المعمودية وما آلت إليه. كما علمت أنه توجد معموديات كثيرة في أديرة وكنائس أثرية تحتاج لمن يكتشفها ويقدم لنا عنها نبذة تاريخية ترد روحنا.
ولكن هذا يذكرنا ويحقِّق لنا أن عماد السيد المسيح في الأُردن كان فعلاً بالغطس، وأن هذا التقليد أخذته الكنيسة وصار تراثاً مقدَّساً.
كما أنه لا تزال كل عائلات الأقباط المحافظين يقدِّسون عيد الغطاس، فكل ابن يولد لهم في هذا العيد المقدَّس كانوا يسمُّونه “غطاس”، وهو اسم جليل يحمل ذكرى عماد السيد المسيح كما يحمل روح طقس العماد بالتغطيس.
معمودية الماء ومعمودية الروح | كتب الأب متى المسكين | الموعوظون |
كتاب المعمودية الأصول الأولى للمسيحية | ||
المكتبة المسيحية |