تفسير سفر الأمثال ٣ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثالث 
طريق الحكمة العملي

في الأصحاح الثاني تحدث سليمان الملك على مكاسب الحكمة وبركاتها، وفي هذا الأصحاح يُحدثنا عن الطريق العملي للحكمة. وفي نفس الوقت يؤكد الحكيم أن الذين يُطيعون وصايا الله ويقبلون القيادة الإلهية بتعرفهم على الله والصلاة بإيمان يجدون صحة لنفوسهم، وممارسات صالحة للجسد، ونجاحًا صادقًا في كل جوانب الحياة.

في كل غنى العالم لا يوجد تذوق للسعادة الفائقة كتلك التي تُقتنى في المسيح يسوع، الذي فيه تُذخر كل كنوز الحكمة التي تُوجد في معرفة الله ومحبته.

في هذا الأصحاح يُقدم الحكيم الخطوط العريضة للسلوك في طريق الحكمة من جهة علاقتنا بالله والناس، خاصة مرشدينا والفقراء والمحتاجين والمحيطين بنا، وأيضًا نظرتنا للمادة كما للضيقات الخ.

  1. الطاعة طريق النعمة في أعين الله والناس1-4.
  2. الاتكال على الله يقوِّم سبل الإنسان5-6.
  3. الاتضاع يهب شفاءً للنفس والجسد7-8.
  4. العطاء يهب غنى9.
  5. قبول تأديب الرب ممارسة عملية للبنوة11- 12.
  6. البحث عن الحكمة طريق الطوبى والغنى والمجد13-20.
  7. المشورة طريق آمن21-26.
  8. المحبة الأخوية واللطف27-30.
  9. اللعنة والبركة31-35.

 

  1. الطاعة طريق النعمة في أعين الله والناس

“يا ابني لا تنسى شريعتي،

بل ليحفظ قلبك وصاياي.

فإنها تزيدك طول أيام وسني حياة وسلامة” [1].

يبدأ سليمان الحكيم بالكشف عن الطاعة كطريق الحكمة. ولعل المتحدث هنا هو سليمان كأبٍ روحيٍ ومرشدٍ، أو المتحدث هو “الحكمة” أي “السيد المسيح”. على أي الأحوال الطاعة هي مشاركة للسيد المسيح في طبيعته: “إذ أطاع حتى الموت موت الصليب” (في8:2). ونحن إذ نثبت فيه كأعضاء جسده نحمل روح الطاعة لله ولوصيته ولرجاله ولمن يقودنا في الرب، بل ونجد عذوبة في ممارسة الطاعة حتى لمن هم أصغر منا أو أقل منا في المعرفة ما دامت “في الرب”. لقد بكى القديس باخوميوس وناح زمانًا في توبةٍ لأنه لم يطع كلمات ابنه الروحي تادرس، إذ كان الأخير مسئولاً عن مخازن الملابس وطلب من أبيه أن يستبدل ثوبه الرث بثوبٍ جديدٍ، فرفض الأب… لكنه ندم على عدم طاعته لابنه!

في اختصار يدعو سليمان تلميذه بروح الأبوة الحانية، سائلاً إياه أن يتذكر شريعة أبيه الروحي، بل شريعة الرب التي ينطق بها أبوه. يرددها دائمًا في أعماقه وعلى لسانه حتى لا ينساها، ويُمارس ما يتذكره لكي تُحفظ بالأكثر داخل القلب. وكأنه يقول له: “لست أطلب فقط أن تتذكرها بفكرك، وتحفظها عن ظهر قلبك، لكن ما هو أهم أن تنقشها في قلبك وتمارسها. بهذا تدخل الوصية إلى القلب لا لكي يغلق عليها كجوهرة ثمينة يلزم إخفائها فحسب، وإنما لكي تملك عليه وتقوده في الطريق الملوكي، وتدخل به إلى حضن الله نفسه. هكذا يقتني القلب “حكمة الله”، السيد المسيح، واهب كل الكنوز والغنى، حاملاً شركة طبيعة الطاعة اللذيذة التي له.

في صلاة نصف الليل نردد ما يقوله داود النبي: “خبأت كلامك في قلبي لكي لا أخطئ إليك” (مز11:119). كما نردد دومًا ما قيل عن الكاهن الشاب عزرا: “لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليُعلِّم إسرائيل فريضة وقضاءً” (عز10:7).

عندما نسمع: “فإنها تزيدك طول أيام وسني حياة وسلامة” [1]، لا نشتهي البقاء على وجه الأرض، وإن كان ذلك عطية إلهية صالحة، لكننا نطلب زيادة طول أيامنا المثمرة. كثيرون بقوا أحياء حتى بعد موتهم، وبقيت سيرتهم وصلواتهم وكلماتهم عاملة في حياة الناس، فهم وإن ماتوا لكنهم يعملون خلال نعمة الله التي قُدمت لهم.

يقول الحكيم: “سني حياة“، لأن البعض يعيشون “سني موت“. ربما تطول أيام غربتهم على الأرض إلى عشرات السنوات، لكنها سنوات موت، لا تحمل حياة ولا حبًا، وجودهم على الأرض كعدم وجودهم…

أما عن السلامة فيطلب المؤمن “سلام” القلب الداخلي، حتى وإن أحاطت به النيران من كل جانب، فيمارس مع الثلاثة فتية تسبيحهم وهو في أتون النار.

بالطاعة في الرب، النابعة من القلب نسلك الطريق الملوكي، طريق الرحمة والحق.

لا تدع الرحمة والحق يتركانك،

تقلدهما على عنقك” [3].

بقوله: “لا يتركانك” واضح أنه لا يتحدث عن مجرد سمتين، بل عن علاقة شخصية مع الرحمة والحق اللتين في الواقع هنا أقنوم الكلمة الإلهي الذي يود ألا يتركنا ولا نتركه. 

مسيحنا هو الطريق، نقتنيه فنحمل روح الحب والرحمة واللطف، هذا الروح الذي يسلك في الحق بلا انحراف يمينًا أو يسارًا. ففي حبنا نحمل الحق، وفي تمسكنا بالحق نمارس الحب. فالحب بدون الحق يتحول إلى ميوعة قاتلة للنفس كما للغير. والحق بلا حب يولد غضبًا يفسد العينين. الحب الصادق هو جانب آخر للحق، والحق الصادق هو الوجه الآخر للحب!

إذ نمارس الرحمة والحق تتحول الوصايا التي تبدو ثقيلة للغاية، وأحيانًا مستحيلة إلى قلادة ثمينة وجميلة تتزين بها عنق النفس بكونها أميرة سماوية، كما حدث مع يوسف في بيت فوطيفار (تك41:41) لذا يقول: “تقلدهما على عنقك” [3].

وصيتا الرحمة والحق تدخلان إلى الأعماق، وهناك تُنقشان على لوحيْ القلب، فلا تستطيع الأحداث أن تميل بالمؤمن إلى جانب أو آخر، بل يسلك باستقامة. لذا قيل: “اكتبهما على لوح قلبك” [3].

يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على القول: “لا تدع الرحمة والحق يتركانك” [3]، قائلاً بأن علاقتنا بالله ووصاياه ليست علاقة مؤقتة لفترة قصيرة، إنما نتمسك بالرحمة والحق على الدوام بلا انقطاع ولا نتركهما قط فلا يتركانا، فإننا في حاجة إليهما على الدوام.

V   يليق بنا أن نسر الله ليس مرة واحدة، بل على الدوام. الذي يدخل في سباق إن جرى عشرة أشواط وتوقف عن الجريّ آخر مسافة يفقد كل ما فعله. ونحن إن بدأنا الأعمال الصالحة ثم تهاونّا، نفقد كل ما صنعناه، ونفسد كل شيء.

لتصغِ إلى النصيحة النافعة: “لا تدع الرحمة والحق يتركانك” [3]. لا يقول افعل هذا مرة واحدة، أو مرتين أو ثلاث أو عشرة أو مائة مرة بل “لا تدعهما يتركانك“، مظهرًا أننا في حاجة إليهما، وليس هما في حاجة إلينا. إنه يُعلمنا أنه يجب أن نبذل كل الجهد لنحفظهما معنا[83].

V   لنطعهما الآن، ليس يومًا واحدًا، ولا ثلاثة أيام، بل يقول الحكيم: “لا تدع الرحمة والحق يتركانك”. لم يقل: “لمرة واحدة أو مرتين”. وكما نعرف كان لدى العذارى زيت يبقى معهن إلى النهاية (مت3:25،8). هكذا نحن في حاجة إلى زيت كثير، فنكون كشجرة الزيتون الخضراء في بيت الرب (مز8:52)[84].

القديس يوحنا الذهبي الفم

تُوضع وصيتا الرحمة والحق حول العنق كي تكونا موضع نظرنا، لا نتجاهلهما قط، كما تُنقشان على لوح القلب كي تمتصا كل مشاعرنا وتملكا على أحاسيسنا؛ نشعر بهما بقلوبنا كما نراهما بعيوننا الداخلية.

أما ثمرة الطاعة التي تدخل بنا إلى هذا الطريق فهي: “تجد نعمة وفطنة صالحة في أعين الله والناس” [4]. يُسر الله بنا ويهبنا فهمًا مقدسًا أكثر فأكثر، وإن قاومنا البعض لكن كثيرين يكرموننا ويطلبون مشورتنا.

هكذا يحثنا الحكيم لكي نجاهد في التصاقنا بالرحمة والحق بنعمة الله على الدوام حتى نبلغ الكمال. ففي حديث الطوباوي إكليمنضس عن البتولية تحدث عن ضرورة الجهاد المستمر بلا توقف لبلوغ الفضيلة الكاملة، ولا يقف البتوليون عند مظهر البتولية.

V   يليق بكل البتوليين من الجنسين من الذين بالحق عقدوا العزم لحفظ البتولية من أجل ملكوت السموات – كل واحدٍ منهم – أن يكون مؤهلاً لملكوت الله في كل شيء. فإنه ليس بالبلاغة ولا بالشهرة، أو بالمركز ، أو الأصل، أو الجمال أو القوة، ولا بطول الحياة نبلغ ملكوت السموات، إنما نناله بقوة الإيمان عندما يظهر الإنسان أعمال الإيمان. فمن كان بالحق بارًا أعماله تشهد لإيمانه، إنه بالحقيقة يؤمن، بإيمان عظيم، إيمان كامل، إيمان بالله، إيمان يشرق في أعمال صالحة، فيتمجد أب الكل في المسيح.

الآن الذين هم بالحقيقة بتوليون من أجل الله يخضعون للقائل: “لا تدع الرحمة والحق يتركانك، تقلدهما على عنقك. فتجد نعمة وفطنة صالحة في أعين الله والناس” [3،4][85].

القديس اكليمنضس الروماني

أخيرًا بقوله: “لا تدع الرحمة والحق يتركانك” يدعونا أن نكون في رفقتهما الدائمة، فهما صديقان مخلصان نحتاج إلى صحبتهما المستمرة. بل هما صديق واحد، شخص السيد المسيح “الرحمة والحق”، نتمسك به، قائلين مع العروس التي جاهدت تبحث عنه فوجدته وأمسكت به ولم تُرْخِه (نش4:3). التصقت به كمن هو عريسها وحدها، قائلة لمن حولها: “أُحَلِّفَكُنَّ يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقل ألا تيقظْنَ ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء” (نش5:3).

  1. الاتكال على الله يُقوِّم سبل الإنسان

“توكَّل على الرب بكل قلبك، وعلى فهمك لا تعتمد.

في كل طرقك أعرفه، وهو يقوِّم سبلك” [5،6].

هذه هي أهم الوصايا، ترتبط بإيماننا بالله مصدر كل الخيرات، محب البشر والأب السماوي القدير والحكيم المهتم بنا، حتى بالأمور الصغيرة، يَعِد ويفي بوعده لنا. يليق بنا أن نثق في الرب بكل قلوبنا، فإنه يريد أن يقدم لنا ما هو أفضل، وقادر على ذلك. من يعرفون أنفسهم يُدركون أن فهمهم – بدون العون الإلهي – أشبه بقصبة مكسورة، إن اتكأوا عليها فشلوا. لذلك يليق بنا ألا نُخطط أمرًا ما إلا بما يتناغم مع الوصية الإلهية، طالبين من الله مشورته، كما نطلبه أن يقدس فكرنا ويقود سلوكنا. حقًا إن من يتكل على فهمه وخبراته وقدراته بغير العون الإلهي يكون غبيًا!

في كل طرقنا الخاصة والعائلية والخاصة بالعمل أو المجتمع المحيط بنا يليق بنا أن نعرف الله قائدًا لنا، فنخضع له، ونُعلن سرورنا بتتميم إرادته ووصاياه، حينئذ يوجه هو طرقنا ويُقوِّمها، فنعيش في سلام وسعادة، مفصلين كلمته في حياتنا باستقامة (1تي15:2).

نعرفه قائدًا لنا في بداية كل طريق نسلكه، مرافقًا لنا طوال رحلتنا، يتحدث معنا ونحن معه بلا انقطاع، ويعبر بنا حتى النهاية، عندئذ نقول مع تلميذيّ عِمْواس: “ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب؟!” (لو22:24).

  1. الاتضاع يهب شفاءً للنفس والجسد

لا يمكننا ممارسة الطاعة ولا ننعم بالاتكال على الرب بطريق آخر غير الاتضاع، لذا يقول:

“لا تكن حكيمًا في عينيّ نفسك.

اتق الرب وابعد عن الشر،

فيكون شفاءً لسرتك، وسقاءً لعظامك” [7،8].

الحكمة التي يهبها الله لنا تعطي ليس فقط شفاء للنفس وحدها، وإنما تقدم بركة خاصة للجسد، فينعم الإنسان بالشفاء لسرته أي لأمراض بطنه الخفية، كما تكون نخاعًا خفيًّا في داخل عظامه أي لهيكل جسمه، أو لقوته الجسمية. حينما نكرم الرب بروح الاتضاع يتقدم إلينا كطبيب لأنفسنا وأجسادنا يعمل في أعماقنا الخفية ليهبنا الحياة والنمو والقوة.

يشير الحكيم إلى شفاء السُرّة، لأن المؤمن يحسب نفسه كجنين في رحم الكنيسة أمه، لم يكتمل بعد نموه الروحي. إنه لا يتقبل الطعام بفمه أو بعضو آخر، إنما يتمتع بالحياة والنمو خلال حبل السُرّة، يكشف عن عمل الله معه خلال الكنيسة. بدون هذا العمل الإلهي يموت الجنين ولا يولد. هكذا بغير الحكمة الإلهية تموت النفس ولا يكون لها وجود في السماويات.

  1. العطاء يهب غنى

“اكرم الرب من مالك ومن كل باكورات غلَّتك،

فتمتلئ خزائنك شبعًا،

وتفيض معاصِرك مِسْطارًا” [9،10].

في العهد القديم كان المؤمنون يُقدمون البكور، أي بكور القطعان وبكور المحاصيل في وقت الحصاد. يُقدمونها في هيكل الله في يوم الخمسين (عد26:28). بهذا يُعلنون شوقهم نحو تقديم كل ما يملكونه لله، مكرمين الرب بكل قلوبهم ومن ممتلكاتهم وأعمالهم وأموالهم. لقد أعلن لشعبه أن الأرض بكاملها هي له، لهذا جاءت الوصية تؤكد ألا يبيعوا الأرض إلى الأبد، فإنها ملك لله (لا23:25). هكذا يشعر المؤمن انه قد تسلم أرض قلبه من يديْ الله، كما تسلم شعب إسرائيل أرض كنعان. إننا لا نكتفي بتقديم المتكأ الأول لله في القلب، بل نسلمه القلب كله، لنستلمه من جديد من يديه كوكلاء أمناء على ما هو له!

يحذرنا العهد الجديد من توقعنا أن يُكافئنا الله ببركات مادية مقابل تقوانا (1تي3:6-6). فإن الله لا يريد أن يستأجر المسيحيين، إذ لا يريدهم أُجراء، بل أبناء له على شبه السيد المسيح، وذلك في الحب والقداسة والطهارة. يريدنا أن نطلبه لأجل ذاته لا ليقدم لنا مكسبًا جسديًّا أو ماديًّا. مكافأة الطاعة لله هي الالتصاق به، والتمتع باتحاد أعمق معه، وسُكناه في داخلنا (يو15:14-18، 21-31). كما يريدنا أن نقتنع بما يمدنا به ولا نطمع فيما هو أكثر (1تي6:6).

  1. قبول تأديب الرب ممارسة عملية للبنوة

“يا ابني لا تحتقر تأديب الرب، ولا تكره توبيخه،

لأن الذي يحبه الرب يؤدبه وكأبٍ بابنٍ يُسر به” [11-12].

اقتبس الرسول بولس هذه العبارة في رسالته إلى العبرانيين ليربط بين تأديب الرب والبنوة له، قائلاً: “قد نسيتم الوعظ الذي يخاطبكم كبنين: يا ابني لا تحتقر تأديب الرب، ولا تخر إذا وبخك، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله. ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه (في التأديب) فأنتم نغول لا بنون” (عب5:12-8).

يقدم الرسول الحقائق التالية:

  1. يقبل المؤمن كل ضيقة كتأديب من الرب وليس من الناس، فإن الله يؤدب من واقع طبيعته بكونه “الله محبة”، مؤكدًا طبيعته التي تشع علينا بالحب مهما بدا التأديب قاسيًا. إن أيّ تأديب، وإن صدر من قلب حنون، يُحسب قاسيًا إن قورن بالتأديب الإلهي. الرب يؤدب حسبما يرى فيه بنياننا وقدر ما نحتمل!
  2. إن قبلنا التأديب بلا شكر يتحول إلى توبيخ مرّ فنخور. وكأن ما يحل بنا من متاعب يتوقف إلى نظرتنا للتأديب الإلهي، فالنظرة الخارجة من قلب بنوي يرى في التأديب بنيانًا فتتهلل نفسه، أما المتذمر فيرى فيه توبيخًا مرًا.
  3. جميع الأبناء شركاء في التأديب… بدونه يكون الإنسان ابنًا غير شرعي (من النغول)!

الله في محبته الأبوية يفتقدنا أحيانًا بالضيقات والأمراض لأجل بنياننا لكي يجعلنا حكماء وصالحين. أما من جانبنا فإذ نُدرك بنوتنا له لا ننهار أمام التجارب، مهما ثقلت أو طال زمانها. لا نيأس قط ولا نُخطئ، بل ننتظر خلاص الرب بشكر.

الله لا يضرب بالسياط أبناء الشيطان، إنما يلطم أبناءه هو. فإن حلول التأديبات شهادة صالحة أنك تنتمي إليه، إذ يقول أليفاز التيماني في حديثه مع أيوب أثناء تجربته: “هوذا طوبى لرجل يؤدبه الله، فلا ترفض تأديب القدير، لأنه هو يجرح ويعصب، يسحق ويداه تشفيان. في ست شدائد ينجيك، وفي سبعٍ لا يمسك سوء” (أي17:5-19).

V      توجه الكلمات: “يا ابني لا تبتعد عن تأديب الرب” إلى إرادة الإنسان الحرة. قال الرب: “طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك” (لو32:22)، حتى يستند الإنسان بالنعمة[86].

القديس أغسطينوس

V      يعلمنا أن نشكر ونفرح أكثر فأكثر عندما نُحسب أهلاً للتأديب. يقول: “الذي أُحبه أؤدبه”. يا لك من خادم طوباوي، إذ يهتم الرب بإصلاحك. إنه يتنازل ويغضب معك! إنه لا يخدعك فيخفي توبيخاته!

في كل الأحوال يلزمنا أن نرتبط بالالتزام بالصبر، سواء كانت (التجارب) بسبب أخطائنا أو صادرة عن شباك العدو، أو هي توبيخات من قبل الرب. فإن مكافأة هذا الواجب (الصبر) عظيمة، ألا وهي السعادة. لأنه من هو هذا الذي يدعوه الرب سعيدًا إلا الصابر، قائلاً: “طوبى للمساكين بالروح، فإن لهم ملكوت السموات”[87].

العلامة ترتليان

V      هكذا تأديب الحكمة (“لأن الذي يحبه الرب يؤدبه” [12]) يسبب آلامًا لكي تجلب فهمًا وترد السلام والخلود[88].

القديس اكليمنضس السكندري

V      إن كان الله يوبخ من يحبه، ويوبخه بقصد إصلاحه، هكذا فإن الاخوة، خاصة الكهنة، لا يكرهون من يوبخونهم بل يحبونهم، وذلك لأجل إصلاحهم. فإن الله أيضًا سبق فأنبأ خلال إرميا مُشيرًا إلى وقتنا هذا، قائلاً: “وأعطيكم رعاة حسب قلبي فيرعونكم بطعام التأديب” (إر15:3)[89].

القديس كبريانوس

V      التوبيخ هو إحضار الخطية ووضعها أمام الشخص. هذا النوع من التعليم ضروري إلى أعلى الدرجات، وذلك بسبب ضعف إيمان الكثيرين… يستخدم الله لغة الألم والضرب التي للتوبيخ مع تقديم تعزياته بواسطة سليمان، فيلمح إلى المحبة بطريقة خفية نحو الأبناء الذين يتفاعلون مع تعليمه. “يا ابني لا تحتقر تأديب الرب…”. “الإنسان الخاطئ يهرب من التوبيخ” (ابن سيراخ 21:32). لهذا يقول الكتاب: “ليُوَبخني البار ويردني، أما زيت الخاطئ فلا يدهن رأسي”[90].

القديس اكليمنضس السكندري

V      اسمع كلمات داود: “خير لي أنك أذللتني لكي أتعلم فرائضك” (مز71:119). ويقول نبي آخر: “جيد للرجل أن يحمل النير في صباه” (مرا 27:3). وأيضًا: “طوبى للرجل الذي تؤدبه يا رب” (مز12:94). وآخر يقول: “لا تحتقر تأديب الرب” (أم11:3). وأيضًا: “إن تقدمت لتخدم الرب أعدد نفسك للتجربة” (ابن سيراخ 1:11). كما قال السيد المسيح لتلاميذه: “في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن افرحوا” (يو33:16).

وأيضًا: “أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلى فرح” (يو20:16). وأيضًا: “ما أضيق الباب” (مت14:7). أرأيتم كيف تُمتدح الضيقة في كل موضع؟![91]

القديس يوحنا الذهبي الفم

V      ليُنصح المرضى أنهم يدركون بأنهم أبناء الله عندما يُجلدون بسياط التأديب. لأنه لو لم يهدف الله إلى إعطائهم ميراثًا بعد إصلاحهم لما كان يهتم بتثقيفهم بالأحزان. لهذا يقول الرب ليوحنا بواسطة الملاك: “من أُحبه انتهره وأؤدبه” (رؤ19:3؛ أم11:3). كُتب أيضًا: “يا ابني لا تحتقر تأديب الرب، ولا تخُر إذا وبّخك، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله” (عب5:12،6). يقول المرتل: “كثيرة هي أحزان الصديقين ومن جميعها ينجيهم الرب” (مز20:33). أيضًا يصرخ أيوب الطوباوي في حزنه ويقول: “إن تبرَّرت لا أرفع رأسي، إني شبعان هوانًا وناظر مذلتي” (أي15:10).

ليُقال للمرضى إنهم إن كانوا يؤمنون بالمدينة السماوية أنها مدينتهم، فإنهم يحتاجون أن يحتملوا أتعابًا في هذه المدينة كمن هم في أرضٍ غريبة. فإن كان يلزم ضرب الحجارة بالفأس في الخارج حتى تُوضع بدون صوت الفأس في مبنى هيكل الرب، هكذا أيضًا نحن الآن نُضرب بالسياط من الخارج حتى نوضع فيما بعد في مواضع داخلية بدون ضربات التأديب، في هيكل الله.

في النهاية تُنتزع هذه الضربات ما هو غير نافع ولا ضروري، وخلال وحدة الحب وحدها نرتبط معًا في البناء[92].

الأب غريغوريوس (الكبير)

V      الآن يُعاقب الله بغضب ذأبناء الغضب، لكنه يُعاقب (يؤدب) برحمة أبناء النعمة[93].

القديس أغسطينوس

  1. البحث عن الحكمة طريق الطوبى والغنى والمجد

“طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة،

وللرجل الذي يجد الفهم” [13].

يليق بالمؤمن أن يطلب الحكمة ويجد في البحث عنها ويسأل الرب لاقتنائها، فإنها تهب الحياة المُطوبة، كما تُقدم له الغنى والمجد الحقيقيين الدائمين.

يقول “طوبى“… لأن التمتع بالحكمة يجعلنا ننعم بالاتحاد مع الآب في ابنه بالروح القدس. هذه الحياة الجديدة هي شركة في الحياة الإلهية التي تستحق التطويب. لقد افتتح السيد المسيح عظته على الجبل بالدعوة إلى التمتع إلى هذه الحياة المُطوبة، مكررًا الكلمة “طوبى…” (مت5). فقد خلقنا الله لكي نختبر هذه الحياة المًطوبة التي ننالها في كمال صورتها في الحياة الأخرى.

يرى الحكيم أن البحث الجاد عن الحكمة أشبه بعمل تجاري أو مشروع خطير يُقدم عليه المؤمن لينال ربحًا. فالمؤمنون هم مستثمرون يتطلعون إلى مكاسب روحية.

يُقارن الحكيم بين الحكمة وما تجلبه من مكاسب وبين المشاريع الزمنية وما تجلبه من غنى، مؤكدًا أن الجواهر الثمينة وكنوز الأرض لا تُقارن بالحكمة الإلهية الحقيقية. فالأولى زمنية مؤقتة وأما الثانية فأبدية. الأولى هي تمتع ببعض العطايا أما الثانية فهي اقتناء واهب العطايا وخالق الكل. حقًا طوبى لمن يجد السيد المسيح، الذي هو الحكمة، يقود بروحه القدوس في حياتنا اليومية.

“لأن تجارتها خير من تجارة الفضة،

ربحها خير من الذهب الخالص”

هي أثمن من اللآلئ، وكل جواهرك لا تساويها” [14-15].

هذه العبارة عينها من بين عبارات كثيرة خلالها يُمارس المستثمرون الروحيون حقهم في الخيارات من ذلك نمارس هذا الحق كأحرار مستندين على غنى نعمة الله.

“خذوا تأديبي لا الفضة، والمعرفة أكثر من الذهب المختار،

الحكمة خير من اللآلئ وكل الجواهر لا تساويها” (11:8).

“القليل مع مخافة الرب خير من كنز عظيم مع هوان،

أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بفضة” (16:15،17).

“ثمري (ثمر الحكمة) خير من الذهب ومن الإبريز،

وغلتي خير من الفضة المختارة” (19:8).

“تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين” (19:16).

“البطيء الغضب خير من الجبار، ومالك روحه خير ممن يأخذ مدينة” (32:16).

“لقمة يابسة ومعها سلامة خير من بيت ملآن ذبائح مع خصام” (1:17).

“الفقير السالك بكماله خير من ملتوي الشفتين وهو جاهل” (1:19).

“الصيت أفضل من الغنى العظيم، والنعمة الصالحة أفضل من الفضة والذهب” (1:22).

“التوبيخ الظاهر خير من الحب المستتر” (5:27).

V      تعلن الحكمة: “طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة، والقابل الموت الذي يرى الفهم، فمن يخرج البر، ولسانها يحمل الناموس والرحمة” [13، 16  LXX]. فإن الناموس والإنجيل كلاهما عمل الرب الواحد، الذي هو رحمة لأن فيه خلاصنا[94].

القديس إكليمنضس السكندري

يقول المرتل: “ناموس فمك خير لي من ألوف ذهب وفضة” (مز 72:119). ويتساءل القديس يوحنا الذهبي الفم: هل كان القديس بطرس فقيرًا حينما لم يكن له ذهب ولا فضة ليعطي المقعد؟[95]

V      هذا يعنى خير لي الناموس الصادر عن فمك؛ الذي هو المسيح. إني أستهين بالقطع الذهبية والفضية البَّراقة لكي أتلذذ بناموس فمك وأتنعم به.

يمكننا القول بأن “ناموس الفم” هو ترتيب الكلمات الصادرة عن فم الله: الكلمات الأولى قيلت للمبتدئين، بينما الكلمات التالية قيلت لمن تسلم الأولى حتى يبلغوا الكمال[96].

العلامة أوريجينوس

V      يقول النبي أنه بالنسبة له خير له شريعة فم اللَّه أكثر من كل شهوات العالم، مشيرًا إلى الشهوات بالقطع الذهبية والفضية البَّراقة[97].

القديس أغسطينوس

V      بالتفسير الرمزى، الفضة تمثل العقل، والذهب يشير إلى الروح، فمع وجود آلاف من القطع الذهبية والفضية التي يستخدمها المجادلون بحكمة العالم في مدارس الفلسفة، إلا أن الذى يعيش الحكمة الإلهية والحق الإلهي يقول: “ناموس فم الرب خير لي”. حقًا إن الناموس الصادر عن فم اللَّه هو وحده الذى يمكنه أن يقدم المكسب الحقيقي للذين يتمسكون به[98].

القديس ديديموس الضرير

ألوف الذهب أو الفضة قد تضيع أو تُسرق أو تسبب خطرًا على حياة صاحبها، أما ناموس فم الرب فيقدم غِنى ثابتًا إلى الأبد، لا يستطيع أحد أن ينتزعه منا.

يستخدم القديس إكليمنضس السكندري العبارة السابقة [13] في توجيه النساء اللواتي ينشغلن بثقب آذانهم لوضع “حلقان” ثمينة للغاية فيها، ووضع مساحيق خاصة بزينة العينين، موضـحًا أن استماع الأذن لصوت الحكمة أمر طبيعي وثمين أفضل من كل الجواهر، وانفتاح العينين لرؤية الإلهيات والمقدسات هو الجمال الحقيقي، حيث يرى المؤمن ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر.

V      لا تدعن آذانكن تُثقب على خلاف الطبيعة، لكي تلتصق بها “حلقان”، وتتدلى منها. فإنه لا يليق إلزام الطبيعة على عمل ما يضادها. ولا يمكن وجود حُليّ تزين الأذن أفضل من التعليم الذي يجد طريقًا طبيعيًا في ممرات السمع.

دهْن العيون بالكلمة وثقْب الآذان بالوصية يجعل من الإنسان مستمعًا ومتأملاً في الأمور الإلهية والمقدسات، فيُعلن الكلمة الجمال الحقيقي: “ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن” (1كو9:2)[99].

القديس اكليمنضس السكندري

في يمينها طول أيام،

وفي يسارها الغنى والمجد،

ومن فمها يخرج البرّ،

ولسانها يحمل الناموس والرحمة (الترجمة السبعينية) [16].

V      زينة يدها اليمنى هي امتداد الأجيال حيث يقول الكلمة :”في يمينها طول أيام”.

وفي يسارها غنى الفضائل الثمينة مع بهاء المجد، “في يسارها الغنى والمجد” [16].

يتحدث بعد ذلك سليمان عن رائحة فم العروس الذكية التي تبعث رائحة البرّ الصالحة:

من فمها يخرج البرّ (الترجمة السبعينية)” [16][100].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

يري بعض الآباء أن اليد اليمنى هنا تشير إلى الخيرات والأمجاد الأبدية، بينما اليد اليسرى تشير إلى البركات الزمنية على الأرض، لهذا تترنم العروس في النشـيد قائلة: “شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني” (نش 6:2)، هذا هو صوت الكنيسة الحيّ التي تطلب الأمجاد الأبدية كيدٍ يُمنى تحتضنها، أما البركات الزمنية فلا تنشغل بها كثيرًا.

V      تقول الكنيسة بصوت المختارين: “شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني” (نش 6:2).

اليد اليسرى لله تعني الخيرات الوفيرة في الحياة الحاضرة، تضعها الكنيسة تحت رأسها لكي تضغط عليها من أجل حبها السامي.

أما اليد اليمني لله فتحتضنها، لأنها في تكريسها الكامل تُشمل بالبركات الأبدية. لهذا مرة أخرى يقول سليمان إن طول الأيام (الأبدية) في يمينها، وأما في يسارها فالغني والمجد [16].

بحديثه عن الغنى والمجد أنهما موضوعان في يسارها أظهر بأية طريقة نتطلع إليهما. لهذا يقول المرتل: “خلصني بيمينك” (مز 7:117). إذ لم يقل “بيدك”، بل “بيدك اليمنى”، لكي يشير باليمنى إلى الخلاص الأبدي الذي يبحث عنه. مرة أخرى كُتب: يمينك يا رب تحطم العدو” (مز 6:15)، لأن العـدو وإن كان مزدهرًا في يد الله اليسرى إلا انه يتحطم في يده اليمنى، لأنه كثيرًا ما يرتفع الأشرار في الحياة الحاضرة، لكن مجيء البركات الأبدية (في يوم الرب العظيم) يدينهم[101].

البابا غريغوريوس (الكبير)

جاء في الترجمة السبعينية “لسانها يحمل الشريعة والرحمة“، ويعلق القديس أغسطينوس على هذه العبارة قائلاً:

V      هكذا بخصوص حكمة (الله) قيل: “لسانها يحمل الشريعة والرحمة”. الشريعة التي تحكم على المتكبرين، والرحمة التي تبرر المتواضعين[102].

V      لسنا نُبطل الناموس بالإيمان، بل نثبّته (رو3:3)، فالخوف يقود إلى الإيمان. هكذا بالتأكيد ينشئ الناموس غضبًا، حتى تهب مراحم الله نعمة للخاطي، فيرتعب ويتحـول إلى تحقيق برّ الناموس بيسوع المسيح ربنا الذي هو حكمة الله التي قيل عنها: “لسانها يحمل الناموس والرحمة”.

بالناموس تخيف، وبالرحمة تعين.

قُدم الناموس خلال عبيده، وأما الرحمة فيقدمها بنفسه.

كان الناموس كعصا إليشع (2مل 29:4 الخ) بُعث بها لإقامة ابن الأرملة، ففشلت في إقامته. “لأن لو أُعطي ناموس قادر أن يُحي لكان بالحقيقة البرّ بالناموس” (غلا 21:3). أما الرحمة فكانت كاليشع نفسه، الذي حمل رمز المسيح؛ وبتقديمـه الحياة للميت ارتبط بسرٍّ عظيم كما بالعهد الجديد[103].

V      عندما قيل: “لنحب بعضنا بعضًا”، هذا ناموس! وعندما يُقال: “لأن المحبة من الله” هذه نعمة!

فإن لسان حكمة الله يحمل الناموس والرحمة. لهذا جاء في المزمور: “الذي يعطي الناموس يهب أيضًا البركات” ( راجع مز 6:84)[104].

القديس أغسطينوس

“طرقها طرق نِعمْ، وكل مسالكها سلام” [17].

الحكمة ليست فقط كنزًا، نقتنيها باقتنائنا خالق الكنوز، لكنها أيضًا تحمل نوعًا من الأبوة أو من الوالدية، تحمل المؤمنين كأطفال صغار، ليتكئوا على صدرها، وتسير بهم في الطريق الملوكي، حيث ينعم المؤمنون بالبركات السماوية والسلام الفائق.

هي شجرة حياة لممسكيها،

والمتمسك بها مغبوط” [18].

هكذا تدعونا الحكمة للتسلق عليها كشجرة حياة، تُقتطف منها ثمار الروح، فتُمارس الحياة المغبوطة أو المطوَّبة.

إن كانت الحكمة هي شجرة حياة فإنه لن يتمتع بثمرها الكسالى والمتراخون. هي عطية إلهية مجّانية تُقدم للنفس المشتاقة إلى التمتع بها والجهاد من أجل نوالها. هي شخص المسيح الذي يود تقديم ذاته لنا، لكن بتراخينا نَحرم أنفسنا منه.

V      يؤكد البعض بأن النبي إشعياء أشار إلى هذه الأيام الخاصة بشجرة الحياة بكونها الزمن الحاضر لكنيسة المسيح، وأنه قد سبق التنبوء عن المسيح نفسه بأنه شجرة الحياة، لأنه هو الحكمة، عنها يقول سليمان: “هي شجرة حياة لكل من يحتضنها”[105].

V      بحق قيل عن (الحكمة): “هي شجرة حياة لممسكيها“. كما كانت هناك شجرة واحدة في الفردوس المادي هكذا توجد شجرة أخرى للفردوس الروحي. الواحدة تُقدم قوة لحواس الإنسان الخارجي والأخرى للإنسان الداخلي[106].

القديس أغسطينوس

V      يُعلمنا سليمان النبي ما هي شجرة الحياة هذه وذلك في حثِّه بخصوص الحكمة. إنها شجرة حياة لكل ممسكيها والمتكئين عليها. هذه الشجرة حيَّة، ليس فقط حية بل بالأكثر يقودها العقل، بمعنى تقدم ثمرًا ليس بطريقة اعتباطية ولا في غير أوانٍ، بل في أوانها. هذه الشجرة مغروسة على مجارى المياه في منطقة ملكوت الله، أي حتمًا في الفردوس، وفي الموضع حيث ينبع المجرى وينقسم إلى أربعة أنهار[107].

القديس هيلاري أسقف بواتييه

V      لأن شجرة الحياة هي الحكمة المولودة قبل الكل. “هي شجرة حياة لممسكيها“، كما يقول النبي، “والمتمسك بها مُطوَّب“. إنها شجرة مغروسة على مجاري المياه، تُعطي ثمرها في حينه”، بمعنى أن التعليم والمحبة والتمييز يُقدمون من مخازنها في حينه للذين يأتون إلى مياه الخلاص.

من لا يؤمن بالمسيح، ولا يفهم أنه هو الأساس الأول وشجرة الحياة، ولا يستطيع أن يُظهر لله خيمته مزينة بأفضل الثمار كيف يمكنه أن يحتفل بالعيد؟ كيف يفرح؟ ألا يشتهي ثمر الشجرة الصالح؟ لتُدرك كلمات ربنا يسوع المسيح كيف يصيرون مسرورين أكثر من بني البشر[108].

الأب ميثوديوس

“الرب بالحكمة أسس الأرض.

أثبت السموات بفهم” [19].

V      ينسب سليمان كل عناصر الخليقة إلى قوة الحكمة، ويزينها بأسماء كثيرة، فإنه يقصد بالحكمة والتعقل والإدراك والمعرفة والفهم وما أشبه ذلك نفس الشيء[109].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

V       إن كان الله هو ينبوع الحكمة والحياة، ويُدعى هكذا، كما قيل في إرميا: “تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة” (إر13:2)؛ وأيضًا: في سفر باروخ: “تركتم ينبوع الحكمة” (با12:3)، هذا يستدعي أن الحياة والحكمة ليسا غريبين عن جوهر الينبوع، بل هما لائقان به، ولم يكونا قط غير موجودين، بل موجدان على الدوام. الآن الابن هو كل هذا، هذا الذي يقول: “أنا هو الحياة” (يو6:14)، “أنا الحكمة أسكن مع التعقل”. أليس من الخطأ أن تقول بأن الابن لم يكن موجودًا في وقتٍ ما؟ لأن هذا يعني أن الينبوع كان في وقتٍ ما جافًا، وخالٍيًا من الحياة والحكمة. يا له من تهور! فإن الله يَعِد الذين يتممون إرادته أنهم يصيرون كينبوع لا ينضب، قائلاً بإشعياء النبي: “يُشبع في الجدوب نفسك، ويُنشِّط عظامك، فتصير كجنة ريَّا وكنبع مياه لا تنقطع مياهه” (إش11:58)، ومع أن “ينبوع الحكمة” يُدعى هكذا، أنت تهينه كمن هو عقيم لا يحمل حكمته؟!

إن تعاليم (الأريوسيين) باطلة، فإن الحق يشهد أن ينبوع حكمة الله سرمدي، وإن كان الينبوع سرمديًّا يلزم أن تكون الحكمة سرمدية. فإنه فيها خُلقت كل الأشياء كقول داود في المزمور: “في الحكمة خلقت الكل” (مز24:104)، ويقول سليمان: “الرب بالحكمة أسس الأرض، أثبت السموات بالفهم” [19]. هذه الحكمة هي الكلمة، الذي “به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو3:1)[110].

القديس أثناسيوس الرسولي

“بعمله انشقت اللُجج،

وتقطر السحاب ندى” [20].

بحكمة أصر أن يشق الأعماق العظيمة ليجلب ماء للأرض، وبها أَوْجد قوانين الطبيعة لتتمتع الأرض بالندى والأمطار.

إن كان الله يهتم باحتياجات الأرض التي خلقها من أجل الإنسان، فقدم لها مياه المحيطات والبحيرات والأنهار، وأفاض عليها بالأمطار من فوق، كيف لا يهتم بالإنسان. إنه في حبه يُقدم لنا في أعماقنا مياه تجري في القلب كأنهار مياه حيَّة، تحول جفاف القلب وبريته إلى فردوس الله المثمر. كما يمطر على القلب من ندى الروح وأمطاره حتى ينعم القلب بكل عذوبة وراحة.

  1. المشورة طريق آمن

إن كان الله يشق في أعماقنا أنهارًا تفيض بالمياه العذبة، ويمطر علينا بنعمة الروح، فإنه يحذرنا من الكبرياء وعدم طلب المشورة، قائلاً:

“يا ابني لا تبرح هذه من عينيك.

احفظ الرأي والتدبير.

فيكونا حياة لنفسك ونعمة لعنقك.

حينئذ تسلك في طريقك آمنًا ولا تعثر رجلك.

إذا اضطجعت فلا تخاف، بل تضطجع ويلذ نومك.

لا تخشى من خوف باغت، ولا من خراب الأشرار إذا جاء.

لأن الرب يكون معتمدك، ويصون رجلك من أن تُؤخذ” [21-26].

تكررت كلمتا “لا تبرح” في هذا السفر (21:3؛21:4) وهي تعني ثبوت الحكمة في داخل القلب حتى لا ينحرف عن الحق، بل يسير القلب كالسفينة في مسار الطريق الملوكي. وقد استخدم القديس اكليمنضس السكندري هذا التعبير في حديثه عن المرأة: “لا تلبس الأزياء المبهرجة حتى لا تنزلق بعيدًا عن الحق[111]”.

إذ يضع المؤمن وصية الرب وحكمته نصب عينيه، واثقًا في غنى نعمته المجانية يطلب تدبيرًا روحيًا لحياته في الرب، بهذا يسلك الطريق الآمن، إذ يتمتع بالبركات التالية:

  • حياة النفس، فلا تكون ميتة بلا إحساس.
  • كرامة في عيني الله، حيث يصير موضع سروره.
  • يسير في أمان بالرغم من مقاومة العدو له، فإنه يَدكُّ بقدميّ المسيح النحاسيتين (رؤ15:1) كل حجرٍ مقاومٍ.
  • لا يخشى من مخاوف المستقبل القريب أو البعيد، إذ يُدرك أن حياته في يديّ إله محب حكيم وقدير، كل لحظة من لحظات عمره مضبوطة بيد أبيه السماوي.
  • إذ يضطجع ينعم بنوم عميق، ليس نوم الكسل والتراخي، بل نوم الثقة واليقين في عمل الله معه. يُدرك أن الله يهتم به حتى في أحلامه، فيجدها سماوية عذبة. كثيرون إذ ينامون يخشون ألا يستيقظوا، أما المؤمن الحقيقي فينام مطمئنًا أنه إن استيقظ ووجد نفسه في حضرة الرب يترنم: “قلبي مستعد يا الله، قلبي مستعد”. وإن استيقظ ليجد نفسه في هذا العالم، يمجد الله في كل شيء.
  1. المحبة الأخوية واللطف

 “لا تمنع الخير عن أهله حين يكون في طاقة يدك أن تفعله” [27].

ماذا يعني بقوله: “عن أهله”؟ ليس كل ما لدينا هو ملك لنا، بل للمحتاجين نصيب فيما هو بين أيدينا. حين تقدمه لهم، إنما قدم لهم حقهم الذي كنا مجرد حارسين له. إننا وكلاء على ما هو ملك للفقراء، حين نُقدم إليهم ما هو ملك لهم نُحسب وكلاء أمناء، لا فضل لنا إلا في الأمانة التي نمارسها بنعمة الله.

“لا تقل لصاحبك اذهب وعد فأعطيك غدًا وموجود عندك” [28].

إذ الوقت مقصر وشرير لنسرع إلى ممارسة الخير مع طالبيه لئلا يحل الموت بنا أو بهم فنفقد فرصتنا في التمتع بعمل الخير معهم.

“لا تخترع شرًا على صاحبك وهو ساكن لديك آمنًا.

لا تُخاصم إنسانًا بدون سبب،

إن لم يكن قد صنع معك شرًا” [29-30].

يسألنا ألا نحمل روح النزاع والخصام، فكما يحمل البعض روح الحب ليحتضن إن أمكن الكل، يحمل آخرون روح النزاع فيجدوا لذتهم في الخصام مع كثيرين.

بحسب الناموس يليق بنا أن نعامل الآخرين على أساسٍ سليم، فلا نظلمهم، أما في عهد النعمة فنرتفع لنعاملهم كما يتعامل الله معنا.

  1. اللعنة والبركة

“لا تحسد الظالم،

ولا تختر شيئًا من طرقه.

لأن الملتوي رجس عند الرب.

أما سرَّه فعند المستقيمين” [31-32].

يليق بنا ألا نحسد الظالم ولا نقتدي به، لأننا بهذا نصير رجسين في عينيْ الرب. أما الذي يسلك باستقامة فيجد في الله صديقًا له يتحدث معه حتى عن أسراره الإلهية الفائقة.

حقًا كثيرون عبر العصور يحسدون الأغنياء حتى إن كانوا ظالمين لكنهم في النهاية يكتشفون أن الله يدين الأغنياء الأشرار، كقول المرتل (مز37).

كاد آساف أن يزل عن الإيمان، لأنه كان يحسد الأشرار على نجاحهم. “لأني غرت من المتكبرين، إذ رأيت سلامة الأشرار، لأنه ليست في موتهم شدائد ، وجسمهم سمين، ليسوا في تعب الناس، ومع البشر لا يُصابون” (مز 3:73-5)، لكنه إذ اقترب إلى مقادس الله، وتطلع إلى نهاية حياتهم أدرك “كيف صاروا للخراب بغتة” (مز93:73) صرخ: “من لي في السماء، ومعك لا أريد شيئا في الأرض” (مز 25:73) ، وختم مزموره بالقول: “فالاقتراب إلى الله حسن لي، جعلت بالسيد الرب ملجأي لأخبر بكل صنائعك” (مز28:73).

إن نال الظالم بركات زمنية كثيرة، لكنه يحمل رجاسة عند الرب، أما الصديق أو المستقيم القلب فيتعرف على أسرار الله الفائقة.

“لعنة الرب في بيت الشرير،

لكنه يُبارك مسكن الصديقين.

كما أنه يستهزئ بالمستهزئين هكذا يُعطي نعمة للمتواضعين.

الحكماء يرثون مجدًا،

والحمقى يحملون هوانًا” [33-35].

ليس لدى الله لعنة، بل هو مصدر كل بركة، لكن الشرير المصمم على الشر، إذ يُصر أن يتغرب عن الله، يحرم نفسه بإرادته من مصدر البركات، فيسقط في اللعنة التي تتم بسماح إلهي كثمرة للعمل الشرير، لهذا تدعى مجازًا “لعنة الرب”.

V      كما هو مكتوب: “يُقاوم الله المستكبرين ويُعطي نعمة للمتواضعين” (أم34:3، 1بط5:5؛ يع6:4). الآن هذه النعمة هي هبة من الله. لكن أعظم العطايا هي الروح القدس نفسه، لذا دُعِي “النعمة”.

القديس أغسطينوس

يتحد الحكماء بالسيد المسيح حكمة الله، يصيرون في مياه المعمودية أبناء الله، لذا قيل عنهم أنهم يرثون مجدًا كحق شخصي لهم إذ هم أبناء. أما الحمقى فإنهم يَحرمون أنفسهم من التمتع به، وبالتالي من شركة مجده، فيصيرون في عارٍ أبديٍ.

V      (الحكماء) ليس فقط ينالون (مجدًا) بل ويرثونه.

أيضًا الأشرار وإن تعظّموا فإنهم يتعظمون لينالوا هوانًا أعظم. وكما أن الإنسان لا يُكرم زميله الرديء إن تشامخ، بل بالأحرى يهينه، إذ يُعلن خزيه أمام العدو، هكذا الله يُمجد الشرير (إلى حين) لكي يُظهر عاره بالأكثر. فإن فرعون (في أيام موسى) تعظّم إنما لكي يدينه العالم[112].

القديس هيبوليتس

فاصل
 
من وحي أمثال 3

احملني إليك أيها الطريق الملوكي

V      احملني إليك يا أيها الحكمة الإلهي،

أسير فيك وبك إلى حضن أبيك،

 لا انحرف يمينًا ولا يسارًا.

 أنت هو الطريق الملوكي الآمن!

V      لأسمع صوتك في أعماقي،

 وباتضاع انحني لأنصت إلى كل مشورة روحية.

 أتعلم الطاعة لأتشبه بك،

 أنت خالق الكل حملت الطاعة لأبيك،

 احملني فأتمتع بشركة الطاعة المجيدة!

 بالطاعة تُسر بي، وأجد نعمة حتى في أعين الناس!

V       على من أتكئ إلا عليك؟!

 صدرك مملوء حنانًا وحكمة!

 اتكئ عليه فتطمئن نفسي،

 استريح وأتمتع بقيادتك!

V       من ينزع تشامخي؟

 من يهبني روح الاتضاع؟

 أنت وحدك يا طبيب النفوس والأجساد!

 لأتضع، فأصير كجنين محمول في أحشاء كنيستك أمي!

 خلال الصرة أرتوي بدمك الثمين،

 فأتغذى وأنمو وتكتمل صورتي.

 أصير بالحق أيقونة لك!

 أحمل اتضاعك العميق في نفسي!

V       قدمت لي ذاتك طريقًا أسلك فيه.

 أدخل فأجدك تُعطي حتى ذاتك لأعدائك!

 هب لي روح البذل والعطاء فأقتنيك يا كنزي الثمين!

V       في وسط الطريق تؤدبني بحبك،

 تؤدبني ليس انتقامًا مني،

 بل لأنعم بأبوتك الفائقة،

 وتتجدد أعماقي، وتتشكل بروحك القدوس!

V       أدخلني وأخفيني فيك،

 فأقتطف طوال الطريق من ثمار الحكمة مع الغنى الحقيقي والمجد.

 أدخل فأشعر بدفء حبك.

 أسير في أمان واطمئنان.

 حتى في نومي تلذ لي أحلامي المحصورة فيك.

V      أشكرك يا أيها الطريق والحق والحب.

 فإنني إذ أنعم بحبك أحب كل أخ وأخت لي.

 أقدم الحب واللطف مع كل صلاح.

 أقدم قلبي الذي لك لكي يتمتعوا بك.

 أقدم لهم مما وهبتني يا كلي الحب والحكمة.

 هكذا لتحل بركتك عليَّ في هذا العالم!

 واختبر شركة مجدك هنا كما في الدهر الآتي!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى