تفسير سفر الأمثال ٢٢ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثاني والعشرون
الغِنى والفقر

في هذا الأصحاح يقدم لنا سليمان الحكيم، الذي لم يكن في أيامه من بلغ حكمته ومجده وغناه، المفهوم الحقيقي للغنى، والثروة الحقيقية التي يلزمنا أن نطلبها ونسعى لأجلها. كما قدم لنا دستورًا للتعامل يليق بالمؤمن غنيًا أم فقيرًا أن يلتزم به.

  1. الغنى والفقر 1.
  2. المساواة بين الغني والفقير 2.
  3. التزام الكل بالاستقامة 3-5.
  4. اهتمام الكل بتربية الأبناء 6.
  5. الظلم الاجتماعي 7-9.
  6. نصائح إيجابية وسلبية 10-16.
  7. الالتجاء إلى مشورة الحكماء 17-21.
  8. الاهتمام بالفقراء 22-23.
  9. مصاحبة الغضوب 24-25.
  10. الحكمة في ضمان الغير 26-27.
  11. وديعة التقليد 28.
  12. الاجتهاد 29.

الغنى الحقيقي

الصيتُ افْضَلُ مِنَ الغِنَى العَظِيمِ،

والنعْمَةُ الصالِحَةُ افْضَلُ مِنَ الفِضَّةِ والذَّهَبِ [1].

يُقصد بالصيت هنا “الاسم”، ليس اسم الإنسان الذي دعاه به والداه يوم ولادته، ولا الذي قام هو بتغييره لسبب أو آخر، إنما ما حمله اسم الإنسان من سمات شخصيته التي صار إليها.

حينما نتحدث عن داود نتطلع إليه كشخص له سمات معينة، قلبه صار أيقونة لقلب الله. لقد استخف به أخوه الأكبر، قائلاً: “لماذا نزلت؟ وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة في البرية؟ أنا علمت كبرياءك وشر قلبك، لأنك إنما نزلت لكي ترى الحرب” (1 صم 17: 28). لكن إذ كرس داود قلبه وحياته للرب، لم يصر أول ملك بار على شعب الله فحسب، وإنما إليه نُسِبَ السيد المسيح، فدُعيَ “ابن داود”. هذا هو غناه الأفضل من كل غنى وكل مملكة زمنية.

لقد ترك الرسل والتلاميذ كل شيء، وتبعوا السيد المسيح، فنالوا النعمة الصالحة: واسم المسيح الصالح أفضل من الذهب والفضة. اعتز الرسول بطرس بهذه النعمة، قائلاً للأعرج: “ليس لي فضة ولا ذهب، ولكن الذي لي فإياه أعطيك، باسم يسوع الناصري، قم واِمشِ” (أع 3: 6).

V      الصيت أفضل من المال، والنعمة الصالحة أفضل من أكوام من الفضة. الإيمان نفسه يعزز ذاته، إنه غنى فيه الكفاية، بل وأكثر من اقتناء الغنى.

ليس من شيء لا يقتنيه الشخص الحكيم إلا ما هو ضد الفضيلة، وأينما ذهب يجد كل الأشياء ملكًا له. العالم كله في ملكيته، حيث يخدمه كملك له[702].

 القديس أمبروسيوس

V      إن قيل إن غالبيتنا فقراء فهذا هو مجدنا، وليس عارًا علينا.

فكما أن الذهن يصير واهنًا بالترف، ويتقوى بالتدبير باقتصادٍ، مع هذا من يقدر أن يكون فقيرًا ولا يشعر بعوزٍ، ولا يشتهي ما لدى الغير، فهو غني في حكم الله.

إنه أكثر فقرًا الإنسان الذي وإن كان لديه الكثير لكنه يشتهي ما هو أكثر…

سعيد هو هذا الذي يعرف كيف يرفع نفسه فوق فقره أكثر من أن يتأوه تحت ثقل الغنى. ومع هذا إن كنا نظن أن الثروة نافعة لنا نطلبها من الله، فبالتأكيد ذاك الذي هو مالك كل الأشياء يستطيع أن يهبنا نصيبًا. لكننا نحن نفضل أن نزدري بالثروة عن أن نلمسها.

أفضل من الثروة نحن نطلب البراءة، ونفضل أن نسأل الصبر، ونستحسن أن نكون صالحين عن أن نكون ضالين[703].

مينيكوس فيلكس

  1. المساواة بين الغني والفقير

الغَنِيُّ والفَقِيرُ يَتَلاقَيَانِ.

صَانِعُهُمَا كِلَيْهِمَا الربُّ [2].

اهتم الكتاب المقدس بإبراز أن الله “صنع من دم واحدِ كل أمة من الناس يسكنون على وجه الأرض” (أع 17: 26). فالبشرية تمثل أسرة واحدة، تنتسب إلى أبٍ واحدٍ وأمٍ واحدةٍ. يؤكد الكتاب المقدس أن الله هو خالق كل البشرية، وعنايته تمتد إلى الجميع، قدم الخلاص من أجل العالم كله، غير أنه ترك للإنسان حرية الإرادة ليُنتسب لله كأبٍ له أو لإبليس (1 يو 10: 3).

الله خالق الجميع، لكن لن يُلزم أحدًا أن يقبل البنوة له، فيقول للجاحدين: “أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا” (يو 8: 44).

V      “الفقير والغني يتلاقيان”. أين يتلاقيان؟ في هذه الحياة. هذا الشخص يُولد، وذاك يُولد، وحياتهما تعبران، إنهما يلتقيان. ومن الذي خلقهما؟ الرب. ليساعد الغني الفقير، وليمتحن الفقير الغني[704].

V      إنكما تلتقيان معًا، إذ تسيران معًا كل الطريق. يليق بالفقير ألا يحتال على الغني، والغني ألا يضغط على الفقير. الواحد محتاج، والثاني لديه فيض، لكن الرب خالق الاثنين. يعين الرب المحتاج بواسطة الذي لديه. ويُختبر من له بواسطة ذاك الذي ليس له[705].

V      كلكم ترحلون في ذات الطريق، إنكم معًا في صحبة في الرحلة. يخفف الفقراء الحمل عن أكتاف الناس، ولكنكم أنتم مثقلون بحملٍ ثقيلٍ. انزعوا عنكم نصيبًا من الحمل الذي يثقل عليكم.

أعطوا شيئًا من أحمالكم للفقير. بهذا تستريح أنت ورفيقك. يقول الكتاب: “الفقير والغني يتلاقيان، صانعهما كلاهما الرب” أين يلتقيان؟ إلا في هذه الحياة؟ الواحد يلتحف بثيابٍ ثمينة، بينما الآخر بخرقٍ. متى يلتقيان؟ كلاهما وُلدا عريانان، حتى الغني وُلد فقيرًا. ليتجاهل أنه وجد (ثيابًا) عندما جاء، وليتأمل أي شيء جلبه معه عند ميلاده[706].

القديس أغسطينوس

V      جميعنا متساوون بالطبيعة[707].

V      (خلقت البشرية في الأصل متكاملة)، لكل واحدٍ سلطان أن يدير نفسه بلا سيدٍ، يقود حياته بلا حزن ولا تعب؛ فماذا يعني أن تُقاد (بأوامر السيد عليك) إلا أن تُستعبد؟![708]

V      ليست الطبيعة بل (حب) السلطة هو الذي قسم البشرية إلى عبيد وسادة[709].

V      الله وهب البشرية حق تقرير مصيرها (ليس للسيد أن يتحكم في حياة العبد)[710].

V      هذا الذي يخضع لك بالعادة والقانون، هو مساوٍ لك في كرامة الطبيعة[711].

V      أن تُقسم الخليقة التي يليق بها بحق الطبيعة أن تمارس المساواة، إلى عبيد وقوة حاكمة، قسم يأمر والآخر يخضع، هو طغيان واغتصاب للنظام الذي وضعه الله[712].

V      (العبودية هي) فقدان لتكامل الكائن الحي[713].

V      حالة الاستقلال والحرية هي ميل (طبيعي) للحكمة وتحرك لإرادة الإنسان[714].

V      أعظم مشكلة للحرية هي أن يكون الإنسان سيد نفسه[715].

القديس غريغوريوس النيسي

  1. التزام الكل بالاستقامة

الذكِيُّ يُبْصِرُ الشرَّ فَيَتَوارَى،

والحَمْقَى يَعْبُرُونَ فَيُعَاقَبُونَ [3].

بحسب الطبيعة ليس لدى البار إمكانيات أعظم من الشرير، ولا الحكيم من الأحمق، لكن البار يرى الشر من بعيد فيحتمي في الله ملجأه، ويطلب غنى نعمته لتعمل فيه. وكما قيل: “ويكون إنسان كمخبأ من الريح، وستارة من السيل، كسواقي ماء في مكانٍ يابسٍ، كظل صخرةٍ عظيمةٍ في أرضٍ معيبةٍ” (إش 32: 2). أما الأحمق فيعبر دون الالتجاء إلى الله.” فالغني كما الفقير يمكن لكليهما أن يسلكا في البرّ إن كانا حريصين على خلاصهما كما يمكن لهما أن يختارا الشر بإرادتهما.

ثَوابُ التواضُعِ ومَخَافَةِ الربَّ،

هُو غِنًى وكَرَامَةٌ وحَيَاةٌ [4].

إذ يتواضع الإنسان ويتقي الله يغرف بفيض من الغنى والكرامة والحياة. فغنى الإنسان لا يعتمد على ما ورثه من أمور مادية، ولا يكتسب منها، وإنما بالتصاقه بالله مصدر الغنى وانفتاح قلبه عليه بالتواضع والمخافة الربانية.

V      كما أن مصباحًا يضيء حجرة مظلمة هكذا مخافة الرب إذ تخترق قلب إنسان تنيره، معلِّمة إياه كل الفضائل ووصايا الله.

أحد آباء البرية

V      أين يهرب قلبي من قلبي؟ أين أهرب من نفسي؟

القديس أغسطينوس

V      إن كان طبيبنا السماوي العظيم قد أعطانا العقاقير والمسكِّنات، فمن أين وُجِدَ سبب هلاكنا إلاّ من غرضنا العليل؟ لقد أعطانا قبل كل شيء تواضعًا، طاردًا كل كبرياء وكل عُلو يرتفع ضدّ معرفة مجد ابن الله (2 كو 10: 5)، ويهبنا الطاعةً التي “تطفئ جميع سهام الشرير الملتهبة” (أف 6: 16)، وقطع مشيئتنا في كل الأمور لأجل قريبنا؛ ورباطة جأش في القلب وتمتع الوجه بالإشعاع والبهجةً، والثبات في المظهر…

لقد أعطانا الحب الذي هو مثل حبه! لأنه قد صار نموذجًا لنا. لأنه “وضع نفسه وأطاع”، ليس مجرد طاعة فحسب، بل “حتى الموت” (في 2: 8). وإذ ضحّى بحياته لأجلنا علّمنا قائلاً: “أحبّوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم أنا”، “وبهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إن كان لكم حبٌّ بعضًا لبعض” (يو 13: 34-35).

V      التواضع يجعل الإنسان مسكنًا لله! والأرواح الشريرة مع الشيطان قائدها تُطرَد بعيدًا عن هذا المسكن مع أوجاعها المخجلة، وبذلك يصير الإنسان هيكلاً لله، مقدّسًا، مستنيرًا، مطهَّرًا، غنيًا بالنعمة، مملوءًا بكل رائحةٍ زكية وحنوّ وابتهاج، ويصير الإنسان حاملاً لله (ثيئوفوروس)، بل بالحري يصير إلهًا حسب القول: “أنا قلتُ إنكم آلهة وبنو العليّ كلّكم” (مز 82: 6).

القديس برصنوفيوس

V      سُئِل أنبا لنجينوس: “ما هي أعظم الفضائل كلها أيها الأب؟” فقال الشيخ: [اعتقد أنه كما أنّ الكبرياء هي أسوأ الشرور كلها حتى إنها طرحت البعض من السماء ذاتها؛ هكذا فإنّ التواضع هو بالتأكيد أعظم الفضائل، لأنه يستطيع أن يرفع الإنسان من الهاوية ذاتها، بالرغم من أنّ الخاطئ نفسه قد صار مثل الشيطان. وأيضًا طوّب الرب المساكين بالروح قبل جميع المطوبين الآخرين.]

فردوس الآباء

شَوْكٌ وفُخُوخٌ فِي طَرِيقِ المُلْتَوِي.

مَنْ يَحْفَظُ نَفْسَهُ يَبْتَعِدُ عَنْهَا [5].

طريق الإنسان المتمرد العنيد ملتوي، ومملوء بالأشواك والفخاخ الخفية.

V      كيف تصير حلاوة نير المسيح العجيبة مُرة إلا بسبب مرارة شرنا؟

كيف يصير الحِمْل الإلهي الخفيف للغاية ثقيلاً، إلا لأننا في وقاحتنا العنيدة نستهين بالرب الذي به نحمل حمله، خاصة وأن الكتاب المقدس بنفسه يشهد بذلك بوضوح قائلاً: “الشرير تأخذهُ آثامهُ، وبحبال خطيتهِ يُمسَك” (أم 5: 22، حك 11: 16).

أقول إنه من الواضح أننا نحن الذين نجعل من طرق الرب السهلة السليمة طرقًا متعبة، وذلك بسبب حجارة شهواتنا الرديئة الثقيلة. إذ في غباوةٍ نجعل الطريق الملوكي محجرًا، ونترك الطريق الذي وطأته أقدام كل القديسين، بل وسار فيه الرب نفسه، باحثين عن طريق ليس فيه آثار لمن سبقونا، طالبين أماكن مملوءة أشواكًا، فتعمينا إغراءات المباهج الحاضرة، ويتمزق ثوب العرس بالأشواك في الظلام… وقد تغطى الطريق بقضبان الخطايا، حتى أننا ليس فقط نتمزق بأشواك العوسج الحادة، وإنما ننطرح بلدغات الحيات المميتة والأفاعي المتوارية هناك. لأنه: “شوك وفخاخ في طريق الملتوي” (أم 22: 5).

يقول الرب في موضع آخر بالنبي: “لأن شعبي قد نسيني… وقد أعثروهم في طرقهم في السبل القديمة، ليسلكوا في شُعَبٍ في طريق غير مسهل” (إر 18: 15). ويقول سليمان: “طريق الكسلان كسياجٍ من شوك” (أم 15: 19). هكذا إذ يضلون الطريق السماوي الملكي، يعجزون عن الوصول إلى المدينة التي وجهت إليها أنظارنا. وقد عبر عنها سفر الجامعة بصورة رمزية قائلاً عنها إنها أورشليم… (جا 10: 15). بمعنى أنها “أورشليم العليا التي هي أمُّنا (جميعًا) فهي حرَّة” (غل 4: 26).

أما من يترك هذا العالم بحق ويحمل نير المسيح ويتعلم منه، ويتدرب يوميًا على احتمال التعب، لأن الرب “وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29)، يبقى على الدوام بغير اضطراب من كل التجارب، وبالنسبة له “كل الأشياءِ تعمل معًا للخير” (رو 8: 28). فكما يقول النبي إن كلمات الله صالحةً نَحْو مَنْ يَسْلُكُ بِالاِسْتِقَامَة (مي 2: 7)[716].

الأب إبراهيم

V      لنتأمل أيضًا كيف يعلمنا سليمان أن نسجل الكلمات الإلهية على ألواح قلوبنا (أم 3: 4؛ 7: 3؛ 22: 20)، معلنًا بأن “الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تعطي صوتها” (أم 1: 20). بقوله “الخارج” لا يقصد الحديث عن الشوارع بل عن القلوب، لكي يوسعها الله.

العلامة أوريجينوس

V      يا بُنيَّ لا تكن مُصرًّا بعناد. أترك الضحك وشهوات بطنك وابتعد عن الطياشة.

القديس إسطفانوس الطيبي

  1. اهتمام الكل بتربية الأبناء

رَبِّ الولَدَ فِي طَرِيقِه،ِ

فَمَتَى شَاخَ أيْضًا لا يَحِيدُ عَنْهُ [6].

بقوله: “في طريقه” يعني الطريق اللائق به الذي رسمه الله له، فينشأ في حياته سالكًا حسب مشيئة الله.

بقوله: “في طريقه“، وليس “في الطريق الذي تختاره له” يكشف عن ضرورة الاهتمام أن يتربى الطفل حسب ميوله ومواهبه، وليس حسبما يريده له الوالدان. فالأب الحكيم والأم الحكيمة يدرسان في جدية ما يناسب ميول طفلهما من كل الجوانب.

يقصد بالولد هنا المؤمن الذي ينال الميلاد الجديد في مياه المعمودية، إذ لا يقف الأمر عند عماده، بل هذا بداية الطريق الروحي.

V      هكذا هنا أيضًا يدعونه طفلاً جديدًا من وُلد ثانية بغسل التجديد وتعلم، وصار بريئًا، هذا الذي صار مؤهلاً لملكوت السماوات خلال هذا التقدم في نفس الطريق. لذلك يمدنا سفر الأمثال بالتداريب التي تنقل إلينا المفهوم، والفهم للمولود حديثًا، الذي هو جائع للَّبن العقلي الأصيل: مفهوم الحقائق الحاضرة وفهم الحقائق العتيدة. فإن الطفل يتعلم الأمور البشرية، ويُقدم له مفهوم الحقيقة، حتى لا يُستعبد للشهوات المعيبة، ولا يشتاق إلى مجد هذا العالم الفارغ. بجانب هذا يمنحنا سفر الأمثال فهمًا للحياة العتيدة، ويشجعنا على الإيمان بالوعود المكتوبة[717].

 القديس باسيليوس الكبير

V      على وجه العموم، تحثنا وصايا كل القديسين على ذلك بالقدوة، وذلك كما استعمل سليمان الأمثال قائلاً: “اسمعوا أيها البنون تأديب الرب، اِصغوا لأجل المعرفة بفهم، لأني أعطيتكم تعليمًا صالحًا، فلا تتركوا شريعتي. فإني كنت ابنًا لأبي غضًا ووحيدًا عند أمي” (أم 4: 1). لأن الأب البار يربي أولاده تربية حسنة، إذ يجتهد في تعليم الآخرين بسيرته المستقيمة الفاضلة. حتى إذا ما حدثت مقاومة، لا يخجل من سماعه هذا القول: “فأنت الذي تُعلم غيرك ألست تُعلم نفسك” (رو 2: 21). إنما يكون بالحري مثل خادم أمين، يقدر أن يخلص نفسه ويربح الآخرين. وإذ تتضاعف النعمة المعهودة إليه، يستطيع أن يسمع ذلك القول: “نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا في القليل، فأقيمك على الكثير. أدخل إلى فرح سيدك” (مت 25: 21)[718].

القديس أثناسيوس الرسولي

  1. الظلم الاجتماعي

الغَنِيُّ يَتَسَلَّطُ عَلَى الفَقِيرِ،

والمُقْتَرِضُ عَبْدٌ لِلْمُقْرِضِ [7].

يدعو الكتاب المقدس الغني ألا يتسلط على الفقير، ولا الدائن يذل المدين. وفي نفس الوقت يدعونا أن نهرب ما استطعنا من الاستدانة مادام في وسعنا هذا. “لا تكونوا مديونين لأحدٍ بشيءٍ إلا بأن يحب بعضكم بعضًا” (رو 13: 8).

التجاء الإنسان في ضيقته إلى الله يهبه نوعًا من الحرية الداخلية، ويسنده في حلّ مشاكله دون تذللٍ. هذا وكثيرًا ما نلاحظ في الحياة اليومية من يستسهل الاستجداء أو الاستدانة، لا من أجل الضرورة، وإنما لأجل الحياة المترفة المدللة، فيبيعون حريتهم من أجل ملذات الجسد.

الزَّارِعُ إِثْمًا يَحْصُدُ بَلِيَّةً،

وعَصَا سَخَطِهِ تَفْنَى [8].

يقارن الحكيم بين من يزرع إثمًا ومن يزرع صلاحًا، فيحصد الإنسان من ذات نوعية زرعه. لقد زرع فرعون مصر إثمًا وعنفًا، وظن أنه صاحب سلطان، ليس من ينقذ شعب إسرائيل من يده، فحصد مرارة وحرمانًا، بل ودمارًا لنفسه كما لجيشه.

“الشرير يكسب أجرة غش، والزارع البرّ أجرة أمانة” (أم 11: 18)، “لا تضلوا، الله ولا يُشمخ عليه. فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد فسادًا، ومن يزرع للروح، فمن الروح يحصد أيضًا. لأن من يزرع لجسده، فمن الجسد يحصد فسادًا، ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية، فلا نفشل في عمل الخير، لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكل. فإذًا حسبما لنا فرصة، فلنعمل الخير للجميع، ولاسيما لأهل الإيمان.” (غل 6: 7-10).

الصَّالِحُ العَيْنِ هُو يُبَارَكُ،

لأنَّهُ يُعْطِي مِنْ خُبْزِهِ لِلْفَقِيرِ [9].

العين الصالحة أو محبة العطاء بسخاء لا تحتمل أن ترى إنسانًا في ضيقٍ أو عوزٍ، فيعطي الإنسان من خبزه، أي من أعوازه، بقلبٍ مملوء رحمة حنوًا، فيهبه الله البركة في حياته، ويفتح له مخازن السماء.

V      لا يكفي أن نعمل صلاحًا، فإن صلاحنا لا يُعرف لدى الله إن كنا مجرد نصنع صلاحًا، وإنما إن كنا في غيرة نتقدم دومًا في صنعه.

كثيرون يبدأون، وكثيرون يثابرون بطريقةٍ ما، لكنهم فيما بعد يتوقفون، إما لسبب التعب أو لانحرافهم عن الطريق. إنه يحذرهم بالحق ألا يرتبكوا بأية وسيلة، لئلا بسبب قلقهم يتركون ما بدأوا فيه عندما بدأوا عملاً صالحًا…

الوقت مقصر. الحياة تجري سريعًا. نهاية العالم صارت على الأبواب. بقوله “حسبما لنا فرصة” يعني مادمنا في هذه الحياة، أو لا تزال توجد حياة في هذا العالم… لهذا يلزمنا أن نعمل، وأن نعمل الخير، ونعمل الخير للجميع بدون محاباة للأشخاص. يليق بنا ألا نفعل شيئًا إلا ما هو خير، وخير للجميع. فإن المحبة تبني (1 كو 8: 2)، ويلزم محبة كل شخصٍ. إذن كل عمل خير نمارسه يلزم أن يُمارس للجميع[719].

الأب ماريوس فيكتورينوس

  1. نصائح إيجابية وسلبية

أُطْرُدِ المُسْتَهْزِئَ فَيَخْرُجَ الخِصَامُ،

ويَبْطُلَ النزَاعُ والخِزْيُ [10].

ماذا يعني بالمستهزئ، إلا ذاك الذي يسخر بوصية الرب، ويستخف بالحياة المستقيمة في الرب؟ مثل هذا المستهزئ يعمل كالخميرة الفاسدة، فيفسد العجين كله. لهذا يقول الرسول: “اعزلوا الخبيث من بينكم” (1 كو 5: 11-13).

عزل الخبيث لأجل تأديبه أمر إلهي، فقد طرد الله آدم وحواء من الفردوس لتأديبهما حتى يدخلا السماء.

كان الناموس متشددًا في تنقية الشعب من أمثال هذا المستهزئ. “إذا وُجد في وسطك في أحد أبوابك التي يعطيك الرب إلهك، رجل وامرأة، يفعل شرًا في عينيّ الرب إلهك يتجاوز عهده، ويذهب ويعبد آلهة أخرى ويسجد لها… أرجمه بالحجارة حتى الموت” (تث 17: 2-5). أما في العهد الجديد فمع الحزم في تنقية الكنيسة يُطرد مثل هذا إلى حين للتأديب لأجل توبته ورجوعه إليها.

جاء في مثل ربَّاني قديم: “عندما يترك الأحمق الحجرة يبدو كأن الحكيم يدخلها[720]”

إننا نحزن لطرد إنسان خبيث مُصر على خبثه، لكن حزننا يكون مرًا فيه شركة مع حزن الملائكة حين يُطرد إنسان من الملكوت.

V      إن قاوم البعض في عصيانٍ، فيجدون خطأ في شكواهم الخفية دون الإفصاح عنها، يصيرون بهذا علة خصومات في المجتمع، ويتلفون سلطان الأوامر المعطاة. هؤلاء يلزم طردهم من المجتمع كمعلمين للعصيان، فيخرج الخصام معهم… “اعزلوا الخبيث من بينكم، فإن خميرة صغيرة تخمر العجين كله” (1 كو 5: 13، 6)[721].

 القديس باسيليوس الكبير

V      إنني اَعتقد، يا أحبائي، أن آدم عندما كان في الفردوس لو كان قد حفظ تلك الوصية الصغيرة، لكانت حلّت عليه كرامة أعظم مما كانت له سابقًا، ولكنه عندما تعدّى وصية الرب حُرم من البهجة والمسرة وطُرد من حيث كان يعيش، لعل الله يجعلنا مستحقين أن نحفظ وصاياه.

الأب يوسف

V      يا لحزن الملائكة حينما يرون راهبًا يُطرد خارج الملكوت بسبب إهماله! ويا لأسى القديسين حينما يشاهدون ناسكًا لم يتحد بالعريس المسيح في خدره بسبب كبريائه!

القديس هيبريشيوس الكاهن

مَنْ أحَبَّ طَهَارَةَ القَلْبِ،

فَلِنِعْمَةِ شَفَتَيْهِ يَكُونُ المَلِكُ صَدِيقَهُ [11].

إن كانت طهارة القلب أو نقاوته تفتح أعيننا لنرى الله (مت 5: 8)، ونجالسه كأصدقاء نحمل أيقونة قداسته. فإنه أيضًا يهب أنقياء القلب نعمة لدى الأباطرة بالرغم من مقاومة الحاسدين له.

هذا ويكشف هذا المثل عما في قلب سليمان، حيث يشتاق لا إلى مصادقة الملوك والعظماء، بل طاهري القلب. يجد المؤمن الحقيقي سعادته في الصداقة مع أنقياء القلب ليشاركهم رؤيتهم لله “طوبي للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله”.

V      سكون الراهب بنقاوة قلب يجتذب إليه الروح القدس.

القديس هيبريشيوس الكاهن

V      اثبت في النقاوة، فيصير الروح صديقك.

V      احرص – سواء من جهة عينيك أو من جهة قلبك – أن تثبت في الراحة، فتحيط بك نقاوة كاملة، لأن الله يحب القداسة، ولهذا يقول: “لأني قدوس ومع القديسين أستريح” (إش 57: 15 LXX). وأيضًا: “طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله”، وأيضًا: “اتبعوا السلام مع الجميع، والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب” (عب 12: 14). لأننا نعلم أنه إن أتينا بأثمار فالله ينقينا. فجاهد، إذن يا ابني، أن تثبت دائمًا في القداسة، سواء كان بالنسبة للعينين أو القلب، لكي ترجع إلى مبدأك كحال الأطفال الصغار الذين قال عنهم الله: “إن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات”.

القديس إسطفانوس الطيبي

عَيْنَا الربَّ تَحْفَظَانِ المَعْرِفَة،َ

وهُو يَقْلِبُ كَلامَ الغَادِرِينَ [12].

الله هو الحق، وعيناه على حقه الذي يكشفه لمحبوبيه، فيحملون معرفة صادقة للحقٍ. إنه ساهر أيضًا عن الحق والعدل، ولن يترك الغادرين والغاشين للحق أن ينجحوا إلى التمام. إنه يطيل أناته عليهم، لكنه حتمًا يفضح خداعهم وغشهم، ويرد الحق إلى نصابه. يقول حناني الرائي لآسا: “لأن عيني الرب تجولان في كل الأرض، ليتشدد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه” (2 أي 16: 9).

V      زائفٌ هو الإنسان العتيق، أما الإنسان الجديد فهو حق، والحق هو أصل الأعمال الصالحة، والزيف هو الموت. لو علم الكذّاب واللص والمفتري أنهم سيُفضحون أخيرًا وتُفضح أعمالهم، لما ارتكبوا الخطية إطلاقًا. وهكذا يكون الأمر بخصوص الزناة مثل ابنيّ عالي الكاهن، حفني وفينحاس، لأنهما كانا كاهني للرب، ولكنهما لم يخافا الله، فهلكا مع كل بيتهما. والإنسان الذي يحتفظ بذكر الشرور ويرتبط بها ويحبسها في داخله، يشبه الذي يخبِّئ نارًا في قشّ.

القديس أبيفانيوس أسقف سلاميس

V      لا توجد طريق مستقيمة سوى طريق ربنا يسوع المسيح، لأنه هو الطريق والحق والحياة.

أنبا تيموثاوس

V      ينبغي على الراهب أن يقول كلمة الحق، ويبعد عن فمه الكذب.

القديس هيبريشيوس الكاهن

V      التواضع بإفراز هو معرفة الحق. ومعرفة الحق هي ينبوع التواضع. المتواضع بقلبه متواضع بجسده، والمتوقح بجسده متوقح بقلبه، والمضطرب بجسده مضطرب بقلبه، والمضطرب بقلبه جاهل بعقله، والجاهل بعقله رديئة هي طرقه، والذي طرقه رديئة هو مائتٌ بالحياة.

القديس مار إسحق السرياني

قَالَ الكَسْلانُ:

الأسَدُ فِي الخَارِج،ِ

فَأُقْتَلُ فِي الشوارِعِ! [13].

بسبب الكسل يُحاصر الإنسان بتخيلات تقتل حيويته، فيرى المشاكل المحيطة به جبلاً لا يتزحزح، ويرى الناس حوله أسودًا مفترسة، لهذا يجد من الحكمة أن يستكين في مخدعه بلا عمل حفظًا على حياته.

V      البطالة هي بداية الأعمال الرديئة، ولاسيما لعديمي الأدب، لأن اليهود لما لم يكن لهم في البرية عمل ينشغلون به خرجوا من البطالة إلى عبادة الأوثان. فلا تفارق عمل اليدين لأنه نافعٌ جدًا ومهذِّبْ.

V      بلغني أن إنسانًا كسلانًا أخذ في حضنه الكتاب المقدس من الساعة السابعة (أي الواحدة بعد الظهر) حتى غروب الشمس ولم يقدر أن يفتحه البتّة، وكأنه مربوط برصاص. لكن أنبا أنطونيوس فعل كما أظهر له الملاك: فتارةً كان يجلس ولعمله ممارسًا، وتارةً أخرى يقوم وللصلاة ملازمًا، وتارةً يجلس ولكلام الله قارئًا. وقد حظيَ باستنارة لدرجة أنه قال لأحد فلاسفة زمانه: “يكفيني أن أتأمل في طبيعة المخلوقات دائمًا، وأتلو في أقوال الرب حتى ظلمة الليل.” إلى هذا الحدّ كان يتصل بالله، وكان ليله يضيء كالنهار كما قيل: “الظلمة أيضًا لا تظلم لديك، والليل مثل النهار يضيء” (مز 139: 12).

القديس نيلوس السينائي

V      إذا سقطتَ فلا تتوانى ولا تكسل، بل قم بسرعة. وإذا ضللتَ أسرع بالرجوع حتى تجد الطريق المستقيم، لأن الطريق المستقيم جيدٌ وليس فيه دوران ولا يحتاج إلى طول زمان، بل بسرعة يوصل إلى مدينة السلام.

أنبا تيموثاوس

V      أخبرَ أحد الآباء أنه كان يسكن بالقرب منه أخٌ عمّالٌ مع الله، ثم اعتراه تواني وكسل. وبعد مدّة انتبه من توانيه ولامَ نفسه قائلاً: “يا نفسي، إلى متى تتوانين عن خلاصك؟ أما تخافين من دينونة الله يا شقية وأنتِ في هذا التواني فتُسلَّمين للعذاب الدائم؟” ولما تفكّر في مثل ذلك أنهض نفسه في عمل الله.

فردوس الآباء

فَمُ الاجْنَبِيَّاتِ هُوةٌ عَمِيقَةٌ.

مَمْقُوتُ الربَّ يَسْقُطُ فِيهَا [14].

يقصد بالأجنبية المرأة الوثنية، فكثير من اليهود سقطوا في عبادة الأوثان بسبب نسائهم الوثنيات، من بينهم سليمان الحكيم، إذ قيل: “وكان في زمن شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عشتاروت آلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين” (1 مل 11: 4-5).

V      فم الناطق بالشر هوة عميقة، شفاه جارفة منحدرة للبريء، لكنها أكثر انحدارًا بالنسبة لمن إرادته شريرة. الشخص البريء يصدق بسرعة وبسهولة، فيسقط سريعًا (أم 14: 15)، لكنه إذ يسقط يقوم. أما المفتري فيسقط بتهور بأفعاله، التي لن يهرب منها ولا يخرج[722].

 القديس أمبروسيوس

V      يجب أن تكون سيرة الراهب نقية، ولا يكون هزأة للنساء الأردياء. لأن المرأة التي تسلك بمداهنة وسط البيوت، هي سهم للمجرِّب.

القديس هيبريشيوس الكاهن

V      التقى أنبا جراسيموس بامرأة في البرية عريانة. فلما أبصرته توارت عنه. وأراد أن يكلّمها فتوارت خلف صخرة وكلّمته. فقال لها: “كم لك في هذه البرية؟” فقالت: “خمسون سنة”. فقال لها: “وماذا كان غذاؤك؟” فقالت: “إن الخالق لا يضيّع ما خلق”. فقال: “وماذا أبصرت في هذه البرية؟” فقالت: “ما أبصرتُ غير المسيح وأعماله وصنائعه”. فقال لها: “فيمَ يوجد الخلاص؟” فقالت: “في تركك ما أنت فيه”. فقال لها: “وما هو؟” فقالت: “انشغالك بالبكاء عن خطاياك أولى من سؤالك لامرأة عما لا ينفعك”. فقال لها: “صدقتِ”، وصنع ميطانية وانصرف.

فردوس الآباء

الجَهَالَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِقَلْبِ الولَدِ.

عَصَا التأْدِيبِ تُبْعِدُهَا عَنْهُ [15].

يطالب الحكيم الوالدين بتأديب أبنائهما بحكمةٍ وفهمٍ، حتى لا يرتبطوا بالجهالة. لا تعني “العصا” بالضرورة التأديب البدني، إنما تعني أخذ موقف حازم مقترن بالحب الوالدي ووضوح الهدف، ألا وهو عدم الانحراف عن الطريق المستقيم اللائق بأبناء الله. التأديب بحكمة لا يثير الابن الذي تحت التأديب نحو السخط والغضب أو الشعور بالظلم، إنما يقوده على اكتشاف جهالاته وطلب الحكمة. يقول الحكيم في موضع آخر: الانتهار يؤثر في الحكيم أكثر من مئة جلدة في الجاهل” (أم 17: 10).

يلاحظ أن سليمان لا يهتم بالسلوك الخارجي فحسب، إنما يركز أنصاره على القلب، فيقول: “الجهالة مرتبطة بقلب الولد“. فهو يطلب شفاء القلب ولو بعصا التأديب.

V      قال أحد الآباء: “لا يوجد أفضل من هذه الوصية: ألاّ تزدري بأحدٍ من الإخوة، لأنه مكتوبٌ: “إنذارًا تُنذر صاحبك، ولا تحمل لأجله خطية” (لا 19: 17). فإن علمتَ أنّ أخاك مخطئ ولا تُخبره لكي يعلم خطأه فدمه يُطلَب من يديك، فإن كان بعد التوبيخ يصرّ على الخطية ويثبت فيها يموت بخطيته. ما أفضل التوبيخ إذا كان بمحبةٍٍ وتواضعٍ لا بمعيرةٍٍ وازدراءٍ“.

فردوس الآباء

V      الذي يماحك قبالة التأديب يُبعد عنه المراحم الأبوية. الذي يتذمر مقابل التجارب تتضاعف عليه. الذي لا يتأدب ههنا وينسحق بالتجارب يتعذب هناك بلا رحمة.

القديس مار إسحق السرياني

V      اِفرح لأنّ الله يفتقدك، واحتفظ بهذا القول المبارك على شفتيك: “تأديبًا أدّبني الرب، وإلى الموت لم يسلِّمني” (مز 118: 18). فإن كنتَ من حديد، إلاّ أنّ النار أحرقت الصدأ منك، وإن كنتَ بارًّا ومرضتَ، فستذهب من قوةٍ إلى قوة. وأذكر المكتوب: “إن كنا نتألم معه لكي نتمجّد أيضًا معه” (رو 8: 17).

القديسة أمّا سنكليتيكي

V      سُئل: “كيف ينبغي أن ينتهر الإنسان؟” فقال: “كما ينتهر الأب ابنه، وكما يكون قصد الطبيب أن يشفي المريض.

V      وسُئل أيضًا: “كيف يجب أن يُقبَل الانتهار؟” فقال: “كما يقبل الولد تأديب والده والمريض مداواة طبيبه”.

القديس باسيليوس الكبير

V      لنقبل الامتحانات كقبول الأدوية من الطبيب لكي نخلص، وكقبول التأديب من الأب لكي نتهذّب. ولهذا قال الحكيم: “يا بُنيّ إن أقبلتَ على خدمة الرب الإله فأثبت على البرّ والتقوى وأعدد نفسك للتجربة” (سي 2: 1).

القديس يوحنا الذهبي الفم

V      مرةً أخرى، بعد مدةٍ طويلةٍ، تدفعني المحبة أن أضربك بعصا المسيح التي للتأديب والتوبيخ، حتى يتحقّق فينا كلام الكتاب القائل: “أمينةٌ هي جروح المحب” (أم 27: 6) وما يلي ذلك. وأيضًا، إن كنا نؤدِّبك فلا تخُرْ، بل تذكر القول: “يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تخُر إذا وبَّخك، لأنّ الذي يحبه الرب يؤدِّبه ويجلد كل ابنٍ يقبله” (عب 12: 5-6). ولكن حتى لو انتهرتُك، فأنت لا تجهل قول الرسول: “وبِّخ، انتهر، عظْ” (2 تي 4: 2).

القديس برصنوفيوس وتلميذه يوحنا

ظَالِمُ الفَقِيرِ تَكْثِيرًا لِمَا لَهُ،

ومُعْطِي الغَنِيِّ إِنَّمَا هُمَا لِلْعَوزِ [16].

يشجب الحكيم تصرفين يُمارسان بغرض اقتناء مكاسب أو زيادة الموارد، وهما ظلم الفقير وتقديم هدايا أو رشوة للغني لأجل المصلحة المادية أو لنوال كرامة وسلطة. هذان الأمران مكروهان، حتى وإن حققا نجاحًا مؤقتًا، إذ ينزعا بركة الرب عن الإنسان، فيصير في عوزٍٍ روحي ومادي.

كثيرون افتقروا لظلمهم للفقراء أو سخائهم في العطاء للأغنياء، لا عن حب بل عن نوال مجدٍ باطلٍ!

  1. الالتجاء إلى مشورة الحكماء

أمِلْ أُذْنَكَ واسْمَعْ كَلامَ الحُكَمَاءِ،

ووجِّهْ قَلْبَكَ إِلى مَعْرِفَتِي [17].

 إذ شعر سليمان بقيمة الحكمة، واسترسل في مديحها، خاصة في سفر الحكمة (إصحاحات 7-9)، حاسبا إياها أفضل من العرش والصولجان (حك 7: 8)، ومن الغنى (حك 7: 8)، كما من الصحة والجمال، بل ومن النور المنظور، فهي مصدر العلوم والمعرفة، انعكاس للنور الإلهي (حك 7: 17 الخ)، طلبها أن تكون قرينة حياته (حك 9). فهي العروس واهبة المجد، الخالدة، الجالسة على العرش السماوي. إنه يود أن يتمتع العالم كله بالاتحاد مع حكمة الله.

V      ينبغي على الراهب أن يأخذ المشورة من إنسان حكيم، وأن لا يجعل مشورة الجاهل تسكن في قلبه.

القديس هيبريشيوس الكاهن

V      أيها الأخ، يقول الكتاب المقدس: “افعل كل الأمور بمشورة” (أم 24: 72)، و”بدون مشورة لا تفعل شيئًا” (سي 32: 24). عندما كنتَ تفعل بدون مشورة، بل بمشيئتك الخاصة، لم تكن تجاهد مع ذهنك. لأنه لا يوجد مَنْ لا يحتاج إلى مشورة إلاّ الله وحده الذي خلق الحكمة، ولكنك عندما طلبت أن تقطع هواك بحسب الله وتبلغ إلى التواضع، وأن تتخذني أنا أخاك الصغير جدًا كموجِّهٍ؛ فقد أثرتَ حسد الشيطان عدو الخير الذي يحسد جميع الناس على الدوام.

V      اَخضِع نفسك لمعلِّمٍ لكي ما يؤدِّبك بالرحمة. “لا تعمل شيئًا بدون مشورة” (سي 32: 19) حتى لو بدت لك الأمور أنها جيدة، لأنّ نور الشياطين يصير أخيرًا ظلمات. فإن كنتَ تسمع أو تفكِّر أو ترى أي شيءٍ يترك ولو القليل من الاضطراب في قلبك؛ فاعلم أنه من الشياطين.

القديس برصنوفيوس

V      كانت في أورشليم عذراء حبيسة لمدة ست سنوات مرتديةً مسوحًا، وكان نسكها زائدًا عن الحدّ، ولم تأكل شيئًا لذيذًا قط. فمنعها الآباء من ذلك، ولكنها لم تُصغِ لمشورة أحد، فتعرّت من معونة الله بسبب عجرفتها وإعجابها بذاتها، فتباعد عنها حافظ عفتها، وسقطت سقطةً بشعة. فقد أدخلت عندها إنسانًا كان يخدمها، وسقطت معه في الخطية. وقد حلّت عليها هذه المصيبة، لأنها جعلت القصد من نسكها التظاهر وليس لأجل حب الله، وظنت أنها أفضل من كثيرين. ولما تملّكت عليها الأُبَّهة سقطت في يد إبليس.

فردوس الآباء

يحتاج الكل إلى مشورة أب اعتراف حكيم أو مرشد حكيم، حتى الراهب المتوحد، مهما طالت مدة خبرته في الحياة المقدسة والشركة مع الله، ففي حديث القديس غريغوريوس رئيس متوحدي قبرص المتنيح في أواخر القرن الرابع يوجِّه أنظار المتوحدين إلى خطورة اتكال الإنسان على حكمته الذاتية، وعدم طلب مشورة أبيه بروح التواضع، فإن في هذا إعاقة لممارسة جميع الفضائل واستئصاله لها، إذ تهب الشياطين سلطانًا عليه.

V      اسمعوا مني يا إخوتي الرهبان، واحترسوا بهذه السيرة التي بها خلاص أنفسكم وحياتها مخفي ومحفوظ: لا تتكلوا على حكمتكم، ولا على معرفتكم، بل اتبعوا بتواضعٍ مشورة آبائكم، لأن الشك هو معوق لجميع الفضائل، مستأصل لها، وكمثل سجن يقيد كل تلاميذه في عدم المعرفة، إذ يظنون بدون ضيقات كثيرة يدخلون ملكوت السماوات[723].

V      من أجل عدم طاعاتهم لمشورة آبائهم الروحيين ووعظهم، جردتهم الشياطين من عمل الفضائل المقدسة، وملأتهم بجميع ما قاله بولس بأنهم ظنوا أنه من غير حب الله وحفظ وصاياه يستطيعوا أن يدركوا ويأخذوا لذواتهم الراحة الإلهية والفرح الذي يُعطى للمتوحدين من أجل عملهم النشيط[724].

القديس غريغوريوس رئيس متوحدين قبرص

لانَّهُ حَسَنٌ إِنْ حَفِظْتَهَا فِي جَوْفِكَ،

إِنْ تَتَثَبَّتْ جَمِيعًا عَلَى شَفَتَيْكَ [18].

يطلب من المستمع أن يكنز الحكمة في قلبه، وكما سبق فقلنا أن “القلب” عند اليهود يعادل “العقل” عند اليونانيين، والاثنان يُقصد بهما الإنسان الداخلي.

تُحفظ الحكمة في القلب، وتثبت على الشفتين، فليس للشخص من حديث آخر غير ما يصدر عن الحكمة الداخلية.

لِيَكُونَ اتِّكَالُكَ عَلى الربَّ عَرَّفْتُكَ أنْتَ اليَوْمَ [19].

ليس من تمتع بالحكمة الحقيقية دون الاتكال على واهب الحكمة.

ألَمْ اكْتُبْ لَكَ أُمُورًا شَرِيفَةً مِنْ جِهَةِ مُؤَامَرَةٍ ومَعْرِفَةٍ [20].

يؤكد الحكيم أن ما يكتبه ليس حكمة بشرية مجردة، ولا هي ثمرة للخبرة البشرية وحدها، إنما يكتب أمورًا شريفة من جهة شركتنا مع الله.

جاءت الترجمة الحرفية للنص العبري: “ألم أضعها أمامك في ثلاث طرق” أو “مرة ثالثة”. وجاء النص في الترجمة السبعينية: “أنت تصف الأمور لنفسك بثلاث طرق حسب اتساع قلبك“.

V      من يفتح قلبه بالطهارة، يتأمل كلمات الله في المعاني العملية والمادية واللاهوتية. لهذا فإن كل جسم الكتاب يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء: أخلاقي، ومادي، ولاهوتي. فسِفر الأمثال يطابق القسم الأول، والجامعة القسم الثاني، ونشيد الأناشيد الثالث[725].

 القديس مار أوغريس

V      كما تتكون الكائنات البشرية من جسم ونفس وروح، هكذا يتكون الكتاب المقدس من جسم الحروف الذي ينتفع به الإنسان الجاهل، ويدعى “التعليم اليدوي”. والثاني من النفس وهو معنى أسمى، يفهمه من هو أكثر علمًا. وأيضًا يحوي روحًا، وهو الأكثر سموًا وتأملاً روحيًا، هذا الذي ينطق به الكاملون ويفهمونه[726].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأُعَلِّمَكَ قِسْطَ كَلامِ الحَقِّ،

لِتَرُدَّ جَوابَ الحَقِّ لِلَّذِينَ ارْسَلُوكَ؟ [21].

إن كان الحكيم بحبه يقدم نور الحق الإلهي والحكمة للذي سأله، فهو يطالب السائل أن يقدمه بدوره للذي أرسله. فالحكمة مقدمة لكل إنسانٍ، لسليمان نفسه، ولمن جاء رسولاً يسأله، وللذي أرسل هذا الرسول.

الحكمة هي وديعة حب، حِفْظها ليس في تخبئتها، وإنما في شوق الإنسان أن يتمتع كل إخوته بها، مقدمًا إياها بأمانة.

  1. الاهتمام بالفقراء

لا تَسْلِبِ الفَقِيرَ لِكَوْنِهِ فَقِيرًا،

ولا تَسْحَقِ المِسْكِينَ فِي البَاب [22].

كانت القضايا تنظر عند باب المدينة، ولعل اختيار مجالس القضاء عند أبواب المدينة يحمل رمزًا أنه لا يدخل المدينة إنسان ظالم أو مغتصب أو صانع شر. هنا يقدم تحذيرًا للحاكم والقاضي ومن يشاركهما في مجالس القضاء، من الذين يسلبون حق الفقير ويظلمونه من أجل الأغنياء أو أصحاب السلطة.

لانَّ الربَّ يُقِيمُ دَعْواهُمْ،

ويَسْلِبُ سَالِبِي أنْفُسِهِمْ [23].

يوجد قاضي القضاة وملك الملوك المتخصص في الدفاع عن المظلومين، خاصة الفقراء والمساكين، والذي ليس لهم من يسأل عنهم. فهو يقيم دعواهم ضد القضاة الظالمين، ويحكم على الظالمين بما حكموا به ظلمًا على غيرهم، فيسلب السالبين. وكأن من يسلب المسكين ويضغط عليه إنما يسلب نفسه ويضغط على أعماقه، وكما قيل في عبوديا: “كما فعلت كما يُفعل بك. عملك يرتد على رأسك” (عو 15).

V      “كما فعلت يُفعل بك” (عو 15). هكذا هو نظام الطبيعة، أن كل أحدٍٍ يتقبل نفس المعاملة التي يعامل بها الغير، وتُرد له الجزاءات متساوية تمامًا بالأفعال التي يمارسها[727].

القديس كيرلس الكبير

  1. مصاحبة الغضوب

لا تَسْتَصْحِبْ غَضُوبًا،

ومَعَ رَجُلٍ سَاخِطٍ لا تَجيء [24].

يتطلع الحكيم إلى الغضب والسخط بكونهما وباءً خطيرًا يمكن أن تنتقل العدوى بسرعة، لذا يحذرنا من أن نكون في صحبة إنسان غضوب، أو حتى نسير مع إنسان ساخط في الطريق. “المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة” (1 كو 15: 33).

V      العيشة بين من هم عديمي الضمير والمزورين في نظرتهم نحو حفظ الوصايا أمر خطير، كما هو واضح من كلمات سليمان التالية: “لا تستصحب غضوبًا، ومع رجل ساخط لا تسير، لئلا تألف طرفة وتأخذ شركًا لنفسك[728].

 القديس باسيليوس الكبير

لِئَلا تَأْلَفَ طُرُقَهُ،

وتَأْخُذَ شَرَكًا إِلَى نَفْسِكَ [25].

لا يعتد الإنسان بنفسه ظنًا أنه لا يمكن للصداقة مع الغضوب، والسير مع إنسانٍ ساخط، أن يُؤثِّرا على سلوكه، فالتهاون مع النفس وقبول الشركة مع الساخطين إنما هو شرك يضعه الإنسان لنفسه.

  1. الحكمة في ضمان الغير

لا تَكُنْ مِنْ صَافِقِي الكَفِّ،

ولا مِنْ ضَامِنِي الدُيُونِ [26].

إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ مَا تَفِي،

فَلِمَاذَا يَأْخُذُ فِرَاشَكَ مِنْ تَحْتِكَ؟ [27].

هنا يعود فيكرر في السفر تحذيره من التهاون في ضمان ديون إنسانٍ أو أشخاصٍ مستهترين، فبسبب هذا الضمان قد يفقد الإنسان حتى فراشة الذي ينام عليه. سبق أن حذرنا في أمثال 6: 1؛ 17: 18، وقد سبق لي التعليق على هذا التحذير.

استخدم البابا غريغوريوس (الكبير) هذا التخدير أثناء كتابته عن الرعاية، فيليق بالرؤساء والقادة أن يهتموا بخلاص من هم تحت قيادتهم، حتى لا يُطلب دمهم منهم، بكونهم ضامنين لهم أو مسئولين عنهم.

V      ينبغي إذًا أن نقدم الموعظة للمرءوسين لئلا يأخذوا عقابًا أشد إذا لم يتبرروا ولو بصفة شخصية، أما بالنسبة للرؤساء فليحذروا أن يُحكم عليهم بسبب أخطاء المرؤوسين حتى ولو لم يكترثوا بأفعالهم الخاصة.

ينبغي أن نعظ الرعية بأن تهتم بنفسها، لأنه كلما عظم هذا الاهتمام، قلَّ تورطها في الاهتمام بالآخرين. كذلك ينبغي أن نعظ الآخرين (الرعاة) بأن يوفوا بالمسئولية عن الرعية بحكمة، دون أن يهملوا مسئوليتهم عن أنفسهم.

يقول الكتاب للذين يتكاسلون في رعاية أمورهم: “اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمل طرقها، وكن حكيمًا” (أم 6: 6). أما الآخر فيأتيه التحذير المخيف في قول الكتاب: “يا ابني إن ضَمِنْتَ صاحبك، إن صفقت كفك لغريبٍ، إن عَلِقْتَ في كلام فمك، إن أُخِذْتَ بكلام فيك” (أم 6: 1-2) ومن الواضح أن من يضمن صاحبه يأخذ على عاتقه مسئولية نفس إنسان آخر بضمان سلوكه، وإذا صفق كف للغريب فإن العقل ينشغل بمسئولية جديدة، وكذلك عندما تعلق بكلمات فمك، وإن أخذت الكلمات فيك، لأنه إذا نَطَقَ بكلمات طيبة عن المسئولين منه، فإنه لا بد أن يراقب موضوع الحديث. إن الكلام يعلق بفمه لأن هناك ضرورة ملحة أن يلجم نفسه بتعقلٍ،ٍ حتى لا يتسرب الإهمال والتراخي إلى حياته مما لا يتفق مع تعليمه. وبالتالي يضيف الكتاب على الكلمات السابقة العظة الحسنة القائلة: “إذًا فافعل هذا يا بني، ونجِ نفسك إذا صرت في يد صاحبك، اذهب، تَرَامَ وألِحَّ علي صاحبك. لا تعط عينيك نومًا، ولا أجفانك نعاسًا” (أم 6: 3-4). لأن الراعي الذي أخذ مسئولية الآخرين على عاتقه كقدوة بحياته، عليه أن يحترز ليس فقط لأجل نفسه بل أن يجتهد ليُقيم الإخوة رعيته.

البابا غريغوريوس (الكبير)

  1. وديعة التقليد

لا تَنْقُلِ التُخُمَ القَدِيمَ الذِي وضَعَهُ آبَاؤُكَ [28].

يمكن فهم ذلك أنه تأكيد للوصية التي قدمها موسى النبي (تث 19: 14)، حيث طالب كل سبطٍ – عند نواله نصيبه في أرض الموعد – ألا ينقل علامات تخومه، فيغتصب من حقول الأسباط المحيطة به أو أراضيها. وهي وصية لكل مؤمن أن يكون أمينًا في تصرفاته، فلا يغش في الموازين، ولا يغتصب حق جاره أو قريبه. هذا ويمكن تفسيرها روحيًا، كما سبق فرأينا، وهو أن نحفظ وديعة الإيمان، أي التقليد الخاص بالعقائد الإيمانية بلا تغيير.

يرى العلامة أوريجينوس وغيره من الآباء في هذه الوصية أن ما تسلمناه من الكنيسة الأولى بخصوص الأسفار القانونية للكتاب المقدس وقانون الإيمان هو التخم القديمة التي وضعها آباؤنا بإرشاد الروح القدس، يلزمنا الحفاظ عليها[729].

V      لا نسمح للإيمان أو قانون الإيمان الذي حدده آباؤنا القديسون المجتمعون في أيام مجمع نيقية أن يهزه أحد ما، ولا يعهد لأنفسنا أو غيرنا أن يستبدلوا كلمة مما وضعوه، أو يخدموا حرفًا منه. فإننا نتذكر القائل: “لا تغيروا تخمًا وضعه آباؤك”[730].

 القديس كيرلس الكبير

ويرى البعض أن تحريك التخم هو التعدي على حدود الفضائل، فتتحول إلى رذائل.

V      من يحرك تخم التقوى يحولها إلى معتقدات خرافية أو إلى الشر. ومن يحرك تخم الشجاعة يغيرها إلى التهور أو الجبن. بنفس الطريقة ينطبق هذا على الفضائل الأخرى كما على العقائد والأمور الإيمانية الأخرى.

هذا أيضًا يخص التعليم بالثالوث القدوس. فمن ينكر لاهوت الروح القدس ينكر المعمودية، ومن يسمى آخرون آلهة يُدخل هيكل كامل للآلهة الوثنية[731].

القديس أوغريس

  1. الاجتهاد

أرَأيْتَ رَجُلاً مُجْتَهِدًا فِي عَمَلِهِ؟

أمَامَ المُلُوكِ يَقِفُ.

لا يَقِفُ أمَامَ الرَعَاعِ! [29]

دعوة متجددة ومتكررة لحياة الجهاد والأمانة في الحياة الأسرية والعمل والعبادة، حتى نسمع الصوت الإلهي: “كنت أمينًا في القليل، فأقيمك على الكثير، اُدخل إلى فرح سيدك”. فالإنسان المجتهد يقف بدالة لدى ملك الملوك، لينال التمتع بالحضن الإلهي، أما الكسلان فنصيبه مع الرعاع، أي الشياطين غير الأمينة.

V      ملعون من يخفي القمح في وقت البذار (راجع أم 11: 26)، إذ يطالبنا المثل الإلهي (الخاص بالوزنات مت 25: 14-30) ألاَّ نهمل العطية أو نخبئها من غير إكثارها ومضاعفاتها، وإلا بحق نطرد خارجًا كأشرار متذمرين. على هذا الأساس مدح الرب أولئك الذين ضاعفوا وزناتهم، قائلاً: “نعمًا أيها العبد الصالح الأمين. كنت أمينًا في القليل، فأقيمك على الكثير، أدخل إلى فرح سيدك (مت 25: 23)[732].

V      توجد وصية من الرسول إلى تلميذه يُلزمه ألا تكون النعمة المعطاة لنا عاطلة بلا نفع. ويؤكد قائلاً له ألا يهمل الموهبة المعطاة له. لأن الذي يفلح أرضًا يُسر بالخبز، وأما طريق الكسلان فمملوءة أشواكًا. ويحذرنا الروح ألا نسقط في هذا (الكسل) قائلاً: “احرثوا لأنفسكم حرثًا، ولا تزرعوا في الأشواك” (إر 4: 3). ويوضح النبي نهاية مثل هذا الكسل قائلاً: “ملعون من يعمل عمل الرب برخاء” (إر 10:48). لأنه يلزم على خادم الله أن يكون مجتهدًا حريصًا. نعم، وبالحري يكون ملتهبًا كالنار، حتى عندما يحطم الشهوات الجسدية بروح ملتهبة يكون قادرًا على الاقتراب من الله الذي يلقبه القديسون بـ “النار الآكلة”[733].

القديس أثناسيوس الرسولي

 


 

من وحي أمثال 22

من أجلي افتقرت لكي تغنيني!

V      لأقتنيك يا من صرت لأجلي فقيرًا،

بك أصير غنيًا، فلا تعتاز نفسي إلى شيءٍ،

فأنت فضيلتي وغناي!

V      بك أتطلع إلى كل البشرية،

فأرى الكل من صنع يديك،

وُلد الجميع عراة، ويخرجون من العالم عراة،

أنت مجد الإنسان وكرامته!

V      تهب عواصف الشر،

فأحتمي فيك يا صخر الدهور.

أَكتسي بتواضعك، فتسكب بهاءك عليّ.

تحفظني من أشواك العالم وفخاخ العدو.

V      في مياه المعمودية لبست ثوب البنوة،

صرت طفلاً يُنتسب إليك.

لأقبل كل تأديبٍ وتهذيبٍ من يديك.

فأنمو وأتمتع بالنضوج الحقيقي.

V      أهرب من الخصام والنزاع،

ولا يكون للخبث موضع في قلبي.

تهبني سلام قلب وطهارته،

تعطي لشفتي نعمة، فتفيضان بعسل حبك.

تفتح بصيرتي الداخلية، وتسكب فيّ معرفة الحب.

V      بك أخرج للعمل بكل اجتهاد،

فأنت دائم العمل من أجلي.

ليس من إغراء يجتذبني،

مادمت تملأ كل أعماقي!

V      لا أغلق يدي على الفقير، ولا أظلم أجيرًا،

ولا أرشي غنيًا لأجل نفعٍ ماديٍ أو نوال كرامةٍ!

V      اقتني تواضعك،

فأخضع لمشورة الحكيم.

ولا أعتد في كبرياء برأيي!

V      أعماقي تصرخ نحو حكمتك:

مرحبًا بكِ في بيتكِ!

وشفتاي تصمتان لكي لا تنطقا إلا حسب مشورتك.

V      هب لي حنوك، فأترفق بالكل.

لا أسخر بفقير أو أسلبه حقه،

ولا أستهين بمسكين فأظلمه.

فأنت أب الجميع، وقاضي المظلومين،

والمدافع عن من ليس لهم من يسأل عنهم.

V      في صحبتي لك، لا أسير مع غضوبٍ في طريقه،

ولا أجد راحة مع رجلٍ متذمرٍ ساخطٍ.

لن أقبل السير في طريقٍ أنت لست فيه.

ولن أتكئ إلا على صدرك!

V      تهبني حكمتك، فأحمل روح التمييز،

لا أخلط بين فضيلة ورذيلة!

ولا أمزج بين النور والظلمة.

V      من يهبني روح الأمانة سواك،

من يسندني في جهادي غيرك.

بك أكون أمينًا في كل شيء!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى