تفسير سفر الأمثال ٢٣ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثالث والعشرون
التدقيق في الحياة
الإنسان المسيحي وقد تمتع بالحرية الداخلية، وصار قلبه ملتصقًا بالله، كل ما يشغله أن يكون سفيرًا للسيد المسيح، يلزمه أن يكون مدققًا في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ ليصير على صورة خالقه.
- آداب الجلوس على مائدة حاكم 1-3.
- تحرير القلب من شهوة الغنى 4-5.
- عدم الشركة مع الأشرار 6-9.
- عدم سلب الأيتام 10-11.
- طلب الأدب والمعرفة 12-14.
- الصديق يُفرح قلب أبيه 15-16.
- التمسك بمخافة الرب 17-18.
- عدم شرب الخمر 19-21.
- تكريم الوالدين 22.
- اقتناء الحق 23.
- فرح الوالدين بالابن البار 24-25.
- تسليم القلب 26.
- خطورة الزنا 27-28.
- إدمان الخمر 29-35.
آداب الجلوس على مائدة حاكم
إِذَا جَلَسْتَ تَأْكُلُ مَعَ مُتَسَلِّط،ٍ
فَتَأَمَّلْ مَا هُوَ أَمَامَكَ تَأَمُّلاً [1].
يفرح كثيرون أنهم ينالون نعمة لدى الحاكم، ويدخلون معه في علاقة شبه أسرية، ويشتركون معه على مائدته. لكن جدير بالإنسان مهما توطدت علاقته بالحاكم أن يدرك حدوده، فإن جلس معه على المائدة، يتأمل أنه في حضرة حاكم، فلا يستغل محبته، بل يعطي الكرامة لمن له الكرامة (رو 13: 7).
يرى القديس أوغريس أنه إن كان يلزم أن يكون الإنسان مدققًا عندما يجلس مع إنسان حاكم، فبالأولى به أن يدقق عندما يقرأ الكتاب المقدس يكونه المائدة الملوكية، فيتأمله بطريقه روحية عقلية، لأن فهمه بطريقة حرفية لا يُقدم لنا الحق[734]. ويرى كثير من الآباء أن هذه المائدة هي مائدة الإفخارستيا.
V “إذا جلست تأكل مع الرئيس، فأفهم بتعقل ما هو أمامك“. سبق أن أُعلن عن المسيح بكونه الرئيس، مائدته وطعامه هما كلمات تعليمه عن الخيرات الأبدية. من يفهم بتعقل ما يعلمه يسوع بأعماله وكلماته يمد يده التي تعني أعماله ويبدأ أن يظهر أنه يتمثل بالمسيح، فيصير متواضعًا، مسالمًا، محبًا للجميع، صبورًا في التجارب. من لا يفعل هذا، بل عوض هذا يتطلع بشغفٍ نحو ملذات العالم يلزمه أن يكف عن الرغبة في الخيرات الزمنية سمة الحياة الباطلة، ومن يحبها لن ينعم بالمقتنيات الأبدية[735].
القديس يوحنا الذهبي الفم
V ما هي “مائدة صاحب السلطان (المتسلط)” سوى فكر ذاك القائل: “أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني” (في 4: 13)، “حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوى” (2كو 12: 10)؟ على مائدة صاحب السلطان الطاهر هذا، أي في قلبه وفي فكره يُقدم خبز للرب.
إن جلست على مائدة هذا الرسول صاحب السلطان لتفهم بتعقل ما هو الموضوع أمامك، أي تفهم روحيًا ما يقوله[736].
العلامة أوريجينوس
V تنبهنا الكتب المقدسة إلى الاشتراك بتعقل في المائدة عندما نُدعى للأكل على مائدة غني. يمكنني القول بأن مائدة الكتاب المقدس التي للغني مُعدة أمامنا. إننا ندخل روضة مملوءة بالورود، هنا وردة، وهناك سوسن يتلألأ بالبياض، في كل موضع توجد أنواع كثيرة من الزهور[737].
القديس جيروم
V ما هي”مائدة المتسلط”، إلا المائدة التي نتناول منها جسد ودم ذاك الذي سلم حياته لأجلنا؟ وما هو الجلوس، سوى الاقتراب بتواضع؟ وما هو تأمل الأشياء الموضوعة أمامك وفهمها، سوى أن نتأهل لنوال نعمة عظيمة كهذه؟[738]
V أنتم تقتربون من مائدة الحاكم. أنتم المؤمنون تعرفون أية مائدة تقتربون إليها. أية مائدة ملوكية تقتربون إليها.
الموضوع أمامكم ليس مائدة من صنع مهارة الطباخين. المسيح نفسه يضع مائدته، ويشبعكم. كونوا فقراء فتنالوا شبعكم[739].
V بالتأكيد هي مائدة عظيمة، حيث يكون رب المائدة نفسه هو الوليمة. لا يُطعم أحد ضيوفه بنفسه طعامًا. لكن المسيح الرب فعل هذا، بكونه هو نفسه المُضيف، وهو نفسه الطعام والشراب[740].
القديس أغسطينوس
وَضَعْ سِكِّينًا لِحَنْجَرَتِكَ إِنْ كُنْتَ شَرِها [2].
يليق بالإنسان ألا يكون شرهًا، إنما يأكل لكي يعيش، ولا يعيش لكي يأكل ويتلذذ بالطعام. فكم بالأكثر حين يجلس على مائدة حاكم، فإن جلوسه مع الحاكم أسمى وأكثر لذة من شهوة الطعام.
إن كان هذا بالنسبة للجلوس مع الحاكم، فكم حين تكون في حضرة ملك الملوك ورب الأرباب، فإنه ليس من لذة لطعامٍ أو شرابٍ أو انشغالٍ بملبسٍ فاخرٍ أو ترفٍ أو ضحكٍ طائشٍ يسحبنا من عذوبة الجلوس معه.
V لتسمعوا إذن يا أحبائي الذين أكتب إليكم، أعني ما يخص المتوحدين والرهبان والبتوليين والقديسين. قبل كل شيء يليق بالإنسان الذي وُضع عليه النير أن يكون ثابتًا في إيمانه. وكما كتبت إليكم في الرسالة الأولى أنه يجب أن يكون غيورًا في الصوم والصلاة، حارًا في محبة المسيح، متواضعًا وديعًا وحكيمًا. ليكن حديثه هادئًا مبهجًا، وفكره مخلصًا مع الجميع. ليزنْ الكلمات التي ينطق بها، ويصنع سياجًا لفمه يصرفه عن الكلمات المضرة، ويبتعد تمامًا عن الضحك الطائش.
ليته لا يحب بهرجة الثياب، ولا يليق به أن يطيل شعره ويزينه ويدهنه بعطور.
ليته لا يجرى وراء الولائم، ولا يرتدي ثيابًا فاخرة.
لا يتجاسر ويشرب المزيد من الخمر[741].
القديس أفراهاط
لاَ تَشْتَهِ أَطَايِبَهُ، لأَنَّهَا خُبْزُ أَكَاذِيبَ [3].
يعطينا دانيال ورفقاؤه الشبان الثلاثة أمثلة حية لعدم اشتهاء أطايب الملك. فإذ لم ينغمسوا في الأطايب “أعطاهم الله معرفة وعقلاً في كل كتابة وحكمة، وكان دانيال فهيمًا بكل الرؤى والأحلام” (دا 1: 27).
V لا توجد حدود للنهم الذي يمارسه هؤلاء الناس. بالحق في الاختراع المستمر لكثرة من الحلويات الجديدة والبحث عن وصفات للأطعمة، يتحطمون وسط الفطائر والكعك بالعسل والحلويات…
إن إنسانًا من هذا النوع (نهم) ما هو إلا فم ضخم… أما بالنسبة لنا نحن الذين نطلب الطعام السماوي، فيلزمنا أن نضبط بطوننا، ونحفظها تحت مراقبة السماء[742].
القديس إكليمنضس السكندري
V إياك والشره! لا ترتبط بشهوتك، فإنها تطرد مخافة الله من القلب، والحياء من الوجه، وتجعل الإنسان مأسورًا من الشهوات الفانية الدنيئة، وتُضل العقل عن الله. اجعل أكلك لقيام الجسد لا للشهوة، واجعله عاجزًا (ضعيفًا) قليلاً، وأَتعبه كثيرًا في المطانيات.
أنبا أنطونيوس الكبير
V لا تذهبوا إلى أعياد القديسين فتأكلوا وتشربوا وتلهوا، لأنّ الشره هو الذي أخرج آدم من الفردوس.
القديس الأنبا إشعياء
V بدء كل صلاح هو الحب الروحي، يتبعه التواضع وحب المسكنة وقطع الدالة. أمّا خراب النفس فهو حب البطن.
القديس الأنبا بيشوي
V الأكل بشهوة هو اشتهاء تناول الطعام ليس لأجل حاجة الجسد، بل بسبب النهم. فإذا رأى المرء أنه لأجل باعث صحيح (مثل صحة الجسد) يفضّل البقول الخضراء مثلاً عن البقول الجافة فهذا ليس لأجل الشهوة، بل لأنها أكثر خفّةً (أي أسهل هضمًا)، يكون الحال مختلفًا.
يوحنا تلميذ القديس برصنوفيوس
- تحرير القلب من شهوة الغنى
لاَ تَتْعَبْ لِكَيْ تَصِيرَ غَنِيًّا.
كُفَّ عَنْ فِطْنَتِكَ [4].
يحسب البعض أنه من الفطنة أو الحكمة أن يبذل الناس كل جهدهم أو طاقاتهم لكي يكونوا أغنياء، فيجمعون مالاً بشرهٍ، وليس من شبع داخلي. هؤلاء يجعلون من الثروة إلهًا يتعبدون له، كما أن الشرِّهين يجعلون من بطونهم آلهة. هؤلاء وأولئك يتعبون بلا راحة، ويستخدمهم العالم بدلاً من أن يستخدموه.
هَلْ تُطَيِّرُ عَيْنَيْكَ نَحْوَهُ وَلَيْسَ هُوَ؟
لأَنَّهُ إِنَّمَا يَصْنَعُ لِنَفْسِهِ أَجْنِحَةً.
كَالنَّسْرِ يَطِيرُ نَحْوَ السَّمَاءِ [5].
يشَّبه الحكيم الجشعين بمن يقيمون أجنحة للثروة، لا لكي تطير بهم إلى الراحة، بل لكي تطير عنهم وتختفي، فلا يجدون ما قد جمعوه. بينما الإنسان القانع والمستخدم العالم حسنًا يحمل جناحي الروح ليطير كما إلى السماء، إذا بالجشع يطير منه كل تعب يديه، ويبقى ملقيًا في العالم في عوزٍ شديدٍ!
إذ أُستعبد جيحزي تلميذ إليشع النبي لمحبة المال جرى وراء نعمان السرياني يأخذ منه شيئًا (2 مل 5: 2)، فنال ضعف ما طلبه، لكن التصق به برص نعمان وبنسله أيضًا (2 مل 5: 27). وإذ طمع عخان بن كرمي في رداء شنعاري نفيس ومائتي شاقل فضة ولسان ذهب (يش 7: 21) حلّ غضب الله على الشعب كله بسببه.
V لا يمكنك أن تعيش حسب الله، إن كنتَ تحب المال والمسرات الأرضية.
القديس أنبا إيسيذورس
V اسمع مني يا أخي واحتمل مني رأيًا قد ينفعك: إنك مُجرَّبٌ بشيطان الطمع وحب المال، لأني رأيته فيك، ولكن إن قبلتَ نصيحتي وأخرجته من قلبك، فإنك تكمِّل عمل الله بالكمال في هذا المكان، وتصير في النهاية ممجَّدًا، فلا تقترب إليك تأديبات الله. أما إذا كنتَ لا تسمع لي، فإنك ستسقط فيما سقط فيه جيحزي، لأن مرضه فيك!
V إنني أقول لك، يا ابني، إنّ كل عملٍ رديء هو في هذين الأمرين: الزنى ومحبة المال، مع أنّ الزنى رديءٌ جدًّا، وبعد وقتٍ قليل يُشيح الإنسان بوجهه عنه ويشمئز منه بسبب رائحته الكريهة. أما محبة المال فتأتي من التكديس، وعندما تأتي تكون حلوةٌ لك، لأنها شرهة لا تشبع، لأجل هذا يجب أن يختم الإنسان أبواب كنيسة البرية وأبواب الأموات بالخوف من قوات هذا الزمان، لأنه في الحقيقة سيقوم أناسٌ معينون يبحثون ويستقصون عن ميراث الذين يرقدون ناسين هذا المكتوب: “إذا أتى الغِنى فلا تضعوا عليه قلوبكم” (مز 62: 10 LXX)، وهذا ما يقول عنه الرسول: “محبة المال أصلٌ لكل الشرور” (1 تي 6: 10).
القديس مقاريوس الكبير
- عدم الشركة مع الأشرار
لاَ تَأْكُلْ خُبْزَ ذِي عَيْنٍ شِرِّيرَةٍ،
وَلاَ تَشْتَهِ أَطَايِبَهُ [6].
مع محبتنا لكل البشرية من كل القلب، يلزم أن تكون هذه المحبة في الرب، نمارسها بروح الحكمة، فتكون لبنياننا وبنيان الآخرين. أما من يصادق الأشرار ليشاركهم ملذاتهم وشهواتهم، فإنه يدفع بحياته نحو الهلاك.
V حكيم هو هذا الذي يمنعنا من أن نأكل في صحبة إنسانٍ حاسدٍ، وفي إشارته إلى هذه الصحبة على المائدة، ينطبق هذا على كل علاقة اجتماعية أخرى أيضًا. فكما يجب أن نكون حذرين في الأمور المادية التي يمكن بسهولة أن تلتهب، فنبتعد قدر المستطاع عن النار، هكذا يليق بنا أن نكف ما استطعنا عن إقامة صداقة في كل الدوائر التي يكون فيها الحاسدون أعضاء. بفعلنا هذا نُبعد أنفسنا عن مجال رماحهم. فإننا نُصطاد في متاعب الحسد فقط عندما نقترب منه[743].
القديس كيرلس الكبير
لأَنَّهُ كَمَا شَعَرَ فِي نَفْسِهِ هَكَذَا هُو.
يَقُولُ لَكَ: “كُلْ وَاشْرَبْ” وَقَلْبُهُ لَيْسَ مَعَكَ [7].
يدعونا الحكيم إلى الهروب من مائدة الشرير، لأنه وهو يقدم لك الأكل والشرب لا يحمل في داخله حبًا حقيقيًا، إنما ما يشغله هو تكلفة المائدة التي قدمها لك، أو كيف يستغل تقديم الوليمة لدفعك للشر,
اللُّقْمَةُ الَّتِي أَكَلْتَهَا تَتَقَيَّأُهَا،
وَتَخْسَرُ كَلِمَاتِكَ الْحُلْوَةَ [8].
إذ يكتشف الإنسان أن الصديق الشرير يقدم مائدته لا قليه، وأن كلماته المعسولة تخفي مشاعر سيئة لا يطيق الطعام المُقدم له بل يتقيأه.
V لا تُفسد وصية الله من أجل صداقة أحدٍ.
القديس أنطونيوس الكبير
V إن كانت لك صداقة مع أحد الإخوة ويلومك فكرك على أن مخالطتك له تضرك، فاقطع نفسك منه. وأنا أقول ذلك، أيها الحبيب، لا لكي تبغض الناس، بل لكي تقطع أسباب الرذيلة.
القدِّيس مار أفرام السرياني
V لنتبع الصداقات التي حسب الروح، لأنها قويَّة ويصعب حلها، وليس الصداقات التي تقوم حول المائدة[744].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
V لا ترتبط بصداقةٍ مع أي إنسانٍ إلاّ مع إخوتك الفقراء، لا تُسرع نحو أي إنسان لكي يعمل لك خيرًا، بل أسرع إلى الله وحده واهتم بخدمته، إنه هو الذي يضمّك في أحشاء أبوّته. أما أنت فاحترس من الدالّة مع الناس، ولا تكن دالّتك كلها إلاّ بينك وبين الله. لا تُسرع نحو أي إنسانٍ لكي تستمتع بالراحة في دالّتك معه، لا تكن لك دالّة على مسكنه، ولا تمكث عنده دون أن تتلقّى أمرًا بذلك حتى لا تكون ثقيلاً عليه. يا أخي، إذا أردتَ أن تكون في راحةٍ كل حياتك، وأن تكون أفكارك متحدةً بالله كل ساعةٍ، اِحترس من الدالّة مع الناس.
القديس مقاريوس الكبير
فِي أُذُنَيْ جَاهِلٍ لاَ تَتَكَلَّمْ،
لأَنَّهُ يَحْتَقِرُ حِكْمَةَ كَلاَمِكَ [9].
الإنسان الأحمق المُصر على حماقته في عنادٍ، يسد أذنيه عن الاستماع لأية مشورة، لهذا يليق بالحكيم ألا يفسد وقته بتقديم نصائح له. وكما يقول السيد المسيح: “لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير، لئلا تدوسها بأرجلها، وتلتفت فتمزقكم” (مت 7: 6).
V يمكننا أن نفهم القُدْس والدُرَر على أنها شيء واحد، دُعي قُدسًا بسبب الالتزام بعدم إفساده، ودُررًا بسبب الالتزام بعدم الازدراء به. فالإنسان يفسد ما لا يرغب في إبقائه سليمًا، ويزدري بما يحسبه تافهًا ومنحطًا. لذا يُقال عن الشيء المحتقر أنه مدوس بالأقدام. يقول الرب: “لا تعطوا القدس للكلاب”، لأن الكلاب تهجم على الشيء لتمزّقه، حتى وإن كان هذا الشيء لا يمكن تمزيقه أو إفساده أو تدنيسه. إذن لنفكِّر فيما يرغبه هؤلاء المقاومين للروح بعنف وعداء شديد. إنهم يرغبون في تدمير الحق الذي لا يُمكن تدميره. أمّا الخنازير فتختلف عن الكلاب، فهي لا تهاجم لتمزّق بأسنانها، لكنها تدنّس الشيء إذ تدوسه بأقدامها في طياشة… إذن لنفهم أن “الكلاب” تُشير إلى مقاومي الحق، “والخنازير” إلى محتقريه[745].
القدّيس أغسطينوس
V احذر لئلا تنقاد إلى التعليم وأنت في شبابك، فتضل بالمجد الفارغ، ولا تعلم ما قد تعلمته بالاختبار أكثر مما بالقراءة أولئك الذين قد تدنسوا إلى النهاية (أي المستهترين)، فيتم ما قد أعلنه الرجل الحكيم سليمان القائل: “في أذنَي جاهلٍ لا تتكلم، لأنهُ يحتقر حكمة كلامك” (أم 9:23). و”لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا دُرَركم قدام الخنازير، لئَلاَّ تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزّقكم” (مت 6:7). يليق بنا أن نخفي أسرار المعاني الروحية عن البشر الذين هم من هذا النوع، حتى نتغنى بحق: “خبأْتُ كلامك في قلبي لكيلا أخطئَ إليك” (مز 11:119)[746].
الأب نسطور
- عدم سلب الأيتام
لاَ تَنْقُلِ التُّخْمَ الْقَدِيم،َ
وَلاَ تَدْخُلْ حُقُولَ الأَيْتَامِ [10].
لأَنَّ وَلِيَّهُمْ قَوِيٌّ.
هُوَ يُقِيمُ دَعْوَاهُمْ عَلَيْكَ [11].
من يظلم الأرامل والأيتام والضعفاء والعاجزين عن الدفاع عن أنفسهم، يتحدى الله نفسه خالقهم ووليهم الحي. فهو يقيم دعواهم، ويدافع عنهم، ويرد لهم حقوقهم.
قتلت الملكة إيزابل المسكين نابوت اليزرعيلي، وورثت كرمه (1 مل 21)، وظنت أنه ليس من يقدر أن يدافع عنه، لكن الكلاب أكلتها في ذات حقل يزرعيل الذي اغتصبته (2 مل 9).
- طلب الأدب والمعرفة
وَجِّهْ قَلْبَكَ إِلَى الأَدَب،ِ
وَأُذُنَيْكَ إِلَى كَلِمَاتِ الْمَعْرِفَةِ [12].
يرى Kail وDeiltesch أن هذا المثل هو مختصر أو صدى لما ورد في أمثال 22: 17-21، أما “كلمة “أدب” هنا ففي رأيهما أنها تشير إلى التأديب، سواء من قبل الله أو البشر باعتدال.
هذه النصيحة عامة، موجهه إلى الكبار كما إلى الصغار، إلى الذين يحتاجون إلى التعلم أو المتعلمين بالفعل. كلنا في حاجة إلى خطة الله ومعاملاته معنا حتى عندما تبدو حازمة، كما في حاجة إلى آباء مرشدين لنميل بآذاننا إلى كلمات المعرفة بروح التواضع.
في حديث القديس غريغوريوس رئيس متوحدي قبرص يشبه هذه المعرفة المقدسة بالناف (الجزء من المحراث الذي يوضع على عنق الثور)، بدونه لن تُحرث أرض القلب لتحمل ثمار الروح.
V الناف الذي يكد به هؤلاء الفلاحون القديسون هو المعرفة المقدسة المركبة من ثلاث فضائل إلهية، وهي المحبة والصوم والصلاة، أو الإيمان والرجاء والمحبة، والطريق الذي يسير فيه هذا المحراث لشق الأرض هو التواضع المحبوب عند الله، الذي ترتعب منه جميع صفوف الشياطين، تلك الفضيلة التي لم تستطع الشياطين أن تدخل إليها[747].
القديس غريغوريوس القبرصي
V الله سوف يعطيك المعرفة لكي تعرفه.
القديس إسطفانوس الطيبي
V أساس حياة الراهب هو المعرفة الحقيقية، وجهل الراهب يُظلم نفسه.
للقديس هيبريشيوس الكاهن
V التقى سائح بسائح في برية سيناء فسأله: “بماذا يكون الخلاص؟” فقال: “بالمعرفة بحقائق الأمور، والعمل بحسب الحق”. فقال له: “هل مَنْ لا يعرف لا يخلص؟” قال: “لا يخلص”. فقال: “وما هي المعرفة؟” فأجاب: “أن يعرف العبد حقيقة خالقه، وممّ خلقه، وماذا يكون مصيره. فإذا عرف ذلك لا يعصاه، بل يعمل على إرضائه طوال حياته”. فقال: “صدقت”، ثم انصرف.
فردوس الآباء
V إذا علم إنسانٌ أنه يتعدّى الوصية، فهو يُظهِر دليلاً واحدًا على المعرفة، والذي يعرف يُصحِّح نفسه.
القديس برصنوفيوس
لاَ تَمْنَعِ التَّأْدِيبَ عَنِ الْوَلَدِ،
لأَنَّكَ إِنْ ضَرَبْتَهُ بِعَصًا لاَ يَمُوتُ [13].
تَضْرِبُهُ أَنْتَ بِعَصا،
فَتُنْقِذُ نَفْسَهُ مِنَ الْهَاوِيَةِ [14].
التأديب بحكمة وحب نافع للأبناء، فإنهم وإن تألموا يسيرًا إلى حين، لكن يحفظهم من السقوط في الهاوية.
الله في أبوته لنا يؤدبنا، ليس انتقامًا، بل عطفًا علينا، وترفقًا بنا لأجل بنياننا، إذ يقول الحكيم: “لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، وكأب بابنٍ يسر به” (أم 12:3). فالحزم في الأبوة يختلف عن القسوة التي بلا أبوة، إذ تنبع عن حب صادق.
يلزم أن نضع في اعتبارنا أنه قبل أن نؤدب يتسع قلبنا بالحب، كقول القديس أغسطينوس: [التوبيخ يجب أن تسبقه الرحمة لا الغضب.]
V الإصلاح بالتأديب، كما يدعى اسميهما (أي الإصلاح والتأديب)، هو ضربات لها تأثيرها على النفس، فتحد من الخطية، وتحرس من الموت، وتقود المُستعبدين بواسطة الرذيلة إلى ضبط النفس[748].
القديس إكليمنضس السكندري
V كما أن الأطفال الصغار المهملين في التعلم يصيرون في أكثر يقظة وطاعة بعد معاقبتهم بواسطة معلمهم أو مدربهم، وكما أنهم لا يصغون قبل ضربهم، وإنما بعد الشعور بالألم من الضرب يسمعون ويستجيبون كأن آذانهم قد انفتحت حديثًا، ويحدث تقدم في الذاكرة، هكذا أيضًا بالنسبة للذين يهملون التعليم الإلهي ويقاومون باستخفاف الوصايا. فإنهم بعد اختبارهم لإصلاح الله لهم بالتأديب تصير وصايا الله التي كانت دائمًا معروفة لديهم ومع ذلك يهملونها، مقبولة باستعداد شديد كما بآذان اغتسلت حديثًا[749].
القديس باسيليوس الكبير
V أيها الآباء علّموا أبناءكم بالرب، وربوهم بأدبٍ ومعرفةٍ بالمسيح، وعلّموهم صناعات تليق، لئلا يُتهموا بالبطالة…
لا تخافوا من انتهارهم وتعليمهم بهيبة، لأنكم لا تقتلونهم إذا علمتموهم بل تحبونهم.
قوانين ابن العسال
- الصديق يفرح قلب أبيه
يَا ابْنِي إِنْ كَانَ قَلْبُكَ حَكِيمًا،
يَفْرَحُ قَلْبِي أَنَا أَيْضًا [15].
وَتَبْتَهِجُ كِلْيَتَايَ،
إِذَا تَكَلَّمَتْ شَفَتَاكَ بِالْمُسْتَقِيمَاتِ [16].
بعد أن تحدث عن ضرورة تأديب الأبناء، فلئلا يظن الأبناء أن في هذا نوعًا من استخفاف الآباء بهم أو احتقار لتفكيرهم، أو كتم لأنفاسهم، يقدم لنا خبرته الشخصية من جهة أبنائه. إنه يفرح بحكمتهم، ويتهلل قلبه بنجاحهم باستقامة حياتهم.
هذه هي مشاعر سليمان من جهة أبنائه، فكم بالأكثر تكون مشاعر الله وفرحه بحكمة أولاده. إنه يهب أولاده الحكمة، ويعود فيفتخر بحكمتهم واستقامة قلوبهم.
هنا يحث الأبناء على عدم الغضب حينما يسقطون تحت التأديب الإلهي أو تأديب والديهم.
ولماذا نتكلم عن فرح الله والوالدين بالأبناء المستقيمي القلب، فإنه حتى الملائكة تفرح بهم، كما تظهر من رؤيا القديس أنبا أنطونيوس عند انتقال القديس أنبا بولا.
V الراهب المصلوب الذي يموت كل يوم يقتني نعمة عظيمة، لأن الملائكة تفرح به عند استقباله في ملكوت السماوات.
V يا لفرح الملائكة حين يرون خاطئًا يدخل ملكوت السماوات بتوبته! ويا لبهجة القديسين حين يجدون خاطئًا يرتد عن ضلاله! فبعد أن تقتدي بإيمانهم، اطلب باجتهاد البهجة التي تتبع ذلك.
القديس هيبريشيوس الكاهن
V (عن لقاء أنبا أنطونيوس بأنبا بولا) عاد أنبا أنطونيوس من نفس الطريق التي جاء منها مشتاقًا إلى رؤية أنبا بولا قبل أن يسلِّم روحه للمسيح، ولكن في طريقه رأى جماعة ملائكة وفي وسطهم القديس بولا وهم يصعدون به، ويسبِّحون قائلين:
“السلام للقائك بالقديسين يا بولا رجل الله.
تتهلل الملائكة معك. إنك ستفرح في السماوات.
تركتَ عنك الظلمة، وانطلقتَ إلى فردوس النعيم.
تركتَ عنك الحزن إلى الفرح الذي ليس له انقضاء.
تركتَ عنك البكاء، وستمضي إلى الفرح الأبدي.
لأنك صرتَ مطوَّبًا في جيلك، وذكرك على ممر الأجيال.
أنت رجل الله، طوباك ثم طوباك”.
فردوس الآباء
V قالوا له (لأنبا أنطونيوس): “ما معنى قول الرسول: “افرحوا بالرب”؟” فقال: “إذا فرحنا بعمل الوصايا، فهذا هو الفرح بالرب. فلنفرح بتكميل وصايا الرب وبنجاح إخوتنا، ولنحفظ أنفسنا من فرح العالم والضحك إن أردنا أن نكون من خاصة ربنا. لأنه قال إنّ العالم يفرح، وأنتم تبكون (يو 16: 20)، وقال إنّ الويل للضاحكين والطوبى للباكين (لو 6: 21،25). ولم يُكتب أنه ضحك قط، وكُتب أنه حزِنَ ودمعت عيناه (يو 11: 35).
فردوس الآباء
- التمسك بمخافة الرب
لاَ يَحْسِدَنَّ قَلْبُكَ الْخَاطِئِينَ،
بَلْ كُنْ فِي مَخَافَةِ الرَّبِّ الْيَوْمَ كُلَّهُ [17].
يحسد البعض الأشرار الذين ينجحون، لكن من يتمتع بمخافة الرب يدرك أنه نجاح الأشرار مؤقت لا يدوم، وأنهم إن لم يرجعوا إلى الرب يهلكون. أما من يضع رجاءه في الرب بروح التقوى ومخافة الرب فحتمًا يكافأ في حينه.
V ثلاثة أشياء يفرح بها القلب: تمييز الخير من الشر، والتفكير في الأمر قبل أن يتم، والبعد عن المكر. وثلاثة أشياء تنير العقل: الإحسان إلى مَنْ أساء إليك، والصبر على ما يحلّ بك من أعدائك، وترك النظر والحسد لمن يتقدّمك في الدنيا.
القديس أنبا أرسانيوس
V كما أن النار تنشِّف رطوبة الخشب وتحرقه، هكذا مخافة الرب إذا سكنت في الإنسان تنشِّف لحمه وتجفِّف عظامه.
V ليس شيء يعلو على مخافة الرب، لأنها تسود على كل شيء، وبخوف الرب يحيد كل واحدٍ عن كل الشرور، فلنقتن لنا هذا الخوف ولنحِدْ عن كل ما لا يريده الله، ونجرِّب كل ما يرضيه ونحفظه ولا نفعل شيئًا يحُزنه، ونعلم أن كلَّ ما نفعله ينظر هو إليه ولا تخفى عليه خافيةً.
القديس مقاريوس الكبير
V لا نجد في زمننا مَن يسأل: من هو الذي يخاف الرب؟ بل: من هو الأقدم بوضع الأيدي؟ فإن قالوا: فلان أقدم، قالوا له: يليق بك أن تجلس على رأس المائدة. وليس من يتذكر كلام المخلص حين أعطى الويل للكتبة والفريسيين[750].
القديس أفراهاط
لأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ ثَوَاب،ٍ
وَرَجَاؤُكَ لاَ يَخِيبُ [18].
في الوقت الذي فيه يحذرنا الحكيم من حسد الأشرار على ما نالوه من تقدمٍ أو نجاحٍ أو وفرة خيراتٍ، لأنها أمور مؤقتة، يطلب منا أن نركز أنظارنا على الرجاء في نوال الميراث الأبدي والنجاح الحقيقي والنصرة الدائمة. فالمؤمن الحقيقي يفتح له الرجاء أبواب السماء أمام عينيه، فيعيش متهللاً تحت كل ظروف الحياة، مهما بدت قاسية. إنه واثق في غنى نعمة الله، وإمكانية التمتع بحياة النصرة.
V لا تجبن أيها الراهب العمّال بالفضائل، وتقول في قلبك: إن أعدائي قد اصطادوني صيدًا مثل العصفور مجانًا. لتعلم أن غلبة يسوع معك كل حين، واصرخ بالفرح، وقل: الرب عوني ممن أخاف؟ اقرع باب تحننه، فيجيبك سريعًا. أطلب منه سؤالك بإيمان، وهو يعطيك مراحمه أضعافًا كثيرة، ولا تقل إني لا أستطيع العمل[751].
V الذي يجفف كل زروع الشيطان هو الصلاة مع الرجاء بالله[752].
V إن حلّ بهم (بالمؤمنين) شيطان الكآبة فليتعزوا بمواعيد ربنا، وينظروا في رجاء غنى الروح، ويسلموا أنفسهم لمواعيد الفرح. بهذا تعبر عنهم أحزان الكآبة بمعونة الله، ويحل فرحه في نفوسهم[753].
V اهربوا من مشورات شيطان الكآبة ومن قطع الرجاء، واسمعوا بحبٍ لهذه الإفرازات التي وضعناها لكم: المسيح رحوم، فاطلبوه من كل قلوبكم، وتقووا، وهو يشفي أوجاع أجسادكم وأمراض نفوسكم. لا تخف أيها العَمَّال، ولا ترتعب من تهديد الشياطين. فإنهم يتشتتون أمام قوة الفضيلة. يا من غُلب من الشياطين، اعمل وعش، ولا تقطع رجاءك.
إن كنت قد أخطأت كاللص، فأصرخ إلى سيدنا: “أذكرني”، فتحيا؛ أو سقطت كالزانية، فاخرج في طلب رحمة ربنا فتدركها. لا تخف ولا تهدأ عن طلب الرحمة أهرب من أفكار قطع الرجاء[754].
القديس غريغوريوس القبرصي
- شرب الخمر
اِسْمَعْ أَنْتَ يَا ابْنِي وَكُنْ حَكِيمًا،
وَأَرْشِدْ قَلْبَكَ فِي الطَّرِيقِ [19].
بروح الأبوة الحانية يعلن الحكيم أنه لا يطلب حرمان ابنه من شيءٍ، لكنه حين يمنعه من إدمان الخمر أو الإسراف في الملذات الجسدية، إنما بغية أن يسلك ابنه بالحكمة في الطريق المستقيم، لصالح جسده ونفسه وروحه.
إنه يحذره من صحبة السكيرين والمنغمسين في الإسراف والملذات، فإن صحبة الأشرار تدفع إلى مشاركتهم شرورهم.
لاَ تَكُنْ بَيْنَ شِرِّيبِي الْخَمْر،ِ
بَيْنَ الْمُتْلِفِينَ أَجْسَادَهُم [20].
لأَنَّ السِّكِّيرَ وَالْمُسْرِفَ يَفْتَقِرَانِ،
وَالنَّوْمُ يَكْسُو الْخِرَقَ [21].
يري القديس غريغوريوس أسقف نيصص أنه يليق بالمؤمن أن يطيع وصية السيد المسيح بأن يخلع الثوب العتيق (مر21:2)، الثوب المهلهل الذي يرتديه من يسكر بالخمر والزانية (أم 21:23) لكي يرتدي الثوب الجديد، ثوب النقاوة والخلود، علي شبه ثوب السيد المسيح الذي ظهر به في تجليه[755]
V قال الآباء: “حيث يكون شرب الخمر… لا توجد حاجة إلى شيطان”.
V قال شيخ: “جيدٌ أن يوجد اسمك مكتوبًا في بيوت المساكين والأرامل والضعفاء أفضل من أن يوجد مكتوبًا في بيوت باعة الخمر. وجيد أن يكون فمك نتن الرائحة بسبب شدّة الصوم أفضل من أن تكون رائحته خمر”.
V كان الرهبان يحتفلون بأحد الأعياد في الإسقيط، وأعطوا أحد الشيوخ كأسًا من الخمر، فرفضها قائلاً: “ابعدوا هذا الموت عني”. فلما رأى الآخرون الذين كانوا يأكلون معه ما فعله رفضوا هم أيضًا أن يأخذوا من الخمر.
فردوس الآباء
V قبل كل شيء يلزم على الراهب أن يمنع الاجتماع بالنساء وشرب الخمر، لأن الخمر والنساء يدفعون حتى بالحكماء إلى السقوط (جا 19: 2)[756].
القديس باسيليوس الكبير
- تكريم الوالدين
اِسْمَعْ لأَبِيكَ الَّذِي وَلَدَك،َ
وَلاَ تَحْتَقِرْ أُمَّكَ إِذَا شَاخَتْ [22].
قيل عن السيد المسيح: “مع كونه ابنًا تعلم الطاعة مما تألم به” (عب 8:5). ونحن كأعضاء جسده، إذ نتحد به، نُحسب بالحق مطيعين، إذ نحمل شركة سماته. من جانب آخر نفهم الطاعة لا كخنوعٍ ومذلةٍ أو تقليلٍ من شأننا بل هي اتحاد مع المسيح الذي أطاع الآب وهو واحد معه في الجوهر، وأطاع القديسة مريم والقديس يوسف وهما من صنع يديه. هكذا نفهم الطاعة الحقيقية اتحادًا مع السيد المسيح ونضوجًا.
V يقول الكتاب “كان خاضعًا لهما“. فلِمَنْ كان يسوع خاضعًا؟! ألم يكن خاضعًا لأبويه؟! فبكونه ابن الإنسان خضع لكل من أبويه (القديس يوسف أبيه حسب الشريعة، والقديسة مريم والدته)…
ليعلم الأبناء وصاياهم: وهي الطاعة والخضوع لآبائهم. فقد كان العالم خاضعًا للمسيح، وكان المسيح خاضعًا لأبويه[757].
القديس أغسطينوس
- اقتناء الحق
اِقْتَنِ الْحَقَّ وَلاَ تَبِعْهُ، وَالْحِكْمَةَ وَالأَدَبَ وَالْفَهْمَ [23].
V ليتنا نجوع للبرّ فنشبع (مت 5: 6) من مائدة ملكوته. لنكن ملح الحق، فلا نصير طعامًا للحية. لننقِ زرعنا من الأشواك، فنأتي بثمرٍ مئة ضعف (لو 8: 7-8).
لنُقم بنياننا على الصخرة (مت 7: 24)، فلا يتزعزع بسبب الرياح والأمواج.
لنكن آنية للكرامة (2 تي 2: 21)، فيطلبنا الرب لاستخدامنا له.
لنبع كل مالنا ونشترِ لأنفسنا اللؤلؤة (مت 13: 46)، فنغتني[758].
V لنمنطق أحقاءنا بالحق، فلا نوجد ضعفاء في القتال[759].
القديس أفراهاط
- فرح الوالدين بالابن البار
أَبُو الصِّدِّيقِ يَبْتَهِجُ ابْتِهَاجًا،
وَمَنْ وَلَدَ حَكِيمًا يُسَرُّ بِهِ [24].
يَفْرَحُ أَبُوكَ وَأُمُّكَ،
وَتَبْتَهِجُ الَّتِي وَلَدَتْكَ [25].
عندما تغيرت حياة شاول الطرسوسي وتمتع بالحياة الجديدة المقدسة، يقول: “فكانوا يمجدون الله فيَّ” (غل 1: 24). هذا هو موقف الكنيسة التي تهللت بحياة شاول (بولس الرسول) الذي صار ابنًا لها. بنفس الروح تمتلئ قلوب الوالدين بفرحٍ لا يُعبر عنه عندما يرون في أولادهم برّ المسيح وحكمة الله عاملين في حياتهم، وتنتعش نفوسهم، إذ يرون الله قد استمع إلى صلواتهم عن أبنائهم، وقدس حياتهم، ونزع عنهم عادات خاطئة كانوا يمارسونها.
- تسليم القلب
يَا ابْنِي أَعْطِنِي قَلْبَك،َ
وَلْتُلاَحِظْ عَيْنَاكَ طُرُقِي [26].
أقصى ما يريده الله منا هو القلب، ففي العهد القديم قُدم لنا الناموس منقوشًا على حجارة، لعل قلوبنا الحجرية تلتقط شيئًا من الناموس الإلهي، أو يترك الناموس بصماته على قلوبنا. وإذ لم يحدث هذا قدم لنا إنجيل العهد الجديد ناموسًا منحوتًا بالروح القدس على قلوبنا. “اجعل نواميسي في أذهانهم، واكتبها على قلوبهم” (عب 10:8). لهذا إذ يصرخ الكاهن: “ارفعوا قلوبكم”، يترنم الشعب متهللاً: “هي عند الرب”.
V في داخلكم إما معرفة الحق أو جهل، الابتهاج بالفضيلة أو الرذيلة، بهذا نعد قلوبنا إما لملكوت المسيح أو ملكوت إبليس[760].
الأب موسى
V إن لم تعطٍ نفسك your soul، فإنك تفقدها. المحبة نفسها تتكلم خلال الحكمة، وتخبرك كي تخلصك من حالة الذعر، إذ يقال: “أعطني نفسك“. إن أراد أحد أن يبيع لك حقلاً يقول لك: “أعطني ذهبك”، وإن كان شيء آخر يقوله لك: “أعطني نحاسك”، “أعطني فضتك”. الآن لتصغِ إلى ما تقوله المحبة لك، إذ تنطق خلال فم الحكمة: “يا ابني أعطني قلبك”. ماذا تعطيها؟ “قلبك يا ابني”. كان قلبك شريرًا حين كان معك، عندما احتفظت به لنفسك. كُنت تُسحب في هذا الطريق وذاك كما بالدمى والتفاهات وشهوات الحب المدمر. استبعد قلبك عن هذا كله. إلى أين تسحبه؟ أين تضعه؟ تقول الحكمة: “أعطني قلبك”. اجعله لي، فلا تفقده[761].
القديس أغسطينوس
- خطورة الزنا
لأَنَّ الزَّانِيَةَ هُوَّةٌ عَمِيقَةٌ،
وَالأَجْنَبِيَّةَ حُفْرَةٌ ضَيِّقَةٌ [27].
هِيَ أَيْضًا كَلِصٍّ تَكْمُنُ،
وَتَزِيدُ الْغَادِرِينَ بَيْن النَّاسِ [28].
ليس من فضيلة أعظم من الطهارة والنقاوة، فيرى الإنسان في الجنس الآخر إخوة أو أخوات، يحترمهم كأشخاصٍ، وليسوا موضوع إشباع لشهواته الشريرة. لذا يليق بالإنسان أن يهرب من العثرة، حتى لا يسقط في الزنا، ولو بالفكر أو حتى في الأحلام، أو فيما بعد في لحظات ضعفه. عدو الخير يود إن أمكن أن يفسدٍ طهارة كل إنسانٍٍ، حتى وإن كان ناسكًا متوحدًا.
V يقارن سليمان محبة مثل هذه المرأة بهوة عميقة. إنها تدعو من يحبها أعرج عندما تراه قد فقد كل ممتلكاته (أي تسخر به وبالفقر الذي حلّ به بسببها). ولا تقف عند هذا، وإنما تقاومه بكل جهدها دون توقف وتتسبب في انهياره، وتسخر به، وتسبب له متاعب كثيرة، الأمور التي لا يمكن لكلمات أن تصفها[762].
القديس يوحنا الذهبي الفم
V ويلٌ للظالم لأن غناه يفرّ منه وتلقاه نار لا تُطفَأ. ويلٌ للمتوانين لأنهم يتمنون الزمان الذي تغافلوا فيه فلا يجدونه. ويلٌ لمحب الزنى، فإنه يخرج من عرس الملك وهو مخزي. ويلٌ للمحتال والسكران فإنهما يُدانان مع القتلة والزناة. ويلٌ للذي يأخذ بالوجوه فإن الراعي يجحده والذئاب تفترسه.
القديس نيلوس السينائي
V إن حفظنا الإيمان الصحيح وحفظنا الجسد من الزنى، واللسان من النميمة، فنحن بنعمة الله مفلحون حسب هذا الزمان.
الأنبا بلاّ
V سأل أخٌ شيخًا بخصوص أفكار الزنى قائلاً: “ماذا أفعل بخصوص فكر الزنى الذي يضايقني؟” فأجاب الأب كوبرس السكندري، قائلاً: “اطرح نفسك في الصلاة أمام الله، لأنه لو لم تكن عندنا أفكار نكون مجرد حيوانات. فكما أن العدو يعمل لأجل ما يخصه، هكذا لنعمل نحن فيما يخصنا. فلنقف في الصلاة وليكن لنا اهتمام بإيماننا، ولنتحمّل لأن الاحتمال بصبرٍ إنما هو انتصار. وإن لم يجاهد الإنسان فلن يُكلَّل قط. لأنه يوجد في العالم أبطال يغلبون بالرغم من جراحاتهم، ومع أن شخصين قد يجرحان شخصًا واحدًا عدة مرات، فإذا أمكنه أن يحتمل الضربات يمكنه أن ينتصر على اللذين ضرباه. لاحظ أية درجة من الاحتمال يمتلكها الذين يعملون من أجل التجارة في هذا العالم! إذن، فاحتمل أنت، وسيصارع الله ضد أعدائك نيابةً عنك بينما تظل أنت هادئًا”.
فردوس الآباء
V يثير شيطان الزنا الشهوة الجسدية، ويشن هجومه على النساك، ويجاهد لكي يتخلوا عن نسكهم، زارعًا في نفوسهم بأن نسكهم هذا بلا نفع.
فإذا ما استطاع أن يدنس النفس، يبتدئ يهيئها لقول بعض الأحاديث (الشريرة) والاستماع إليها حتى يبدو كما لو أن العمل (الشرير) ذاته ماثل أمام أعينهم[763].
V شيطان المجد الباطل يضاد شيطان الزنا. ولا يسوغ للاثنين أن يقاتلا النفس سويًا. لأن أحدهما يعد بالكرامة والشرف، والثاني يجلب العار. لذلك إذا اقترب إليك أحدهما وبدأ يقلقك، استدعِ إلى عقلك ما تعرضت له من أفكار الشيطان المضاد، فإذا نجحت فيما يقوله المثل عن إخراج مسمارٍ بمسارٍ، فأعلم أنك في الطريق لكي تكون بلا هوى (غير شهواني) إذا أثبت عقلك أنه قادر على إبعاد مشورات الشيطان الخاصة بالأفكار البشرية.
لكن بطبيعة الحال، لو أنك استطعت أن تطرد فكر المجد الباطل بواسطة التواضع، وفكر الزنا بواسطة العفة، فهذه علامة أنك “غير شهواني”.
حاول أيضًا أن تفعل هذا مع كل الشياطين وأضدادها، واطلب من الله أن يعينك ويساعدك، لكي تطرد عنك الأعداء بالمنهج الثاني (الالتجاء إلى التواضع والعفة الخ.)[764]
القديس مار أوغريس البنطي
- إدمان الخمر
لِمَنِ الْوَيْلُ؟
لِمَنِ الشَّقَاوَةُ؟
لِمَنِ الْمُخَاصَمَاتُ؟
لِمَنِ الْكَرْبُ لِمَنِ الْجُرُوحُ بِلاَ سَبَبٍ؟
لِمَنِ ازْمِهْرَارُ الْعَيْنَيْنِ؟ [29]
يقدم لنا الحكيم ستة أسئلة مقتضبة، وتأتي الإجابة عليها في الآيات التالية حيث تقدم وصفًا مرعبًا لحياة الإنسان السكير.
لِلَّذِينَ يُدْمِنُونَ الْخَمْر،َ
الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي طَلَبِ الشَّرَابِ الْمَمْزُوجِ [30].
لاَ تَنْظُرْ إِلَى الْخَمْرِ إِذَا احْمَرَّتْ،
حِينَ تُظْهِرُ حِبَابَهَا فِي الْكَأْسِ،
وَسَاغَتْ مُرَقْرِقَةً [31].
V بالإشارة إلى حمرة العينين – علامة الموت – واضح أن فقاعة الخمر هي بالفعل موت عن الكلمة والعقل. إنها تعلن عن موته عن الرب. إذ ينسي الإنسان الدوافع التي تدفعه لطلب الحياة الحقيقية، يُسحب منحدرًا إلى الفساد. لهذا فإنه بسبب صالح يمنعنا المعلم المهتم بخلاصنا بصرامة: “لا تشربوا الخمر للسُكر”[765].
القديس إكليمنضس السكندري
V افهموا هذا يا إخوة، كل سكير يجعل من عادة الشرب إصابة ببرص داخلي في النفس، لأن نفس السكير تُعرف أنها مثل جسم الأبرص. لهذا من يرغب في التحرر من خطية السُكر التي تقتل النفس وتضعف الجسم، يلزمه أن يشرب القليل. من لا يلتزم بهذه القاعدة يكون مكروهًا لدي الله وموضع سخرية الناس[766].
V الذين يريدون أن يكونوا هكذا (سكيرين)، يحاولون بطريقة بائسة إن يجدوا لأنفسهم عذرًا. يقولون: الشخص صديقي سيكون متضايقًا إن لم أقدم له ما يريده ليشرب عندما أدعوه في وليمة. [لكنني أقول لك] لا يكن لك صديق يريد أن يجعلك غير مُسر لله، فإنه هو عدو لنفسه كما لك. إن جعلت نفسك كما آخر سكيرين، فإنه يكون لك إنسان كصديقٍ، والله كعدوٍ لك[767].
الآب قيصريوس أسقف آرل
فِي الآخِرِ تَلْسَعُ كَالْحَيَّةِ،
وَتَلْدَغُ كَالأُفْعُوانِ [32].
السكر هو أحد الضربات الكبرى التي تصيب البشرية، ويسبب لها شقاءً. ومع إدراك الكل لخطورته إلا أنه يجتذب الكثيرين، ويضللهم. يشبهه الحكيم بحية سامة يحتضنها الإنسان فتهلكه.
V قيل عن أنبا بفنوتيوس إنه لم يشرب الخمر حتى ولو كان مريضًا.
V سأل إخوة شيخًا: “ما معنى قول أنبا شيشوي إن الكأس الثالثة من الشيطان؟” فقال الشيخ: “ذلك لعلمه أنّ الكثرة هي سبب جميع الخطايا: الشتيمة والضرب والزنى وبقية الأوجاع. ولذلك فعلينا أن نتجنّب شرب الخمر ليس بسبب الأوجاع فحسب، بل وأيضًا لأجل ما يجلبه من الانبساط في قلوبنا، فيجد الشياطين الفرصة ليجذبوننا إلى الخطية، ويحرموننا من الطوبى التي وعد بها ربنا للحزانى. لقد انعزل المتوحدون لينوحوا في كل حين ويتعبوا في كل عمل، لأنهم بحزنٍ كثير يقدرون أن يحفظوا نفوسهم من خداع الشياطين وكثرة القتال، فكيف يشربون خمرًا كثيرًا يفرِّح قلوبهم ويفكّ ختومهم ويسقطون في خطايا العلمانيين السُكارى؟!
فردوس الآباء
عَيْنَاكَ تَنْظُرَانِ الأَجْنَبِيَّاتِ،
وَقَلْبُكَ يَنْطِقُ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ [33].
السُكر يلهب في الإنسان شهوات جسدية تفقده طهارته واستقامة حياته. كما تبعث في أعماقه حالة اضطراب وعدم توازن، كثيرًا ما تنعكس حتى على سلوكه، فتفقده توازنه.
V مَنْ يسمح لنفسه أن يشرب خمرًا لا يمكنه أن يتخلّص من هجوم الأفكار وقباحة الأعمال، لأنّ لوط لما أكرهته ابنتاه وسكر من الخمر صار من السهل على الشيطان أن يُسقِطه في فعل الزنى القبيح.
أنبا إيسيذورس
V قال شيخ: “الخمر تحرّك شهوة التناسل وتُفرِّح القلب (بشريًا)، وتصرف الحزن (بطريقةٍ نفسانيةٍ جسدانية)، كما قال سليمان الحكيم: “أعطوا مسكرًا لهالكٍ، وخمرًا لمُرِّي النفس، يشرب وينسى فقره ولا يذكر تعبه بعد” (أم 31: 6-7)”.
فردوس الآباء
وَتَكُونُ كَمُضْطَجِعٍ فِي قَلْبِ الْبَحْرِ،
أَوْ كَمُضْطَجِعٍ عَلَى رَأْسِ سَارِيَةٍ [34].
السكير يشبه إنسانًا يضطجع في وسط أمواج البحر، أو يسند رأسه على رأس سارية، فلن يجد راحة ولا يشعر بأمان، مع أنه غالبًا ما يبرر التجاءه للسكر بأنه هروب من المشاكل والمتاعب التي تلاحقه.
يَقُولُ: “ضَرَبُونِي وَلَمْ أَتَوَجَّعْ.
لَقَدْ لَكَأُونِي وَلَمْ أَعْرِفْ.
مَتَى أَسْتَيْقِظُ أَعُودُ أَطْلُبُهَا بَعْدُ!” [35]
V كان الآباء الأولون يستصعبون شرب الخمر جدًا، لأنه يجعل الشيوخ كالأطفال عديمي المعرفة، ويحرِّك في الشبان الميل إلى الشهوة الرديئة، والنسّاك يكرهون ذلك بسبب حرب الزنى الصعب.
V سُئل أنبا إشعياء: “إذا ألزمني أخٌ أن أشرب معه قدحًا من النبيذ في قلايته، فهل جيد لي أن أذهب معه؟” فأجاب: “اِهرب من شرب الخمر، فتسلم كسلامة الغزال من الوحش. إنّ كثيرين بسبب هذا الأمر اندفعوا إلى السقوط بالأفكار”.
فردوس الآباء
V لا تحب الخمر لئلاّ يحرمك من مسرة الله. حِبّ المساكين لكي تنجو في أوان الشدّة.
القديس أنبا موسى الأسود
V إذ نُضرب بالعمى لا نقدر أن نرى في ذواتنا شيئًا سوى الذنوب الكبيرة، ظانين أنه يلزمنا فقط أن نكون أنقياء من تلك الذنوب وحدها التي تستنكرها القوانين الدنيوية. فإذا ما رأينا أنفسنا قد تحررنا منها إلى حين، نظن أننا قد صرنا بلا خطية تمامًا… فلا نبصر البقع الكثيرة التي تتجمع معًا في داخلنا، وبالتالي لا ننزعها بالانسحاق المُنقذ، ولا نحزن عندما تصيبنا أفكار الغرور، ولا نبكي من أجل صلواتنا التي نرفعها في تراخٍ شديدٍ وفتورٍ. ولا نحسب شرود فكرنا أثناء الترنم بالمزامير والصلوات أنه خطأ. ولا نستحي من تصوراتنا لأمورٍ كثيرةٍ نخجل أن ننطق بها أو نمارسها أمام الناس والتي هي مكشوفة أمام البصر الإلهي. ولا نطهر فساد الأحلام الدنسة بالدموع الغزيرة… ولا نعتقد أن هناك أية خسارة تصيبنا عندما ننسى الله، مفكرين في أمور أرضية فاسدة، بهذا تنطبق علينا كلمات سليمان: “ضربوني ولم أتوجع، لقد لكأُوني ولم أعرف“[768].
الأب ثيوناس
V إنني لا أقدم لك رأيي الخاص، إنما أذكر رأي الطوباوي أنطونيوس الذي أخزى به كسل راهب معين غلبته اللامبالاة… فإذ جاءه إنسان وقال إن نظام النسك هذا غير كامل، معلنًا أنه يطلب للإنسان فضيلة أعظم، ممارسًا ما يخص الحياة الكاملة وحدها بطريقة أكثر مما يليق بالنسبة لسكان البرية، عندئذ سأله أنطونيوس المبارك عن مكان سكناه، وعندما قال له أنه ساكن مع أقربائه، مفتخرًا بمساعدتهم له متحررًا من كل اهتمام وعمل يومي، مكرسًا حياته للقراءة والصلاة بغير انقطاع من غير تشتيت روح، للحال قال له الطوباوي أنطونيوس: أخبرني يا صديقي العزيز، هل تحزن لأحزانهم ومصائبهم، وتفرح لأفراحهم؟
اعترف الرجل بأنه يشترك معهم في ذلك، عندئذ قال له الشيخ: “يلزمك أن تعرف أنك ستُدان في العالم الآتي عن الجماعة التي تعيش معها هكذا مشتركًا معهم في ربحهم وخسارتهم، فرحهم وحزنهم”…
وإذ لم يقتنع بهذا أردف الطوباوي أنطونيوس قائلاً: هذا النوع من الحياة وهذه اللامبالاة ليس فقط تدفع بك إلى الخسارة السابق ذكرها، ولو أنك لا تشعر بها الآن، كما جاء في سفر الأمثال: “ضربوني ولم أتوجع. لقد لكأُوني ولم أعرف” (أم 35:23)، وجاء في النبي: “أكل الغرباءُ ثروتهُ وهو لا يعرف، وقد رُشَّ عليهِ الشيب وهو لا يعرف” (هو 9:7)، وإنما أيضا يسحبون ذهنك بغير انقطاع نحو الأمور الزمنية،ويغيرونه حسب الظروف. كذلك إذ يقدمون ثمار أيديهم لك ويمدونك بالمئونة، بهذا يحرمونك من تنفيذ وصية الرسول المبارك لأنه عندما قدم آخر وصية لرؤساء كنيسة أفسس أكد لهم أنه بالرغم من مشغوليته بواجباته المقدسة الخاصة بالكرازة بالإنجيل إلا أنه كان يعمل من أجل احتياجاته واحتياجات الذين يعملون معه في الخدمة، قائلاً: “أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خَدَمَتهْا هاتان اليدَان” (أع 34:20). ولكي ترى كيف أنه فعل هذا كمثالٍ لنا يقول في موضع آخر: “إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يُقتدى بنا، لأننا لم نسلك بلا ترتيبٍ بينكم… ليس أن لا سلطان لنا، بل لكي نعطيكم أنفسنا قدوةً، حتى تتمثَّلوا بنا” (2 تس 7:3،9)[769].
الأب إبراهيم
V على الذين تداهمهم الشهوة الجنسية وتغلبهم أن يكسروا القيود الأرضية لأنهم عندما ينشغلون بها في غير اعتدال، لا يدرون بسهام الخطية التي قد تخترقهم، لذلك يقول الإنسان المخمور فاقد الوعي بلسان النبي سليمان: “ضربوني ولم أتوجع! لقد لكأوني ولم أعرف! متى أستيقظ؟ أعود أطلبها بعد!”(أم 23: 35)[770].
يستريح العقل وينام دون أية هموم تقلقه، ولا يحس بأي ألم، حتى إذا ضُرِبَ. يحدث ذلك عندما لا يستطيع أن يرى أمامه الشرور المحدقة به، ولا يدري بتلك التي قد ارتكبها. إن هذه النفس تتدافع عليها الشرور، ولا تشعر بمغريات الرذائل، ولا تريد حتى أن تنهض للدفاع. في نفس الوقت تود أن تكون يقظة فقط، لكن لتَجِدَ الخمر ثانية. بمعنى أنها وهي مثقلة في نومٍ واهن ومتذبذب لا يسمح لها بأن تراقب ذاتها وتحرسها، تحاول أن تستيقظ فقط لكي تنغمس في هموم هذا العالم وتسكر بملذاته.
إنها تنام في الوقت الذي ينبغي فيه أن تصحو في يقظة، وعندما تصحو لا تسعى وراء ما ينبغي، بل وراء أمورٍ أخرى دنيوية. لأجل ذلك جاء بالمكتوب من قبل: “وتكون كمُضْطَجِعٍ في قلب البحر، أو كمُضْطَجِعٍ على رأس سارية” (أم 23: 34)[771].
الإنسان الذي يهمل حروب الآثام التي تقوم عليه وكأنها أمواج تلاطم قمم الجبال، يغض نومًا وسط بحرٍ من التجارب العالمية[772].
البابا غريغوريوس (الكبير)
من وحي أمثال 23
هب لي أن أصير على صورت!
V الجلوس مع الحكام يستلزم الوقار والإصغاء،
لأجلس عند قدميك يا ملك الملوك،
وأنصت إلى صوتك العذب.
أتمتع بمائدة حبك،
وأشتهي خيراتك الأبدية.
يصير العالم بكل ملذاته بلا طعم،
لأن عذوبة الأبدية تكتنفني.
V تنسحق نفسي في داخلي،
إذ أجلس معك على مائدتك.
تستضيفني، وتقدم لي جسدك ودمك غذاءً لنفسي!
أي حب أعظم من هذا!
V لن أجلس مع كتابك المقدس بدونك،
فأنت كلمة الله مُشبع النفوس.
روحك القدوس واهب الاستنارة.
أراك متجليًا في كتابك،
أغرف من فيض مجدك،
فينجذب كل كياني نحو سماواتك.
V إذ تشبع نفسي، يهرب النهم مني.
أرى الحياة أفضل من الطعام.
آكل لكي أعيش، ولا أعيش لكي آكل!
الحياة معك لها لذتها!
V هب لي مع دانيال ورفقائه ألا أشتهي أطايب هذا العالم،
فتصير حكمتك هي طعامي المُشتهى.
هب لي ألا أفسد طاقتي بالجشع وحب الغنى،
فلا تصير الثروة لي إلهًا عوضًا عنك.
V هب لي جناحي حمامة،
فأطير، وأكون معك في السماء.
لئلا ينغمس قلبي في حب المقتنيات،
فيطير كل مقتنى، وأفقد حياتي!
V هب لي أن أحب الجميع،
لكن لا أدخل في شركة مع حاسدٍ،
ولا أشاركه ولائمه وأطايبه.
هب لي صداقات مع أناس روحيين،
فألتصق بك بالأكثر،
وأتعلم منهم الكثير.
أراك متجليًا في صداقتي مع أبنائك.
تضمني معهم في أحضانك.
V علمني مع من أتكلم, وأقدم لهم نصيحة،
ومتى أتكلم،
وبماذا أتكلم.
فإني أخشى نفسي، لئلا أكون محبًا للتعليم وكثرة الكلام.
هب لي روح التمييز، يا حكمة الله السماوي!
V لتشرق بنور معرفتك في أعماقي.
أعرفك يا خالقي ومخلصي،
وأعرف ضعفي، فالتصق بك!
أعرف خطيتي، فألجأ إليك يا غافر الخطايا.
V لتمتد يدك وتؤدبني،
لكن إلى الموت لا تسلمني.
ليس من يحبني مثلك،
ولا من يهتم بخلاصي وأبديتي مثلك.
احسبني كطفلٍ صغيرٍ،
محتاج إلى أبوتك وحنوك،
ومحتاج إلى تأديباتك.
V إن كانت قلوب آبائنا تفرح بحكمتنا،
وتبتهج كليتهم باستقامة حياتنا،
كم بالأكثر تُسر بنا يا أيها الأب السماوي، العجيب في حبه؟
V ثبت خوفك في لحمي،
فأسلك فيما يرضي مسرتك،
وأحيد عن كل ما لا تريده.
أشتهي ملكوتك الأبدي،
ولا أطلب مجدًا زمنيًا!
تتهلل نفسي، إذ تترجى الانطلاق إليك.
ولا ترتبك بمتاعب الحياة وهمومها.
أنعم دومًا بنصرتك،
وأتمتع باستجابة طلبتي.
V أسلك بروحك بالتزام،
وأسكر بروحك لا بخمر العالم.
V مخلصي القدوس،
في تواضعٍ كنت تطيع القديسة مريم والدتك ويوسف النجار.
هب لي أن أشترك في طاعتك.
هب لي أن أتمنطق بالحق،
وأسلك بالحكمة والأدب والفهم.
V لتستلم أيها الرب قلبي،
وتنقش عليه ناموسك،
وتقيم فيه ملكوتك.
فلا تقترب إليه شهوة دنيئة،
ولا تجتذبه لذة شريرة.
تفسير أمثال 22 | تفسير سفر الأمثال | تفسير العهد القديم |
تفسير أمثال 24 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر الأمثال | تفاسير العهد القديم |