تفسير سفر الأمثال ٢٤ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الرابع والعشرون
النصرة للحق لا للقوة الغاشمة

هذا الأصحاح هو خاتمة الأمثال التي رتبها سليمان الحكيم مباشرة، فيه يؤكد سليمان الحكيم دور الحكمة الإيجابي في حياة المؤمن.

أولاً: الحكيم دائمًا يبني، والأحمق يهدم نفسه ومن هم حوله [1-4].

ثانيًا: الحكيم يحمل قوته في داخله، فيواجه معارك الحياة بشجاعةٍ وينتصر [5-9].

ثالثًا: الحكيم لا يحمل روح الفشل واليأس [10].

رابعًا: يجد الحكيم مسرته في مساندة الغير، خاصة المتضايقين والمظلومين [11-12].

خامسًا: الحكيم يقتات بعسل معرفة الحكمة [13-14].

سادسًا: الحكيم لا يستسلم للسقوط، بل يقوم للحال [15-22].

سابعًا: الحكيم لا يأخذ بالوجوه، ولا يسند الباطل بشهادةٍ كاذبة [23-29].

ثامنًا: الحكيم يحمل روح الاجتهاد، بلا تهاون أو تراخٍ أو عدم مبالاة، مقتديًا بسيده (يو 9: 4) [30-34].

هكذا يدفعنا سليمان الحكيم نحو السلوك بالحق الإلهي البنَّاء، الأعظم من قوة الشر الغاشمة، والذي يهب الإنسان اتساع القلب والحنو، أي انفتاحه على الله السماوي والإخوة على الأرض. الحق الإلهي يسند المؤمن الحقيقي، ويهبه روح البرّ مع الشجاعة دون محاباة لإنسان. إنه يعمل دومًا بلا انقطاع لحساب ملكوت الله.

  1. تحذير من حسدنا للأشرار 1-2.
  2. الحكمة والمعرفة 3-10.
  3. مساندة المتضايقين 11-12.
  4. عذوبة الحكمة 13-14.
  5. الصديق يسقط ويقوم 15-22.
  6. عدم المحاباة 23-26.
  7. حساب النفقة 27.
  8. الشهادة الباطلة 28-29.
  9. الكسل والاجتهاد 30-34.
  10. تحذير من حسدنا للأشرار

لاَ تَحْسِدْ أَهْلَ الشَرَّ،

وَلاَ تَشْتَهِ أَنْ تَكُونَ مَعَهُمْ [1].

كثيرًا ما أثار نجاح الأشرار وزهوهم تساؤل البعض بخصوص العدالة الإلهية، بل وأحيانًا أثار حسد الناس لهم، وغيرتهم منهم، كأن القوة الغاشمة دومًا فوق الحق، والظلم فوق العدالة، والظلمة أقوى من النور.فلا نعجب إن قيل: “أما أنا فكادت تزل قدماي، لولا قليل لزلقت خطواتي. لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار. لأنه ليست في موتهم شدائد، وجسمهم سمين. ليسوا في تعب الناس، ومع البشر لا يُصابون. لذلك تقلدوا الكبرياء، لبسوا كثوب ظلمهم. جحظت عيونهم من الشحم، جاوزوا تصورات القلب. يستهزئون ويتكلمون بالشر ظلمًا، من العلاء يتكلمون. جعلوا أفواههم في السماء، وألسنتهم تتمشى في الأرض” (مز 73: 1-9). لكن اكتشف المرتل أن الأشرار “مثل العشب الأخضر سرعان ما يذبلون” (مز 37: 1). هذا ما يؤكده الكتاب المقدس ويكرره مرة ومرات، نكتفي هنا بالعبارات التالية:

“الشرير هو يتلوى كل أيامه، وكل عدد السنين المعدودة للعاتي” (أي 15: 20).

“في كبرياء الشرير يحترق المسكين، يؤخذون بالمؤامرة التي فكروا بها” (مز 10: 2).

أحطم ذراع الفاجر والشرير تطلب شره ولا تجده” (مز 10: 15).

كثيرة هي نكبات الشرير أما المتوكل على الرب فالرحمة تحيط به” (مز 32: 10).

الشر يميت الشرير، ومبغضو الصديق يعاقبون” (مز 34: 21).

“بعد قليل لا يكون الشرير، تطلع في مكانه فلا يكون” (مز 37: 10).

لعنة الرب في بيت الشرير، لكنه يبارك مسكن الصديقين” (أم 3: 33).

“الشرير تأخذه آثامه، وبحبال خطيته يمسك” (أم 5: 22).

كعبور الزوبعة فلا يكون الشرير، أما الصديق فأساس مؤبد” (أم 10: 25).

“برّ الكامل يقوم طريقه، أما الشرير فيسقط بشره” (أم 11: 5).

“الصديق ينجو من الضيق، ويأتي الشرير مكانه” (أم 11: 8).

الشرير يكسب أجرة غش والزارع البرّ أجرة أمانة” (أم 11: 18).

النفس الشريرة تهلك صاحبها، وتجعله شماتة لأعدائه” (سيراخ 6: 4).

“عين البخيل لا تشبع من حظه، وظلم الشرير يضني نفسه” (سيراخ 14: 9).

أفي بيت الشرير بعد كنوز شر، وإيفة ناقصة ملعونة” (مي 6: 10).

V      [“أما أنا فكادت تزل قدماي، لولا قليل لزلقت خطواتي. لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار” (مز 73: 2-3).]

إن الذي قرَّبه من الزلل هو غيرته من الأثمة، إذ رأي صانعي الخير والملتزمين بالعدل في ضيق العيش ومشقة وانزعاج، وأما الأشرار الخبثاء، ففي رفاهية العيش وفي راحة ومسرة، حتى موتهم ليس فيه شيء يزعجهم ويكرههم. وإن حلّ بهم مرض يكون ألمهم خفيفًا وليس شديدًا كما يحل بأهل الخير وذوي الفضيلة[773].

 الأب أنثيموس الأورشليمي

V      لاحظت الخطاة، فوجدتهم في سلامٍ (مز 73: 3).

أي سلام؟ سلام مؤقت زمني ومنحل وأرضي.

رأيت الذين لا يخدمون الله ينالون ما أشتهيه لكي أخدم الله، فزلت قدماي، وكادت خطواتي أن تزل…

لاحظوا أن هؤلاء الناس متكبرون وغير منضبطين، لاحظوا أن الثور يُعد للذبح فيُسمح له أن يأثم في حرية، ويحطم ما يريد حتى يحل يوم ذبحه[774].

 القديس أغسطينوس

لأَنَّ قَلْبَهُمْ يَلْهَجُ بِالاِغْتِصَابِ،

وَشِفَاهَهُمْ تَتَكَلَّمُ بِالمَشَقَّةِ [2].

أول ثمر الشر إفساد القلب، إذ يتحول إلى العنف وحب الاغتصاب، فلا يسكنه الحب الحقيقي، وبالتالي يعجز عن رؤية الله، الحب الإلهي! يفسد الشر القلب وتفسد معه الشفاه، فإن نطقت بكلمات عذبة تمتزج بسم المشقة، أي السوء. كثيرًا ما تكشف ألسنتهم الشريرة عن ما تخفيه قلوبهم من شرور نحو الآخرين.

  1. الحكمة والمعرفة

بِالحِكْمَةِ يُبْنَى البَيْتُ،

وَبِالفَهْمِ يُثَبَّت [3].

إن كان السيد المسيح هو حكمة الله، فإن بيتنا الروحي يقوم على السيد المسيح، الحكمة الحقيقي.

يبقى بناء بيت الحكمة مستمر في هذه الحياة، حتى نبلغ أورشليمنا العليا، فلا يكف الحكماء والمتعلمون والفهماء عن طلب المزيد.

يطالبنا القديس هبيوليتس أن نقيم أسوارًا حول الحكمة حتى تثبت ولا تتحطم.

V      افتح باب كنزك لنا يا رب، عند تقديم صلوات توسلاتنا. لتخدم صلواتنا كسفير عنا، تصالحنا مع اللاهوت.

يا كل الحكماء انتبهوا، يا أيها المتعلمون اطلبوا الفهم والمعرفة، فأنتم متعلمون وحكماء[775].

القديس مار إفرام السرياني

V      حوط حولها بالأفكار المقدسة فإنك محتاج إلى دفاع أعظم، حيث توجد أمور كثيرة تهدد مثل هذه القنية بالمخاطر. لكن إن كان في وسعنا أن نحصِّنها، إن وجدت فضائل في قدرتنا تزيد معرفة الله فستكون هذه حصون لها، مثل الممارسة لها، والدراسة، كل سلسلة الفضائل[776].

القديس هبيوليتس

V      إن كان أحد يريد أن يفهم البيوت بكونها الأعمال الصالحة، فإن كل عملٍ صالحٍ هو بيت مالكه. أولئك الذين يسمعون كلمات يسوع ويمارسونها… يبنون أساسهم على الصخرة (مت 7: 24). حيث أن الفضيلة ككل هي واحدة، فإن من يجاهد فيها يبني بيته، يقيمه على الصخرة، على كلمة الله الذي لا يُهزم، أي على المسيح[777].

القديس ديديموس الضرير

V      يدعو (سليمان) المسيح الحكمة والعقل. والبيت هو كنيسة (المسيح) التي يبنيها، ويملأ مخازنها بكل أنواع الغنى الثمين والفاخر، مخازنها هي قلوب الذين يؤمنون بالمسيح ويعيشون مقتدين به. هذه القلوب، تزخر بالصلاح في الأفكار والكلمات والأعمال. لهذا تتأهل للتطويب الأبدي[778].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

وَبِالمَعْرِفَةِ تَمْتَلِئُ المَخَادِعُ،

مِنْ كُلِّ ثَرْوَةٍ كَرِيمَةٍ وَنَفِيسَةٍ [4].

خلق الله الكلي الحكمة الإنسان على صورته ومثاله لكي يبني كيانه الداخلي، خاصة عقله وعواطفه وأحاسيسه، على الحكمة الإلهية والمعرفة الصادقة، والحق الإنجيلي، فيقوم في داخله هيكل الرب المقدس. وتتحول أعماقه إلى مخزن يحمل كنوز المعرفة التي لا تُقدر بثمنٍ! وكما يقول معلمنا يعقوب الرسول: “وأما الحكمة التي من فوق، فهي أولاً طاهرة، ثم مسالمة مترفقة مذعنة مملوءة رحمة وأثمارًا صالحة، عديمة الريب والرياء. وثمر البرّ يزرع في السلام من الذين يفعلون السلام” (يع 3: 17-18).

يرى القديس جيروم أن كل شيء ينقص مع الزمن حتى الممارسات الروحية، مثل النسك والأصوام والانتقال من مكان إلى آخر لطلب النفع الروحي، واستضافة الغرباء والعطاء، والمثابرة في الصلاة، فإذ يضعف الجسم مع تقدم السن تقل هذه التداريب، أما الحكمة فتزداد على الدوام ولا يحطمها تقدم السن[779].

الإنسان الملتصق بالحكمة الإلهية لا يخشى الزمن ولا المرض ولا المستقبل المجهول، فهو في نموٍ دائم في الحكمة والتمييز والعلم والمعرفة، يزداد بهاءً ونورًا بل وقوة وسلطانًا داخليًا.

V      هذا هو التمييز الذي لا يُدعى فقط “نور الجسد”، بل و”الشمس“، إذ يقول الرسول: “لا تغرب الشمس على غيظكم” (أف 4: 26). وُيدعى أيضًا “سلطانًا“، إذ لا يسمح لنا الكتاب المقدس أن نصنع شيئًا بدونه “مدينة منهدمة بلا سور، الرجل الذي ليس له سلطان على روحه” (أم 25: 28).

وفيه تسكن الحكمة، ويقطن الفهم والمعرفة، وبدونه لا يُبنى بيتنا الداخلي، ولا نستطيع أن نجمع الغنى الروحي الذي لنا، فقد قيل: “بالحكمة يُبنى البيت، وبالفهم يثبت. بالمعرفة تمتلئ المخادع من كل ثروة كريمة ونفيسة” (أم 24: 3-4).

وهو “الغذاء الكامل” الذي يقتات به الكاملون في النمو والصحة، إذ قيل: “وأما الطعام القوي فللبالغين، الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر” (عب 5: 14).

وتظهر أهميته وضرورته بالنسبة لنا بمقدار ما لكلمة الله وقوتها من أهمية، إذ قيل: “لأن كلمة الله حيّة وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته” (عب 4: 12)[780].

الأب موسى

الرجُلُ الحَكِيمُ فِي عِزٍّ،

وَذُو المَعْرِفَةِ مُتَشَدِّدُ القُوَّةِ [5].

لأَنَّكَ بِالتدَابِيرِ تَعْمَلُ حَرْبَكَ،

وَالخَلاَصُ بِكَثْرَةِ المُشِيرِينَ [6].

إن كانت الحكمة هي الأساس لبناء البيت الداخلي، وهي الكنز النفيس للنفس، فإنها هي أيضًا سرّ كرامة النفس الحقيقية وقوتها، كما هي وراء النصرة والخلاص. فالمؤمن الحكيم في حرب دائمة ضد إبليس وجنوده، يقاومهم بالحكمة السماوية، وبتواضعه في تدابير ومشورة آبائه الروحيين.

V      ربما يحذرنا (سليمان) أن نندفع نحو الحرب دون تروٍ. يقول: اُنظروا، حينما تأخذون قرارًا أليس من النافع أن تكون الحكمة في وسط الأمور؟[781]

 القديس يوحنا الذهبي الفم

الحِكَمُ عَالِيَةٌ عَنِ الأَحْمَقِ.

لاَ يَفْتَحْ فَمَهُ فِي البَابِ [7].

الإنسان الأحمق، المُصر على شره، لا يقبل المشورة، ويعجز عن بلوغ الحكمة. لهذا متى حان وقت محاكمته أمام القضاء الإلهي (كان القضاء يتم عند أبواب المدن)، فإنه يصمت، لاَ يَفْتَحْ فَمَهُ فِي البَاب،ِ إذ ليس له ما يبرر به حماقته. إنه كمن يدخل العرس بدون ثوب العرس، وإذ سُئل على ذلك “سكت” (مت 12: 22). “حينئذ قال الملك للخدام: اُربطوا رجليه ويديه، وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان” (مت 22: 13).

يا للعجب! بسبب حماقتنا نقف عند الباب صامتين لعجزنا عن تبرير أنفسنا، فجاء كلمة الله نفسه متجسدًا، وهو القدوس البار، دخل عوضًا عنا ليُحاكم وهو حامل خطايانا. “ظُلم، أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاهٍ تُساق إلى الذبح، وكنعجة صامته أمام جازيها، فلم يفتح فاه” (إش 53: 7). صمت ليهبنا ذاته، فنتكلم به، ونُحسب أمام الآب أبرارًا، لنا حق الدخول إلى عرشه!

إذ نُستدعى لا عند باب المدينة للمحاكمة أمام رجال القضاء، وإنما عند باب الدينونة العظيمة، لا نقدر أن نفتح أفواهنا للدفاع عن أنفسنا. لكن شكرًا لحمل الله الذي لم يفتح فاه عند محاكمته، لكي تنفتح أمامنا أبواب السماء في يوم الرب العظيم.

V      بالصليب أوفى ديوننا.

بالصليب أبهج الفردوس حيث انفتحت أبوابه المغلقة.

بالصليب أغلق أبواب الجحيم ومتاريسه كي لا يدخله المؤمنون به.

بالصليب سحق الحية القديمة، وأبطل خداعها.

بالصليب رد للمرأة كرامتها.

بالصليب انتهت الأزمنة الشريرة، وانفتح عصر النعمة المفرح.

بالصليب نزع عن أدم وحواء ونسلهما ثياب العار، وقدم لهم ثوب المجد الفائق.

القديس مار يعقوب السروجي

المُتَفَكِرُ فِي عَمَلِ الشَرَّ يُدْعَى مُفْسِدًا [8].

فِكْرُ الحَمَاقَةِ خَطِيَّةٌ،

وَمَكْرَهَةُ النَّاسِ المُسْتَهْزِئُ [9].

إذ تقوم الحكمة بدور البناء للبيت الروحي [2]، وتهب غنى وعزة وقوة ونصرة وخلاصًا (5-6)، فعلى العكس فإن الحماقة أو الشر يهدم ويفسد ويسبب سخرية. يفقد الإنسان كيانه الروحي والأدبي والاجتماعي والأبدي. يصير خميرة فاسدة، تفسد من تلتصق به أو تختلط معه. وتبعث رائحة موت كريهة وحماقة.

يستخف الأحمق بالقدوس ومقدساته، مثل فرعون المتسائل في استخفافٍ: “من هو الرب حتى أسمع لقوله؟” (خر 5: 2). وكما فعل بيلشاصر ملك بابل، إذ كان “يذوق الخمر، أمرَ بإحضار آنية الذهب والفضة التي أخرجها نبوخذنصر أبوه من الهيكل الذي في أورشليم، ليشرب بها الملوك وعظماؤه وزوجاته وسراريه… وكانوا يشربون الخمر، ويسبحون آلهة الذهب والفضة والنحاس والحديد والخشب والحجارة” (دا 5: 2-4). وإذ يستخف الأحمق بالقدوس والمقدسات، يصير هو نفسه موضع سخرية، حتى أمام نفسه، كما حدث مع بيلشاصر، إذ “تغيرت هيئة الملك وأفزعته أفكاره، وانحلت غرز حقويه، واصطكت ركبتاه” (دا 5: 6).

يرى القديس غريغوريوس النيسي أن الاختلاف بين الحكمة والحماقة يشبه تمامًا الاختلاف بين النور والظلمة. فالظلمة في حقيقتها لا كيان لها، إنما هي غياب للنور، هكذا الحماقة لا كيان لها، إنما هي حرمان من الحكمة. الشر لا كيان له، إنما هو غياب للصلاح[782].

V      لا يوجد شيء مشترك بين الشخص الحكيم والأحمق، سواء في التعبيرات البشرية أو المكافآت الإلهية. فبالنسبة للأعمال البشرية تفاجئ النهاية الكل، بينما يظنون أنهم لا زالوا في البداية. لكن مصير الشخص الحكيم لن يشترك مع نصيب الأحمق[783].

القديس غريغوريوس صانع العجائب

V      الظلمة هي الحماقة، من خلالها نسقط في الخطية، غير مبصرين للحقيقة. والمعرفة هي النور الذي نحصل عليه، والذي يجعل الجهل يختفي، ويمنحنا الرؤية النقية أيضًا[784].

القديس إكليمنضس السكندري

إِنِ ارْتَخَيْتَ فِي يَوْمِ الضيق،ِ

ضَاقَتْ قُوَّتُكَ [10].

يوم الضيق هو الترمومتر الذي يكشف للإنسان حقيقة قوته. فبالنسبة للحكيم، رجل الله، قد يخور مع إيليا النبي حيث “طلب الموت لنفسه، وقال: قد كفى الآن يا رب خُذ نفسي، لأنني لست خيرًا من آبائي” (1 مل 19: 4). لكن يد الله أقامته، ودخل الله معه في حوار، وانتهت حياته في ذلك الحين بصعوده إلى السماء بمركبة نارية. أما الأحمق فالضيق يفضح حقيقة ضعفه، ويدفع الإنسان نفسه بنفسه إلى الدمار.

من يفكر في الشر أو الحماقة يكون قد شارك في الخطية، إن لم يكن بالفعل أو بالكلام فبالفكر. هذه الشركة تفسد فكر الإنسان وقلبه، بل وحياته.

V      معرفة الشر ليست ملومة، إنما الشركة في الشر ملوم[785].

القديس أمبروسيوس

  1. مساندة المتضايقين

أنْقِذِ المُنْقَادِينَ إِلَى المَوْتِ،

وَالمَمْدُودِينَ لِلْقَتْل.

لاَ تَمْتَنِعْ [11].

لم يطالبنا الحكيم بفحص المنقادين إلى الموت، فإن هذا من عمل رجال القضاء والحكام. إنما إن وجدت فرصة لإنقاذ إنسانٍ ما من الموت، أو من الضيقة، يلزمنا ألا نمتنع عن عمل المحبة.

لم يحدد جنسية الذين ننقذهم وهم في ضيقة ولا ديانتهم ولا سلوكياتهم، إذ يلزمنا أن نسند بحكمة وحب ما استطعنا من كل البشرية.

V      لم يقل (سليمان): “استفسر في حب للاستطلاع، وأعرف من هم هؤلاء؟” ومع هذا فإن أغلب المنقادين إلى الموت أشرار. هذه على وجه العموم هي المحبة. لأن من يصنع خيرًا لصديقٍ يفعله ليس من أجل الله، أما من يفعل الخير لمن لا يعرفه فهو يفعله من أجل الله وحده[786].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

V      يلزمك إذن أن تتعلم العطف على الذين هم في ضيقة، ولا تُرعب المعرضين لخطر اليأس المهلك، ولا تثقل عليهم بالكلام القاسي، إنما أصلحهم بكلمات التعزية الهادئة العميقة. فإن سليمان الحكيم يقول: “أنقذ المنقادين إلى الموت والممدودين للقتل. لا تمتنع” (أم 24: 11). ولتكن على مثال مخلصنا: “قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ…” (مت 21: 20)[787].

الأب موسى

إِنْ قُلْتَ: “هُوَذَا لَمْ نَعْرِفْ هَذَا”،

أَفَلاَ يَفْهَمُ وَازِنُ القُلُوبِ،

وَحَافِظُ نَفْسِكَ أَلاَ يَعْلَمُ؟

فَيَرُدُّ عَلَى الإنسَانِ مِثْلَ عَمَلِهِ [12].

يشير هذان العددان إلى التزام الشخص بإنقاذ الإنسان البريء مادام كان ذلك في استطاعته. فقد كان من العادات الشائعة في سوريا وفلسطين في ذلك الحين أنه إذا أُخذ أحد المجرمين للمحاكمة، كان يتقدمه في الطريق منادٍ يعلن عن جريمته، حتى إذا كان لدى شخص معلومات لصالح هذا المتهم يتقدم. فإذا تقدم أحد تُعاد محاكمة الشخص في دار القضاء، ويُفتح ملف قضيته من جديد. فإن احتجز أحد معلومة صادقة يمكن أن تبرئ الشخص يُحسب كمن قام بقتله، لأنه أخفى عن القضاء حقيقة، وتسبب في تعرض الشخص للقتل ظلمًا[788].

في مثل السامري الصالح، اهتم السامري باليهودي الجريح وأنقذه من الموت، بينما حُسب الكاهن واللاوي مرتكبًا جريمة في حق هذا الجريح، لأنهما لم يباليا بإنقاذه.

هذا بالنسبة للمنقادين للموت الجسدي، فكم بالأكثر مسئولية المؤمن عند رؤيته للملايين من النفوس تتعرض للهلاك الأبدي في نار جهنم، ولا يتقدم للصلاة أو الصوم أو النصح من أجل إنقاذهم؛ بل يشترك مع قايين قاتل أخيه، قائلاً: “أحارس أنا لأخي؟”

V      يعلمنا (الرب) أن الإنسان الذي نزل (من أورشليم إلى أريحا) لم يكن قريبًا إلا للذي أراد أن يحفظ الوصايا ويُعد نفسه ليكون قريبًا لكل من يحتاج إلى عونٍ[789].

 العلامة أوريجينوس

V      يظن البعض أن قريبهم هو أخوهم، من عائلتهم، من أقربائهم.

يعلمنا ربنا من هو القريب، في الإنجيل في مثل الإنسان النازل من أورشليم إلى أريحا… كل واحد هو قريبنا، فيلزمنا ألا نؤذي أحدًا… نحن أقرباء، كل الناس أقرباء لكل الناس، لأن لنا أب واحد[790].

 القديس جيروم

  1. عذوبة الحكمة

يَا ابْنِي، كُلْ عَسَلاً لأَنَّهُ طَيِّبٌ،

وَقَطْرَ العَسَلِ حُلْوٌ فِي حَنَكِكَ [13].

كان عسل النحل من أعذب الأطعمة عند اليهود، وقد استخدمه سليمان ليحذرنا من كلمات الزانية المعسولة (أم 5: 3). مرة أخرى يحسب مديح الآخرين للإنسان عسلاً إن أكلنا منه الكثير يسبب ثقلاً على المعدة (أم 25: 27). كما يدعونا سليمان إلى الاعتدال في كل شيء، فإن من يكثر من أكل العسل تُتخم معدته فيتقيأه (أم 25 16). من تشبع نفسه لا يحتاج، ولا يطيق عسل مديح الناس له (أم 27: 7)[791].

المرأة غير المؤمنة شفتاها تقطران عسلاً، لكن من يتحد بها تسير به إلى طرق الموت المرّ. أما السيد المسيح، فيحملنا معه في طريق الصليب، ويسير بنا إلى بهجة قيامته وأمجادها.

ليس من عذوبة للنفس أفضل من الحكمة الإلهية، فقد قيل عن السيد المسيح، حكمة الله: “حلقه حلاوة، وكله مشتهيات” (نش 5: 16)، كما قيل عنه “ويأتي مشتهى الأمم” (حج 2: 7).

V      يعرف الرب يسوع كيف أن نفس الإنسان، أي الذهن العاقل الذي خُلق على صورته، لا تقدر أن تشبع إلاَّ به وحده…

يعرف أنه قد أُظهر وأنه مخفي. يعرف أن فيه قد أُعلن ما هو مخفي. يعرف هذا كله. يقول المزمور: “يا لعظم فيض عذوبتك يا رب، التي أخفيتها للذين يخافونك، التي تصنعها للذين يترجونك” (مز ٣٠ : ٢٠ LXX).

عذوبتك عظيمة ومتعددة أخفيتها للذين يخافونك…

فلمن تفتحها؟ للذين يترجونك.

سؤال بجانبين قد أُثير، لكن كل جانب يحل الآخر…

هل الذين يخافون والذين يترجون مختلفون؟

أليس الذين يخافون الله هم يترجونه؟…

للناموس الخوف، وللنعمة الرجاء… الناموس ينذر من يتكل على ذاته، والنعمة تعين من يثق في الله… نحن نسمع الناموس. فإن لم توجد نعمة، تسمع العقوبة التي تحل بك… لتصرخ: “ويحي أنا الإنسان الشقي!” (رو ٧: ٢٤). لتعرف نفسك أنك منهزم، لتكن قوتك في خزي ولتقل: “ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من هذا الجسد المائت؟”… هكذا ينذر الناموس من يعتمد على ذاته.

أنظر هوذا إنسان يعتمد على ذاته، يحاول أن يجاهد، إنه منبطح ومُستعبد وأُخذ أسيرًا. من تعلم أن يعتمد على الله، وقد بقي الناموس ينذره ألا يعتمد على ذاته، الآن تسنده النعمة. إذ يعتمد على الله. في هذه الثقة يقول: “من ينقذني من جسد هذا الموت؟ نعمة الله بيسوع المسيح ربنا” (رو ٧ : ٢٤ – ٢٥ Vulgate).

الآن أنظر إلى العذوبة، تذوقها، تلذذ بها. اسمع المزمور: “ذوقوا وانظروا ما أعذب الرب” (مز ٣٤ : ٨ Vulgate). يصير عذبًا لك، إذ ينقذك.

كنت في مرارة ذاتك، عندما اعتمدت عليها. لتشرب العذوبة، ولتتقبل غيرة الفيض العظيم هكذا[792].

القديس أغسطينوس

كَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الحِكْمَةِ لِنَفْسِك.

إِذَا وَجَدْتَهَا فَلاَ بُدَّ مِنْ ثَوَاب،ٍ

وَرَجَاؤُكَ لاَ يَخِيبُ [14].

من يقتنِ السيد المسيح – حكمة الله – يتمتع بالميراث الأبدي وشركة المجد؛ فلا يخيب رجاؤه.

V      إذ ينتهي الأمر بأن يكون على المرء أن يأخذ كل شيء من داخل النهر أو الوادي، وأن يتهلل بذلك، نقول إن ربنا يسوع المسيح يُقارن بنهرٍ، فيه نجد كل مسرة وتمتع في الرجاء، وفيه نفرح فرحًا روحيًا إلهيًا.

القديس كيرلس الكبير

V      كم أنا بائس؟!

إلهي… متى تفارقني هذه الطبيعة الفاسدة، وتعمل قوّتك الكاملة في؟!

إلهي… لذيذة هي الوحدة والسكون والحق والنقاوة، هذه كلّها التي هي لك! أمّا أنا فألهو بالضوضاء والصخب والباطل والرذيلة!

أعود فماذا أقول بعد؟! أنت هو الخير الحقيقي، رحوم، قدُّوس، عادل… أمّا أنا فشرّير، محب لذاتي، خاطئ، ظالم!…

أنت النور، أمّا أنا فظلمة!

أنت الحياة، أمّا أنا فموت!

أنت الطبيب، أمّا أنا فمريض!

أنت الفرح، أمّا أنا فحزن!

أنت الحق الصادق، أمّا أنا فبطلان حقيقي، مثلي مثل أي إنسان على الأرض!

بأية لغة تريدني أن أحدّثك يا خالقي؟! أتوسّل إليك أن تتفضّل فتُصغي إليّ. إنَّني من صنع يديك، وهلاكي أمر مخيف!

إنّي جُبلتك، وها أنا أموت! إنّي من صُنْع يديك، وها أنا اَنحدر نحو العدم!

إن كان لي وجود، فأنت مُوجدي، “يداك صنعتاني وأنشأتاني” (مز 119: 73). يداك اللتان سُمِّرتا على الصليب، فَلْيُعطياني السلام؛ لأنَّه هل تحتقر عمل يديك؟!

أه! أتطلّع إلى جراحاتك العميقة، فقد نقشتَ اسمي في يديك! ِاقرأْ اسمي وخلّصني!

إن نفسي التي تتأوه قدّامك، هي من عمل يديك. اخلق منّي خليقة جديدة؛ فهذا هو عملك. لذا فهي لا تكف عن الصراخ إليك قائلة: “يا أيّها الحياة، أَحْيني من جديد!”

أنَّها من جبلة يديك، تلتف حولك متوسّلة إليك أن ترد إليها جمالها الأول!

اغفر لي يا إلهي، مادمتَ قد سمحتَ لي بالحديث معك. لأنَّه من هو الإنسان حتى يتكلّم مع الرب خالقه؟!

نعم. سامحني! سامح تجاسري! سامح عبدك الذي تجاسر ليرفع صوته أمام سيده!

إن الضرورة لا تعرف قانونًا! فالألم يدفعني إلى الحديث معك! والكارثة التي َحَلَّت بي تجعلني اَستدعي الطبيب لأنّي مريض! إنَّني أطلب النور لأنّي أعمى! أبحث عن الحياة لأنّي ميّت! ومن هو هذا الطبيب والنور والحياة إلاَّ أنت؟!

يا يسوع الناصري ارحمني!

القدِّيس أغسطينوس

  1. الصديق يسقط ويقوم

لاَ تَكْمُنْ أَيُّهَا الشرِّيرُ لِمَسْكَنِ الصدِّيقِ.

لاَ تُخْرِبْ رَبْعَهُ [15].

ما هو مسكن الصديق إلا الأحضان الإلهية؟ وما هو ربعه أو موضع راحته الحقيقي سوى الشركة مع الله؟ فالشرير يكمن للشرير، وينصب له الفخاخ المتعددة حتى يسقط الصديق في إحداها، ولا يعود إلى الحضن الإلهي، ويفقد شركته مع الله. يجد الشرير لذته في تضليل الصديق، وتخريب نفسه بالسقوط معه في الإثم.

تبدو هذه العبارة موجهة للشرير كي لا يكمن لاصطياد الصديق، فإنه يتعب باطلاً، لأن الله هو المدافع عن الصديق والمخَّلص له. لكن إذ لا يسمع الشرير لصوت الله، فالحديث موجه في حقيقته للصديق كي لا يخشى الشرير، ولا يضطرب منه، مهما كانت خططه وإمكانياته، لأن الله نفسه يحصن أولاده من الأشرار وأعمالهم الرديئة.

لأَنَّ الصدِّيقَ يَسْقُطُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَيَقُومُ.

أَمَّا الأَشْرَارُ فَيَعْثُرُونَ بِالشَرَّ [16].

إن كان الأشرار يبذلون كل الجهد لاصطياد الصديقين في فخ الشر، فإن الله من جانبه يفتح أبواب الرجاء أمام البشرية لكي كل من يسقط، مهما بلغت مرات السقوط، يطلب الخلاص، فيجده بين يديه. أما الشرير الذي يبذل كل جهده لوضع عثرات للصديقين، فيتعثر هو، بينما يخلص الصديقون ويتكللون.

V      الكلمتان “سبع مرات” تُستخدم للتعبير عن كل نوعٍ من الضيقة، التي بها ينهار الإنسان في نظر الناس. والكلمات “يقوم ثانية” تعني أن الإنسان ينتفع من كل هذه الضيقات[793].

V      عندما تحل الشرور على الأشرار يسقطون بواسطتها. وعندما تحل الشرور على الأبرار فإنهم الله يقويهم، ويرفع كل الذين سقطوا (مز 145: 14)، كل الذين ينتمون إليه، لأن “الله يقاوم المستكبرين” (يع 4: 6)[794].

 القديس أغسطينوس

V      بمعونة الله يمكننا ويلزمنا ألا نرتكب معاصٍ خطيرة، لكن لا يوجد شخص بار دون أن يخطئ، ولن نستطيع أن نعيش دون الخطايا الصغيرة. نحن دومًا نضطرب، ونتعذب بهذه الخطايا كما بواسطة حشرات طائرة تطن حولنا. غالبًا ما تزحف الخطايا خلال الأفكار أو الشهوات أو الأحاديث أو الأفعال، كأمرٍ ضروري، خلال الضعف وبسبب النسيان، إن فكَّر الإنسان في الخطايا الخطيرة. لهذا يلزمنا ألا نستهين بخطايانا لأنها هينة، إنما ليتنا نخشاها لأنها كثيرة. قطرات المطر صغيرة، لكن لأنها كثيرة تملأ الأنهار وتغمر البيوت، وأحيانًا بقوتها تحرك جبالاً[795].

 الأب قيصريوس أسقف آرل

V      يقال عن المسيحي إنه “يقوم” بمعنيين: الأول عندما يتحرر في هذا العالم بالنعمة من موت الرذائل، ويستمر متبررًا بالله، وكما جاء في كلمات العظيم في الحكمة سليمان: “الصِديق يسقط سبع مرات ويقوم“. والثاني في القيامة العامة، حيث يتمتع الصديق بالمكافآت الأبدية[796].

 كاسيدورس

V      هذا الحديث عن نسيان الخطايا السابقة، أقصد به الخطايا الرئيسية التي دانها الناموس الموسوي، التي انتهى الميل إليها، ونُزعت عنا بالحياة الصالحة، والتي قد انتهت الندامة من أجلها. أما المعاصي الأخرى (الصغرى) التي قيل عنها: “لأن الصدّيق يسقط سبع مرات ويقوم” (أم 24: 16)، فإن التوبة عنها لا تنتهي، لأنه سواء عن جهل أو نسيان أو بالتفكير أو الكلام أو بمجرد الاشتياق أو عن ضرورة أو عن ضعف الجسد أو نجاسة في حلم… هذه الأمور غالبًا ما نسقط فيها كل يوم بغير إرادتنا أو بإرادتنا. مثل هذه الخطايا يُصلي من أجلها داود النبي للرب، ويطلب التنقية منها والغفران عنها: “السهوات من يشعر بها؟! من الخطايا المستترة أبرئْني؟!” (مز 19: 12). وأيضًا يقول الرسول: “لأني لست أفعل الصالح الذي أريده،ُ بل الشرُّ الذي لست أريده فإيَّاهُ أفعل” (رو 7: 19). لذلك تنهد قائلاً: “وَيحي أنا الإنسان الشقي، مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت؟!” (رو 7: 24).

إننا نسقط في هذه الخطايا بسهولة كما لو كانت بحكم الطبيعة نفسها، فبالرغم من يقظتنا وسهرنا نحوها، لا يمكننا تجنبها كلية. هذا الأمر الذي جعل أحد التلاميذ الذي كان يسوع يحبه يصرخ، ويقول: “إن قلنا إنهُ ليس لنا خطية نُضِلُّ أنفسنا وليس الحقُّ فينا” (1 يو 1: 8)[797].

للأب بينوفيوس

لاَ تَفْرَحْ بِسُقُوطِ عَدُوِّك،َ

وَلاَ يَبْتَهِجْ قَلْبُكَ إِذَا عَثَرَ [17].

يليق بالمؤمن أن يكون على مثال الله الذي يشرق شمسه على الأبرار والأشرار، ويمطر على الصالحين والطالحين. ليتسع قلب المؤمن بالحب حتى نحو مقاوميه.

يقول الرسول بولس: “إذ ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه” (رو 5: 10). فإن كان الله قد صالحنا بعد أن حملنا روح العداوة ضده، فلنرد هذا الحب له فيمن يحبهم، أي في كل البشرية.

من يفرح بسقوط عدوه ويبتهج قلبه بعثرته، يُحسب مقاومًا لله نفسه، الذي يطلب خلاص الجميع.

V      من يفرح بنكبات الغير يُحزن الله، كقول سليمان. على أي الأحوال لم يُرفض اليهود من أجل الأمم، بل بالحري لأنهم رفضوا إعطاء الفرصة للإنجيل أن يُكرز به الأمم. إن كنت تفتخر ضد أولئك الذين طُعمت في أصلهم، فأنت تهين الشعب الذي قبلك لتتحول من الشر إلى الصلاح. إنك لا تستمر في هذا إن طُعمت وأنت ثابت فيه[798].

الأب أمبروسياستر

لِئَلاَّ يَرَى الربُّ،

وَيَسُوءَ ذَلِكَ فِي عَيْنَيْه،ِ

فَيَرُدَّ عَنْهُ غَضَبَهُ [18].

تلاحظ عينا الرب ما في قلوبنا، فإن رأى في قلبٍ ما فرحًا بالبلايا والكوارث التي تحل بغيره، يتحول غضب الله من ذاك الذي تحت التأديب إلى الشامت فيه، كما حدث مع بني أدوم الذين شمتوا في إسرائيل بعد سبيهم، وسجل عوبديا النبي سفره خصيصًا من أجل هذا الموقف ليبرز خطورة الشماتة فيمن يحل بهم التأديب. “يجب أن لا تنظر إلى يوم أخيك يوم مصيبته، ولا تشمت ببني يهوذا يوم هلاكهم، ولا تفغر فمك يوم الضيق. ولا تدخل باب شعبي يوم بليتهم، ولا تنظر أنت أيضًا إلى مصيبته يوم بليته، ولا تمد يدا إلى قدرته يوم بليته. ولا تقف على المفرق لتقطع منفلتيه، ولا تسلم بقاياه يوم الضيق. فإنه قريب يوم الرب على كل الأمم، كما فعلت يفعل بك، عملك يرتد على رأسك” (عو 12-15).

V      يلزمنا ألاّ ننتفخ بانتصارنا، لهذا يحذرنا قائلاً “لئَلاَّ إذا أكلت وشبعت وبنيت بيوتًا جيّدة وسكنت وكثرت بقرك وغنمك وكثرت لك الفضة والذهب وكثر كل مالك، يرتفع قلبك، وتنسى الربَّ إلهك الذي أخرجك… من بيت العبودية (الخطية)” (تث 8: 12-14). كذلك يقول سليمان في الأمثال: “لا تفرح بسقوط عدوك (أي بغلبتك على الخطية والشيطان) ولا يبتهج قلبك إذا عثر، لئَلاَّ يرى الرب ويسوءَ ذلك في عينهِ فيردَّ عنهُ غضبه” (أم 24: 17، 18)، أي خشية أن يرى الله كبرياء قلبك فلا يعود يهاجمه (يدافع عنك ضد الخطية)، بذلك يتخلى عنك فتغلبك الشهوة التي كنت بنعمة الله منتصرًا عليها من قبل[799].

الأب سرابيون

لاَ تَغَرْ مِنَ الأَشْرَار،ِ

وَلاَ تَحْسِدِ الأَثَمَةَ [19].

لأَنَّهُ لاَ يَكُونُ ثَوَابٌ لِلأَشْرَارِ.

سِرَاجُ الأَثَمَةِ يَنْطَفِئُ [20].

لقد كرر ذات الوصية في عدد 1 كما في أمثال 23: 17، لأنه الله يعلم صعوبة قبول الإنسان لها، بالرغم من إدراكه مدى بركاتها عليه، ومدى مسرة الله بتنفيذها.

لا يليق بنا أن نحسد الأشرار على أحوالهم، فسرعان ما يعبر الزمن ويقف الأشرار في الدينونة، وقد انطفأت سرجهم، وصار مصيرهم الظلمة الخارجية. ليس لهم نصيب في الميراث الأبدي، ولا موضع لهم في حضن الله

يقصد بانطفاء سرج الأشرار هلاك أبنائهم، فما يجمعونه من أموال الظلم ويدخرونه لنسلهم سرعان ما يتبدد، ويفقد نسلهم البركة الإلهية، إن سلكوا في طريق آبائهم الشرير. أما الصديق فإنه يترك البركة ميراثًا لأبنائه حسب الجسد كما حسب الروح، إن سلكوا في طريق أبيهم المقدس.

هنا نلاحظ نظرة الله العجيبة للإنسان، يقدم الله للإنسان – مهما بلغت شروره – الفرص والإمكانيات لعله ينير ككوكبٍ وسط السماء، لكن الأثيم يرفض النور الإلهي بإرادته الشريرة، فينطفئ كل أثر للنور فيه.

يَا ابْنِي اخْشَ الربَّ وَالمَلِكَ.

لاَ تُخَالِطِ المُتَقَلِّبِينَ [21].

حقًا إن خشية الرب والخضوع له يستتبعهما الخضوع في الرب لأصحاب السلطة.

إنسان الله لا يخالط المتقلبين، أي لا يشترك مع من يقوم بحركات عصيان، ولا يتعاون مع أصحاب الدسائس، والذين يجدون مسرتهم في الثورات والدسائس ضد القادة المدنيين أو الكنسيين.

V      “يا ابني، اخشَ الرب والملك“، أي اِخشَ المسيح الله الحقيقي، والملك، أو يعني سليمان بالملك من يحكم نفسه قبل أن يحكم الآخرين. “لا تكن عاصيًا لأحداهما”. حقًا إن من لا يوقر الملك المختار من الله يهين الله[800].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

لأَنَّ بَلِيَّتَهُمْ تَقُومُ بَغْتَةً

وَمَنْ يَعْلَمُ بَلاَءَهُمَا كِلَيْهِمَا [22].

من يقتني مخافة الرب فيه، فمع ما يناله من دالة لدى الله، وعدم الخوف من البشر مهما بلغت مراكزهم، وعدم الخوف حتى من الموت، فإنه بروح التواضع العميق يخشى الله ويطلب مسرته ورضاه، ويخشى أصحاب المراكز الاجتماعية، لا في خنوعٍ ومذلةٍ، وإنما بروح الرضا ولكي يعيش في حياة مملوءة سلامًا. إنه لا يخالط المتقلبين، أي الذين بلا مبادئ ثابتة، بل ينزعون نحو الدسائس والثورات.

مما يؤسف أنه يوجد حتى داخل الكنيسة من يهوى النقد اللاذع، ومقاومة كل ترتيب كنسي ونظام، فيجمعون لأنفسهم غضب الله، وتنتظرهم البلايا.

الإنسان المتمرد على الله والقادة إنما يجني لنفسه تمردًا داخليًا، يثور جسده ضد روحه، وتثور عواطفه ضد عقله، فيحمل في داخله بلايا مُرة. وبينما يظن أنه يطلب أن يصلح المجتمع والكنيسة، يجد نفسه منحلة، ويفقد انسجامه حتى مع نفسه.

  1. عدم المحاباة

هَذِهِ أَيْضًا لِلْحُكَمَاءِ،

مُحَابَاةُ الوُجُوهِ فِي الحُكْمِ لَيْسَتْ صَالِحَةً [23].

بقوله “هذه أيضًا للحكماء” يكشف أنه سجل ما سبق في وحدة واحدة، بدأها بطلب مخافة الرب، وختمها بالالتزام بمخافة الرب والطاعة للقادة. وأن ما ورد في بقية هذا الأصحاح يُعتبر أشبه بمُلحق يعالج أربعة أمور هامة في حياة المؤمن، وهي عدم المحاباة، وحساب النفقة، والامتناع عن الشهادة الباطلة، وعدم الكسل. ولعل هذه تعتبر مقدمة للتجميع التالي من الأمثال.

يحذرنا من محاباة الوجوه، فمن يخشى الله لا يخاف الناس، ولا يحابي أحدًا بسبب قرابة جسدية أو غنى أو كرامة أو صاحب سلطان. فإنه في تواضعٍ حقيقيٍ يطلب الحق ويعلنه.

يليق بالحكام والقادة المدنيين كما الروحيين أن يلتزموا بهذا المبدأ، كما يليق بكل مؤمنٍ أن يلتزم بهذا، حتى وإن لم يكن ذا مركز قيادي في نظر المجتمع.

في قصة سوسنة الواردة في تكملة دانيال صورة رائعة للشاب دانيال الذي في جرأة لم يخشَ الشيخين اللذين ضلَّلا كل من هم حولهما؛ وفي شجاعة أنقذ سوسنة المتهمة ظلمًا، وفضح الشيخين على فسادهما.

مَنْ يَقُولُ لِلشرِّيرِ: “أَنْتَ صِديقٌ” تَسُبُّهُ العَامَّةُ.

تَلْعَنُهُ الشُعُوبُ [24].

بسبب الخوف من الشرير يجامله البعض ويبررون تصرفاته، بل ويحسبونه صدِّيقًا. لكن إذ تنكشف الحقيقة يتجنب الناس هذا المخادع على حساب الحق، بل ويجلب الشخص اللعنة على رأسه.

أصيبت كثير من المجتمعات المعاصرة بهذه الضربة، حيث تبرر أخطاء بعض الأشرار، بل وأحيانًا تُمتدحها، كأنها أعمال صالحة وبطولية.

ربما يوجه الحديث هنا إلى القادة ورجال القضاء، الذين لعلة أو أخري يبررون أخطاء بعض المجرمين على حساب الطبقات الفقيرة المظلومة.

أَمَّا الذِينَ يُؤَدِّبُونَ فَيَنْعَمُون،َ

وَبَرَكَةُ خَيْرٍ تَأْتِي عَلَيْهِمْ [25].

مقابل الذين يحابون الأشرار وينعتوهم بالصلاح، نجد آخرين يؤدبون الأشرار، سواء بالتوبيخ أو التأديبات البدنية، هؤلاء حتمًا سيحترمهم الشعب عندما يتحقق الكل من فساد الأشرار، وكيف صدهم القضاة أو الحكام عن ممارسة شرورهم، فتحل بهم البركات.

V      “أما الذين يؤدبون فينعمون، وبركة خير تأتي عليهم” (أم 24: 25).

إني أختار أن يفتقد الرب خطاياي ويُصلح معاصيَّ هنا في هذا العالم، حتى يقول لي إبراهيم هناك ما قاله عن لعازر المسكين في حديثه مع الغني: “يا ابني أذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك، وكذلك لعازر البلايا، والآن هو يتعزى وأنت تتعذب” (لو 16: 25). لهذا السبب عندما يوبخنا الرب ويؤدبنا، يلزمنا ألاَّ نكون جاحدين. إذًا لندرك أن توبيخنا في الوقت الحاضر إنما لكي ننال تعزية في المستقبل. وكما يقول الرسول: “إذ قد حُكم علينا نؤدب من الرب، لكي لا نُدان مع هذا العالم” (1 كو 11: 32). لهذا السبب قبِل أيوب أيضًا بإرادته كل آلامه قائلاً: “أألخير نقبل من عند الله، والشر لا نقبل؟” (أي 2: 10)[801].

العلامة أوريجينوس

تُقَبَّلُ شَفَتَا مَنْ يُجَاوِبُ بِكَلاَمٍ مُسْتَقِيمٍ [26].

من يصدر أحكامًا مستقيمة دون محاباة يكون موضع إكرام الكثيرين وثقتهم وإعجابهم وحبهم. يشير تقبيل الشفتين هنا إلى الاحترام خلال الحب لا الخوف، ولا تزال تُعرف القبلة في الشرق بهذا المفهوم. وكما جاء في المزمور: “قبلوا الابن لئلا يغضب” (مز 2: 12).

تستخدم أيضًا القُبلة كاعتراف بعدالة الشخص وحكمته والثقة فيه والخضوع له. قال فرعون ليوسف “أنت تكون على بيتي، وعلى فمك يقبّل جميع شعبي” (تك 41: 40).

  1. حساب النفقة

هَيِّئ عَمَلَكَ فِي الخَارِجِ،

وَأَعِدَّهُ فِي حَقْلِكَ.

بَعْدُ تَبْنِي بَيْتَكَ [27].

يدعونا الحكيم إلى عمل حساب النفقة، فلا نبني البيت إلا بعد أن نُعد العمل، فنختار الموقع المناسب للبيت، كما نختار نوع المباني وحجمها ونحسب تكلفتها، ونرى هل نحن قادرون على إتمام العمل. وكما يقول السيد المسيح نفسه: “ومن منكم وهو يريد أن يبني برجًا لا يجلس أولاً ويحسب النفقة، هل عنده ما يلزم لكماله، لئلا تضع الأساس ولا يقدر أن يكمل، فيبتدئ جميع الناظرين يهزأون به، قائلين: هذا الإنسان ابتدأ يبني ولم يقدر أن يكمل” (لو 14: 28-30).

يقدم لنا العهد القديم مثالاً للذين بدأوا يبنون برج بابل ليكون رأسه في السماء، يحمل عنادًا ومقاومة لله، فإذ لم يحسبوا النفقة لم يكملوا العمل (تك 11: 9).

V      يقول الكتاب المقدس: “هيئ عملك لرحيلك، وأعده في حقلك“. الآن أظن أن “رحيلك” تعني خروجنا من هذا العالم وتركه. يحيا ولا يرى الموت، أي ينجي نفسه من يد الهاوية (مز 89: 48). فإن طبيعة الإنسان قد دينت في آدم وسقطت في الفساد، لأنه بغباوة عصى الوصية المعطاة له[802].

 القديس كيرلس الكبير

V      من يُقدِّر أمان نفسه يهتم ألا يكون في خطرٍ، بالاحتفاظ بالتحرر من الخطية، حتى يصون فائدة أعماله الصالحة السابقة لنفسه[803].

 قوانين الرسل

V      لنحسب حساب نفقة البرج الروحي الشاهق العلو، ونتعمق في ذلك مقدَّما بحرص… لنأخذ في اعتبارنا أولاً الأخطاء بصورة واضحة، فنحفر ونزيل الفساد ونفايات الشهوات حتى يمكننا أن نضع أساسات البساطة والتواضع القويَّة فوق التربة الصلبة التي لصدرنا الحيّ، أو بالحري توضع الأساسات علي صخر الإنجيل (6: 48)، بهذا يرتفع برج الفضائل الروحيَّة، ويقدر أن يصمد ويعلو إلى أعالي السماوات في أمان كامل ولا يتزعزع[804].

الأب اسحق

V      إنه يوم هتافٍ وبوق (صف 1: 16). إنه يوم حزن وتنهد لمن لم يهيئوا أعمالهم حسنًا للطريق، أي لرحيلهم من الجسد ليلتقوا مع الله بطريقة مربحة[805].

 القديس ويصا

  1. الشهادة الباطلة

لاَ تَكُنْ شَاهِدًا عَلَى قَرِيبِكَ بِلاَ سَبَب،ٍ

فَهَلْ تُخَادِعُ بِشَفَتَيْكَ؟ [28].

لاَ تَقُلْ: “كَمَا فَعَلَ بِي هَكَذَا أَفْعَلُ بِهِ.

أَرُدُّ عَلَى الإِنْسَانِ مِثْلَ عَمَلِهِ” [29].

رد الشر بالشر، أو الانتقام، ينزع عن الإنسان حياة النقاوة ويُفسد القداسة، خاصة وإن قدم شهادة خاطئة ضد أخيه بقصد الانتقام منه، حتى وإن كان أخوه هذا سبق فشهد عليه زورًا. فالشر لا يُقاوم بالشر. صدق الإنسان وقداسة حياته أمور لا تُمس مهما كان الدافع. يقول الرسول: “لا تجازوا أحدًا عن شرٍ بشرٍ” (رو 12: 17).

إذ يدرك المؤمن أن الله يحتضنه ويسنده ويحل مشاكله ويدافع عنه، لا ينتقم لنفسه، بل يتكئ على صدره الله. يوصينا الرسول: “لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكانًا للغضب، لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب” (رو 12: 19).

إنسان الله يشتهي أن يرى مضايقيه قد رجعوا عن الشر الذي يمارسونه، ويتقدسون. هذا لن يقدر أن يبلغه بانتقامه لنفسه، بل يترك الأمر في يدي الله القادر على تجديد القلب وتقديس النفس.

V      أقصى شهوات الإنسان المُصاب بالضرر أن يرى النقمة، هذه يحققها الله له في أكمل معاييرها بشرط ألا يحاول الانتقام لنفسه. اترك لله أن يتتبع ما حلّ بك من أضرارٍ[806].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

  1. الكسل والاجتهاد

عَبَرْتُ بِحَقْلِ الكَسْلاَن،ِ

وَبِكَرْمِ الرجُلِ الناقِصِ الفَهْم ِ[30].

دعانا الحكيم إلى حياة الجهاد المستمر بقوله: “اِرم خبز على وجه المياه، فإنك تجده بعد أيام كثيرة” (جا 11: 1). فإن إيماننا بالرب يهبنا ينابيع مياه روحه القدوس تفيض من بطوننا (يو 7: 38)، إننا ننعم بعونه الإلهي، ونقتات به خبز الحياة إن ألقينا بأعمال الحب نحو الله ونحو القريب، فيرده لنا حبًا سماويًا فائقًا[807].

يرى العلامة أوريجينوس أن الإنسان لا يتمتع بنور المعرفة وهو في تراخٍ وكسلٍ، إنما يتمتع بالحكمة والمعرفة خلال الممارسة والاجتهاد.

V      لا تظن أن الحكمة تأتي قبل تشريعها في أعمال، بل يلزم أن تأتي الأعمال أولاً، وتُطلب الحكمة بعد ذلك… يقول: “ازرعوا لأنفسكم بالبرّ” (هو 10: 12)… وبعد ذلك يمكنكم ما يتبع هذا: “استنيروا بنور المعرفة”[808].

العلامة أوريجينوس

فَإِذَا هُوَ قَدْ عَلاَهُ كُلَّهُ القَرِيص،

وَقَدْ غَطَّى العَوْسَجُ وَجْهَهُ،

وَجِدَارُ حِجَارَتِهِ انْهَدَمَ [31].

ثُمَّ نَظَرْتُ وَوَجَّهْتُ قَلْبِي.

رَأَيْتُ وَقَبِلْتُ تَعْلِيمًا [32].

سبق أن حذرنا الحكيم من الكسل (أم 6: 10، 11؛ 20: 4). هنا يقدم تصويرًا دقيقًا لحقل الكسلان وكرمه، فتحزن نفسه على صاحب الحقل والكرم، فإن ما يحل بهما من خراب وجفاف وأشواك وحسك، إنما يكشف عما حلّ بقلب صاحبها من دمار وخراب.

القريص هو نوع من الشوك الذي يكثر في المناطق المهجورة (إش 34: 13، هو 9: 6). والعوسج هو شجر الشوك.

وإن لم يكن الإنسان في حاجة إلى مالٍ، فإن الكسل يفسد حياته الداخلية، ويحطم شخصيته، وينزع عنه تذوق الحياة، فتصير بلا طعمٍ ولا هدف.

نَوْمٌ قَلِيلٌ بَعْدُ نُعَاسٌ قَلِيلٌ وَطَيُّ اليَدَيْنِ قَلِيلاً لِلرُقُود ِ[33].

فَيَأْتِي فَقْرُكَ كَعَدَّاءٍ

وَعَوَزُكَ كَغَازٍ! [34].

إذ يحل وقت العمل ينام الكسلان، ويظن في هذا راحة وسعادة، لكنه يُفاجأ بالفقر يجري بسرعة (يعدو) لكي يحل بممتلكاته كما بعقله وقلبه، فتتحطم طاقاته الداخلية، ويغزوه  العوز كغازٍ يأسره.

 


 

من وحي أمثال 24

لأقتنيك يا حكمة الله!

V      بك يا حكمة الله تُبنى كل حياتي،

عليك تقوم نفسي كبناء مقدس،

أصير بالحق هيكلاً يسكنه روحك القدوس.

يملأه بكنوز الحكمة والعلم والمعرفة

V      تصير حسب وعدك سور نار تحوط بكل كياني.

فلا تقدر سهام العدو الملتهبة نارًا أن تعبر إليّ.

أنت حصن حياتي،

أنت والعامل فيّ،

أحمل بَّرك، وأتحصن بنعمتك.

V      بك أصير كشجرة على مجاري المياه،

 تحمل ثمارًا كثيرة، وورقها لا ينتثر.

يُحرم الأشرار من الاتحاد بك،

فيصيرون كعصافة في مهب الريح،

يعتزون بإمكانيتهم وقدراتهم وقوتهم فيخططون لإبادة الحكيم.

لكن سرعان ما يهلكون،

ويخلص الصديقون الحكماء.

بك أنمو على الدوام،

لا يستطيع الزمن أن يحطم أعماقي،

ولا المرض أن يفسد قوتي،

ولا الأحداث أن تنزع عني روح الحكمة وكنوز العلم والمعرفة.

بك أنطلق من نصرةٍ إلى نصرةٍ.

وأختبر مجد الخلاص يومًا فيومًا.

أدخل معارك إبليس متحصنًا بك!

V      أقف أمام القضاء صامتًا.

بماذا أجيب؟ وكيف أدافع عن نفسي؟

أعترف أنني مستحق للموت الأبدي!

لكنك تقدمت نيابة عني.

وأنت الديان والقدوس صمت لم تفتح فاك!

صمت يا كلمة الله القدوس،

لكي بك أتكلم، وبك أتبرر،

وبك أطالب بحق الدخول إلى الأمجاد السماوية.

لم تفتح فاك عند محاكمتك،

لكي تفتح لي باب الفردوس الذي أغلقته بخطاياي.

V      بصمتك وهبتني قوة الكلمة،

وهبتني الحكمة نورًا أبديًا،

لن يقدر الموت أن يطفئه.

إن حلّ بي الضيق،

مهما اشتد، لن تخور قوتي،

لأنك أنت قوتي!

الضيق الذي يحطم الأحمق،

يزكيني ويشهد لنعمتك العاملة فيّ.

V      لأقتنيك فيتسع قلبي بالحب،

أحب الجميع حتى المقاومين لي،

فقد أحببتني وأنا عدو،

وصالحتني مع الآب بدمك الثمين.

هب لي أن أرد الحب بالحب،

فلا أكف عن مساندة كل متضايق،

أيا كانت جنسيته أو ديانته أو سلوكياته.

لأحب الجميع من أجلك يا محب كل البشر!

V      لأقتنيك يا مشتهي الأمم،

حلقك حلاوة، وكلك مشتهيات.

أنت هو عذوبة نفسي.

أنت هو شبعها المفرح!

بدونك ليس لي حياة.

أنت هو رجائي، أنت هو طبيب نفسي!

تحولني من الفساد إلى عدم الفساد.

تقيمني من موت الخطية لأتمتع بخبرة قوة قيامتك وبهجتها.

عندما يغلق الكل أبوابهم أمامي،

أجد جنبك المفتوح ينتظرني،

وأحضانك الإلهية تُرحب بي.

وسماواتك تترقب مجيئي!

V      هب لي الحب نحو كل البشرية

فلا يبتهج قلبي لسقوط عدو لي من البشر،

لأنه ليس لي عدو حقيقي سوى إبليس نفسه.

أما البشر فجميعهم إخوتي.

فرّح قلبي بخلاصهم ونجاحهم.

V      انزع الشر عن الأشرار،

حتى لا ينطفئ سراجهم.

قدس حياتهم فلا يطلبوا ما للعالم،

بل ما هو لملكوتك الأبدي.

V      هب لي روح المخافة الربانية والتقوى.

فلا أخاف إنسانًا،

وبروح التواضع لا أشترك في عصيان أو نقد لاذع!

لكنني لا أمدح شريرًا على شره،

ولا أحابي الوجوه بسبب قرابة أو منفعة.

V      لتستلم بناء بيتي الداخلي،

فإنه ليس من يدٍ بشرية تقدر أن تقيمه،

إنما حكمتك الإلهية تضع أساساته وترتفع به.

يعلو حتى إلى السماء،

ويتمتع بسكناك فيه!

V      لتعمل يا حكمة الله فيّ،

ولتعمل حتى في الذين يقاومونني.

فإن ما أشتهيه هو خلاص الكل!

V      هب لي روحك الناري الدائم العمل،

فلا أتراخى ولا أتهاون،

ولا أطلب النوم والكسل!

بل أصير بك جمرًاٍ روحيًا متقدًا!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى