تفسير سفر الأمثال ٢٥ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ
الأمثال التي جمعها رجال حزقيا
دور الحكمة في حياة المؤمنين
يضم القسم الثاني من سفر الأمثال الذي يحوي خمسة إصحاحات (أم 25-29) ما جمعه رجال حزقيا الملك من أمثال لسليمان الحكيم. يرى القديس هيبولتيس الروماني أن أصدقاء حزقيا الملك نسخوا هذه الأمثال من تلك التي ورد عنها في سفر الملوك الأول أنه “تكلم بثلاثة آلاف مثل، وكانت نشائده ألفًا وخمسًا” (1 مل 4: 32)، وهي تحمل بنيانًا للكنيسة[809].
عالج هذا الأصحاح دور الحكمة في حياة المؤمنين:
أولاً: بالنسبة للقادة [1-7]: يلزمهم فحص الأمور بدقة، ولا يسيرون وراء الأشرار المنافقين المحيطين بهم.
ثانيًا: بالنسبة للأقرباء [8-9]: يليق بالمؤمن أن يحل مشاكله مع إخوته خارج دار القضاء ما استطاع (مت 5: 21-28). لتكن كلماته لائقة [11-12]، ومُعِينة [13]، ووعوده صادقة [14]. يعرف حدود انفتاحه على أقربائه [17]، ولا يكون محبًا للخصام [16]، كما يلزمه أن تكون له شخصيته المستقلة [19].
ثالثًا: بالنسبة للأعداء [21-22]: مارس إليشع محبة الأعداء (2 مل 6: 8-26)، وقدم لنا السيد المسيح نفسه مثلاً لمحبة الأعداء (لو 22: 49-51). وهكذا عاشت الكنيسة الأولى تمارس وصية محبة الأعداء (أع 7 59-60؛ رو 12: 20).
- جمع الأمثال 1.
- الملك والحكمة 2-7.
- عدم التسرع في الخصام 8.
- حفظ سرّ القريب 9-10.
- الكلمة الحكيمة 11-14.
- البطء في الغضب 15.
- الاعتدال في الطعام 16.
- الاعتدال في العلاقات الاجتماعية 17.
- شهادة الزور 18.
- عدم الثقة في الخائن 19.
- حزنًا مع الحزانى 20.
- محبة الأعداء 21-22.
- البشاشة 23.
- السلام العائلي 24.
- الخبر الطيب 25.
- محاباة الأشرار 26.
- المجد الباطل 27.
- ضبط النفس 28.
جمع الأمثال
هَذِهِ أَيْضاً أَمْثَالُ سُلَيْمَانَ،
الَّتِي نَقَلَهَا رِجَالُ حَزَقِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا: [1]
جُمعت هذه الأمثال بإرشاد روح الله القدوس بعد موت سليمان بثلاث قرون، قام بعض الكتبة “بنقلها“، أي بنسخها ونقلها كتابة. وقد دُعوا برجال حزقيا، وتدعوهم الترجمة السبعينية “أصدقاء حزقيا“.
كان حزقيا ملكًا صالحًا، رجل سلام وإصلاح، حدث في عهده تقدم في مجالات الفن والأدب، كما اهتم القادة والشعب بالحياة الدينية. فحيث يوجد القائد الصالح، تتمتع الرعية بسمة مقدسة وتهتم بخلاصها.
نعلم مما ورد في 2 أي 29: 25-30؛ 31: 21 أن حزقيا اهتم أن يعيد الترتيب الذي وضعه داود النبي لخدمة الهيكل، وقد كافأه الله على اهتمامه بحركة الإصلاح الدينية بأن اكتشف هذه المجموعة من الأمثال بعد أن ظلت مخفية لمدة ثلاثة قرون. وذلك كما أكتشف رجال يوشيا الصالح نسخة من التوراة (2 أي 34: 14-16).
يرى البعض أن هذه الإضافة تمت بإرشاد مثل إشعياء وهوشع وميخا.
- الملك والحكمة
مَجْدُ اللَّهِ إِخْفَاءُ الأَمْرِ
وَمَجْدُ الْمُلُوكِ فَحْصُ الأَمْرِ [2].
يليق بالملك أن يدرك أن أمور الله وحكمته وخطته لا يمكن الدخول إلى أعماقها كما هي. وكما يقول الرسول بولس: “يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء، لأنه من عرف فكر الرب، أو من صار له مشيرًا” (رو 11: 33-34؛ تث 29:29). لا تُفحص أمور الله، لأنه هو عالم بأسرار نفسه، أما الملك فيلتزم بفحص كل أمرٍ يمد يده إليه أو يفكر فيه بجدية ليكون قراره سليمًا. فمجد الملك ليس في سلطانه وأوامره، وإنما في فحص الأمور بروح الحكمة.
إذ يدرك الملك أن أمور الله لا تُفحص يمتلئ بمخافة الرب، ويضع في حسبانه أن فوق العالي من هو أعلى من الجميع، فيلتزم في كل تصرفاته بأن يتقي الله ويخشاه.
إذ أقام الله الإنسان المؤمن ملكًا صاحب سلطان يلزمه فحص الأمر، أي يمارس كل شيءٍ بعد دراسة عميقة لكلمة الله والتعرف على إرادة الله، حتى يصير موضع سروره. يقول السيد المسيح: “فتشوا الكتب، لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي” (يو 5: 39). كما يقول الرسول: “اجتهد أن تُقيم نفسك لله مُزكي، عاملاً لا يخزى، مفصلاً كلمة الحق بالاستقامة” (2 تي 2:15).
V تأملوا ما جاء في المزامير: “عجيبة جدًا هي معرفتك عني، ارتفعت، لا أستطيعها” (مز 139: 6). ويقول سليمان: “مجد الله إخفاء الأمر” (أم 25: 2). لذلك كثيرًا ما قررت أن أتوقف ولا أكتب. صدقوني، هذا ما فعلته. ولكن لكي لا أسبب لكم إحباطًا، ولئلا يقود صمتي الذين سألوني إلى عدم التقوى، ويستسلموا للجدل، ضغطت على نفسي لأكتب في اختصار ما أرسله الآن إلى قداستكم[810].
البابا أثناسيوس الرسولي
V حتى وإن كانت كل العقول تجتمع معًا لتبحث معًا، والألسنة تتعاون معًا لتنطق معًا، فكما قلت، لن يستطيع أحد أن يبلغ إلى نتيجة مرضية في هذا الأمر[811].
القديس باسيليوس الكبير
اَلسَّمَاءُ لِلْعُلُوِّ،
وَالأَرْضُ لِلْعُمْقِ،
وَقُلُوبُ الْمُلُوكِ لاَ تُفْحَصُ [3].
مع علو السماء وُهب للإنسان أن يفحص الكواكب خلال علم الفلك، ومع ما للأرض من عمق وُهب له أن يفحص ما في باطنها من كنوز كالمعادن والبترول الخ، أما قلب المؤمن الحقيقي المتحد بالله فلا يُمكن فحصه؛ إذ يقول السيد المسيح نفسه: “ها ملكوت الله داخلكم” (لو 17: 21). ويقول الرسول: “أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا” (2 كو 6: 16). فمن يقدر أن يفحص ملكوت الله، ويعرف دقائق هيكله الذي يقيم فيه الروح القدس؟
أَزِلِ الزَّغَلَ مِنَ الْفِضَّةِ،
فَيَخْرُجَ إِنَاءٌ لِلصَّائِغِ [4].
أَزِلِ الشِّرِّيرَ مِنْ قُدَّامِ الْمَلِكِ،
فَيُثَبَّتَ كُرْسِيُّهُ بِالْعَدْلِ [5].
تنقية الفضة من الزغل تعطي للصائغ أن يشكل إناءً فضيًا ثمينًا، وإزالة الشر من القلب، تجعل منه هيكلاً لروح الله واهب التقديس. وإزالة المشيرين الأشرار من قدام الملك تثبت عرشه بالبرّ. هذا ما فعله سليمان حيث أدان فعلة الشر من حوله قبل أن يبدأ عمله الملوكي (1 مل 2).
هذا أيضًا ما سيحدث في يوم الرب العظيم، حين يأتي ملك الملوك ويحطم إبليس ومملكته، ويلقى به وبجنوده وأتباعه في البحيرة المتقدة نارًا، ليعلن ملكوته السماوي الأبدي، ويتمجد في مختاريه إلى الأبد.
بنفس الروح يليق بالكنيسة أن تعزل الخبيث، وتنزع الخميرة الفاسدة لكي لا يفسد العجين كله.
هذا أيضًا ما يختبره المؤمن في حياته اليومية، حيث يلزم اقتلاع جذور الشر مع غرس الخير بعمل النعمة الإلهية. وكما يقول المرتل: “حد عن الشر، وافعل الخير وأسكن إلى الأبد” (مز 37: 27).
V لماذا قيل: “طوبى للكاملين طريقًا السالكين في شريعة الرب” (مز118: 1)؟ يحدد الكتاب هنا “السالكين” وليس “الذين سلكوا”، السالكين في عمل الخير، ويجدون متعتهم في القيام به… أما الذين يهربون من الشر… فلا يمكن مدحهم إذا استطاعوا أن يتجنبوا الخطية مرة أو مرتين إلا إذا تمكنوا من بترها نهائيًا من حياتهم… فإن كنا نريد الصلاح فلنبدأ بتجنب الشرور… “حد عن الشر واصنع الخير” (مز37: 27) يرسم لنا المزمور طريق الفضيلة… بعلم وفن… فالبعد عن الشر هو بداية الخير… إن طُلبت من البداية كمال الفضيلة لتراجعت قبل أن تبدأ[812].
القديس باسيليوس الكبير
لاَ تَتَفَاخَرْ أَمَامَ الْمَلِكِ،
وَلاَ تَقِفْ فِي مَكَانِ الْعُظَمَاءِ [6].
لأَنَّهُ خَيْرٌ أَنْ يُقَالَ لَكَ ارْتَفِعْ إِلَى هُنَا،
مِنْ أَنْ تُحَطَّ فِي حَضْرَةِ الرَّئِيسِ الَّذِي رَأَتْهُ عَيْنَاكَ [7].
يليق بالمؤمن ألا يدفع نفسه بنفسه للمثول أمام الرؤساء، ولا يشتهي مجالستهم من أجل نوال كرامة الناس.
عندما انفتحت قصور الأباطرة والعظماء أمام رجال الكنيسة باهتداء قسطنطين إلى الإيمان المسيحي، وُجد سباق آخر للهروب إلى البرية للتمتع بالجلوس مع الله في سكون البرية، كما فعل القديس أنبا أنطونيوس الكبير.
يقول السيد المسيح: “متى دُعيت من أحدٍ إلى عرسٍ فلا تتكئ في المتكأ الأول، لعل أكرم منك يكون قد دُعي منه، فيأتي الذي دعاك وإياه ويقول لك: أعطِ مكانًا لهذا، فحينئذٍ تبتدئ بخجلٍ تأخذ الموضع الأخير، بل متى دُعيت، فاذهب واتكئ في الموضع الأخير حتى إذا جاء الذي دعاك يقول لك: “يا صديق ارتفع إلى فوق. حينئذٍ يكون لك المجد أمام المتكئين معك. لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع” (لو 14: 7-11).
الكبرياء الذي يدفع الإنسان إلى تقديم نفسه في حضرة العظماء يحطم حياة الإنسان أمام نفسه كما أمام الغير، بل يستحق لوم الله له. أما من يتواضع في أعماقه بصدقٍ وإخلاص فيرفعه الله. وكما قالت القديسة مريم: “أنزل الأعزاء عن الكراسي، ورفع المتضعين” (لو 1: 52).
إن كان الذي يدفع نفسه لينال كرامات وأمجاد باطلة من العالم يستحق اللوم، فماذا إن كان المؤمن يدفع بنفسه في المجالات الروحية والدينية طالبًا المجد الزمني؟
V ليبحث المتكبر عن الممالك الأرضية ويحبها، ولكن “طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات”[813].
V لقد جلس الرب في منزل فريسي متكبر (لو 7: 36)، كما قلت إنه كان في منزله ولم يكن في قلبه، لكنه لم يدخل في منزل قائد المئة ومع ذلك فقد امتلك قلبه (مت 8: 8).
زكا أيضا قبل الرب في منزله وفي قلبه (لو 19: 6). وأما إيمان قائد المئة فقد مُدح بسبب تواضعه، لأنه قال: “لست مستحقا أن تدخل تحت سقفي”. فقال الرب: “الحق أقول لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيمانا بمقدار هذا” (مت 8: 10)، هذا بحسب الجسد، لأنه بالروح “إسرائيلي”. لقد جاء المسيح للإسرائيليين حسب الجسد أي لليهود باحثًا أولا عن الخراف الضالة بين هذا الشعب، آخذا جسده أيضا من هذا الشعب. لقد قال: “لم أجد إيمانا بمقدار هذا”. إننا نستطيع أن نقيس إيمان البشر كما يحكم البشر عليه، وأما الرب الذي يرى ما بالداخل، والذي لا يخدعه أحد، شهد لقلب هذا الرجل مستمعا لكلمات التواضع ومعلنا عبارة الشفاء[814].
V ما أن تتكبر حتى تفقد في الحال ما نلته[815].
القديس أغسطينوس
V يُوهب التواضع لكل شخص حسب درجة عظمته. الكبرياء مضر لكل أحدٍ. إنه يطلب أن يفسد بالذات من هم عظماء![816]
القديس چيروم
V يا للجنون؟ ألا يدرى هذا الإنسان المتكبر أن مجده يزول ويتبخر كالحلم، وأن العظمة والسلطان ليست هي إلا سرابًا خداعًا[817].
القديس باسيليوس الكبير
- عدم التسرع في الخصام
لاَ تَبْرُزْ عَاجِلاً إِلَى الْخِصَامِ،
لِئَلاَّ تَفْعَلَ شَيْئاً فِي الآخِرِ حِينَ يُخْزِيكَ قَرِيبُكَ [8].
يقدم لنا السيد المسيح مثلاً عمليًا في الحياة بخصوص عدم التسرع في الدخول في خصامٍ أو معارك مع الغير. يقول: “وأي ملكٍ إن ذهب لمقاتلة ملكٍ آخر في حرب،ٍ لا يجلس أولاً ويتشاور: هل يستطيع أن يلاقي بعشرة آلاف الذي يأتي عليه بعشرين ألفًا، وإلا فمادام ذلك بعيدًا يُرسل سفارة ويسأل ما هو للصلحِ” (لو 14: 31-32).
ارتكب يوشيا الملك هذا الخطأ، مع أنه عمـل المستقيم في عيني الرب (2 مل 22: 2)، إلا أنه إذ صعد فرعون نخو ملك مصر لمحاربة أشور، صعد يوشيا الملك لمحاربته، مع أنه لم يصعد فرعون لمحاربة يوشيا. دخل في معركة في مجدو انتهت بقتله (2 مل 23: 29-30).
يليق بالمؤمن ألا يلقي نفسه بنفسه في معارك كان يمكنه أن يتجنبها. لهذا طلب ربنا منا أنه متى حل اضطهاد في مدينة نهرب إلى أخرى، ليس خوفًا من الموت، ولا في جبنٍ وخنوعٍ، ولكن لكي لا ندفع أنفسنا بأنفسنا في تجربةٍ.
V إنه يترك لنا سلامًا وهو راحل، وسيقدم لنا سلامه عندما يأتي في النهاية. سلامًا يتركه لنا في هذا العالم، وسلامه سيهبنا في العالم الآتي. يترك لنا سلامه، وإذ نسكن فيه نهزم العدو.
سيهبنا سلامه عندما لا يوجد بعد أعداء نحاربهم فنملك كملوك.
سلامًا يترك لنا حتى نحب أيضًا بعضنا البعض هنا، وسيعطينا سلامه حين نكون فوق إمكانية حدوث نزاع.
سلامًا يتركه لنا حتى لا يدين الواحد الآخر فيما هو سرّ لكل منهما ونحن على الأرض؛ سيهبنا سلامه عندما “يُظهر آراء القلوب وحينئذ يكون المدح لكل واحدٍ من الله” (١ كو ٤: ٥). ومع هذا ففيه ومنه ننال السلام سواء الذي يتركه لنا وهو ذاهب عند الآب أو ما سيمنحنا إياه عندما يحضرنا إلى الآب.
وماذا يترك لنا عندما يصعد من عندنا سوى حضوره الذي لن يسحبه منا؟ فإنه هو سلامنا الذي يجعل كلاهما واحدًا (أف ٢: ١٤). لذلك يصير هو سلامنا، سواء عندما نؤمن بأنه هو، أو عندما نراه كما هو (١ يو ٣: ٢).
لأنه إن كان ونحن بعد في هذا الجسد الفاسد الذي يثقل على النفس ونسير بالإيمان لا بالعيان لا يترك الذين يرحلون وهم بعيدون عنه (٢ كو ٥: ٦–٧)، كم بالأكثر عندما نبلغ تلك الرؤية، سيملأنا بنفسه[818].
V السلام الذي يتركه لنا في هذا العالم يمكن بالأكثر لياقة أن يدعى سلامنا لا سلامه. لأنه إذ بلا خطية تمامًا ليس فيه أي عنصر من الخلاف نفسه. أما السلام الذي لنا هو الذي في وسطه لا نزال نقول: “أغفر لنا ما علينا” (مت ٦: ١٢)… إنه ليس بالسلام الكامل، إذ نرى ناموسًا آخر في أعضائنا ضد ناموس ذهننا (رو ٧:٢٢–٢٣)[819].
القديس أغسطينوس
- حفظ سرّ القريب
أَقِمْ دَعْوَاكَ مَعَ قَرِيبِكَ
وَلاَ تُبِحْ بِسِرِّ غَيْرِك [9].
لِئَلاَّ يُعَيِّرَكَ السَّامِعُ،
فَلاَ تَنْصَرِف فَضِيحَتُكَ [10].
ليس فقط لا يليق بنا أن نتسرع في الدخول في خصومة مع قريبنا، إنما يلزمنا أيضًا قبل أن نلجأ إلى القضاء أو إلى دخول طرف ثالث للمصالحة أن نلتقي معه سرًا، ونتكلم معه بروح الأخوة، فيشعر أننا نطلب المصالحة بروح الحب، وليس بتبرير أنفسنا والتشهير به.
دخول طرف ثالث أو الالتجاء إلى القضاء ربما يُلزمه أن يكشف أمورًا لم نكن نعرفها، فنصير في فضيحة. يوصينا السيد المسيح: “إن أخطأ إليك أخوك، فاذهب وعاتبه بينك وبينه. وحدكما. إن سمع منك، فقد ربحت أخاك. وإن لم يسمع، فخذ معك أيضًا واحدًا أو أثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة…” (مت 18: 15 الخ).
V كثيرًا ما يشير سليمان إلى “صديق” و”صداقة”. لهذا يليق بنا الآن أن نتطلع إلى ما يعنيه بالصداقة. يقول أن النعمة والصداقة يحرران. أيضًا يقول المخلص في الأناجيل لليهود الذين أمنوا به: “إن ثبتم في كلامي، فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق، والحق يحرركم” (يو 8: 31-32). مرة أخرى يقول بولس: “المسيح حررنا (افتدانا) من لعنة الناموس” (غل 3: 13)، فإن كانت الصداقة تحرر، فالمسيح هو الحق والصداقة. لهذا فإن كل الذين يقتنون معرفة المسيح هو أصدقاء لبعضهم البعض. ولهذا يدعو المخلص تلاميذه أصدقاء (يو 15: 15)، يوحنا المعمدان هو صديق العريس (3: 29)، وهكذا موسى (خر 33: 11)، وكل القديسين. وبفضل تلك الصداقة وحدها فإن الأصدقاءه هم أصدقاء بعضهم البعض[820].
القديس مار أوغريس
- الكلمة الحكيمة
تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ فِي مَصُوغٍ مِنْ فِضَّةٍ،
كَلِمَةٌ مَقُولَةٌ فِي مَحَلِّهَا [11].
يرى البعض أن الحديث هنا عن تفاحٍ جميل الشكل لونه ذهبي موضوع في طبق من الفضة. إنه منظر رائع! هكذا الكلمة الحكيمة المنطوق بها في وقتها المناسب.
لقد تحدثت راعوث مع بوعز بكلمات مملوءة نعمة وفي الوقت المناسب، فتحقق لها ما لم تكن تحلم به، أن يأتي السيد المسيح من نسلها.
ونطقت أبيجايل بكلمات حكيمة مع داود وقت ثورته، فمدحها وسمع لها (1 صم 25: 32).
لا يكفي أن ننطق بالحق، وإنما يلزم أن ندرك كيف نقدمه، ومتى ننطق به ولمن.
ما أحوجنا أن تكون الحكمة طبيعتنا في كياننا الداخلي مقترنة بتصرفاتنا وكلماتنا في الخارج، أي نحمل قدسية الإنسان الداخلي وقدسية الجسد أيضًا بأحاسيسه ومشاعره ومواهبه وكل طاقاته وسلوكه. هذه الحكمة (أو المعرفة أو الفهم) هي هبة إلهية.
V الروح القدس الذي فيه كل أنواع المواهب، يهب البعض كلمة حكمة.
V خلال قيادة الروح يأتي الإنسان إلى معرفة طبيعة كل الأشياء.
V أرسل نورك (مز3:43)؛ هذا النور المرسل من الآب إلى ذهن المدعوين للخلاص هو الفهم خلال الروح، الذي يقود استناروا بالله.
العلامة أوريجينوس
V ليست معرفة بدون إيمان ولا إيمان بدون معرفة .الابن هو المعلم الحقيقي.
القديس إكليمنضس السكندري
قُرْطٌ مِنْ ذَهَبٍ وَحُلِيٌّ مِنْ إِبْرِيزٍ،
الْمُوَبِّخُ الْحَكِيمُ لأُذُنٍ سَامِعَةٍ [12].
إن صدر التوبيخ من إنسان حكيم يحمل روح الحب والحنو، فإن هذا التوبيخ يُحسب كحلي وقرط ذهبي في الأذن، أي يُحسب توبيخه هدية ثمينة وجميلة.
يقدم لنا سفر أخبار أيام الثاني مثلاً رائعًا، وهو توبيخ النبي عوديد للجيش القادم من السامرة، حيث أخبرهم أن الغضب قد بلغ السماء بسبب سبيهم إخوتهم من يهوذا. وبالفعل ردوا المسبيين بعد أن أكرموهم، وقدموا لهم احتياجاتهم (2 أي 28: 9-15).
كَبَرْدِ الثَّلْجِ فِي يَوْمِ الْحَصَاد،ِ
الرَّسُولُ الأَمِينُ لِمُرْسِلِيهِ،
لأَنَّهُ يَرُدُّ نَفْسَ سَادَتِهِ [13].
كان من عادة الحصادين في منطقة الشرق الأوسط أن يضعوا ثلجًا في المشروبات أثناء الحصاد في الصيف لينعشهم، ويستطيعون ممارسة عملهم وسط الحر الشديد. هكذا ينعش الرسول الموثوق فيه نفوس الذين أرسلوه، إذ لا يشكون في أمانته.
الأمانة عنصر أساسي في المعاملات وسط أي مجتمع، فالزوج الأمين وأيضًا الزوجة والرئيس والمرؤسين هؤلاء وغيرهم متى كانوا أمناء في تقديم المعلومة المطلوبة منهم ينعشون المجتمع، كالثلج الذي ينعش من يعاني من شدة الحر.
وفي يوم الرب العظيم نسمع الصوت الإلهي: “نعمًا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينًا في القليل، فأقيمك على الكثير، أدخل إلى فرح سيدك” (مت 25: 21).
V الوكيل الذي يسيء تدبير أمور سيِّده ويفقد ممتلكاته يخاف من مواجهته، وعلى العكس الوكيل الذي يدبر أمور سيِّده حسنًا دائما يلتقي به ببهجة[821].
القدِّيس جيروم
V عندما يحل دورك في الخدمة أضف إلى عملك الجسماني كلمة نصيحة وتعزية محبَّة للذين تخدمهم، فتكون خدمتك المُملَّحة بملحٍ (كو 4: 6) مقبولة.
لا تسمح لآخر أن يمارس ما هو موكل إليك بحقٍ، لئلاَّ تُسحب منك المكافأة وتُعطى لآخر، فيغتني هو بثروتك، بينما تصير أنت في خزي.
مارس التزامات خدمتك برقَّةٍ وعناية، كمن يخدم المسيح. إذ يقول النبي: “ملعون من يعمل عمل الرب باسترخاء” (إر 48: 10).
خف، كما لو كانت عينا الرب عليك، فإن الانحراف يصدر عن التهاون والاستخفاف، حتى وإن بدا لك العمل المُمارس وضيعًا. عمل الخدمة هو عمل عظيم، يقود إلى ملكوت
القدِّيس باسيليوس الكبير
سَحَابٌ وَرِيحٌ بِلاَ مَطَرٍ،
الرَّجُلُ الْمُفْتَخِرُ بِهَدِيَّةِ كَذِبٍ [14].
متى عانى موقع ما من الجفاف ثم ظهرت سحابة، يترقب الكل باشتياق أن تهطل مطرًا عوض المعاناة من الجفاف، فإذا تبددت السحابة دون أن تسقط مطرًا يحل بالناس حالة من الإحباط وخيبة الأمل. هذا هو حال من يفتخر مؤكدًا أنه يقدم هدية، ولا يفي بما وعد به.
عندما كتب يهوذا الرسول عن المعلمين الذين يعدون سامعيهم بتقديم الحق الإنجيلي، لكنهم يعجزون عن تنفيذ ما يعدون بهم، اقتبس ما ورد في هذا العدد، وكتب عنهم أنهم “غيوم بلا ماء، تحملها الرياح؛ أشجار خريفية بلا ثمر، ميتة مضاعفًا مقتلعة” (يه 12).
- البطء في الغضب
بِبُطْءِ الْغَضَبِ يُقْنَعُ الرَّئِيسُ،
وَاللِّسَانُ اللَّيِّنُ يَكْسِرُ الْعَظْمَ [15].
أمران مهمان مطلوبان في التعامل مع الغير، وهما طول الأناة أو بطء الغضب، والكلمة اللينة اللطيفة. فبطول الأناة نطفئ ثورة غضب الآخرين دون أن نشتعل نحن بالغضب، وبهذا يمكننا في الوقت المناسب أن نحاور بهدوء، ونعطي الآخرين الفرصة لمراجعة أنفسهم.
وبالكلمة اللطيفة نكسر غضب الغير. ولعل من أجمل ما في العهد القديم موقف داود من شاول الملك. فقد نزل شاول إلى برية زيف ومعه ثلاثة آلاف رجل منتخبي إسرائيل ليفتش على داود ويقتله (1 صم 26:2). وعندما وجد داود شاول ومعه رئيس جيشه والشعب مضطجعون حوله، طلب أبيشاي أن يضرب شاول فيقتله دفعة واحدة، لكن داود رفض؛ وإنما أخذ الرمح الذي عند رأسه وكوز الماء وعبر إلى رأس الجبل عن بُعد، ووبخ أبنير لأنه لم يحرس الملك. عرف شاول صوت داود فقال: “أهذا هو صـوتك يا ابني داود؟” (1 صم 26: 17) قال له داود: “لأن ملك إسرائيل قد خرج ليفتش على برغوثٍ واحدٍ”. فقال شاول بعدما راجع إلى نفسه: “قد أخطأت. ارجع يا ابني داود، لأني لا أسيء إليك… هوذا قد حمقت وضللت كثيرًا جدًا…”
V لا يوجد شيء يفوق الحب، وبالتالي لا يوجد شيء أدنى من الغضب. يلزمنا ألا نهتم بشيء مهما بدا نافعًا وضروريًا حتى نتجنب الغضب الذي يسبب اضطرابًا، ولا نرتبك بالأمور حتى التي نحسبها ليست كمالية حتى نحفظ هدوء الحب والسلام بغير نقص، لأنه يلزمنا أن ندرك أن لا شيء مهلك مثل الغضب والتكدر، وليس شيء مفيدًا مثل الحب[822].
الأب يوسف
V سأل أخ شيخًا: إني أريد أن أستشهد من أجل الله. فأجابه “من احتمل أخاه في وقت الشدة، فذاك أصبح داخل أتون الثلاثة فتية”.
بستان الرهبان
V إن كان الشخص يغضب بكونه إنسانًا، فإنه يضع حدًا للغضب بكونه مسيحيًا.
V إن الكلمة الخارجة من الفم تخرج كحجر مرشوق باليد، هيهات عودتها أو ضبطها… فلهذا يلزم التأمل فيما سيقال قبل أن يخرج الكلام. لأنه بعد خروجه يكون التأمل فيه باطلاً.
القديس إيرونيموس
- الاعتدال في الطعام
أَوَجَدْتَ عَسَلاً؟
فَكُلْ كِفَايَتَكَ لِئَلاَّ تَتَّخِمَ فَتَتَقَيَّأَهُ [16].
تناول الطعام باعتدال نافع صحيًا وروحيًا، أما الإفراط في الأكل فضار. هكذا بالنسبة لكل احتياجات الجسم، فإن الإفراط فيها مهلك للجسد كما للنفس. ليس في الطعام خطية مادام يتم بالشكر والاعتدال.
عدم ضبط البطن يحول حلاوة العسل إلى غثيان للمعدة. وعدم ضبط اللسان يحول كلماتك الحكيمة عن تحقيق غايتها.
V ومع ذلك فأنا لست أعني أننا لا يجب أن نفكر في الله في جميع الأوقات، ولا داعي لأن يهاجمني خصومي بهذه الحجة، حيث أنهم دائمًا مستعدون للهجوم، فإننا يجب أن نتذكر الله أكثر مما نتنفس، بل يمكنني القول أنه لا يجب ألا نفعل شيئًا آخر غير ذلك، وأنا من أنصار المبدأ الذي يأمرنا بأن “نلهج نهارًا وليلاً” (مز 1: 2)، لنُخبر عن الرب “مساءًا وصباحًا وظهرًا” (مز 54: 17)، “لنُبارك الرب في كل حين” (مز 34: 1)، أو كما قال موسى “حين تمشي في الطريق، وحين تقوم، وحين تنام” (تث 6: 7)، أو عندما نعمل أي شيء آخر، وبهذا التَذكُّر لله نصبح أنقياء، وهكذا فإنني لست ضد التَذكُّر المستمر لله، بل ضد المناقشة المستمرة للاهوت، وأنا لا أُعارض اللاهوت – كأنه شيء ضد التقوى – ولكنني أُعارض مناقشته في وقت غير مناسب، ولست ضد تعليم اللاهوت، إلا عندما يتجاوز الحد، فإن الامتلاء والتخمة – حتى من العسل مع كل لذته – يسبب القيء (أم 25: 16)، ولكل شيء وقته كما أرى ويرى سليمان الحكيم، وما هو حسن ليس حسنًا إذا كان الوقت غير مناسب، فالزهور ليس وقتها بالمرة في الشتاء، وملابس الرجال لا تصلح للنساء، ولا ملابس النساء للرجال. ولا يليق الضحك المفرط أثناء الحِداد، ولا البكاء في حفل شراب. إذا كانت كل هذه لا تصلح لأنها في وقت غير مناسب، فهل نُهمل اختيار الوقت المناسب في مناقشة اللاهوت فقط، مع أن مراعاة الوقت المناسب لهذه المناقشة في غاية الأهمية؟[823]
القديس غريغوريوس النزينزي
V كما أن الاعتدال والبُعد عن الإسراف هما ابنا القناعة عادة، فإذا اعتاده إنسان استغنى عن كل ما هو كمالي وغير ضروري، وحتى لا يوجد انحراف أو سقوط في الاغراءات، مكتفيًا بما هو ضروري ولازم للصحة وللحياة المباركة حسب تعليم الكلمة السماوي له المجد. وليكن لبس النساء بسيطًا مهندمًا حسن الشكل، ولا جناح على استخدام الأقمشة الرقيقة، تلك التي لا تليق بالرجال، ولكن بما لا يجرح حياءهن، ويحملهن إلى الإسراف. كما يجب أن تتناسب الملابس مع السن والشخص والقوام والطبيعة والسلوكيات، لأن الرسول الإلهي ينصحنا بقوله: “بل البسوا الرب يسوع المسيح، ولا تصنعوا تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات” (رو 13: 14)[824].
القديس إكليمنضس السكندري
- الاعتدال في العلاقات الاجتماعية
اِجْعَلْ رِجْلَكَ عَزِيزَةً فِي بَيْتِ قَرِيبِكَ،
لِئَلاَّ يَمَلَّ مِنْكَ فَيُبْغِضَكَ [17].
مرة أخرى يتحدث عن الاعتدال في كل شيء، حتى في علاقاتنا مع أقربائنا. فمع محبتنا الشديدة لهم، يلزم أن نضع حدودًا في تصرفاتنا، فلا نضع أنفنا في حياتهم، ولا نسألهم في أمور شخصية، ولا نكون محبين للاستطلاع بالنسبة لحياتهم وتصرفاتهم؛ كما نضع حدودًا لزيارتنا، ومدة تصرفاتهم، ومدة الزيارة، مهما كان ترحيبهم بنا.
لنطل وقتنا في اللقاء سرًا مع الله والحديث معه، ولنقلل ما استطعنا اللقاء مع الناس والحديث معهم.
V أما عن الرسل والأنبياء،
فتصرفوا بحسب تعليم الإنجيل، هكذا:
اقبلوا كل رسول يأتيكم كالرب (مت ١٠: ٤٠).
غير أنه يجب إلاَّ يمكث أكثر من يوم،
وعند الضرورة يبقى يومًا آخرًا،
إذا بقي ثلاثة أيام فهو نبي كاذب[825].
الديداكية
- شهادة الزور
مِقْمَعةٌ وَسَيْفٌ وَسَهْمٌ حَادٌ،
الرَّجُلُ الْمُجِيبُ قَرِيبَهُ بِشَهَادَةِ زُورٍ [18].
شهادة الزور أو الافتراء على شخص يشبه مطرقة، يضرب بها الإنسان عقول الآخرين، أو مِدْرسًا يسحق ما هو تحته، أو سيفًا أو سهمًا يدمر. أما المؤمن فإنه وإن هوجم بالافتراء، فيحسب هذا بسماح من الله لتأديبه وتزكيته وكسب المفتري عليه.
عندما شتم شمعي بن جيرا داود، وكان يرشقه بالحجارة هو وعبيد الملك والجبابرة المحيطين به، قال أبيشاي للملك: “لماذا يسب هذا الكلب الميت سيدي الملك. دعني أعبر فأقطع رأسه” (2 صم 16:9). أما الملك الهارب من وجه أبشالوم ابنه فقال: “دعوه يسب، لأن الرب قال له سبَّ داود، ومن يقول لماذا تفعل هذا؟” وقال داود لأبيشاي ولجميع عبيده: “هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي، فكم بالحري الآن بنياميني. دعوه يسبّ، لأن الرب قال له” (2 صم 16: 11).
V من يُضرب بحجرٍ يذهب إلى طبيب، لكن ما هو أحدَّ من الحجر: ضربات الافتراء (تشويه السمعة). وكما يقول سليمان: شهادة الزور هي حرب بالهراوة وسيف وسهم حاد” (راجع أم 25: 18)، وجراحاتها قادر أن يشفيها الحق وحده. فإذا تدمر الحق، تصير الجراحات إلى أردأ فأردأ[826].
القديس أثناسيوس الرسولي
- عدم الثقة في الخائن
سِنٌّ مَهْتُومَةٌ وَرِجْلٌ مُخَلَّعَةٌ،
الثِّقَةُ بِالْخَائِنِ فِي يَوْمِ الضِّيقِ [19].
ينكشف الإنسان الذي ينال مركزًا هامًا للعمل ويُوثق فيه وهو خائن، فيُحسب كأنه أسنان مهتومة وأرجل مخلعة. فعوض أن يعين الغير يصير علة متاعب وقلاقل. أخطر مثل لذلك هو يهوذا الذي اُختير تلميذًا، وسُلم أمانة الصندوق، إذا به يخون سيده.
V سمع التلاميذ أن معلمهم يقتله اليهود فتألموا، وسمعوا أن واحدًا منهم يسلمه فتكدروا.
تُرى من يخرج من جوقة نور ربنا، ويمضي ويختلط مع الظلام بالرعب العظيم.
تُرى من يترك صحبة الشمس الحسنة الشعاع، ويسير في الطريق الممتلئة غيومًا وظلامًا.
من هو هذا الحمل الذي قلب نفسه فصار ذئبًا، وبدأ يعض الراعي الصالح.
السياسة غصبت بطرس أن يجحد الابن، وأما يهوذا فلم يغصبه أحد أن يسلم… ولما سأل يهوذا: لعلي أنا هو؟ أجابه الرب: أنت قلت. كمن يقول له: لم يغصبك أحد.
إن تقل: لماذا اختاره العارف بالكل وهو يعلم أنه غاش؟… اختاره وهو حسن وطاهر ولم يكن فيه عيب، إذ كان وديعًا ومستقيمًا. وبعد أن اختاره وهو لائق ومملوء صلاحًا تغََّير وأهلك صلاحه وصار مرذولاً…
ابن الله وعد يهوذا بالكرسي، ولما جحده أنزله وتركه للمشنقة…
إلى أين تترك كرسيك ومجدك يا أيها المختار؟ من يعطيك كرسيًا عاليًا كمثل الذي لك؟…
المرضى الذين شفيتهم يبكون عليك بمرارة؛ والبرص الذين طهرت ينحنون بسبب سقوطك.
ارتعبوا أيها المفرزون من القبلات الغاشة، لأن بقبلةٍ غاشةٍ واحدةٍ تعلق ابن الله على خشبةٍ.
الشيطان الذي علَّم يهوذا أن يسلم معلمه، عاد فعلَّمه أن يشنق نفسه، ليرث بالاثنين الهاوية التي تأهل لها.
القديس يعقوب السروجي
- حزنًا مع الحزانى
كَنَزْعِ الثَّوْبِ فِي يَوْمِ الْبَرْدِ،
كَخَلٍّ عَلَى نَطْرُونٍ،
مَنْ يُغَنِّي أَغَانِيَّ لِقَلْبٍ كَئِيبٍ [20].
لا تتحقق تعزية الحزين بأن نقدم له أغنية من الأغاني حتى وإن كان يحبها، ولا أن نطلب منه أن يغني كما فعل البابليون. فقد طلبوا من الإسرائيليين في أرض السبي أن يسبحوا لهم تسبحة من تسابيح الرب. وكما يقول المرتل: “على أنهار بابل هناك جلسنا. بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون. على الصفصاف علقنا قيثاراتنا، لأنه هناك سألنا الذين سبونا أقوال التسبيح، والذين استاقونا إلى هناك قالوا: سبحوا لنا تسبحة من تسابيح صهيون. كيف نسبح الرب في أرض غريبة؟” (مز 137: 1-4).
يقول الرسول: “فرحًا مع الفرحين، وبكاءً مع الباكين” (رو 12: 15). ويقول الحكيم “للبكاء وقت، وللضحك وقت، للنوح وقت، وللرقص وقت” (جا 3: 4).
من لا يراعي مشاعر الحزين ومكتئب القلب، فعوض مشاركته حزنه يغني، يكون كمن نزع ثياب إنسانٍ يعاني من البرد القارس، فيضاعف من تعبه، أو من وضع خلاً على نطرون فيتفاعل معه وتتولّد رغوة.
V إني أتألم وأحزن مع زملائنا المؤمنين الذين سقطوا وجحدوا الإيمان أثناء مرارة الاضطهاد، يسحبون جزءً من قلوبنا معهم، فسببوا لنا حزنًا مشابهًا بجراحاتهم[827].
القديس كبريانوس
V آلامنا هي هكذا قد بلغت إلى أقصى العالم المسكون، متى تألم عضو تتألم معه كل الأعضاء[828].
القديس باسيليوس
V المشاركة العامة في كل شيء، الأمور الصالحة والمحزنة، هي الطريق الوحيد لبلوغ كمال الشركة[829].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- محبة الأعداء
إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ خُبْزًا،
وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ مَاءً [21].
اقتبس الرسول بولس هذين العددين فيما عدا الشق الأخير، وذلك من الترجمة السبعينية (رو 12: 20).
يقدم إنسان الله حبًا مع العطية، فيلهب نار حب في رأس من يضايقه، محولاً غضبه وثورته إلى صداقةٍ وحب. وقد أوصانا السيد المسيح: “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم” (مت 5: 44).
فَإِنَّكَ تَجْمَعُ جَمْراً عَلَى رَأْسِهِ،
وَالرَّبُّ يُجَازِيكَ [22].
حينما نقدم للعدو الجائع طعامًا والعطشان شرابًا يلزم أن نهدف إلى توبته، مشتاقين أن يشاركنا حياتنا المملوءة حبًا لله والناس. هذه التوبة تشتعل في قلبه بنيران داخلية حسب مسرة الله. لكن البعض يقدمون الطعام والشراب بهدف الكبرياء واستصغار العدو أو تسفيهه، هذا ما لا يليق بالمؤمن.
V يعلمنا بولس الرسول في وضوح كامل أن الصدقة تُقدم لكل احد، إذ يقول: “فإذا حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع، ولاسيما لأهل الإيمان” (غل 6: 10). هذا واضح جدًا بما فيه الكفاية أن في أعمالٍ من هذا النوع تعطي الأولوية للأبرار (في العطاء).. هذا لا يعني أننا نغلق قلوبنا من نحو الآخرين حتى بالنسبة للخطاة، بل حتى الذين يحملون اتجاهًا عدائيًا نحونا. يقول المسيح نفسه، فوق الكل: “أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم” (لو 6: 27). هذا الأمر لم يعبر في صمت في العهد القديم، ها أنتم ترون أننا نقرأ فيه: “إن جاع عدوك فأطعمه خبزًا، وإن عطش فاسقه ماءً” هذا النص استخدمه الرسول في العهد الجديد (رو 12: 20)[830].
V هذه العبارة (الكتابية) تبدو أنها تأمر بارتكاب جريمة أو ممارسة رذيلة. لكنها هي حديث رمزي يوجهنا للمشاركة في آلام الرب… يقول الكتاب: “إن جاع عدوك فأطعمه خبزًا، وإن عطش فاسقه ماءٍ“. هذا بلا شك يأمر بالحنو ولكن التكملة هي: “فإنك تجمع جمرًا على رأسه” يمكنك أن تظن أنها تأمر بجريمة حقدٍ. فلا تشك في أنها تعبير رمزي. فمع إمكانية تفسيرها بطريقتين، بالواحدة تميل إلى الأذية، والتفسير الآخر يميل إلى المحبة الصالحة التي تستدعيه لتترك الأذية، وتلتصق بالحنو، فتفهم الجمر أنه مراثي التوبة النارية التي بها يُشفي كبرياء الشخص ويحزن أنه عدو لمن يهدئ من كربته[831].
القديس أغسطينوس
- البشاشة
رِيحُ الشِّمَالِ تَطْرُدُ الْمَطَر،َ
وَالْوَجْهُ الْمُعْبِسُ يَطْرُدُ لِسَاناً ثَالِبًا [23].
يليق بنا ألا نرحب ولا نشجع صاحب اللسان الثالب الذي ينهش أعراض الناس، وينقد الآخرين في غيابهم، بل نقابله كما بوجهٍ عابسٍ. بهذا لا يسترسل في أحاديته الهدامة.
يكرر سفر الأمثال ضرورة السلام والحب في الأسرة (أم 21: 9) وبين الأصدقاء، لأنه أمر خطير، بدونه تتحول الأسرة كما المجتمع إلى جحيمٍ لا يُطاق.
- السلام العائلي
السُّكْنَى فِي زَاوِيَةِ السَّطْح،ِ
خَيْرٌ مِنِ امْرَأَةٍ مُخَاصِمَةٍ فِي بَيْتٍ مُشْتَرِكٍ [24].
V لقد أمرنا أن نحب قريبنا كأنفسنا، لهذا فإن أول التزام للإنسان تحت تدبير الله هو محبة زوجته وأولاده. بهذا القول أود أن أؤكد أنكم تعرفون أن مسئولية الرجل – كما المرأة أيضًا – هي أهل بيتهما.
مادام الله قد وضع هذا النظام في البشرية ذاتها – أزواج وزوجات وأبناء – فمن المعقول أنه يجب علينا أن نتمم ناموس الحب في البيت أولاً. قبل كل شيء، من لهم فرصة أكثر ليختبروا حبنا وسلامنا وطول أناتنا عمن يعيشون معنا؟ من يلزمنا نطلب أن نحبهم أولاً بجانب أولئك الذين يمكننا أن نخدمهم ونهتم بهم بالأكثر؟
نعم قد نهتم بكل شيء لعائلاتنا من أجل راحتهم المادية والمقتنيات، لكننا أن فشلنا في تقديم حب الله لهم، فإن الرسول يظهر حقيقة قلوبنا، أنها أشر من غير المؤمنين (١ تي ٥: ٨). يقول هذا لكي يوقظ فهمنا، أن الله يرغب في أن يسيطر السلام السماوي على بيوتنا، نابعًا من المسئولين في حب للذين دُعوا للطاعة بمحبة.
لكي ندبر بيوتنا يلزم لمن يعطون أوامر أن يفعلوا هذا بتقوى، وليس بقسوة قلب، أو بنوعٍ من السلطة بغير فهمٍ ولا حنوٍ…
الإنسان البار، أي الذي يحيا بالإيمان، أشبه بمسافرٍ متجه نحو المدينة السماوية، والذين يقدمون توجيهات وأوامر بالحقيقة يخدمون الذين يبدو إنهم يُؤمرون…
إذ تمارسون السلطة لا تسقطوا في الكبرياء بسبب مركزكم بل بالحري مارسوا السلطة الروحية في بيوتكم. إنكم محكومون بحب الله الذي يشجع ويترجى ويصدق ولن يسقط (١ كو ١٣)[832].
القدِّيس أغسطينوس
V “لكن ينصحن الحدثات أن يكن محباتٍ لرجالهن” (تي 2: 4).
يقول الرسول بأن العجائز ينصحن الحدثات أن يحببن رجالهن، لأن رأس خيرات المنزل هو أن تكون الزوجة موافقة لرجلها. إن حدث هذا لا يوجد مكروه قط. لأنه كيف لا يوجد السلام عندما يتفق الجسد مع الرأس؟!… فإن وُجدت الرأس في سلام، من يستطيع أن ينزع السلام أو يمنعه؟… إن هذا أنفع للمنزل من الأموال وشرف الجنس والاقتدار…
بالمحبّة تزول كل مقاومة، فإن كان الرجل وثنيًا يقبل الإيمان سريعًا، وإن كان مسيحيًا يصير إلى حالٍ أفضل.
هل رأيت كيف يتنازل بولس الذي يعمل بكل جهده أن يبعدنا عن الدنياويات، معطيًا اهتمامًا عظيمًا فيما يخص حال المنزل؟ لأنه إن دُبّرت المنازل جيدّا وجدت الروحيّات مكانًا، وبدون المنزل السليم تعطب الروحانيّات…
فالمرأة إذ تكون متزوّجة رجلاً غير مؤمن ولا تكون فاضلة يستحيل ألا يُفترى علي الله بسببها، أما إذا كانت متزيّنة بالكرازة فإنها تربح الشرف من كرازتها وأعمالها الحسنة.
لتسمع النساء اللواتي رجالهن قساة أو غير مؤمنين وليتأدبّن، حتى يقدن إيّاهم إلى حسن العبادة. فإنك إن لم تربحيه أو تستميليه إلى مشاركتك في التعاليم المستقيمة تغلقين فمه ولا تتركينه يجدّف علي الديانة المسيحيّة. وهذا ليس بالأمر البسيط، لأن الديانة تُمدح بسبب تصرفاتنا.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
V من يتزوج يعرف كيف يندر أن نجد زوجة بدون هذه الأخطاء، لذلك فإن الخطيب العظيم Varius Geminus قال حسنًا: “الإنسان الذي لا يخاصم هو أعزب”. في الحقيقة: “السكنى في زاوية السطح خير من امرأة مخاصمة في بيت مشترك“. إن كان بيت مشترك بين زوج وزوجة يجعل الزوجة متكبرة، وتقدم استخفافًا بالزوج، فماذا لو كانت الزوجة هي الأكثر غني، والزوج لاجئًا في بيتها![833]
القديس جيروم
- الخبر الطيب
مِيَاهٌ بَارِدَةٌ لِنَفْسٍ عَطْشَانَةٍ،
الْخَبَرُ الطَّيِّبُ مِنْ أَرْضٍ بَعِيدَةٍ [25].
ما هو الخبر الطيب إلا مجيء السيد المسيح نفسه، كلمة الله، القادر أن يشبع النفس ويرويها بمياه حبه. إنه يفجر في داخلها ينبوع مياه حية، فتروي بدورها كثيرين بعمل روحه القدوس فيها وفيهم.
V يقول الكتاب المقدس: “كما أن المياه المُسرة لنفسٍٍ عطشانة” هكذا معرفة ربنا يسوع الواهبة الحياة للعقل الذي يحب المعرفة. لذلك ليتنا نسحب من الينابيع المقدسة، المياه الحية واهبة الحياة، المياه العقلية الروحية. لنأخذ ما يروينا ولا نتوقف عن الشرب. فإن في هذه الأمور الحاجة الدائمة للتثقيف فوق التصور والطمع ممدوح للغاية[834].
القديس كيرلس الكبير
- محاباة الأشرار
عَيْنٌ مُكَدَّرَةٌ وَيَنْبُوعٌ فَاسِدٌ،
الصِّدِّيقُ الْمُنْحَنِي أَمَامَ الشِّرِّيرِ [26].
تمتلئ نفس الإنسان البار والمستقيم حين يجد نفسه مُلزمًا أن يخضع لإنسانٍ شريرٍ فاسدٍ، فيكون كالمسافر الذي يرى عين ماء، فيجري إليها ليشرب، وإذا بها مملوءة بالقاذورات، أو يجد ينبوعًا فيجده مملوءً بالطحالب.
- المجد الباطل
أَكْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْعَسَلِ لَيْسَ بِحَسَن،ٍ
وَطَلَبُ النَّاسِ مَجْدَ أَنْفُسِهِمْ ثَقِيلٌ [27].
الإفراط في تناول العسل يضر المعدة، ويسبب غيثًا للإنسان، هكذا حال الإنسان الذي يعيش لا ليخدم الآخرين بالحب، وفي تواضعٍ داخليٍ حقيقيٍ، إنما يسعى وراء مجده الذاتي.
اهتزّ القدّيس يوحنا الذهبي الفم أمام طول أناة السيّد المسيح حتى في تعامله مع إبليس أثناء التجربة، إذ يقول: [لم يسخط ولا ثار، إنّما برقّة زائدة تناقش معه للمرة الثانية من الكتاب المقدّس… معلّما إيّانا أننا نغلب الشيطان لا بعمل المعجزات، وإنما بالاحتمال وطول الأناة، فلا نفعل شيئًا بقصد المباهاة والمجد الباطل[835].]
V كما أن المسيح “أخذ صورة عبدٍ” (في 2: 7) وغلب الشيطان بالتواضع، هكذا فإنه في البداية سقط الإنسان عن طريق الكبرياء والمجد الباطل بخداع الحيّة؟[836]
القديس مقاريوس الكبير
V ليس شيء مقبولاً لدى الله مثل أن يحسب الإنسان نفسه آخر الكل، هذا هو المبدأ الأول للحكمة العمليّة، فإن المتواضع والمجروح في قلبه لا يحب المجد الباطل، ولا هو بغضوب، ولا يحسد قريبه، ولا يلجأ إلى أية شهوة[837].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
V لنوقف هذا التعالي الفاقد للشعور والباطل، هذا الذي ينبع عن حب المجد الباطل أصل الكبرياء. فإن رغبة السيطرة على الآخرين، والنزاع لبلوغ هذا الأمر، يجعل الإنسان بالحق ملومًا، مع أنه لا يخلو تمامًا مما يستحق المديح. فإن السمو في الفضيلة يستحق التقدير (التكريم)، لكن الذين يريدون بلوغ هذا يلزمهم أن يكونوا متواضعي الفكر، لهم مشاعر متواضعة، لا يطلبون أن يكونوا الأولين وذلك خلال حبهم للإخوة. هذا ما يريده فينا الطوباوي بولس، إذ كتب: “مقدمين بعضكم بعضًا في الكرامة” (رو 12: 10). هذه المشاعر يتأهل لها القديسون وبها يتمجدون، إذ تجعل تقوانا نحو الله مكرمة، وتمزق شبكة خبث إبليس وتحطم فخاخه المتعددة، وتخلصنا من حفرة الفساد، وتجعلنا كاملين في التشبه بالمسيح مخلص جميعنا. أنصت، كيف يضع نفسه أمامنا مثالاً للفكر المتواضع وللإرادة التي لا تطلب المجد الباطل، إذ يقول: “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29)[838].
القديس كيرلس الكبير
- ضبط النفس
مَدِينَةٌ مُنْهَدِمَةٌ بِلاَ سُور،ٍ
الرَّجُلُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى رُوحِهِ [28].
من لا يضبط نفسه، كيف يمكنه أن يضبط أسرته أو مرؤوسيه. الإنسان الحكيم الفاضل يهتم أولاً أن يضبط أعماقه، فيكون كمدينةٍ محصنةٍ، لا يقدر عدو الخير أن يتسلل إليه ويفترسه.
V أما الذين يدمنون كثرة الكلام فعليهم أن يلاحظوا بدقة كم هم بعيدون عن الطريق المستقيم عندما يسرفون في خضم من الكلمات. إن العقل يسلك كالماء. فعندما نحيط الماء بسياج، يرتفع إلى مستويات عليا وهو يتصاعد إلى نقطة الارتفاع التي منها انحدر. أما عندما نطلقه ويتهدم السياج، فإنه يتبعثر في كل اتجاه، ويخترق كل المستويات السفلية. وهكذا بالحقيقة يضيع كل الكلام الزائد كالماء عندما يتحرر من رقابة الصمت، ويُحمل العقل عبر قنوات عديدة ويتوه، وبالتالي يفقد القوة التي بها يمكن أن يعود داخليًا للمعرفة الذاتية، لأنه يتشتت بسبب كثرة الكلام والثرثرة، ويحيد عن مواقع التأمل السري في القلب. وهنا يُعَرِض العقل نفسه للجراحات المصوبة من العدو الذي يترصد به، لأنه لم يحط نفسه بسياج من اليقظة. وهكذا كُتِبَ بالأمثال: “مدينة منهدمة بلا سور، الرجل الذي ليس له سلطان على روحه.” (أم 25: 28).
إن قلعة العقل التي بلا سور من الصمت تتعرض لسهام العدو، وعندما ينبعث الكلام من أسوار القلعة ويضربها تتعرض للعدو علانية فيهزمها دون ما تعب، إذ ينهزم العقل الثرثار حيث يحارب نفسه بنفسه بكثرة الكلام[839].
البابا غريغوريوس (الكبير)
من وحي أمثال 25
ليقودني روحك في الطريق الملوكي!
V يا لحبك العجيب، يا ملك الملوك.
تود أن تقيم من البشرية ملوكًا وقادة.
تكشف لهم عن أسرارك التي لا يُمكن لعقلٍ بشريٍ أن يفحصها.
تهبهم روحك واهب الحكمة،
فلا يسلكون في الطريق بغير حكمة.
يفحصون الأمور ويزيلون الزغل،
يصيرون آنية فضة بهية ومكرَّمة.
V في حضرتك نغرف من فيض تواضعك،
فنسلك بروح التواضع الحقيقي،
ولا يتسلل الكبرياء أو حب المجد الباطل إلى أفكارنا.
V بك نلتزم بالسلام إن أمكن مع الجميع.
نود المصالحة مع كل احد،
يا من صالحت الأرضيين مع السمائيين،
والشعب مع الشعوب، والنفس مع الجسد!
V تقدس أعماقنا مع كلماتنا وتصرفاتنا…
فلا ننطق بكلمة في غير محلها.
ولا يتسيب لساننا للكلام بلا ضابط،
بل نقدم كلماتنا كتفاح من الذهب في إناء فضي لامع!
بك لا تخرج كلمة من أفواهنا إلا وتفوح منها رائحة الحب!
V هب لنا روح الأمانة في القليل كما في الكثير.
نكون أمناء في كلماتنا وسلوكنا،
ونكون أمناء في وعودنا.
لا ننطق بشهادة زور للانتقام،
ولا نخون أحدًا مهما كان سلوكه معنا.
V هب لنا الشركة في طول أناتك!
فلا يثور فينا الغضب بلا ضابط،
ولا يفلت لساننا بكلمات جارحة.
V هب لنا روح الاعتدال في كل شيء.
نأكل باعتدال، فلا نتقيأ ما نأكله حتى وإن كان عسلاً.
لا نبالغ في زيارتنا لإخوتنا!
V ليئن قلبنا مع أنات قلوب إخوتنا.
ولنشارك الفرحين أفراحهم في الرب.
لنحب حتى المقاومين لنا،
ونقدم لهم كل احتياجاتهم ما استطعنا.
فنجمع جمر نار التوبة في أفكارهم،
وينضمون بالحب معنا في ملكوتك!
V ليحل سلامك في قلوبنا،
وليملأ الحب بيوتنا،
وتتحول أرضنا إلى سماواتك!
أنت هو الخبر الطيب السماوي!
نزولك إلينا صار مياها باردة، تروي نفوسنا الظمآنة.
تعال أيها السماوي القدوس، ولتسكن في قلوبنا،
فتصير أعماقنا مدينتك الحصينة!
تفسير أمثال 24 | تفسير سفر الأمثال | تفسير العهد القديم |
تفسير أمثال 26 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر الأمثال | تفاسير العهد القديم |