إسحق


أخيراً؛ جاء الوقت الذي حقق الله فيه وعده لإبراهيم، وافتقد الرب سارة كما قال، وفعل الرب كما تكلم، فحبلت سارة وولدت ابناً الإبراهيم في شيخوخته، في الموعد الذي تكلم الله عنه. كان الملاك قد قال لإبراهيم: “في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابن” (تك 18:14 )، وتحقق الوعد تماماً كما قال الله، فإنه لا يخلف الميعاد ولو ظهر للناس أن وعده مستحيل. وكان إبراهيم ابن مئة سنة. وكانت سارة ابنة تسعين سنة. لكن الله حقق وعده بالرغم من هذا كله.

عندما كان عمر إسحق ثمانية أيام ختنه إبراهيم حسب أمر الله وكان الختان علامة عهد في جسد إسحق، تُظهر أن إسحق ابن للرب وملك له. وبعد أن كبر فطمته أمه سارة، وصنع إبراهيم وليمة عظيمة یوم فطامه.

وجاءت مشكلة على إبراهيم وعلى بيته بسبب زواجه القديم من هاجر، فقد رأت سارة أن إسماعيل ابن هاجر يمزح مع إسحق، نحن لا نعلم بالضبط ماذا كان إسماعيل يفعل، ولكن السخرية من الأخ الصغير تصرف طبيعي، فقبل ولادة إسحق كان إسماعيل صاحب المكان الأول في البيت، ولكن الاهتمام كله تحول منه إلى إسحق، وملأت الغيرة قلب إسماعيل. وخافت سارة من أن يرث إسماعيل ضعف ميراث إسحق، فطلبت من إبراهيم أن يطرد هاجر، فطردها.

ويكبر إسحق ويطلب الرب من إبراهيم أن يقدمه ذبيحة، وفي نقطة ما على جبل المُريّا، ويرجَّح أنها البقعة التي بني عليها المذبح في هيكل سليمان فيما بعد، كاد إبراهيم أن يقدم ابنه ذبيحة، ولكن الله منعه من تقديم هذه الذبيحة، فقدم إبراهيم كبشًا عوض إسحاق ابنه (تك 22: 1- 13). وبهذا أظهر الله لإبراهيم في وضوح وإبانة أنه لا يطلب تقديم الأولاد ذبائح كما كان يفعل الكنعانيون في ذلك الحين.

كان الأب في زمن إبراهيم يهتم كل الاهتمام بتربية ابنه؛. وكان الواجب الأخير على الأب أن يزوج ابنه. وقد آراد إبراهيم أن يقوم بالواجب الأخير من نحو ابنه إسحق؛ فدعا وكيل بيته وطلب منه آن يبحث عن زوجة لإسحق الذي كان قد بلغ الأربعين من العمر؛ فأمره أن يذهب إلى مدينة ناحور بحاران (تك 19). وهنا طلب من وكيله طلبّيْن: طلب أن لا تكون زوجة إسحق من بنات كنعان؛ حيث كان يسكن؛ لأنه كان يريد أن يحفظ إيمان ابنه الذي قبله من اللّه. وهو يخشى أن يعبد إسحق الأصنام لو تزوج واحدة من بنات كنعان. ثم طلب منه أن لا يرجع أبدًا بإسحق إلى الأرض التي خرج إبراهيم منها لأنه يريده أن يبقى في أرض الموعد. قال إبراهيم لوكيله:”«احْتَرِزْ مِنْ أَنْ تَرْجعَ بِابْنِي إِلَى هُنَاكَ. اَلرَّبُّ إِلهُ السَّمَاءِ الَّذِي أَخَذَنِي مِنْ بَيْتِ أَبِي وَمِنْ أَرْضِ مِيلاَدِي، وَالَّذِي كَلَّمَنِي وَالَّذِي أَقْسَمَ لِي قَائِلاً: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، هُوَ يُرْسِلُ مَلاَكَهُ أَمَامَكَ، فَتَأْخُذُ زَوْجَةً لابْنِي مِنْ هُنَاكَ. وَإِنْ لَمْ تَشَإِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَتْبَعَكَ، تَبَرَّأْتَ مِنْ حَلْفِي هذَا. أَمَّا ابْنِي فَلاَ تَرْجعْ بِهِ إِلَى هُنَاكَ»‏”(تك 24: 6-8)

سمع وكيل إبراهيم طلباته وسأل: «رُبَّمَا لاَ تَشَاءُ الْمَرْأَةُ أَنْ تَتْبَعَنِي إِلَى هذِهِ الأَرْضِ. هَلْ أَرْجعُ بِابْنِكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي خَرَجْتَ مِنْهَا؟» (تك 24: 5). إنه يريد أن يكون تصرفه سليمًا؛ وهو يعلم آنه من الصعب أن تترك الفتاة بلادها وتحضر إلى بلاد بعيدة غريبة عليها. لكن إبراهيم كان واثقًا تمام الثقة في إلهه؛ فقال إن الله سيرسل ملاكه ليدبر. لقد اختبر إبراهيم الله الذي يرى ويدبر.

يرى البعض أن إبراهيم فعل ذلك خوفًا على إسحق من أن يعبد الأصنام إن تزوج واحدة من الغرباء؛ بالإضافة إلى أن إبراهيم أراد أن يحتفظ بنقاء الدم في أسرته. لقد رأى إبراهيم فساد وخلاعة وانحلال بنات الكنعانيين؛ وشعر بوحدة ابنه اسحق وبضرورة زواجه لاسيما بعد آن ماتت أمه؛ وكان أول ما فكر فيه إبراهيم هو “الأسرة” التي ينبغي أن يتزوج منها اسحق.

أَخَذَ الْعَبْدُ عَشَرَةَ جِمَال مِنْ جِمَالِ مَوْلاَهُ، وَمَضَى وَجَمِيعُ خَيْرَاتِ مَوْلاَهُ فِي يَدِهِ. فَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى أَرَامِ النَّهْرَيْنِ إِلَى مَدِينَةِ نَاحُورَ…. آرام؛ لفظه في الآكادية “أرامو” وربما كان معناه “الأرض المرتفعة” وهي دويلة من أرض أرام النهرين (تك 24: 10 ‎)‏ والنهران هما دجلة والفرات.

ما أن فرغ اليعازر الدمشقي من حديثه الإيماني مع الله (تك 24: 12 -15)‏ حتى وجد الاستجابة الفورية؛ فقد ظهرت رفقة حفيدة ناحور أخي إبراهيم عند الماء جاءت لتستقي؛ وقد امتازت بجانب جمالها الجسدي بلطفها في الحديث ومروءتها؛ فإذ طلب الرجل أن تسقيه ماء من جرتها حتى أسرعت وأنزلت جرتها على يدها لتسقيه وتطلب منه أن تسقى جماله دون أن يطلب منها. لقد رآت عليه علامات الإرهاق؛ فاشتاقت أن تخدمه لتمارس حبها لاستضافة الغرباء. وهنا فهم اليعازر الدمشقي أن الرب وفقه في مهمته؛ وأنجح طريقه.

ثم أن الفتاة دعته ليذهب معها إلى بيتها. وأسرعت تحكي لهم في  البيت عن الضيف الغريب. وسمع أخوها لابان القصة؛ فأسرع خارجًا يطلب من الضيف أن يآتي معه إلى بيته. وفي البيت رفض الرجل أن يأكل حتى يحكي عن الموضوع الذي جاء من أجله. حكى كل حكايته عن طلب سيده إبراهيم؛ وعن صلاته عند البئر؛ وعن رفقة التي سقته وسقت الجمال آيضًا. وفي حديثه تكلم عن نفسه بتواضع؛ ثم تكلم عن إبراهيم بمحبة وفخر. وخ نهاية حديثه قدم لأهل رفقة فرصة الاختيار، وهو يقول: “وَالآنَ إِنْ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعْرُوفًا وَأَمَانَةً إِلَى سَيِّدِي فَأَخْبِرُونِي، وَإِلاَّ فَأَخْبِرُونِي لأَنْصَرِفَ يَمِينًا أَوْ شِمَالاً». فَأَجَابَ لاَبَانُ وَبَتُوئِيلُ وَقَالاَ: «مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ خَرَجَ الأَمْرُ. لاَ نَقْدِرُ أَنْ نُكَلِّمَكَ بِشَرّ أَوْ خَيْرٍ.هُوَذَا رِفْقَةُ قُدَّامَكَ. خُذْهَا وَاذْهَبْ. فَلْتَكُنْ زَوْجَةً لابْنِ سَيِّدِكَ، كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ»” (تك 49:24-51). ومرة ثالثة صلى وكيل إبراهيم صلاة شكر للّه. ثم أعطى هدايا لأهل رفقة. ووافقت رفقة على السفر فورًا إلى إسحق.

لماذا وافقت رفقة على السفر؟

يمكن أن نرى الأسباب انتي دفعت رفقة على أن تقبل السفر إلى بلاد بعيدة لتتزوج ابن عمها الذي لم تره من قبل. لقد رأت يد الرب التي رتبت الموضوع كله؛ وعلمت أنه من عند الرب خرج الأمر. وما دام اللّه قد رتب كل شيء فإنها تقبل الترتيب الإلهي. ثم كانت الهدايا التي قدمها وكيل إبراهيم سببًا جذبها إلى إسحق. إنها تتزوج من رجل قادر
أن يدبر احتياجاتها كلها. وكانت أخبار عمها إبراهيم وابن عمها اسحق من زمان، قصة جميلة سمعتها بشوق وها قد جاء الوقت الذي تذهب فيه لترى إبراهيم وإسحق بنفسها.

وسارت القافلة حتى وصلت إلى أرض كنعان؛ وهناك كان إسحق يتأمل في الحقل… كان يصلي ويتأمل. لعله كان يفكر في أن يدبر الله له الزوجة الصالحة. وما إن رأته رفقة حتى نزلت من على الجمل، ووضعت البرقع على وجهها علامة الاحترام؛ وأخذها إسحق إلى خباء سارة أمه وأحبها وتعزى بها بعد موت أمه.

“وَكَانَ إِسْحَاقُ ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمَّا اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ زَوْجَةً، رِفْقَةَ بِنْتَ بَتُوئِيلَ الأَرَامِيِّ، أُخْتَ لاَبَانَ الأَرَامِيِّ مِنْ فَدَّانَِ أَرَامَ. وَصَلَّى إِسْحَاقُ إِلَى الرَّبِّ لأَجْلِ امْرَأَتِهِ لأَنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا، فَاسْتَجَابَ لَهُ الرَّبُّ، فَحَبِلَتْ رِفْقَةُ امْرَأَتُهُ. وَتَزَاحَمَ الْوَلَدَانِ فِي بَطْنِهَا، فَقَالَتْ: «إِنْ كَانَ هكَذَا فَلِمَاذَا أَنَا؟» فَمَضَتْ لِتَسْأَلَ الرَّبَّ. فَقَالَ لَهَا الرَّبُّ: «فِي بَطْنِكِ أُمَّتَانِ، وَمِنْ أَحْشَائِكِ يَفْتَرِقُ شَعْبَانِ: شَعْبٌ يَقْوَى عَلَى شَعْبٍ، وَكَبِيرٌ يُسْتَعْبَدُ لِصَغِيرٍ».(تك25: 20-23).

هذان الولدان يمثلان شعبين» شعب إسرائيل (يعقوب) وشعب آدوم (عيسو). شعبان يتزاحمان ويتقاتلان وسيفوز الأصغر على الأكبر، رغم أن الشرع اليهودي يعطي الأكبر ميراث أبيه ويجعله يتسلط على اخوته: إلا أن يعقوب سيفوز بحق البكورية وسيرث اسم أبيه. ويفسر الكتاب هذا الخروج عن القاعدة فيلجاً إلى ثلاثة أسباب: الأول كلام الرب (تك 25 :21-23)؛ والثاني: شراء يعقوب حق البكورية من أخيه عيسو بطبق من الطعام (تك 25 :29-34)؛ والثالث: بركة إسحق لابنه يعقوب يوم قدّم له الطعام بدل أخيه عيسو (تك1:27 ) ‎٠

عيسو كان الكبير. وكانت إرادة الله هي “وَكَبِيرٌ يُسْتَعْبَدُ لِصَغِيرٍ”(تك 25: 23) كان عيسو الأول في ولادته. ولكن يحدث أحياناً في مشيئة الله: “وَلكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَالآخِرُونَ أَوَّلِينَ” (مر 10: 31)‏ وهذا ما حدث مع عيسو ويعقوب.

يذكر القديس بولس في رسالته إلى رومية فيقول “أَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلاَ فَعَلاَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الاخْتِيَارِ، لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو، 12قِيلَ لَهَا:«إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِيرِ». كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ».”  (رو9: 11-13): وهذا يتفق مع ما ورد في سفر ملاخي “أَحْبَبْتُكُمْ، قَالَ الرَّبُّ. وَقُلْتُمْ: بِمَ أَحْبَبْتَنَا؟ أَلَيْسَ عِيسُو أَخًا لِيَعْقُوبَ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ، وَجَعَلْتُ جِبَالَهُ خَرَابًا وَمِيرَاثَهُ لِذِئَابِ الْبَرِّيَّةِ؟” (ملا 1: 2 ،3 ): وهذا يعني أن خلاص البشرية ليس وليد أعمال بشرية؛ بل وليد مخطط الله. رفض الله عيسو بسبب احتقاره لعطية الله واختار يعقوب.

كيف هذا يا رب؟ كيف يُستعبّد الكبير للصغير؟ طالما هو البكر فهو السيد. فهل سيفقد البكورية؟ وكيف يكون ذلك؟ يجيب الرب: اتركوا هذه الأمور لي: سأعالجها بطريقتي الخاصة:؛ الهادئة الصالحة. ومرت الأيام والسنون… أين يا رب وعدك؟ يجيب: انتظروا ؛ سيتم كل شيء في حينه؛ في ملء الزمان.

ثم جاء اليوم الذي طلب فيه إسحق صيداً من ابنه عيسو؛ لكي يباركه. وكان قد وضع ثقته في عيسو ليعد له الوليمة؛ والتي فيها ستكون أهم بركة على الإطلاق من نصيبه ؛ وهنا لم تستطع رفقة أن تحتمل؛ فقدمت حيلة بشرية لإبنها يعقوب ليأخد بها البركة عن طريق خداعة لأبيه…

السعي للبركة بالطرق البشرية:

من الواضح أن إسحق ورفقة؛ فقدا الحب الذي كان يربطهما معًا في مستهل حياتهما الزوجية (تك 24: 67): وعلى الرغم من أنهما ظلا زوجين؛ إلا أن كل واحد منهما كان ينهج طريقه الخاص؛ كل منهما يحاول آن يستقطب ابنه تجاهه؛ وكل منهما يريد أن يعطي البركة للشخص المنحاز إليه.

لماذا أسرعت رفقة؟ ولماذا لم تنتظر الرب؟ ولماذا لجآت إلى الطرق البشرية الخاطئة التي لا تتفق مع مشيئة الله الصالحة؟ إنها حُمى الإسراع وعدم انتظار ملء الزمان… وعلى الرغم من أن هذا التسرع يتضمن مخاطر كثيرة في حالة اكتشافه؛ لكنها دبرت الخطة بعناية؛ وكانت مستعدة لتحمل العواقب في حالة إخفاقها (تك 24: 13)،‏ وماذا كانت النتيجة؟ كانت سنوات طويلة من المتاعب والآلام؛ قضاها يعقوب شريدًا هاربًا وخائفاً من أخيه. ومتعبًا من معاملة لأبان السيئة وخداعة له. وقد سجل يعقوب ملخص حياته هذه بقوله: “أَيَّامُ سِنِي غُرْبَتِي مِئَةٌ وَثَلاَثُونَ سَنَةً. قَلِيلَةً وَ رَدِيَّةً كَانَتْ أَيَّامُ سِنِي حَيَاتِي، وَلَمْ تَبْلُغْ إِلَى أَيَّامِ سِنِي حَيَاةِ آبَائِي فِي أَيَّامِ غُرْبَتِهِمْ” (تك 47: 9). بالإضافة إلى أن رفقة دفعت الثمن بأنها لم تر وجه إبنها مرة أخرى بعد ذلك.

والعجيب أن التزاحم استمر بين هذين الأخوين..! ليس فقط في من يخرج أولاً من بطن آمه.. إنما أيضًا كان لهما تزاحم حول البكورية لمن تكون؟ وتزاحم آخر حول البركة. من الذي يسبق فيأخذها من أبيهما إسحق؟.. بل صار فيما بعد تزاحم بين نسلهما. ولعل هذا ما قصده الرب لرفقة «فِي بَطْنِكِ أُمَّتَانِ، وَمِنْ أَحْشَائِكِ يَفْتَرِقُ شَعْبَانِ: شَعْبٌ يَقْوَى عَلَى شَعْبٍ، وَكَبِيرٌ يُسْتَعْبَدُ لِصَغِيرٍ» (تك 25: 23) فأولاد يعقوب هم شعب إسرائيل. وأولاد عيسو أدوم؛ لأن عيسو “دعي اسمه أدوم” (تك 25: 30).. يمكن لمن يبحث التاريخ أن يتتبع الحروب بين بني إسرائيل وبني أدوم. ولعلنا هنا نشير فقط إلي قول المزمور “اُذْكُرْ يَا رَبُّ لِبَنِي أَدُومَ يَوْمَ أُورُشَلِيمَ، الْقَائِلِينَ: «هُدُّوا، هُدُّوا حَتَّى إِلَى أَسَاسِهَا».“. (مز 137: 7)

سيتعقب يعقوب آخاه عيسو ويتغلب عليه فيسلب منه بركة أبيه ويحصل على حق البكورية كاملاً بفضل تدخل أمه. هذا التفوق من جانب يعقوب يمثل مقدمة لتفوق بني إسرائيل على بني آدوم فيما بعد على طول التاريخ.

هنا يعقوب نال البركة بالخدعة؛ وبقي أن يواجه نتائجها. وأولى النتائج هو انكشاف الخدعة بعودة عيسو.. ولا شك أن يعقوب ورفقة كانا يعلمان أن عيسو سيعود من صيده؛ ويقدم طعامًا لآبية ويطلب بركته؛ وتتكشف اللعبة.. ولكن لابد أنهما كانا يعلمان أيضًا أن البركة حينما تُعطى لا يمكن أن تُسحب “لأَنَّ هِبَاتِ اللهِ وَدَعْوَتَهُ هِيَ بِلاَ نَدَامَةٍ.” (رو11: 29)‏ حتى إن كنا غير أمناء؛ فهو يبقي أميناً (2تي 2: 13). وهو قد قال منذ الحبل بيعقوب وعيسو: وكبير يستعبد لصغير؛ فلابد أن هذا يتم..

عاد عيسو ؛ وصنع أطعمة لأبيه؛ وطلب بركته. فسأله إسحق من أنت؟ فأجاب “” (تك 27: 33). اكتشف انه وقع في خدعة؛ وأن يعقوب “أتي بمكر وأخذ البركة”.. ولكن كيف يمكن أن يحدث هذا؟! هل من المعقول أن يسمح الله بأن تعطي البركة لمن لا يستحقها؟! وهل ستثبت البركة التي أخذها يعقوب؟ طبعًا سوف تثبت. ولكن كيف؟!

وهنا بدأ ذهن إسحق يجول في أعماق بعيدة.. ويقيناً أنه تذكر في تلك اللحظات الكلام الذي قال الله لرفقة في وقت حبلها “فِي بَطْنِكِ أُمَّتَانِ، وَمِنْ أَحْشَائِكِ يَفْتَرِقُ شَعْبَانِ: شَعْبٌ يَقْوَى عَلَى شَعْبٍ، وَكَبِيرٌ يُسْتَعْبَدُ لِصَغِيرٍ” (تك 25: 23). كان قد نسي هذه النبوءة في شيخوخته.. وعاد ليتذكر الآن.. إذن فقد كان على وشك آن يعطي البركة لعيسو؛ ولكن الله صحح له هذا الخطاً؛ ولم يسمح لإسحق أن يقع فيه. فالبركة هي ليعقوب. وقال إسحق “نعم مبارك” (تك 27 :23). وعلى الرغم من خداع يعقوب فقد ظلت البركة له؛ دون أخيه عيسو؛ والذي كانت أسمى أمانيه تتركز في القتال من أجل الحرية والقضاء على سيادة أخيه.

كان إسحق يحب ابنه عيسو ويذكر الكتاب السبب؛ لأن في فمه صيدًا؛ ورغم المظهر الخارجي الذي يوحي بالنجاح كان عيسو إنساناً فاشلاً مهزومًا. يصفه الكتاب في عبارة موجزة قائلاً “لِئَلاَّ يَكُونَ أَحَدٌ زَانِيًا أَوْ مُسْتَبِيحًا كَعِيسُو، الَّذِي لأَجْلِ أَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ بَاعَ بَكُورِيَّتَهُ. “(عب 16:12). هذا هو تشخيص الله له والكتاب هنا يشير إلي القصة المذكورة ل (تك 29:25 -34).

وبناء على إشارة رفقة أرسل إسحاق يعقوب إلى فدان أرام ليهرب من أمام غضب أخيه عيسو وليتخذ لنفسه زوجة من قومه وأهل عشيرته (تك 27: 41- 28: 6).

ولما عاد يعقوب من فدّان أرام بعد فوات عشرين عامًا كان إسحاق لا يزال ساكنًا في حبرون (تك 35: 27). وهناك مات إسحاق فدفنه ابناه في مغارة المكفيلة إلى جوار والديه وزوجته (تك 49: 31).

فاصل

من كتاب تاريخ بني إسرائيل – الراهب أولوجيوس البرموسي

فاصل

أبينا إبراهيم تاريخ العهد القديم يعقوب أب الآباء
عصر الآباء البطاركة
تاريخ الكنيسة

 

زر الذهاب إلى الأعلى