تفسير سفر إرميا ٥ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الخامس
سرّ التأديب
إن كان الله قد دعى عروسه لكي تتجمل له بالزينة الداخلية، ففي عتابٍ تسأله: “لماذا صنع الرب إلهنا بنا كل هذه؟” [9] لماذا يستخدم الله كلمته النارية المؤدبة بقسوة؟
الله كعريسٍ سماوي يتجاوب مع عروسه بروح الحوار المفتوح، وكأب يوضح لأولاده سرّ معاملاته معهم حتى لا يسقطوا في التذمر أو اليأس، ولا يظنوا أن الأمور تسير اعتباطًا، إنما يليق بهم أن يتفهموا خطة أبيهم حتى يثقوا فيه ويرجعوا إليه.
لم يجد بينهم بارًا واحدًا[1-2].
إن كان الله هو الذي يتساءل أو نبيّه إرميا عن إمكانية وجود شخصٍ واحدٍ يعمل بالعدل، فإن الأمر حقًا محزن للغاية.
“طوفوا في شوارع أورشليم وانظروا واعرفوا وفتشوا في ساحاتها،
هل تجدون إنسانًا أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق فأصفح عنها؟!” [1].
إذ أراد إبراهيم أن يشفع في سدوم وعمورة قال لله: “أفتهلك البار مع الأثيم؟! عسى أن يكون خمسون بارًا في المدينة. أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارًا الذين فيه؟!” (تك 18: 23-24). وإذ دخل معه في حوار طلب في النهاية أن يصفح عن المكان من أجل عشرة، لكنه لم يجد فيها عشرة أبرار. أما هنا فالله يطلب أن يجد في أورشليم إنسانًا واحدًا عاملاً طالبًا الحق لكي يصفح عنها. لم يجد إنسانًا بارًا بين القادة المدنيين والدينيين ولا بين العامة من الشعب!
كان يوسف الشاب الصغير الغريب بارًا، من أجله بارك الرب بيت فوطيفار، ومن أجله أنقذ مصر كلها والبلاد المحيطة بها من المجاعة.
يعبر إشعياء النبي عن حال الشعب وقد فقدوا كل قدسية: “لأن الصدق سقط في الشارع، والاستقامة لا تستطيع الدخول، وصار الصدق معدومًا، والحائد عن الشر يُسلب؛ فرأى الرب وساء في عينيه أنه ليس عدل” (إش 59: 14-15).
حقًا إن كان الله يدعونا للشهادة لإنجيله، فإن حياتنا الإنجيلية المقدسة وسلوكنا ببر المسيح يرفع غضب الله عنا وعن عائلاتنا وعن كنائسنا وعن بلادنا وعن العالم!
الله يطلب إنسانًا لكي يصفح عن أورشليم. ُترى من هو هذا إلا ابن الإنسان، الله الكلمة، الذي صار بالحق إنسانًا لكي بدمه يكفر عن خطايا العالم كله؟! “إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار، هو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضًا” (1 يو 2: 1-2).
هذا هو الشفيع الذي يسكن القلب “أورشليم الداخلية” فيصنع صلحًا للنفس والجسد بكل طاقاتهما مع الآب. هذا الذي يفرح به الآب ويطلبه قائلاً: “طوفوا وفتشوا في ساحاتها، هل تجدون إنسانًا، أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق فأصفح عنها؟!” [1]. إنه ربنا يسوع المسيح المختبئ في أورشليمنا الداخلية الذي به ننال الصفح عن خطايانا!
لم يقبلوا التأديب الأوَّلي[3-6].
ربما يجيب أحد: كيف لا يوجد بار بينهم وهم يتعبدون لله الحيّ؟
حقًا إنهم يعبدون الله الحيّ ويحلفون به، لكن عبادتهم غير مقبولة، ولا تبررهم.
أولاً: لأنهم إذا ما حلفوا بالله الحيّ، يحلفون بالكذب [2]. لقد غضب إرميا إذ رآهم يطلبون الله شاهدًا وهم يكذبون. لقد ظنوا أن مجرد ذكر اسم الله يكون درعًا وحماية لهم، وفاتهم أن هذا يزيد غضب الله عليهم، لأنهم يحلفون باسمه باطلاً.
ثانيًا: كانوا غير مستقيمين، يحلفون بالله الحيّ كما يحلفون بالآلهة الوثنية، إذ يقول في نفس الأصحاح: “كيف أصفح لكِ عن هذه؟! بنوكِ تركوني بما ليس آلهة” [7].
مما أحزن قلب الله أن الجميع – الفقراء والعظماء – قد أبوا قبول التأديب الإلهي، وعوض الرجوع إلى الله ازدادوا قساوة، فصارت وجوههم أكثر صلابة من الصخر.
“يارب أليست عيناك على الحق (الأمانة)؟
ضربتهم فلم يتوجعوا.
أفنيتهم وأبوا قبول التأديب.
صلَّبوا وجوههم أكثر من الصخر.
أبوا الرجوع” [3].
يقول النبي: “يارب أليست عيناك على الأمانة؟”
قبل أن يتحدث عن التأديب يؤكد النبي أن الله في تأديباته كما في لطفه يتطلع إلى الأمانة. يريد “الإيمان” الحيّ عاملاً فينا، لنكون أمناء حقيقيين، فننعم بالحق.
إنه يتطلع إلى مؤمنيه كأحباء يستحقون التمتع بنظراته، أما الأشرار المصرون على شرهم فلا يستحقون التطلع إليهم.
يقول العلامة أوريجينوس: [كما أن “عيني الرب على الصديقين” (مز 33: 16)، ويحول عينيه عن الظالمين، كذلك عيناه على الإيمان، ويحولها عن عدم الإيمان…
يقول القديس بولس: “أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة، ولكن أعظمهن المحبة.
كما أن عينَيْ الرب على الإيمان، فهما أيضًا على الرجاء، كذلك على المحبة.
وبما أن الروح هو “روح القوة والمحبة والنصح” (2 تي 1: 7)؛ إذن فعينا الله على القوة وأيضًا على النصح والحق، وباختصار فإن عيني الرب على جميع الفضائل.
إن كنت بدورك تريد أن تضيء عينا الرب عليك، يلزمك أن تلبس الفضائل… فيُقال عنك: “يارب عيناك على كل شخص فاضل اقتنيته لك”.
إذ تنير عينا الرب عليك، تقول: “قد ارتسم علينا نور وجهك يارب” (مز 4: 7)[137]].
حين يؤدب الرب يطلب أن نرجع إليه فنمارس الحياة الإنجيلية المقدسة، وننعم بنظراته الإلهية التي تشرق علينا بنور المعرفة. هذا هو هدف الله من تأديباته لنا، لكن الأشرار المصِّرين على شرهم لا ينتفعون من التأديبات، إذ قيل: “ضربتهم (جلدتهم) فلم يتوجعوا”.
يقول العلامة أوريجينوس:
[لننظر ماذا قيل بعد هذا عن الخطاة؟ “جلدتهم فلم يتوجعوا”.
حين تُضرب الأجساد الحية بالسياط المنظورة في هذا العالم يتألم المضروبون، إن أرادوا أو لم يريدوا. أما بالنسبة لسياط الله فالأمر غير ذلك، يتألم بعض المضروبين والبعض لا يتألمون.
هلم نرى ماذا يعني التألم بواسطة سياط الله، وعدم التألم منها.
بائسون هم الذين لا يتألمون من سياط الله، ومطوّبون هم الذين يتألمون منها. يقول سفر الحكمة في هذا الشأن: “وإنما كانوا يُجربون (يُنخسون) بهذه ليذكروا أقوالك ويخلصوا سريعًا لئلا يسقطوا في نسيانٍ عميقٍ فلا يتمكنوا بمعونتك” (حك 16: 11). وأيضًا: “من يضع سوطًا لأفكاري، وختم الحكمة على شفتي، لكي لا يشفقوا على جهالاتي، وأهلك بسبب خطاياي” (راجع ابن سيراخ 22: 27 ؛ 23: 2-3).
دقق النظر في هذه الكلمات: “من يضع سوطًا لأفكاري؟!” توجد سياط لضرب الأفكار. سياط الله تضرب الأفكار؛ حينما ينفرد الكلمة بالنفس على جنب ويضغط عليها حتى يثور ضميرها على أخطائها التي ارتكبتها، يكون قد ضربها بالسياط. إنه يضرب الإنسان المطوَّب، الذي يتألم من الضرب، لأن كلمات الله تؤثر على نفسه، ولا يلقى بالكلمات باستخفاف لأنها أخجلته. أما إذا وُجد إنسان، يمكن أن يُقال عنه أنه عديم الحس، هذا يُقال عنه: “جلدتهم فلم يتوجعوا” [3].
يُمكن أيضًا تفسير “لم يتوجعوا” بطريقة أخرى.
توجد في الجسد بعض أعضاء قد تضمر وتموت… الفارق كبير بين الأعضاء الحية والميتة. فإذا قمنا بعلاج عضو حيّ يتألم الشخص، بينما إذا اُستخدم نفس العلاج لنفس الشخص بالنسبة للعضو الميت فإنه لا يشعر بشيء، لأنه بالنسبة له العضو ميت.
ما قلناه عن الجسد ينطبق على النفس، فهى أيضًا يمكن أن تكون ميتة في أعضائها فلا تشعر بضربات السياط مهما كانت شدتها. حتى إن اُستخدمت العذابات المخيفة لن تتأثر بها، بينما يمكن لنفس أخرى أن تتأثر وتتوجع.
يكون الإنسان أكثر حزنًا عندما لا يشعر بالألم الساقط عليه مما لو كان شاعرًا به، فإنه يرجو بالأحرى أن يتوجع عندما تحل به الآلام، لأن هذا دليل على أنه لا يزال حيَّا. إنه يحزن لعدم شعوره بالضربات. فإن العبارة “يشتاقون أن يكون للحريق مأكلاً للنار” (إش 9: 4)، تشير إلى الذين لا يتوجعون حين تحل بهم الجلدات، إن أدركوا الفارق بين الذين يتوجعون والذين لا يتوجعون، يشتاقون إلى الإحساس بحروق النار عن عدم الشعور بها. وأيضًا عند الاقتراب من النار المعدة للخطاة يرجون أن يشعروا بها عن عدم الشعور بها[138]].
يعلق أيضًا على العبارة: “أفنيتهم وأبوا قبول التأديب” [3]، قائلاً: [الله في عنايته ورحمته يقوم بعمله التطهيري من أجل خلاص النفس، ويذهب في هذا العمل حتى النهاية (الفناء) من جانبه. فإن كل ما يحل علينا من قبل العناية الإلهية يهدف إلى كمالنا، ومع هذا نحن لا نقبل التأديبات الإلهية التي تقودنا إلى الكمال[139]].
يُشبَّه الله بالمدرس الذي يقدم الدروس بالكامل، باذلاً كل جهده لتعليم التلاميذ، بعضهم يقبل التعليم والآخرون يرفضون.
يعلق أيضًا نفس العلامة على العبارة: “صلَّبوا وجوههم أكثر من الصخر” [3]، قائلاً:
[يوجد بين الخطاة من يخجلون ويختبئون عند سماعهم كلمات التوبيخ، فيخضعون لها إذ تؤثر فيهم، كما يوجد من لا يخجلون من التوبيخ على تصرفاتهم وخطاياهم التي ارتكبوها، فيمكن أن يُقال عنهم: “صلَّبوا وجوههم أكثر من الصخر” [3]… لنطبق ذلك على النفس، آخذين في اعتبارنا أنها هي الوجه الذي قيل عنه: “(ننظر) وجهًا لوجه” (1 كو 13: 12). فالنفس أحيانًا تكون صلبة وقاسية أكثر من نفس فرعون، تقاوم الإنذارات، وترفض كل ما يُقال لها، بدلاً من أن تترك ذاتها تتشكل من جديد خلال الإنذارات[140]].
من جهة رفض التأديبات الإلهية التي تعين النفس على تجميلها روحيًا يرى النبي وجود فريقين:
- فريق دعاه “المساكين“، هؤلاء ليسوا مساكين بالروح، أي ليسوا متواضعين فينالوا ملكوت الله (مت 5: 3)، إنما هم مساكين بسبب الجهل الروحي، لا يدركون ما وراء التأديبات الإلهية من عمل إلهي، يتذمرون على الضيق ولا يتوبون. عن هؤلاء يقول إرميا النبي: “إنما هم مساكين، قد جهلوا لأنهم لم يعرفوا طريق الرب قضاء إلههم“ [4]. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [لإن إرميا قد عرف أن هذه الأشياء (التأديبات) تخص الذين لا يريدون أن يتعلموا والذين لا يفهمون شيئًا عن سياط الله. فإنه يقول بشأن موقفهم هذا: “إنما هم (نفوسهم) مساكين”[141]].
- فريق آخر دعاه “العظماء“: إذ شعر بمرارة من جهة غير المتعلمين روحيًا انطلق إلى أصحاب المعرفة، أيالقيادات الدينية، ليتحدث معهم، فوجد الكبرياء عائقًا عن قبولهم تأديبات الرب. وكأن المساكين يرفضون التأديب عن جهالة، والعظماء عن كبرياء… “أنطلق إلى العظماء وأكلمهم لأنهم عرفوا طريق الرب قضاء إلههم. أما هم فقد كسروا النير جميعًا وقطعوا الربُط” [5].
يرى العلامة أوريجينوس أن الأشرار المساكين يرفضون فهم خطة الله للتأديب، لهذا يطلب من نبيه إرميا أن يتحدث معنا نحن المسيحيين كعظماء، إذ يقول: [“انطلق إلى العظماء (الأقوياء) وأكلمهم”.
الذين هم عظماء وأقوياء في نفوسهم ذكرهم الكتاب بالتطويب.
عندما ينشغل إنسان بأعمالٍ عظيمة، ويكون لديه طموحات ذات قيمة، ويضع باستمرار أمام عينيه أهدافًا واضحة ليعيش دائمًا بحسب الحق الصحيح، ولا يريد حتى أن ينظر إلى أي شيء تافه أو صغير، فإن مثل هذا الإنسان تكون عنده القوة والعظمة في النفس. أما هؤلاء الآخرون الذين كانوا “مساكين” فإنهم لم يسمعوا لكلام الرب كما يقول النبي؛ ولكي نكون أكثر تدقيقًا فإنهم لم يسمعوا لأنهم كانوا مساكين.
إذ قيل هذا الكلام لنا نحن أيضًا، فلنصلِ إلى الله حتى نأخذ من عنده قوة وعظمة تمكننا من الاستماع لتلك الكلمات المقدسة، عالمين أن الذين ينطقون بكلمات التوبيخ لا يخسرون شيئًا مثلما يخسر الذين يسمعون ولا يقبلون هذا التوبيخ، والذين يتهمهم إرميا بأنهم مساكين في عقولهم وأفكارهم[142]].
إذ رفضوا تأديبات الرب، وأبوا الرجوع إليه سقطوا فريسة لعدو الخير، الذي يشبه أسد الوعر، وذئب المساء، والنمر الكامن حول مدنهم، قائلاً:
“من أجل ذلك يضربهم الأسد من الوعر.
ذئب المساء يهلكهم.
يكمن النمر حول مدنهم.
كل من خرج منها يُفترس، لأن ذنوبهم كثرت، تعاظمت معاصيهم” [6].
إذ ازداد الجهلاء والمثقفون في عنادهم ومقاومتهم لإرادة الله لم يبقَ أمامهم إلا الهلاك الأكيد الذي لا مفر منه، وذلك بواسطة:
أ. الأسد: “يضربهم الأسد من الوعر” [6].
وُجدت الأسود في فلسطين حتى القرن الثاني عشر الميلادي، وقد انقرضت. من أحب الأماكن لسكناها هناكهي الغابات والأحراش القائمة على ضفتيّ الأردن (49: 19؛ 50: 44)، كما وُجدت في جبل حرمون (نش 4: 8)، وفي السامرة (2 مل 17: 25)، وفي البرية الواقعة جنوب يهوذا (إش 30: 6).
كان صيد الأسود هو الرياضة المحببة لدى ملوك الأشوريين.
أُستخدمت أشكال الأسود في هيكل سليمان (1 مل 7: 29، 36)، وفي عرشه (1 مل 10: 19-20).
يُستخدم الأسد كرمز لرعاية الله وحراسته لأولاده (رؤ 5: 5)، كما يُستخدم لغضبه (25: 30). أُستخدم أيضًا كرمز لإبليس المفترس (1 بط 5: 8)، وللأنبياء الكذبة المهلكين (حز 22: 5) وللملك الغاضب (أم 25: 30).
من علامات السلام في المُلك المسياني أن يربض الأسد والحمل معًا (إش 11: 7)، كما أن المخلوقات الحية الحاملة عرش الله تحمل شكل وجه أسد (حز 1: 10؛ رؤ 4: 7).
هنا – في هذا الأصحاح – يضرب الأسد من الوعر، يُهلك بلا رحمة، قادمًا من البرية!
ب. الذئب: “ذئب المساء يهلكهم” [6].
يختلف الذئب في فلسطين عنه في أوربا، وهو لا يزال موجودًا فيها. يتصف الذئب بشدة الافتراس والشراسة (إش 11: 6؛ حب 1: 8)، يفترس الغنم (جا 13: 17؛ يو 10: 12). اعتاد أن يختفي في النهار ويخرج ليلاً يطلب فريسته، لذلك يقول: “ذئب المساء يهلكهم“، إشارة إلى حلول الهلاك ليلاً وهم في غير يقظة روحية. جاء في سفر صفنيا: “لا يبقون شيئًا إلى الصباح” (3: 3).
إن كان الأسد أقوى من الذئب وأعنف منه، لكنه غالبًا مالا يفترس الإنسان مادام في حالة شبع، أما الذئب فشره، يفترس حتى وإن كان شبعانًا. وكأن الله يريد أن يؤكد لهم أنهم يصيرون فريسة للعدو حتى وإن كان العدو في غير احتياج؛ إنه يفترس لمجرد رغبته في الافتراس.
اُستخدم الذئب أيضًا كمديح عندما بارك يعقوب سبط بنيامين (تك 49: 27)، مشيرًا إليهم كالذئب في المهارة الفائقة حتى لا يعوزهم طعام.
ج. النمر: “يكمن النمر حول مدنهم” [6].
كاد أن ينقرض النمر من تلك المنطقة. كان موجودًا بسبب وجود الغابات الكثيفة؛ حاليًا يوجد نادرًا في بعض المناطق غير الآهلة بالسكان بلبنان وشرقي الأردن.
يُشبَّه العدو بالنمر الذي ينتظر الغروب ليتربص للفريسة، سواء كانت إنسانًا أو حيوانًا. أحيانًا يربض ثلاثة أيام متوالية بلا حراك يترصد الصيد في صمت مرعبٍ قاتلٍ.
يُعرف النمر بقوته (د1 7: 6)، وسرعة حركته (حب 1: 8)، لذا قيل أن الوحش البحري “شبه النمر” (رؤ 13: 2). هذا ويشير إلى عدم إمكانية التغيير من طبيعة الافتراس والعنف، إذ قيل: “هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطة؟!” (13: 23). لكن إن دخل النمر إلى العضوية في الملكوت المسياني تتغير طبيعته، عندئذ “يربض النمر مع الجدي” (إش 11: 6).
في رسالة للقديس كبريانوس يتحدث فيها عن عدم التجاوب مع تأديبات الرب يقول: [هوذا الضربات حالة من عند الله، ولا توجد مخافة الرب! هوذا اللطمات والجلدات من فوق ليست معدومة ولا يوجد رعب ولا خوف!]
كما يقول الأب غريغوريوس الكبير في كتابه عن الرعاية:
[هناك فارق بين أن تنصح الذين يخافون التأديب فيعيشون في نقاوة، والذين يتقسون في الشر فلا ينصلحون حتى بالتأديبات].
[إنه يجلب علينا نار الضيقة لكي ينقينا من صدأ الرذائل، لكننا لا نتخلص من صدأنا بالنار مالم نترك الرذائل وسط الضيقة].
أساءوا استخدام عطاياه[7-9].
كشف لهم عن سبب تأديباته لهم:
أولاً: لأنه لم يجد في أورشليم إنسانًا بارًا.
ثانيًا: عندما بدأ بالتأديب لم يستجب العامة الجهلاء ولا القادة المثقفون.
ثالثًا: لأنهم أساءوا استخدام عطاياه… أشبعهم بالعطايا، فأخذوها ليقدموها أجرة للزنا. انطلقوا على مستوى جماعي يتزاحمون في بيت زانية، أي بطريقة علنية بغير حياءٍ، صاروا حُصنًا معلوفة سائبة تستخدم طاقاتها للفساد.
إنه يعاتبهم:
“كيف أصفح لك عن هذه؟!…
ولما أشبعتهم زنوا، وفي بيت زانية تزاحموا.
صاروا حُصنًا معلوفة.
صهلوا كل واحد على امرأة صاحبه.
أما أعاقب على هذا يقول الرب؟!
أو أما تنتقم نفسي من أمة كهذه؟!” [7-9].
يرى العلامة أوريجينوس أن الإنسان إذ تسيطر عليه الشهوات يصير كالحيوانات العجموات، يفقد روح التمييز، بل وأحيانًا يصير في حالة أدنى منهم، لأنه عندما تحبل أنثى الحيوانات تعرفن ألاّ تقتربن من الذكور[143].
ما أرهب هذا الاتهام؟! هوذا الشعب الذي كان يجب أن يشهد لقداسة الله ويكون بركة لغيره من الشعوب قد صار فاسدًا، يشبع بخيرات الله فيزني علانية، محتقرًا الوصية الإلهية، ومتجاهلاً حق أخيه، إذ يشتهي امرأة أخيه! أما يستحق هذا الشعب العقاب؟!
ينطبق هذا الاتهام على المؤمنين الذين لهم اسم المسيحية ولا يمارسون الحياة الانجيلية، فإنهم يستخدمون بركات الله وحبه لهم، لا للشهادة لمسيحهم وإنما للانغماس في الخطية. مثل هؤلاء لا يستحقون أن يُحسبوا بشرًا بل “حصنًا معلوفة”. وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي:
[هؤلاء لا يمكن مقارنتهم بقديسي الله… إذ لم تعد أذهانهم تحمل صورة الله. إنما هم تافهون، ينزلون إلى المستوى البهيمي، وقيادتهم للملذات بلا ضابط تُقارن بسلوك الخيول الشهوانية (5: 8).
وبسبب خبثهم وجرائمهم وخطاياهم المرعبة يدعون: “أولاد الأفاعي” (لو 3: 7)[144]].
يا للعجب! الله يريدنا بعطاياه الفائقة أن نصير أبناءه، نتشبه به، ونُحسب كملائكته، أما نحن فنسيء استخدامها لنحسب كحيوانات غير عاقلة شهوانية!
قبلوا كلمات المخادعين[10-18].
يعتبر الله قبولهم كلمات المخادعين وعدم تصديقهم إنذاراته على ألسنة الأنبياء الحقيقيين خيانة للرب نفسه، تستحق التأديب كنارٍ مطهرة، لكنها ليست للفناء، لذا يكرر تعبير “لا تفنوها” [10] و“لا أفنيكم” [18].
يوجه الله كلامه للعدو المقبل، معلنًا أنه وإن سمح له بالتدمير والتخريب، لكنه لن يسمح له بالفناء: “اصعدوا على أسوارها واخربوا ولكن لا تفنوها” [10].
يقول العلامة أوريجينوس: [ يتمهل الله في إدانة الذين يستحقون العقاب، حتى يعطيهم الفرصة للتوبة. فهو لا يعاقب على الخطية في الحال، ولا يوقع الفناء بالخاطئ، بل يتمهل في العقاب. نجد مثالاً لذلك في سفر اللاويين، في اللعنات التي قيلت لتحل على الذين يخالفون الناموس، فبعد الإعلان عن العقوبات الأولى قيل: “وإن كنتم مع ذلك لا تسمعون لي أزيد على تأديبكم سبعة أضعاف” (لا 26: 18)… من هذا يتضح أن الله يوقع العقوبات ببطئ شديد، لأنه يريد أن يقود الخاطئ إلى التوبة، بدلاً من دفع الثمن حالاً… فالفناء لا يحل وقت ارتكابهم الخطية، وإنما في وقت لاحق، حيث يوجد عقاب للخطاة بعد الموت[145]].
يعلق أيضًا العلامة أوريجينوس على إفناء الشعب قائلاً:
[يمكننا أن نعترض، فبالرغم من تحقق السبي لم يتم فناؤها، وإنما تم الفناء الحقيقي للشعب عندما جاء ربنا يسوع المسيح.
في الواقع، طالما أن المخلص لم يقل لهذا الشعب: “هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا”، فإن أورشليم لم تكن خربة؛ وإنما عندما بكى يسوع على أورشليم قائلاً: “يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا” (لو 13: 34)، عندئذ أصبحت أورشليم خربة. “ولقد أحيطت أورشليم بجيوش وكان خرابها قريب (لو 21: 20). ثم بعد سقوط هذا الشعب كان الخلاص لنا نحن الأمم.
لقد تم تأديبهم ولم يأت عليهم الفناء إلا عند مجيء السيد المسيح. لكنى أتساءل إن كان هذا يحدث معنا نحن أيضًا، وإن كانت هناك أنواع عديدة من التأديبات يمكن أن تحل بنا. يوجد من الناس من يكتفي بالضربة الأولى ولا يجرب الثانية، ويوجد آخرون يصلون إلى الضربة الثانية والثالثة بل وحتى إلى الرابعة. فإن العبارة: “أزيد على تأديبكم سبعة أضعاف (ضربات)” تحمل شيئًا من الغموض: توجد ضربة أولى، ثم ثانية ثم ثالثة حتى السابعة لبعض الناس. فليس كل الناس يُضربون سبع ضربات، لكنني أعتقد أن البعض يُضربون بست ضربات والبعض بخمس والبعض بأربع والبعض بثلاث أو إثنين أو واحدة. ويعلم الله وحده ما هو المقصود بهذه الضربات[146]].
لعل قوله “يزيد العقاب سبعة أضعاف” في (لا 26: 18) يعني أن الله يعطي فرصة للتوبة بتأديب أوَّلي، فإن لم نرتدع يسمح بتأديب مضاعف، وإلا تأديب ثالث أقسى فرابع وخامس حتى سبعة أضعاف قبل أن نسقط في الدينونة الأبدية.
إنه يتطلع إلى الكنيسة بكونها كرمه الخاص، يسمح لها بالتأديب لكن ليس بالإبادة، فيسمح للعدو أن يصعد على أسوار الكرمة ويقطع أغصانها التي صارت غريبة عنه، متغربة عن طريقه الملوكي، لكنه يترك الأصل لعله ينبت أغصانًا مقدسة مثمرة.
“انزعوا أفنانها (أغصانها)، لأنها ليست للرب.
لأنه خيانة خانني بيت إسرائيل وبيت يهوذا يقول الرب.
جحدوا الرب وقالوا: ليس هو،
ولا يأتي علينا شرٌّ، ولا نرى سيفًا ولا جوعًا” [10-12].
لقد أنكروا الرب أو جحدوه بعدم تصديقهم تهديداته على لسان أنبيائه… إنهم يقولون: “ليس هو”، لا لأنهم ملحدون ينكرون وجوده، لكنهم ملحدون بعدم قبولهم كلماته، وعدم الثقة في كلمات أنبيائه.
يعبدون الرب في رياء إذ لا يسمعون لصوته في سلوكهم العملي، قائلين: “في قلوبهم: إن الرب لا يُحسن ولا يُسيء” (صف 1: 12).
ماذا يفعل الرب بهم إذ قبلوا خداع الأنبياء الكذبة ولم يصدقوه؟
أولاً: إذ ينطق الأنبياء الكذبة بالباطل يصيرون هم باطلاً، كالريح الذي لا يدوم، يهب فيختفي… يصيرون خيالاً. “والأنبياء يصيرون ريحًا، والكلمة ليست فيهم؛ هكذا يصنع بهم” [13]. يختفون سريعًا ويظهر بطلان كلماتهم لأن كلمة الرب ليست فيهم.
ثانيًا: يجعل كلامه نارًا في فم نبيه إرميا، تحرق الشعب كالحطب فتأكلهم [14]. لو أنهم كانوا ذهبًا أو فضة أو حجارة كريمة لصيرتهم النار أكثر بهاءً ونقاوة، لكن لأنهم حطب وعشب وقش تحرقهم!
يقول العلامة أوريجينوس [على أي الأحوال، للنار قوة مضاعفة: بالواحدة تـنير وبالثانية تحرق[147]]. السيد المسيح نفسه جاء إلى العالم نارًا يحرق إبليس وملائكته (لو 13: 27؛ مت 25: 41). كما يقول إن الذي يُعلم في كنيسة الله بالتوبيخ والانتهار فقط يكون نارًا تحرق ولا تـنير، أما إذا كشف أسرار الناموس وناقش الأسرار الخفية فقط فيكون نارُا تـنير ولا تحرق. لهذا يليق أن يمتزج نور المعرفة بلهيب خفيف من الحزم.
ثالثًا: يسمح بسبيهم بواسطة أمة بعيدة قوية لا يعرفون لسانها، ولا يفهمون ما تتكلم به، أمة تتكلم بلغةٍ غريبة، لغة العنف والقسوة والاستعباد بغير حوار أو تفاهم!
سمات هذه الأمة تكشف عن طبيعة الخطية التي تسبي النفس:
أ. أمة من بُعد [15]: حين ترفض النفس وصية إلهها القريب إليها جدًا، وكلمته الساكن فينا، نخضع للخطية الغريبة عن طبيعتنا والمعادية لنا.
ب. أمة قوية، أمة منذ القديم [15]: الخطية خاطئة جدًا وقتلاها أقوياء، تحارب البشرية منذ القدم.
ج. أمة لا تعرف لسانها [15]: لا يمكن التفاهم معها، قانونها الظلم والعنف وعدم التفاهم.
د. جعبتهم قبر مفتوح [16]: غايتها التدمير والموت.
هـ. كلهم جبابرة [16]: عملها الحرب الدائمة ضد أولاد الله.
و. يأكلون حصادك وخبزك الذي يأكله بنوكِ وبناتك، يأكلون غنمكِ وبقركِ، يأكلون جفنتكِ وتينكِ” [17] عملها إفساد كل ثمر للنفس (البنون) وللجسد (البنات)، تحطيم كل الإمكانيات ليعيش الإنسان في جوع وحرمان حتى الموت.
ز. يهلكون بالسيف مدنك الحصينة [17]: يفقد الإنسان الملجأ والحصن، ليعيش كطريدٍ وهاربٍ في خوفٍ دائمٍ وقلقٍ مستمرٍ، فتتحطم نفسه تمامًا.
هذا كله ثمرة قبول كلمات الأنبياء الكذبة المنادين بالسلام، والناطقين بالناعمات كذبًا وخداعًا!
ما حدث مع الشعب قديمًا يحدث حاليًا حيث ننصت إلى روح التهاون والاستهتار، روح الأنبياء الكذبة، فنسقط تحت سبي الخطية عوض التجاوب مع تأديبات الله التي تحثنا على التوبة والرجوع إليه.
فقدوا البصيرة الداخلية[19-24].
إذ قبلوا كلمات الأنبياء الكذبة الناعمة سقطوا تحت التأديب الإلهي، أي في السبي، وعوض أن يكتشفوا خطاياهم ويقدموا توبة صاروا في عمى روحي يتهمون الله بالعنف والقسوة.
“ويكون حين تقولون: لماذا صنع الرب إلهنا بنا كل هذه؟
تقول لهم: كما أنكم تركتموني وعبدتم آلهة غريبة في أرضكم هكذا تعبدون الغرباء في أرضٍ ليست لكم” [19].
فقدوا البصيرة الروحية، فحسبوا عدل الله ظلمًا وقسوة، لهذا أوضح لهم عدالته. لقد تركوه وعبدوا آلهة غريبة. هذه هي شهوة قلوبهم، أن يعبدوا الأوثان وينعموا بالرجاسات، لهذا سلمهم إلى الأرض الغريبة ليتمموا شهوة قلوبهم، وكأن السبي هو ثمرة فساد قلوبهم.
أعطاهم أرض الموعد وحسبها “أرضهم”، لكنهم إذ تركوه يُحرموا مما وهبهم، فلم يعد لهم موضع في أرضهم. من جانب آخر كما يقول أحد آباء البرية: [من لا يصلح في موضعٍ فالموضع نفسه يطرده]. وكأن الله وهبهم أرضًا مقدسة، وإذ أساءوا إليها طردتهم هي منها، إذ لم تعد أرض الموعد تحتمل رجاساتهم.
يقول العلامة أوريجينوس:
[كان بنو إسرائيل يمتلكون الأرض المقدسة، والهيكل، وبيت الصلاة. كان يجب عليهم أن يقدموا عبادتهم لله، لكنهم خالفوا الشريعة والوصية الإلهية، وعبدوا الأوثان، كانوا يستقبلون عندهم الأوثان من دمشق كما هو مكتوب في سفر الملوك، وقبلوا أوثانًا أخرى في الأرض المقدسة. وبما أنهم كانوا يستقبلون الأوثان الأممية في أرضهم، استحقوا أن يُطرَحوا في بلاد الأوثان، وأن يهبطوا إلى حيث ُتعَبَد الأصنام. لذلك قال الرب لهم: “كما أنكم تركتموني وعبدتم آلهة غريبة في أرضكم هكذا تعبدون الغرباء في أرض ليست لكم”. أي أن كل إنسان يتخذ له إلهًا من أي شيء كان، فهو بذلك يعبد آلهة غريبة.
هل تُؤلِّه المأكولات والمشروبات؟ بطنك هي إلهك.
هل تحسب فضة هذا العالم وغناه خيرًا عظيمًا؟ المال هو إلهك. قال عنه السيد المسيح أنه سيد الذين يحبون الفضة، حينما قال: “لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال، ولا يقدر أحد أن يخدم سيدين”.
الذي يُقدِّر المال ويُعَظِّم الغِنَى حاسبًا أنه الخير، والذي يُجلِس الأغنياء في صفوف الآلهة ويحتقر الفقراء، يؤله المال.
إذا كان يوجد في أرض الله، التي هي الكنيسة، أناس يعبدون آلهة غريبة بتأليههم لأشياء حقيرة، فسوف يُطردون إلى أرض غريبة، هناك في تلك الأرض الغريبة يعبدون آلهتهم التي كانوا يعبدوها وهم في داخل الكنيسة! فيُطرح الإنسان الجشع خارجًا، خارج الكنيسة! ويُطرح الإنسان النهم خارجًا، خارج الكنيسة![148]].
بعد أن شرح لهم عدالته بدأ يعاتبهم، قائلاً:
“اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم،
الذين لهم أعين ولا يبصرون.
لهم آذان ولا يسمعون” [21].
وكما جاء في إشعياء النبي “تسمعون سمعًا ولا تفهمون، وتبصرون إبصارًا ولا تعرفون” (إش 6: 9). (راجع أيضًا مت 13: 14-15). لقد فقدوا البصيرة والقدرة على الاستماع، ليس من جهة تأديبات الرب فحسب وإنما من جهة الكلمة المتجسد، المسيا المخلص، عوض الارتماء في أحضانه اتهموه أن به شيطان. وكما يقولالقديس يوحنا الذهبي الفم: [إنهم يبصرون كيف يخرج الشياطين ويقولون به شيطان، يبصرون القائمين من الأموات ولا يسجدون له، بل يفكرون في قتله]. كما يقول القديس إيريناؤس: [إنهم مُصابون بالعمى بسبب عدم إيمانهم بالله، يتطلعون إليه فلا يرونه، فهو بالنسبة لهم كأنه غير موجود؛ ذلك كما أن الشمس – خليقته – تصيب ضعاف البصر فلا ينظرون نورها، أما الذين يؤمنون به ويتبعونه فيهب آذانهم (أعينهم) استنارة أكمل وأعظم[149]].
كما في عدم الإيمان فقد الشعب بصره وسمعه، هكذا بالإيمان يتمتع أولاد الله بالتطويب الإلهي: “طوبى لأعينكم لأنها تبصر، ولآذانكم لأنها تسمع” (مت 13: 11-16).
دعاهم الله جهلاء أو أغبياء، قائلاً “أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم” [21]. هذه هي السمة الرئيسية التي اتسموا بها، فقد صاروا كنابال (1 صم 25) الذي اسمه يعني “الغبي”، وقد احتقر داود النبي وسلك ببخلٍ عظيم. ُيقال عنهم: “أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب” (أم 1: 7).
في جهلهم فقدوا الفهم [21]، تركوا الله وعبدوا آلهة غريبة [19]، فصاروا يعشقون ما يبغضه الله، ويبغضون ما يحبه.
في جهلهم فقدوا الحق الإلهي، لا يرونه ولا ينصتون إليه [21].
في جهلهم أيضًا فقدوا خشية الرب ومخافته [21]. لم يفعلوا كأيوب عندما دخل الله معه في حوار، إذ قال: “لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد” (أي 42: 6). لم يتجاوبوا معه!
في جهلهم لم يدركوا أن الذي يتحدث معهم هو ذاك الذي وضع للبحر حدًا (أم 8: 29).
وقف النبي في دهشة، فقد بلغ عمى بصيرتهم وصمم آذانهم لا أن يصهلوا كالخيل المعلوفة السائبة [8] فحسب، وإنما انحطوا أكثر من الطبيعة الجامدة، فلا يرون كيف يقف البحر عند الحدود التي وضعها له الرب. عرف البحر حدوده فلا يتعداها ولم يعرف الإنسان ناموسه، لهذا يعاتبهم الله قائلاً:
“أإيّاي لا تخشون يقول الرب؟
أوَلاً ترتعدون من وجهي أنا الذي وضعت الرمل تخومًا للبحر، وتعج أمواجه ولا تتجاوزها؟” ]22].
لم يضع الشعب لنفسه حدودًا، وعوض الطاعة كالبحار والرمال وكل الطبيعة صار لهم “قلب عاصٍ ومتمرد؛ عصوا؛ ولم يقولوا بقلوبهم لنخف الرب إلهنا الذي يعطي المطر المبكر والمتأخر في وقته، يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة” [23-24].
ليس فقط البحار والرمال لها قانونها الذي تخضع له، وإنما الأمطار المبكرة التي تسقط بعد بذر الحبوب والأمطار المتأخرة التي تساعد على نضوج المحصولات تخضع للأوقات والأزمنة الموضوعه لها، فيأتي الثمر المتكاثر ويعيد الإنسان مبتهجًا بالحصاد، أما الإنسان فيرفض الطاعة لله!
ربما تشير مياه البحار هنا إلى الاضطهاد القائم ضد الكنيسة، الذي تثور أمواجه وتياراته ضدها. أما رب الكنيسة الجامع المياه فلا يمنع الضيق لكنه يضبط سطوته ويحوّل مرارته إلى عذوبة تستحق أن تُجمع في زق كشيء ثمينٍ وُتحسب كنوزًا ثمينة (مز 33: 7).
v بينما كان البحر قبلاً في هياج بلا ضابط، إذا بمرارته تتوقف… لأن ذاك الذي غلب في الرسل، والذي وضع للبحر حدًا… جعل فيضانه (تياراته) تلتقي مع بعضها البعض لتحطم الواحدة الأخرى.
القديس أغسطينوس
هذا هو المطر الذي وعد السيد المسيح تلاميذه أن يرسله إليهم من عند الآب علامة حبه لهم واهتمامه بهم، وكما جاء في الأمثال: “في نور وجه الملك حياة، ورضاه كسحاب المطر المتأخر” (أم 16: 15). ويقول هوشع النبي: “خروجه يقين الفجر، يأتي علينا كالمطر، كمطرٍ متأخر يسقي الأرض” (هو 6: 3). ويسألنا زكريا النبي أن نطلب هذا المطر المتأخر ليعمل في حياتنا: “اطلبوا من الرب المطر في أوان المطر المتأخر، فيصنع الرب بروقًا، ويعطيهم مطر الوبل، لكل إنسان عشبًا في الحقل” (زك 10: 1). هذا هو عطية الله العظمى: “لنخف الرب إلهنا الذي يعطي المطر المبكر والمتأخر في وقته، يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة” [24].
اصطادوا الآخرين[25-29].
أحد أسباب التأديب أنهم نصبوا الشباك والفخاخ للآخرين لاصطيادهم حتى يغتنوا ويصيروا سمناء، لكن شرهم لم يجلب عليهم إلا الغضب الإلهي والخسارة. ويلاحظ في شرهم هذا الآتي:
أ. شرهم ليس ثمرة ضعف بشري، أو تحقق بطريقة لا إرادية، إنما جاء نتيجة خطة منظمة وإصرار مُسبق، إذ يقول: “لأنه وُجد في شعبي أشرار، يرصدون كمنحنِ من القانصين، ينصبون أشراكًا يمسكون الناس” [26].
ب. خططوا لاستعبادهم وتحطيم حرية الناس: “مثل قفص ملآن طيورًا هكذا بيوتهم ملآنة مكرًا” [27]. لقد خُلقت الطيور لتطير في السماء، لا لتُحبس في قفص، هكذا أرادوا استعباد الناس الذين خلقهم الله أحرارًا.
إن كانوا قد نصبوا الشباك واصطادوا أناسًا وأغلقوا عليهم في عبودية كالطيور في قفصٍ، فليس غريبًا أن يشربوا من ذات الكأس، حيث تنصب الأمم التي حولهم لهم الشباك، ويقودوهم في عبودية إلى السبي، فيصيرون كطيور حُرمت من الحرية.
حقًا كم تكون نفس المسبي مُرّة حينما يرى في أرض السبي الطيور تغرد وهي هائمة في الجو تتنقل حيثما تريد، بينما يعيش هو في مذلة مسلوب الحرية، لا يقدر أن يرجع إلى بلده!
ج. لا يقفوا عند ارتكاب الشر وإنما يوجهون كل طاقاتهم لاصطياد الناس بمكر كي يسقطوهم في الخطية.
د. يرى البعض أن كلمة “بيوتهم” هنا تشير إلى أنهم وضعوا خطة محكمة ومنظمة وهم في بيوتهم. بدت هذه الخطة ناجحة إذ امتلأ القفص طيورًا، ولم يدروا أنهم إنما ملأوها مكرًا وخداعًا يحطم حياتهم وسلامهم وحريتهم. بمعنى آخر بالمكر والخداع ظنوا أنهم غلبوا واغتنوا ولم يدركوا أنهم إنما اقتنوا في داخلهم خطية المكر التي هي “حرمان” و “بطلان”.
“من أجل ذلك عظموا واستغنوا،
سمنوا، لمعوا (أملس الشعر)،
أيضًا تجاوزوا في أمور الشر” [27-28].
ظنوا أنهم صاروا عظماء أصحاب سلطان، أغنياء لا يعوزهم شيء، سمناء مملئون صحة، لامعين أو ملسوا الشعر أي مملئون جمالاً، ولم يدركوا أنهم في واقع الأمر جمعوا لأنفسهم شرًا عظيمًا. هذا هو ما اقتنوه، لأن الأمور السابقة تتغير وتنتهي ويبقى القلب فاسدًا بالشر.
هـ. فقدوا كل رحمة وامتلاؤا ظلمًا وقساوة قلب.
“لم يقضوا في الدعوى، دعوى اليتيم.
وقد نجحوا.
وبحق المساكين لم يقضوا” [28].
تجاوبوا مع الرعاة في الشر[30-31].
صار الجرح داميًا لا علاج له حتى “صار في الأرض دهش وقشعريرة” [30].
اشترك الشعب مع القيادات الدينية في هذا الشر. “الأنبياء يتنبأون بالكذب، والكهنة تحكم على أيديهم، وشعبي هكذا أحب”.
وُجدت خطايا مشتركة اشترك فيها الأنبياء الذين أعلنوا الكذب عوض الحق، والكهنة الذين حكموا لا حسب شريعة الرب بل حسب سلطانهم الذي سُلم إليهم فأساءوا استخدامه. أحب الشعب الكذب والفساد إذ وجد الفرصة للملذات الجسدية والرجاسات. جاءت تصرفات القيادات الشريرة متجاوبة مع قلب الشعب الفاسد.
من وحيّ إرميا 5
تأديباتك أعذب من تملق المخادعين!
v أعترف لك يا إلهي ومخلصي الحبيب،
ليس في أورشليمي الداخلية حق أو برّ!
لتدخل أيها البار فيها، فأنعم بالصفح.
بدمك الثمين أغتسل، وببرك أتبرر أيها القدوس!
v إني لست مستحقًا أن تتطلع إليّ،
لكن من أجل صلاحك اغرس فيَّ برك فاستحق نظراتك.
تطلع إليّ وأدبني بسياط رحمتك لا بغضبك.
هب لأعماقي أن تتوجع فتتوب وتصرخ إليك.
ليبكتني روحك القدوس فأدرك سرّ تأديبك ليّ.
أعترف لك يا سيدي إني كثيرًا ما لا أشعر بآلام تأديباتك،
ولا بمهابة يوم الدينونة!
فقدت نفسي كل إحساسٍ، صارت ميتة!
أقمها أيها المخلص فتشعر بالأوجاع وتخشى دينونتك!
v انزع عني الجهالة والكبرياء أيها الحبيب!
ففي جهلي ظننتك قاسيًا!
وفي كبريائي رفضت تأديباتك المخلصة!
v في القديم استمع الشعب لكلمات الأنبياء الكذبة الناعمة فسقطوا في السبي،
وأنا في جهالتي أنصت إلى روح التهاون والاسترخاء،
فسقطت في سبي الخطية المرّة.
أذلتني الخطية بعنف،
وابتلعتني كقبرٍ مفتوحٍ،
حطمت طاقاتي ومواهبي،
أفسدت كل ما في داخلي.
انزع عني روح الترف الكاذب، فأعود إليك يا مؤدبي الصالح!
v سبتني الخطية إذ سلمت نفسي إلى الفساد،
طردني البر لأني بإرادتي اشتهيت الرجاسات!
أعمت الخطية بصيرتي عن رؤياك وسدت آذاني عن سماع صوتك.
لتثر أمواج الضيقات عليّ حتى أبصرك وأسمع لصوتك!
v عرف البحر حدوده فلا يتجاوزها.
وعرف المطر المبكر والمطر المتأخر وقتهما،
أما أنا ففي عمى بصيرتي تجاهلت حدودي،
تمرَّدت وعصيت ولم أخفْ خالقي!
v أعترف لك بطمعي وأنانيتي.
نصبت الشباك لغيري كي أغتني، فإذا بي أسقط فيها.
ملأت القفص طيورًا مسلوبة الحرية ففقدت حريتي الداخلية.
ظلمت وقسوت فإذا بي أجمع لنفسي دينونة.
أعترف لك طالبًا عونك!
ليعمل روحك القدوس فيّ!
تفسير إرميا 4 | تفسير سفر إرميا | تفسير العهد القديم |
تفسير إرميا 6 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر إرميا | تفاسير العهد القديم |