تفسير سفر إرميا ٢٠ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح العشرون

مقاومة فشحور له

كان يليق بالكاهن فشحور أن يكرم إرميا ويحميه ككاهنٍ زميلٍ له، ويستشيره كنبي، لأنه ينطق بكلمة الرب، لكنه عوض ذلك جعله في المقطرة، ليضيق عليه فلا ينطق بالحق، لكن التهبت كلمة الرب بالأكثر في قلب إرميا، ولم يستطع الصمت. تمتع بالمعية مع الله وشهد للحق.

  1. إرميا في المقطرة[1-2].
  2. فشحور المرتعب[3-6].
  3. نار محرقة في قلب إرميا[7-9].
  4. مقاومة الناس ومساندة الرب[10-11].
  5. تسبحة وسط الآلام[12-13].
  6. لحظات ضعف بشري[14-18].
  7. إرميا في المقطرة:

“وسمع فشحور بن امير الكاهن،

وهو ناظر أول في بيت الرب،

إرميا يتنبأ بهذه الكلمات.

فضرب فشحور إرميا النبي،

وجعله في المقطرة التي في باب بنيامين الأعلى الذي عند بيت الرب” [1-2].

كان فشحور الكاهن هو الناظر الأول للهيكل لفترة مؤقتة، في سلطانه أن يسجن بتهمة الإخلال بالأمن العام. قام بضرب إرميا وجعله في المقطرة وتركه يقضى ليلةً في السجن أو في الجب السفلي.

كان هذا التصرف بلاشك غير شرعي، لأنه ما كان يليق به أن يضرب كاهنًا ويضعه في المقطرة دون فحص قضيته أمام رئيس الكهنة والكهنة زملائه. لكن هذه كانت شكليات لم تشغل بال أحد بسبب الثورة العارمة ضد إرميا. لقد أدرك فشحور أن إرميا يفضح أخطاءه وأخطاء زملائه، كما يحطم شعبية الكهنة، وأن الوقت ضيق، لذا لم يفكر في استشارة أحد، واثقاً أن غالبية الكهنة، إن لم يكن جميعهم، يقفون في جانبه ضد إرميا، وأن إرميا لن يرفع شكواه إلى رئيس الكهنة أو الكهنة!

بالنسبة لاسم “فشحور” فقد حمل كثيرون في تلك الفترة هذا الاسم. ذكر إرميا في الأصحاح التالي شخصًا آخر يحمل ذات الاسم: “فشحور بن ملكيا” (21: 1). يرى البعض أن الاسم مصري الأصل يعني “ابن حورس”.

اختلف رأى الدارسين من جهة تصرفات فشحور؛ هل قام بضرب إرميا بنفسه أم رُتبته الكهنوتية تمنعه من ذلك، فقام بإصدار أمره بالضرب؟! هل أُلقى في سجن أم في حجز مؤقت قضى فيه إرميا تلك الليلة؟ هذه الأسئلة وغيرها لا تشغلنا، إنما ما يشغلنا هو مقاومة فشحور للكلمة الإلهية في شخص إرميا بكل وسيلة ممكنة لديه.

بالنسبة لباب بنيامين الأعلى الذي عند بيت الرب [2]، فقد كان هناك باب للمدينة يُدعى “باب بنيامين (الأدنى)” (37: 13؛ 38: 7) على الجانب الشمالي منها أو شمال شرق المدينة حيث كانت أنصبة بنيامين في ذلك الإتجاه. هذا بخلاف باب آخر يحمل ذات الاسم لدار الهيكل “باب بنيامين (الأعلى)”، يُدعى “الأعلى” حيث ُيقام الهيكل على مرتفعة عالية.

غالبًا لم يكن فشحور بين المستمعين لإرميا النبي في توفة، إنما وردت إليه أخباره هناك، وعرف بما نطق به إرميا أمام بعض شيوخ الشعب وشيوخ الكهنة. وإذ رآه قادمًا نحو الهيكل توقع أنه يكرر ما قاله هناك أمام خدام الهيكل والشعب، فيحل الرعب بالشعب، وربما ينحاز البعض إليه فلا يقدر فشحور أن يتصرف بعد ذلك. لذلك أسرع بضربه ووضعه في المقطرة علانية أمام الكل حتى متى تكلم لا يسمع له أحد. أراد أن يسخر به أمام الكل حتى لا يلتفتوا إلى كلماته.

يرى العلامة أوريجينوس أن إرميا النبي يمثل كلمة الله. كان يليق بفشحور الكاهن والناظر الأول في بيت الرب أن يكرم إرميا، وينطلق به إلى فوق، فينعم بالرؤى السماوية، ويتمتع باستنارة إلهية، لكنه على العكس نزل بإرميا إلى الجب، إلى أسفل، وهناك جعله في المقطرة، ليربط كلمة الله ويقيدها، ففقد البصيرة كما دخل في حالة رعبٍ وخوفٍ.

هنا فشحور يمثل الإنسان الذي يستهين بكلمة الله، فلا يرتفع بها كما على سطح بيته الداخلي، فيرى مع بطرس الرسول وهو على السطح رؤيا سماوية (أع 10: 9-16) تكشف له عن خطة الله الخلاصية، بل كإنسان ينزل بكلمة الله كما إلى الجب ليغوص وسط الوحل، عوض التمتع بالسماويات يرتبط قلبه وفكره كما أحاسيسه وعواطفه بمحبة العالم وترابه الباطل.

عندما يمسك المؤمن بكلمة الله ويرتفع إلى العلية يتمتع مع تلاميذ الرب بعمل الروح القدس الناري، الذي يحول قلبه إلى ذبيحة محرقة، ويشعل أعماقه بنار الحب الإلهي. هناك في العلية يلتقي بالأرملة التي انطلقت بإيليا النبي إلى فوق، فيقيم ابنها الميت… هكذا تقيم كلمة الرب النفس الميتة، وتبعث فيها الحياة المُقامة. هناك أيضًا يجد المؤمن ربنا يسوع المسيح، الكلمة الإلهي، في العلية يقدم له جسده ودمه المبذولين، حياة أبدية.

إنجيلنا ليس وسيلة للتمتع بالزمنيات، إنما هو وسيلة للارتفاع نحو السمويات. على الجبال العالية يلتقي الله مع رجاله، فعلى جبل سيناء التقى الرب مع نبيه موسى، مقدمًا له شريعته المقدسة. وعلى جبل تابور التقى رب المجد مع موسى وإيليا وبطرس ويعقوب ويوحنا، حيث تجلى أمام تلاميذه، مظهرًا لهم بهاء مجده.

لنحذر جميعًا – كهنة وشعبًا – ألا ننزل بإرميا إلى الجب السُفلي، ونضعه في المقطرة. لنحذر لئلا تتحول كلمة الله إلى وسيلة لطلب أمورٍ زمنية وراحة وقتية، عوض الانشغال بخلاص نفوسنا وخلاص إخوتنا، حيث يلتقي الكل بالمخلص السماوي، وتصير لنا شركة معه في المجد الأبدي.

المسيح يُضرب فينا

يقول العلامة أوريجينوس:

[“فضرب فشحور إرميا النبي”. يبدو أن فشحور كان ممسكًا بعصا في يده لأنه كان ساحرًا. إذا رجعنا إلى سفر الخروج نجد أن سحرة مصر كان عندهم أيضًا عصى، أرادوا بها أن ُيظهروا أن عصا موسى ليست من الله؛ لكن عصا الرب غلبت عصى السحرة وأكلتها.

“ضرب فشحور إرميا النبي”. أكد الكتاب صفة إرميا ورتبته: “النبي”. إذن الذي ضَرب إرميا ضَرب النبي. ويذكر سفر أعمال الرسل أيضًا أن واحدًا ضرب بولس الرسول بأمر من حنانيا رئيس الكهنة، لهذا قال له بولس الرسول: سيضربك الله أيها الحائط المبيض، من الخارج له صورة رئيس كهنة عظيم ومن الداخل حائط مبيض، مملوء عظام أموات وكل نجاسة.

لماذا نتكلم عن بولس وعن إرميا؟ فإن ربي يسوع المسيح هو نفسه يقول: أسلمتُ ظهري للسياط وخدَّيَّ أهملتهما للطم، ولم أرد وجهي عن خزي البصاق”.

يظن بعض البسطاء أن ما حدث للسيد المسيح كان في أيام بيلاطس فقط، حينما أسلمه ليُجلد وحينما اشتكى اليهود عليه، أما أنا فأرى يسوع المسيح يُسلَّم ليُجلد في كل يوم. ادخل إلى معابد اليهود اليوم وأنظر كيف أن السيد المسيح يُجلد منهم من خلال التجاديف، كذلك أنظر إلى أبناء الأمم الذين يجتمعون ليشتكوا على المسيحيين، كيف يقبضون على يسوع المسيح الموجود في كل مسيحى ويقومون بجلده. تأمل يسوع المسيح الابن الكلمة كيف أنه مُهان ومرذول ومحكوم عليه من غير المؤمنين. أنظر كيف أنه بعد ما علَّمنا وأوصانا قائلاً: “من لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا” قام هو نفسه بتنفيذ هذه الوصية فأهمل خدَّيه للطم. يوجد أُناس كثيرون يجلدونه ويلطمونه أما هو فلا يفتح فاه. حتى يومنا هذا، لا يرد يسوع المسيح وجهه عن خزي البصاق: لأن الذي يحتقر تعاليمه يكون كمن ينفض البصاق في وجهه[429]].

يليق بنا أن نستقبل الأنبياء في العُلِّيةّ لا في الجب السُفلي:

[أمر منطقي أن يُضرب إرميا كما ضُرب بولس وكما ضُرب السيد المسيح. “فضَرب فشحور إرميا النبي وجعله في المقطرة التي في باب بنيامين الأعلى”. كانت المقطرة في باب بنيامين في الدور الأعلى (العلوي). كان نصيب سبط بنيامين في الميراث “أورشليم” حيث يوجد هيكل الرب، ذلك كما هو موضح في تقسيم الميراث الموجود في سفر يشوع. بما أن الهيكل كان في سبط بنيامين، لذلك فإن النبي قد “أًلقى في الجب الذي في باب بنيامين” [2] (LXX). اسم بنيامين معناه “ابن اليمين”. وهذا الباب موجود بالقرب من الدور العلوي عند بيت الرب. بالرغم من وجود دور علوى في بيت الرب، إلا أن فشحور لم يلقِ إرميا إلا في الجب السُفلي.

أما نحن فنريد أن نأخذ إرميا الآن ونصعده إلى الدور العلوي من بيت الرب؟ أقصد بالدور العلوي المعنى الروحي المرتفع[430]، وذلك كما سأوضح من خلال نصوصٍ عديدة من الكتاب المقدس تؤكد أن الأبرار يستقبلون الأنبياء في الأدوار العليا.

يذكر سفر الملوك أن أرملة صرفة صيدا التي اعدها الرب لإعالة إيليا استَضافته عندها في العُلِّية الموجودة في منزلها (1 مل 17: 19).

كذلك المرأة الشونمية التي كانت تستضيف أليشع النبي كلما مرَّ عليها، عملت له عُلِّية صغيرة لكي يستريح فيها كلما يجيء (2 مل 4: 8-10).

وعلى العكس من ذلك فإن أفتيخوس الخاطي سقط من الطابق العلوي (أع 20: 9).

يوصيك يسوع المسيح أيضًا ألاّ تنزل من السطح، فيقول: والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئًا”.

إذن الوجود في الأدوار المرتفعة وعلى الأسطح هو أفضل شيء[431]].

  1. فشحور المرتعب:

“وكان في الغد أن فشحور أخرج إرميا من المقطرة.

فقال له إرميا:

لم يدعُ الرب اسمك فشحور بل مجور مِسا بيب.

لأنه هكذا قال الرب:

هأنذا أجعلك خوفًا لنفسك ولكل محبيك،

فيسقطون بسيف أعدائهم،

وعيناك تنظران.

وأدفع كل يهوذا ليد ملك بابل فيسبيهم إلى بابل ويضربهم بالسيف” [3-4].

إذ نزل بكلمة الله كما إلى الجب، وقيدها كما بمقطرة، لكي لا تعمل في قلبه، تحول قلبه إلى حالة من اللاسلام، وكما قيل: “لا سلام قال الرب للأشرار” (إش 48: 22). فقد سلامه الداخلي وفرح قلبه، ودخل إلى حالة خوفٍ ورعبٍ حطمته في الداخل وتسللت حتى على محبِّيه. لذا غيَّر الله اسمه من “فشحور” الذي يعني “مثمرًا من كل جانب” إلى “مجور ِمسا بيب” يترجمها البعض “رعب من كل جانب“. لا يعني هذا أن الاسم تغير فعلاً في معاملاته مع الغير، وإنما تغير في تظر الله، ليدرك فحشور حقيقة موقفه لعله يتوب!

يرى البعض أن الاسم الجديد يعني “رحيلاً”[432]، وكأن فشحور لن ينعم بالاستقرار بل يُرحل إلى بابل مسبيًّا، هو ومحبوه، عندئذ يرتعبوا.

كان الأمر الإلهي للبشرية: “اثمروا واكثروا” (تك 1: 28)… أما الآن فنزع الله عن فشحور هذه البركة ليدعوه “ارتعب أنت ومحبوك من كل جانب”. عوض الإثمار المفرح يصير الموت المرعب له وللذين يحبونه ويرتبطون به لا بوصية الله.

كان الاتهام الرئيسي ضد إرميا النبي أنه محطم لنفسية القيادات والشعب، وأنه دائم التشاؤم، لذا جاء تغيير اسم فشحور ردًا على هذا الاتهام. وكأن مصدر الرعب وتحطيم النفسية هو فحشور ومن على شاكلته، وليس إرميا.

حينما دخل الله مع أبرام في عهد وأعلن له عن شريعة الختان (تك 17) غير اسمه من أبرام (أب مكرم) إلى إبراهيم (أب لجمهور)، وغيَّر اسم ساراي (أميرتي) إلى سارة (أميرة)، فقد صار إبراهيم خلال الميثاق الإلهي أبًا لجمهور من الأمم، ولم تعد سارة خاصة به بل أميرة يعتز بها جميع المؤمنين. هذا حدث مع الختان، وكما يقول القديس أغسطينوس: [ماذا يعني الختان سوى تجديد الطبيعة البشرية بنزع الإنسان القديم؟ وماذا تعني الأيام الثمانية (للختان) سوى المسيح الذي قام بعدما أكمل الأسبوع، أي بعد “السبت”؟ لقد تغير اسما الوالدين، وأعلن كل شيء جديدًا[433]].

الآن، إذ فقد فشحور ختان القلب والأذن برفضه الكلمة النبوية الإلهية تغيَّر اسمه فلا يكون أبًا لجمهورٍ، بل رعبًا للذين يحبونه، وهلاكًا لهم!

هكذا غُرلة القلب والأذن، ورفض الميثاق الإلهي يغير اسمنا من الإثمار والبركة إلى الرعب والهلاك، حتى الأرض التي نقيم فيها تتغير كما تغيرت توفة إلى “وادي القتل” (19: 6).

يدخل فشحور الكاهن والناظر الأول للهيكل إلى حالة من الرعب، مصدرها من الداخل، وهو رفضه التمتع بكلمة الله والاستماع إلى الصوت الإلهي. وإذ يفقد سلامه الداخلي ينهار أمام ملك بابل، ويسقط في السبي كما تحت السيف. يفقد قوته وكرامته وحريته وأخيرًا حتى حياته!

أولاد الله يعيشون في فرحٍ داخلي حتى وسط آلامهم، أما أولاد إبليس فيعيشون في رعبٍ، حتى إن نالوا كل العالم في أيديهم. يصيرون كقايين الذي قيل عنه: “تائهًا وهاربًا تكون في الأرض” (تك 4: 12). وكما يقول القديس أثناسيوس: [نعم، فإن أعياد الأشرار هي ويلات[434]].

أُلقي إرميا في الجب وُقيد بمقطرة، لكن قلبه بقى في السماء، وكلمة الله التي وُهبت له لم تُقيد، وأما فشحور فكان صاحب سلطان ككاهنٍ وناظر أول الهيكل، لكنه انهار في مذلةٍ داخلية وهلاكٍ خارجي. في شجاعة تحدث إرميا النبي مع فشحور، مؤكدَا حدوث السبي وتحقق الهلاك للكاهن كما للبيت الملكي، هكذا:

أولاً: “هأنذا أجعلك خوفًا لنفسك” [4]. كأن ما يحل به من رعبٍ مصدره داخل نفسه؛ يصير قايين زمانه!

ثانيًا: “أجعلك خوفًا… لكل محبيك، فيسقطون بسيف أعدائهم، وعيناك تنظران” [4]. كان يليق به ككاهن الله أن يكون مصدر سلامٍ لكل بشرٍ ما استطاع، لكن بسقوطه في العصيان والعناد صار علة رعبٍ حتى لمحبيه، عوض تمتعهم بالخلاص سقطوا بسيف الأعداء، وعوض ارتفاعهم لرؤية الأمجاد المعدة لهم انفتحت عيني فشحور ليرى هلاك محبيه يبدأ هنا على أيدي البابليين.

ربما يشير محبوه هنا إلى الجسد بكل طاقاته، فالإنسان الذي يحرم نفسه من عمل الكلمة الإلهي في حياته لأجل ملذات جسده، يصب على جسده حالة من الرعبٍ والدمارٍ عوض إعداده لشركة المجد الأبدي مع النفس.

ثالثًا: “وأدفع كل ثروة هذه المدينة وكل تعبها وكل مثمناتها وكل خزائن ملوك يهوذا، أدفعها ليد أعدئهم… “[5]. هكذا تمتد الخسارة لا إلى المحبين فحسب بل وإلى كل المدينة بكل إمكانياتها وخزائنها.

تشير المدينة هنا بثروتها وتعبها ومثمناتها وخزائن ملوكها إلى مواهب الإنسان وقدراته… بالانحراف عن الطريق الروحي الملوكي يفقد الإنسان خزائنه الداخلية ومواهبه التي كان يمكن أن يستخدمها لبنيان نفوس كثيرة، ويصير له رصيد غنى أبدي وإكليل مجد سماوي.

رابعًا: ذهابهم إلى السبي… إشارة إلى فقدان النفس للحرية الداخلية. هنا لأول مرة يشير إرميا النبي إلى اسم الدولة التي تسبيهم: بابل.

خامسُا: “وهناك تموت، وهناك تُدفن أنت وكل محبيك الذين تنبأت لهم بالكذب” [6]… كان يُنظر إلى الدفن في أرض غريبة إحدى علامات غضب الله على الإنسان، وسقوطه تحت اللعنة.

يرى البعض أن فشحور لم يكن كاهنًا فحسب، وإنما كان نبيًا كاذبًا، أعلن أنه لن تصاب الأمة بأذى (14: 13). استحق الموت بسبب كذبه (26: 28). وقد استخدم إرميا النبي كلمة “كذب” أو “بطلان” كثيرًا، إذ سقطت القيادات والشعب في مؤامرة الكذب.

كأن إرميا قد أعلن لفشحور أنه لا يعود بعد ناظرًا للهيكل يُصدر حكمًا على الآخرين، إنما يعاني من صدور الحكم الإلهي ضده يرعبه ويرعب الأمة كلها[435].

  1. نار محرقة في قلب إرميا:

في لحظات ضعفٍ بشري وجد إرميا نفسه مضروبًا ومهانًا من كاهنٍ زميلٍ له، وُملقى في المقطرة الليلة كلها، وقد صار أضحوكة بين الكهنة والشعب… كما شعر بفشل رسالته. ليس من يصغي إليه، ولا من يهتم بكلمات الرب التي ينطق بها. هذا كله أثار في نفسه مشاعر مؤقتة، سجلها لنا لكي ندرك أنه ليس أحدٌ بلا ضعف، مهما بلغت عظم رسالته.

في مرارة مع صراحة تامة تحدث مع الله معاتبًا إياه، مقدمًا اعترافًا:

“قد اقنعتني (خدعتني) يارب فاقتنعت فخُدعت).

وألححت (قويت) عليّ فغُلبت.

صرتُ للضحك كل النهار.

كل واحدٍ استهزأ بي” [7].

حقًا تكاليف الخدمة باهظة، إذ يشعر الخادم في بعض اللحظات كأن الوعود الإلهية لا تتحقق، يرى من حوله يضحكون عليه ويستهزئون به.

جاءت الأفعال هنا “خدعتني، قويت عليّ، غُلبت” هي بعينها المستخدمة عندما تخدع زوجة رجلها أو يقوي رجل على سيدة[436]! ولعله استخدم ذلك لأن إرميا شعر باتحاد عجيب مع الله مُرسله، ارتباط قوي كالاتحاد الزوجي… لكنه فجأة شعر كأن كل شيء قد انهار أمامه، كأنه قد خُدع! أين الوعد الإلهي: “قد جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض، لملوك يهوذا ولرؤسائها ولكهنتها ولشعب الأرض؛ فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك” (1: 18-19)؟ هوذا الآن مُهان ومُضروب ومُقيد… ليس من يسمع له، ولا من يصغي إليه!

لعله لم يدرك إرميا النبي أنه كان يليق به أن يحمل صورة مخلصه يسوع المسيح الذي صار أضحوكة كل النهار، استهزأ به اللص، وسخر منه الشعب كما الجند، واجتمعت القيادات الدينية مع المدنية للخلاص منه!

هذه هي تكلفة الخدمة والتلمذة للسيد المسيح المصلوب، القائل: “ليس التلميذ أفضل من المعلم، ولا العبد أفضل من سيده… إن كانوا قد لقبوا رب البيت بعلزبول، فكم بالحرى أهل بيته؟!” (مت 10: 24-25). “لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا، فماذا يكون باليابس؟!” (لو 23: 31).

كثيرًا ما يتحدث العهد القديم عن العابرين الذين يسخرون ويهمسون عند رؤيتهم لشخصٍ ساقطٍ تحت كارثة أو في حالة إنهيار (مل 9: 8؛ مرا 2: 15-16؛ حز 27: 36؛ صف 2: 15).

أما بخصوص العبارة: “قد اقنعتني (خدعتني) يارب فاقتنعت (فخُدعت)” للقديس يوحنا الذهبي الفم تعليق على ذلك: [يوجد خداع صالح أيضًا، به خُدع كثيرون هذا الذي يجب ألا ندعوه خداعًا قط… استخدم يعقوب هذا الخداع مع أبيه؛ فهو ليس خداعًا بل تدبير[437]].

كانت صرخات إرميا للقيادات كما للشعب هي: ظلم واغتصاب [8]، كاشفًا لهم عن ضعفاتهم، وفاضحًا أعماقهم… فلم يحتملوا.

ربما تردد أحيانًا ولو إلى لحظات، متساءلاً:

“لماذا أخسر الناس؟

لماذا أذكر اسم الله الذي يثيرهم؟

لماذا لا أصمت؟

لأترك الخدمة لآخر غيري!”

لكن صوت الحق كان كنارٍ في قلبه لا يقدر أن يخمدها.

“لأني كلما تكلمت صرخت.

ناديت: ظلمٌ واغتصابٌ.

لأن كلمة الرب صارت لي للعارِ وللسخرةِ كل النهار.

فقلت: لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه.

فكان في قلبي كنارٍ محرقةٍ محصورةٍ في عظامي،

فمللت من الإمساك ولم أستطع” [8-9].

يبدو أن إرميا عانى من صراعٍ داخلي، إذ شعر بنوعٍ من الفشل. فتحت الضغوط المستمرة ممن هم حوله (18: 18؛ 20: 7، 8، 20) خطر بباله أن يعكف عن الخدمة العامة ويمارس حياته التعبدية الخاصة، ما دامت خدمته غير مثمرة بل مثيرة للجميع، حتى للذين أحبهم. اشتهي أن يعود إلى عزلته في قريته المتواضعة. شعر كأن بذار الكلمة قد أُلقيبها على قلوب صخرية، ذهبت ادراج الرياح، فصرخ قائلاً: “فقلت لا أذكره، ولا أنطق بعد باسمه” [9].

هذا ومن جانب آخر كانت كلمة الله للتأديب نارًا محرقة في قلبه، محصورة في عظامه، لكن بسبب أمانته لله وثقته فيه كمخلص لم يستطع أن يمسك عن الكلمة، ولو كلفه الأمر حياته كلها.

اعتاد في وسط آلامه المرّة أن يرفع نظره إلى الله الذي دعاه للخدمة والشهادة للحق. لقد صارت كلمة الرب في قلبه نارًا محصورة في داخله، لكنه لم يقدر أن يمسك عن الكلام متكلاً على الله الذي هو عزه وحصنه وملجأه في يوم الضيق (16: 19)، يصرخ إليه:

“اشفني يارب فأُشفى،

خلصني فأخلص،

لأنك أنت تسبيحتي…

لا أخزَ أنا…

ولا أرتعب أنا…” (17: 14-18).

أعطته هذه النار المتأججة قوة تدفعه ألاّ يصمت عن الشهادة لكلمة الله وألاّ يتوقف عن العمل حتى ولو وقف الجميع ضده. مصدر هذه النار هي محبة الله المنسكبة في قلوبنا بالروح القدس.

يقول القديس أمبروسيوس أن سرّ ذلك هو تقبله الروح القدس الناري الذي يلهب أذهان المؤمنين وقلوبهم[438].

v     لقد أُخبرنا أن كلمة الرب كانت في إرميا كنارٍ محرقةٍ (20: 9). وكان رد الفعل: “الامساك عنها جعلني قلقًا، ولم أستطع“. لما كان ربنا يسوع المسيح صالحًا ومحبًا للبشرية جاء بالجسد لكي يجلب هذا النوع من النار إلى الأرض، قائلاً: “ماذا لو اضطرمت؟!” (لو 12: 49). إنه يود أن يتوب البشر لا أن يموتوا (كما نجد في حزقيال). لهذا أراد أن يحرق الشر والخبث الذي في البشر، حتى إذ يتطهروا يأتوا بثمرٍ (حز 18: 23، 32). إننا نعرف أنه إذ يزرع الكلمة يأتي بثمر: ثلاثين وستين ومائة (مر 4: 20) [439].

البابا أثناسيوس الرسولي

v     بخصوص التفسيرات السرية (mystical)، أُرسلت إليهم النار التي لم يستطع إرميا أن يحتملها.

عندما تخترق مواضع النفس السرية تحلنا وتطهرنا وتحولنا من الإنسان القديم إلى الجديد، فنستطيع أن ننطق صارخين: “لا أحيا أنا، بل نعمة الله التي في” (راجع غلا 2: 20، 1 كو 15: 10؛ كو 3: 9) [440].

القديس جيروم

  1. مقاومة الناس ومساندة الرب:

“لأني سمعت مذمةً من كثيرين.

خوف من كل جانبٍ.

يقولون: اشتكوا، فنشتكي عليه.

كل أصحابي يراقبون ظلعي قائلين:

لعله يطغي، فنقدر عليه، وننتقم منه” [10].

يبدو أن إرميا النبي قد دخل في حالة ارتباكٍ شديدٍ وسط الجو العاصف الذي حل به. رأى الله يخدعه ولم يقف معه ليسنده ضد مقاوميه، كما صارالأعداء (الأنبياء الكذبة) أصحابه يسمعون له لكي يتصيدوا له الأخطاء. تارة يهاجمونه ويسبونه كي لا يصغي الشعب إليه، وأخرى يراقبونه باهتمامٍ كمن يطلبون كلمة منه.

سمعهم يذمونه ويسخرون منه: “لأني سمعت مذمة من كثيرين”، أي من الأنبياء الكذبة والكهنة الذين دعاهم بالكثيرين، كقول المرتل: “كثيرون قاموا عليّ، كثيرون يقولون لنفسي: ليس له خلاص بإلهه” (مز 3).

في سخريتهم به كانوا يرددون ما قاله عن فشحور: “لم يدع الرب اسمك فشحور بل مجور مسا بيب (خوف من كل جانب)” [3]. في استهزاء يرددون: “خوف من كل جانب!” لعلهم بهذا كانوا يقولون: من الذي يحلّ به الخوف من كل جانب: فشحور أم أنت يا إرميا؟ هوذا تحلّ الكوارث بك، ويقف الكل ضدك، ولا تجد راحة ولا سلامًا ولا ثمرًا!

كلماتهم تحمل سخرية من الخارج مع اضطراب في الداخل، فقد حلّ بهم الخوف، وحاولوا علاج ذلك، لا بالاستماع إلى صوت الرب، بل بالسخرية به… إنهم يخدعون أنفسهم!

صدرت الأوامر الخفية أيضًا بمخاتلته وخداعه لكي يتكلم بما عنده فيجدون في كلماته سلاحًا ضده. أثاروا من يشتكون عليه ممن يصغون إليه فيجدوا فرصتهم ضده لمحاكمته والانتقام منه.

مقابل هذا، مع هياج الأنبياء الكذبة ضده يعلن الله معيته وحضرته لنبيه المرذول، يتقدم كجبارٍ قديرٍ يدافع عنه، مفسدًا كل خطة شريرة ضده. معية الله هي سرّ قوته ونصرته (مز 48: 1-8).

“ولكن الرب معي كجبارٍ قديرٍ.

من أجل ذلك يعثر مضطهديّ ولا يقدرون.

خزوا جدًا لأنهم لم ينجحوا،

 خزيًا أبديًا لا يُنسى” [11].

اختبر إرميا النبي ما قاله المرتل: “فاستيقظ الرب كنائمٍ كجبار معيط من الخمر، فضرب أعداءه إلى الوراء، جعلهم عارًا أبديًا” (مز 78: 65-66).

هذه هي صورة السيد المسيح الذي نام على الصليب، فظنه عدو الخير أنه لا يقوم ، لكنه صرخ بقوةٍ كجبارٍ، محطمًا متاريس الهاوية، وضرب عدو الخير بالصليب ودفع به إلى عارٍ أبدي! ظن عدو الخير أنه بالصليب يحطم رسالة المسيح، ولم يدرك أنه بالصليب تمت الغلبة والنصرة لحساب كل مؤمنيه، وأن السهام قد ارتدت على عدو الخير نفسه لتحطيمه تمامًا!

  1. تسبحة وسط الآلام:

إذ يدرك إرميا النبي معية الله وسط الآلام تتحول حياته من الضيق إلى الفرح، مسبحًا الله المنقذ نفس المسكين من يد الأشرار، وذلك كما فعل المرنمون، إذ غالبًا ما تنتهي مزامير الرثاء بعبارات مفرحة تكشف عن الثقة في الله كمخلصٍ وسندٍ للمتألمين.

“فيارب الجنود مختبر الصديق،

ناظر الكلى والقلب،

دعني أرى نقمتك منهم،

لأني لك كشفت دعواي.

رنموا للرب، سبحوا للرب،

لأنه قد أنقذ نفس المسكين من يد الأشرار” [12-13].

كلمة الرب تسبب مرارة في البداية لكن تتحول المرارة إلى عذوبة فتتحول حياة المؤمن كلها إلى تسبيح داخلي لا ينقطع.

جاءت التسبحة هنا مطابقة لتلك التي وردت في (11: 20)، حينما وقف أهل عناثوث ضده. فمع كل ضيقة ينتهي إرميا إلى ممارسة حياة التسبيح والتمتع بفرح الله مخلصه.

لماذا يُدعى الله “مختبر الصديق”؟

v     الله لا يتعلم شيئًا عن الشخص الذي يختبره، إذ هو عارف كل شيء قبل حدوثه…

 توجد أسباب أخرى لاختبارنا وتجربتنا: أحيانًا يختبرنا لكي يعلن عن فضائلنا… كما حدث مع أيوب (أي 40: 8-9)… وأحيانًا يضع الناس في تجربة لكي إذ يروا أعمالهم، ويدركوا كيف يسلكون، يتوبون عن شرورهم أو يثبتون في الإيمان كما يتطلب الأمر[441].

البابا أثناسيوس الرسولي

يُدعى اللهناظر الكلى والقلب“، بكون الكلي هو كرسي العواطف والدوافع الخفية، بينما القلب هو مركز الفكر والإرادة.

كانت الضيقة لخير إرميا نفسه فقد تحقق بالأكثر أنه “المسكين” الذي لا يقدر بنفسه أن يخلص من أيدى الأعداء الجبابرة، لكن تبقى نفسه محفوظة في يد رب الجنود، مُنقذ المساكين!

الآن كمسكينٍ يرى نفسه موضع اهتمام الله الذي ينسب نفسه للمساكين والمرذولين والمطرودين والمظلومين، كما لليتامى والأرامل! هو أب يهتم بالذين ليس لهم من يسأل عنهم!

كان إرميا النبي في وسط ضيقته يسبح الرب، بل ويدعو الكل للتسبيح: “رنموا للرب سبحوا الرب، لأنه قد أنقذ نفس المسكين من يد الأشرار” [20].

قدم لنا إرميا النبي خبرته العملية في التسبيح لله وسط الآلام، هذه التي عاشها دانيال النبي في السبي كل يومٍ، إذ قيل عنه: “جثا على ركبتيه ثلاث مرات في اليوم وحمد قدام إلهه” (دا 6: 10).

وكان بولس وسيلا الرسولان المسجونان “يصليان ويسبحان الله والمسجونون يسمعونهما” (أع 16: 25).

 دعى داود النبي التسبيح ذبيحة (مز 27: 6؛ 116: 17؛ 50: 14؛ 2: 141).

يقول الشهيد يوستين: [تُعتبر الصلوات وتقديم الحمد حينما تُقدم من أشخاص معتبرين هي وحدها الذبائح الكاملة والمقبولة لدى الله[442]].

[الكرامة الوحيدة التي تليق بالله، ليست في حرق الذبائح بالنار، هذه التي أوجدها الله لقوام حياتنا، إنما تُقدم الكرامة له… بتقديم الحمد له بالتسابيح والألحان لأنه خلقنا[443]].

التسبيح هو تجاوب كيان الإنسان كله لمحبة الله، فتهتز كل مشاعره وأحاسيسه وأفكاره وإرادته كأوتار قيثارة تُخرج لحن الحب المتجاوب مع حب الله الفائق. هذا التجاوب يُعلن في المخدع حتى في لحظات النوم، كما في العمل والكنيسة…

ما نريد تأكيده أن التسبيح ليس عملاً فرديًا، لكنه شركة الجماعة كلها: المجاهدة والمنتصرة مع طغمات السمائيين:

“أمام الملائكة أرتل لك” (مز 138).

“سبحوه في جميع قديسيه” (مز 150).

“في وسط الجماعة العظيمة أسبحك” (مز 22).

فالمؤمن يقاسم الكنيسة مجدها الأبدي، دون أن ينفصل عنها. لا يمارس التسبيح في السماء بطقس منفرد خاص به… هكذا عمل التسبحة والليتورجيات كلها أن تكشف للمؤمن عن عضويته الكنسية ليدرك لا وحدته مع الكنيسة بل هو جزء لا يتجزأ منها، جاء ذلك ثمرة طبيعية لعمل الروح القدس فيه. إنه لا يحتاج إلى ما يوحده فيها بعد كأنها غريبة عنه.

كان ثمر يوم الخمسين:

“قبلوا كلامه بفرح واعتمدوا…

وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة

كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب،

مسبحين الله

وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون” (أع 2).

  1. لحظات ضعف بشري:

كانت نفسية إرميا تتمرر من وقت إلى آخر في لحظات الضعف، إذ كان يشعر بانسحاق لأعماقه من أجل ما سيحلّ بشعبه، وفي نفس الوقت يجد مقاومة حتى الموت من القيادات الفاسدة التي أثّرت حتى على الشعب، حتى اشتهي لو لم يولد.

“ملعون اليوم الذي وُلِدتُ فيه.

اليوم الذي ولدتني فيه أمي لا يكون مباركًا.

ملعون الإنسان الذي بشّر أبي، قائلاً:

قد وُلد لك ابن،

مُفَرحًا إيّاه فرحًا.

وليكن ذلك الإنسان كالمدن التي قلبها الرب ولم يندم،

فَيَسْمع صياحًا في الصباح، وجلبة في وقت الظهيرة.

لأنه لم يقتلني من الرحم،

فكانت لي أمي قبري ورحمها حُبلي إلى الأبد.

لماذا خرجت من الرحم لأرى تعبًا وحزنًا فتفنى بالخزي أيامي؟! [14-18].

كان يشتهي لو لم يولد، وكان يود لو أن أحشاء أمه صارت مقبرة له.

صورة للضعف البشري الذي يسقط فيه حتى الأنبياء والرسل… كبشر يحتاجون إلى سندٍ إلهي وسط آلامهم حتى لا ينهاروا.

منذ لحظات كان يسبح الله وسط آلامه، إذ كان متأكدًا أنه يُخلص نفس المسكين من يد الأشرار… لكن سرعان ما ضعف وشعر بالفشل مشتهيًا لو أن الموت قد حلّ به في لحظات ولادته. وقد سمح الله بتسجيل هذه المشاعر لكي لا نيأس حين نضعف وسط آلامنا، متطلعين إلى أن الأنبياء أنفسهم كانوا أحيانًا يضعفون. هذا ويليق بنا أن نسجل لحظات ضعفنا لكي متى تمتعنا بعمل نعمة الله نخجل من أنفسنا، ونعترف بضعفنا وغباوتنا أمامه. ونقدم له الشكر لأنه في صلاحه لم يأخذنا في لحظات ضعفنا، بل أعطانا فرصة التمتع بعمل نعمته، والدخول في خبرة جديدة معه.

مع ما حملته هذه العبارات من روح اليأس، لا ننكر أنها تكشف عن رقة نفس إرميا… لم يكن قادرًا أن يرى الناس يهلكون. يشتهي الموت عن أن يسمع ما سيحل بشعبه.

تسجيل هذه المشاعر لا يعني أن إرميا النبي قد نطق بها أمام أحد، وإنما سُجلت لكي نكتشف كيف أننا في لحظات تعبنا نخطئ بالفكر، لكن يليق بنا أن نضبط لساننا ونلجمه كقول المرتل: “قلت أتحفظ لسبيلي من الخطايا بلساني؛ أحفظ لفمى كمامة فيما الشرير مقابلي؛ صمت صمتًا” (مز 39: 1-2).

مع كل هذه الظروف القاسية، ومع مرارة نفسه لم يهرب من الخدمة… بل كان يهتم بخلاص الآخرين، حتى المقاومين له.

v     عندما سمع النبي هذا لم يرفض الخدمة. لم يقل على مثال موسى: “أسألك يارب، إني لست مستحقًا، أرسل آخر”. إذ كان محبًا للشعب[444]

القديس جيروم

يلاحظ في هذه المرثاة الشخصية الآتي:

أولاً: حسب إرميا يوم ميلاده يوم لعنة لا بركة، إذ ظن أنه لم يحقق رسالته، فما قيمة ميلاده أو حياته! لقد استحق يهوذا الخائن اليائس ذلك: أن يلعن يوم ميلاده، وكان خير له لو لم يولد (مت 26: 24) ، لكن ما كان يليق بنبي يعلم أنه إناء للرحمة أن يفعل ذلك.

ثانيًا: لم يلعن إرميا والديه إنما لعن يوم ميلاده، لأن الشريعة تحرم لعن الوالدين كجريمة عظمى (لا 20: 9؛ 24: 10-16).

ثالثًا: كان اليهود كما كثير من الأمم يفرحون بميلاد طفلٍ ذكر، لقد بشروا والده: “قد وُلد لك ابن (ذكر) ليفرح…

رابعًا: يقصد بالمدن التي قَلَبها الرب سدوم وعمورة، وقد أشير إليهما كثيرًا كعبرة (عا 4: 11؛ إش 1: 9-10؛ 3: 9؛ صف 2: 9). تحولت سدوم وعمورة إلى صياح وجلبه (تك 18: 20)، لكن ليس صراخ التوبة والرجوع إلى الله، بل صراخ التعب والألم مع حالة الرعب والخوف الشديد.

خامسًا: يعلم إرميا النبي تمامًا حالة الإحباط التي تحلّ بالأم التي يموت طفلها عند ولادته (6: 26؛ أم 4: 3)، لكنه يُحسب هذا كلا شيء أمام إحساسه بأن حياته بلا معنى ولا قيمة.

يعلق القديس أمبروسيوس على كلمات إرميا النبي السابقة، قائلاً بان القديسين ينوحون منتظرين حياة أفضل [لذلك القديسون ليسوا بدون سبب كثيرًا ما كانوا ينوحون من أجل طول بقائهم هنا، داود بكى ذلك (مز 119: 5) وإرميا وإيليا (1 مل 19: 4)[445]].

ويقول العلامة أوريجينوس:

[لا نجد أحدًا من القديسين يحتفل بعيد ميلاده أو يقيم فيه وليمة عظيمة، ولا يفرح أحد بعيد ميلاد ابنه أو ابنته، إنما يفرح الخطاة بهذا.

ففي العهد القديم احتفل فرعون ملك مصر بعيد ميلاده (تك 40: 20)، وفي العهد الجديد احتفل هيرودس أيضًا (مر 6: 21)، وفي الحالتين سال الدم علامة تكريمهما لعيد ميلادهما، فقطعت رأس رئيس الخبازين (تك 40: 22)، وأيضًا رأس القديس النبي يوحنا في السجن (مر 6: 27).

أما القديسون فليس فقط لا يحتفلون بأعياد ميلادهم وإنما وهم مملؤون من الروح القدس يسبون هذا اليوم. فإن نبيًا عظيمًا، أقصد إرميا، الذي تقدس في بطن أمه وتكرس كنبي للشعوب (1: 5)، يعلن: “ملعون اليوم الذي وُلدت فيه، اليوم الذي ولدتني فيه أمي لا يكون مباركًا…” [14]…].


 

من وحي إرميا 20

اسمك نار في قلبي،

محصورة في عظامي!

v     صار اسمك نارًا في قلبي،

 يلهب أعماقي،

 فلا أستطيع أن أصمت!

v     التهب قلب إرميا النبي،

 فتكلم بكل شجاعة ولم يصمت.

 ضربه الكاهن فشحور، ووضعه في مقطرة،

 لكنه لم يستطع أن يقيد كلمة الله النارية التي ينطق بها،

 لم يستطع أن يطفئ نارك التي ألهبت أعماقه.

v     دعوت فشحور(= مثمر من كل جانب) “مجور ِمسا بيب” (= خوف من كل جانب)،

 لأنه لم يعد يحمل ثمرًا مفرحًا، بل رعبًا لنفسه ولمحبيه!

 حاول فشحور أن يطفئ النار الإلهية،

 فصار إسمه “الخوف في كل جانب”!

 هذه هي ثمرة كل مقاومة لعملك الناري!

 يفقد الإنسان فرحه ليصير مرعبًا لنفسه،

 ويفقد الإنسان ثمره فيرعب أحباءه!

v     في لحظات الضعف ظن إرميا النبي أنك خدعته،

 وعدته بالخلاص والنصرة،

 وإذا بالكل حوله يحطمونه.

 صار أضحوكة الجميع النهار كله!

 صار الكل يسخرون به.

 ولم يدرك أنه إنما شاركك حياتك أيها المخلص!

 ثارت القيادات والجماهير ضدك،

 سخروا منك، قائلين:

 أصلبه! أصلبه!

 خلص آخرين، أما نفسه فلم يقدر أن يخلصها!

 هل لي شرف مشاركتك آلامك؟!

 ليسخر العالم بي،

 فإنه لن يطفئ لهيب حبك في داخلي!

 بقوة أقول مع خادمك أثناسيوس الرسولي:

 أنا ضد العالم!

 أخدمه بنار محبتك،

 لكنني لا انحني لشره ومفاهيمه الخاطئة!

v     في ضعفي لعنت مع إرميا النبي يوم ميلادي!

 لكنني تطلعت فرأيتك معي القوي القدير!

 لا تحاسبني على ضعفي،

 وإنما إلهب قلبي بنار روحك القدوس!

v     ليعمل روحك الناري في داخلي:

 يحرق ضعفاتي وسقطاتي!

 يلهب نفسي حبًا لك، فلا أكتم كلمتك!

 يشعل أعماقي حبًا، حتى لمقاوميّ!

 يحولني إلى نار مقدسة، مياه كثيرة لا تقدر أن تطفئها!

v     نعم، اسمك نار في قلبي!

 روحك القدوس نار يشعل أعماقي!

 كلامك نار محصورة في عظامي!

 متى أصير كأحد خدامك: لهيب نار لا ينطفئ!

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى