تفسير سفر إرميا ٣١ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الحادى والثلاثون

العهد الجديد

يظن بعض الدارسين أن أغلب ما ورد في هذا الأصحاح كتبه إرميا النبي لمملكة إسرائيل وذلك قبل السبي الأول ليهوذا سنة 597 ق.م. وأن الاشارة إلى يهوذا [3-4]، وصهيون [17] وكل عشائر إسرائيل [1] جاءت كإضافة فيما بعد لكي ينطبق الحديث على كل شعب الله.

يعتبر هذا الأصحاح تكملة للأصحاح السابق حيث يتحدث بالتفصيل عن وعود الله لشعبه الذي يخرجه من الأسر ويأتي به إلى الحرية، أو ينطلق به من أرض الغربة القاسية إلى الله نفسه “الرب برنا”!

  1. وعود لكل عشائر شعبه [2-6].
  2. عودة إسرائيل إلى أرضه [7-14].
  3. نهاية حزن راحيل[15-22].
  4. إصلاح إسرائيل ويهوذا[23-30].
  5. العهد الجديد[31-34].
  6. رباط لا ينحل[35-37].
  7. أورشليم الجديدة[38-40].
  8. وعود لكل عشائر شعبه:

“في ذلك الزمان يقول الرب أكون إلهًا لكل عشائر إسرائيل وهم يكونون لي شعبًا” [1].

بقوله “في ذلك الزمان” يشير إلى (30: 24) “في آخر الأيام”، أي في المستقبل المسياني. يبدأ بذلك كنعمة إلهية وأساس للكمال والإصلاح خلال المحبة الإلهية وأمانتة في وعوده لشعبه[537]. هذه الوعود الإلهية هي:

أ. يقيمهم شعبه:

يكمل إرميا النبي حديثه السابق عن مقاصد الله التي يعلنها موضحًا أنه: يكون هو إلهًا لكل العشائر، وهم يكونون له شعبًا، ينسب نفسه إليهم، وينسبهم إليه.

إذ رأى القديس يوحنا الحبيب أورشليم الجديدة أو السماء الجديدة دُهش، فسمع صوتًا من السماء يعرِّفه عليها قائلاً: “هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهو يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم” (رؤ 21: 3). هذه هي كنيسة السماء المنتصرة، حيث يسمع كل عضو فيها الصوت الإلهي المفرح: “من يغلب يرث كل شيء، وأكون له إلهًا، وهو يكون لي ابنًا” (رؤ 21: 7). كأن الميراث لكل شيء يعني انتسابنا له وهو لنا، إذ يصير لنا الله نفسه واهب كل الخيرات.

ب. يهبهم نعمته وراحته مقدما لهم خروجًا جديدًا:

“هكذا قال الرب:

قد وجد نعمة في البرية الشعب الباقي عن السيف إسرائيل حين سرت لأريحه” [2].

الوعد المقدم هو أن يجد الشعب “نعمة” [2]، هذه التي سبق فنالها آباؤهم حين أخرجهم الرب في البرية وحررهم من عبودية فرعون. وقد جاء التعبير “وجد نعمة” masu hen  خمس مرات في قصة الخروج (خر 33: 12-17).

أخرجهم الرب إلى البرية لكي يهبهم راحة [2].

يتطلع الشعب إلى قصة الخروج من أرض العبودية إلى البرية تحت قيادة موسى للتمتع بأرض الموعد كعملٍ إلهي مستمرٍ عبر الأجيال، فكانوا يترقبون خروجًا جديدًا مستمرًا (هو 2: 14-15؛ إش 40: 3-4؛ 42: 14-16؛ 43: 18-21؛ 44: 27؛  48: 21 الخ). وقد جاء عمل المسيا المخلص كخروجٍ حقيقيٍ فيه يقدمالمخلص نفسه فصحًا للبشرية كي تتحرر من عبودية إبليس وتنطلق تحت قيادة روحه القدوس في برية هذا العالم حتى تجد راحة في حضن الآب.

ج. قصة حب أبوي أبدي!

“تراءى لي الرب من بعيد.

ومحبة أبدية أحببتك،

من أجل ذلك أدمت لك الرحمة” [3].

تطلع النبي إلى عمل الله الخلاصي فرأى الرب يعمل “من بعيد” [3]؛ أي منذ القدم… قصة الحب الإلهي قصة قديمة متجددة على الدوام. ربما قال “من بعيد” لأن الإنسان ظن أنه منسيّ في أرض السبي بعيدًا جدًا عن أرض الموعد!

تبقى مراحم الله مستمرة عبر الزمن لأن محبته أو خلاصه أبدي!

د. يجعلهم بناءً إلهيًا:

“سأبنيكِ بعد فتُبنين يا عذراء إسرائيل” [4].

إن كان الشعب قد صار كامرأة زانية استحق التأديب بالسبي البابلي، إلا أن الله في أمانته يقيمه عذراء مقدسة [4]، يبنيها بنفسه كهيكلٍ مقدسٍ له. إنه ليس فقط يردها إلى أرض الموعد أو المدينة المقدسة أو الهيكل بل تصير هي أرضه ومدينته وهيكله، لن تمتد ذراع بشري لبنائها بل يقوم الرب نفسه بانشائها.

يتحدث القديس بولس عن الكنيسة كبيتٍ روحي، والمؤمنين كحجارة حية (1 بط 1: 5). ورأى القديس هرماس[538] الكنيسة المنتصرة في شكل بناء ضخم، حيث بُنيت الحجارة بجوار بعضها فصارت برجًا كحجرٍ واحدٍ، وأن حجارة كثيرة رُفضت أن تكون في البناء لأنها اعتمدت على ذاتها.

هـ. يجعلها عروسًا متهللّة:

تتزينين بعد بدفوفكِ وتخرجين في رقص اللاعبين” [4].

زينتها الفرح المستمر، تخرج دومًا لتجد النفوس المحيطة ترقص وتتهلل بالرب العامل فيها وفيهم! بعد أن علقت قيثاراتها على الصفصاف في بابل كي لا ترنم تسبحة جديدة في أرض غريبة (مز 137: 4) ها هي تمسك بالدفوف بين أصابعها لتسبح الرب بأعمال الحب، وتتزين بالفرح الروحي، وتعيش في تهليلٍ لا ينقطع.

ز. غرس الكروم:

“تغرسين بعد كرومًا في جبال السامرة.

يغرس الغارسون ويبتكرون” [5].

الأرض التي سبق فخربها العدو عندما هاجمها وسباها، محولاً الحقول إلى مراعى غنم ومسكنًا للوحوش، الآن تعود لتُغرس كرومًا. لقد عبدوا البعل إله الخصوبة فحل بهم القحط، وصارت أراضيهم خرابًا، الآن يردهم الرب ويهب أرضهم خصوبة.

ح. شركة عبادة مفرحة:

“لأنه يكون يوم ينادى فيه النواطير في جبال إفرايم:

 قوموا فنصعد إلى صهيون إلى الرب إلهنا” [6].

لم يعد المراقبون يضربون بالبوق ليعلنوا عن مجيء العدو الذي يسبي، وإنما ليعلنوا عن قدوم الشعب من كل موضع ليصعدوا إلى صهيون يتمتعون بالرب إلهنا [6].

  1. عودة إسرائيل إلى أرضه:

إن كان إرميا قد تنبأ عن خراب الهيكل خلال السبي فهو ليس ضد الهيكل ولا مقاوم للعبادة الجماعية… إنه يترقب عبادة روحية متهللة تضم الشعب القادم من أقاصي المسكونة بروح الفرح والوحدة.

“لأنه هكذا قال الرب.

رنموا ليعقوب فرحًا، واهتفوا برأس الشعوب.

سمعوا سبحوا وقولوا: خلص يارب شعبك بقية إسرائيل[7].

يقدم لنا عودة من السبي مملوءة بروح النصرة، عبّر عنها يعقوب بهتافات الفرح والتسبيح [7]، حاسبًا نفسه “رأس الشعوب” أو أولها، وهو تعبير يحمل روح الفخر (عا 6: 1).

“هأنذا آتي بهم من أرض الشمال وأجمعهم من أطراف الأرض.

بينهم الأعمى والأعرج، الحبلى والماخض معًا.

جمع عظيم يرجع إلى هنا” [8].

هذا الخروج العظيم من السبي يصحبه بناء من وسط الأنقاض والتدمير الكامل فتخرج مدينة فائقة البهاء، ويتحقق الخلاص الإلهي. إنه يأتي إلى هذه المدينة حتى بالعميان من طريق لم يعرفوها (إش 42: 16).

هذا الخلاص أو الخروج العظيم لا يعتمد على ذراعٍ بشري.

يأتي الله بالأعمى فيكون له عينًا، يريه الطريق ويدخل به إلى المجد!

يأتي بالأعرج كمن يحمله على الأذرع الإلهية ليمارس العمل الفائق بقوةٍ.

يأتي بالحبلى والماخض العاجزتين عن الحركة لأمتارٍ قليلة ليسرع بهما لا إلى أميال بل إلى الخروج من محبة العالم إلى السماء عينها!

 هذا الخروج العظيم من السبي يصحبه فرح عظيم وسط دموع التوبة مع تفجر أنهار الروح من الصخور (إش 40: 3-5؛ 43: 1-7؛ 48: 20؛ 49: 9-13). عوض النوح يحل الفرح، ويهبهم الله راحة وسعادة عوض الحزن.

“بالبكاء يأتون وبالتضرعات أقودهم.

سيرهم إلى أنهار ماء في طريق مستقيمة لا يعثرون فيها.

لأني صرت لإسرائيل أبًا وإفرايم هو بكري” [9].

جاء الحديث هنا [8-9] مشابهًا في الأسلوب والفكر أحاديث إشعياء النبي عن الخروج الجديد (إش 35؛ 40: 3-5، 11؛ 41: 18-20؛ 42: 16؛ 43: 1-7؛ 34: 3-4؛ 48: 20-21؛ 49: 9-13).

ارتبط العصر المسياني في ذهن الأنبياء بالمياه المقدسة (حز 36: 26؛ إش 30: 23؛ زك 13: 1-2؛ مز 46: 4 الخ…) التي تحول القفر أرضًا خصبة، تروي المؤمنين كأشجار فردوس الله، تنزع النجاسات وتطهر الأرض من عبادة الأصنام، وتقدم حياة وتقديسًا… ما هو المطر المبكر والمتأخر إلا الروح القدس الذي يروي النفس الظمآنة، فتنبت البرية، وتحمل الأشجار ثمارها، وتعطي التينة والكرمة قوتهما؟! إنه الروح القدس الذي عمل في القديم كمطر مبكر، لكنه بالأكثر استقر فينا بعد صعود الرب ليحول بريتنا الداخلية إلى فردوسٍ مفرحٍ!

لقد ادرك الشعب أمرين: الله هو مخلص شعبه، فإن لله بقية أمينة (عا 5: 15؛ إش 37: 30–31، إر 8: 3، حز 5: 10؛ 11: 23)، يهتم بها فتتمتع بالعهد الجديد (إش 4: 2؛ 28: 5؛ مي 5: 6-7).

يدعو الله نفسه “أب إسرائيل” ليؤكد أن ما سمح به من تأديب خلال السبي إنما هو تأديب أبوي، وأن اللهيتطلع إلى شعبه بكره “الابن البكر.” لقد دعى أفرايم (إسرائيل) البكر ليس لكي يقدمه على يهوذا، وإنما ليؤكداعتزازه به كابن بكر… كلاهما “إسرائيل ويهوذا” ابن واحد بكر.

لقد سبق فسمح الله بقتل الأبكار بسبب شر فرعون ليقيم من شعبه “الابن البكر لله” (خر 4: 22، إر 31: 9). أقام الله شعبه كابن بكر له، وإذ جاء البكر الحقيقي إلى العالم واتحدت الكنيسة به صارت بحق كنيسة أبكار، كقول الكتاب المقدس.

يدعوا الله الأمم والجزائر البعيدة [10] أن تشهد الحدث العجيب (إش 42: 10؛ 49: 1).

“اسمعوا كلمة الرب أيها الأمم وأخبروا في الجزائر البعيدة وقولوا: مبدد إسرائيل يجمعه ويحرسه كراع قطيعه.

لأن الرب فدى يعقوب وفكه من يد الذي هو أقوى منه.

 فيأتون ويرنمون في مرتفع صهيون ويجرون إلى جود الرب على الحنطة وعلى الخمر وعلى الزيت وعلى أبناء الغنم والبقر.

وتكون نفسهم كجنة ريا ولا يعودون يذوبون بعد” [10-12].

يُستخدم في [11] تعبيران عن الفداء: pada (ransom), goal (redeem) الأول يشير إلى التحرر بعد دفع الفدية، وهو في الأصل تعبير يُستخدم في القوانين التجارية (استخدم في تث 9: 26؛ 13: 5؛ 21: 8؛ 7: 13؛ 13: 14؛ مي 6: 4؛ زك 10: 8؛ مز 25: 22، 78: 42؛ نح 1: 10) أما الثاني فيُستخدم بخصوص الالتزام العائلي. فكان الولي يلتزم أن يفتدي ممتلكات قريبه، كما يلتزم بالانتقام لموته. كان القريب المخلص goal يحمل معنى رمزيًا في العهد القديم. التزم إرميا أن يفدي الحقل الذي كان يملكه ابن عمه حنمئيل (ص 32).

استخدم التعبيران في خلاص الشعب من عبودية فرعون (خر 6: 5؛ 15: 13؛ تث 7: 8؛ 9: 26).

استخدم تعبير مخلص goal بخصوص خلاص الله لشعبه من السبي البابلي، فهو يتدخل كوَلِيٍّ أو قريبٍ لهم يرد لهم الحرية.

يأتون إلى صهيون “بوجوه مشرقة” nahar، وتصير نفوسهم كجنة ريا، أي مروية حسنًا [12].

“حينئذ تفرح العذراء بالرقص والشبان والشيوخ معًا وأحوِّل نوحهم إلى طرب وأعزيهم وأُفرحهم من حزنهم.

وأروي نفس الكهنة من الدسم ويشبع شعبي من جودي يقول الرب” [13-14].

v     يؤكد لنا ربنا أن أحزاننا يحولها إلى فرح بثمار التوبة[539].

القديس غريغوريوس الناطق باللآهوتيات

يروى نفوس الكهنة من الدسم، دسم الذبائح التي يقدمها الشعب لله حيث كان نصيبهم هو الفخذ اليمين (لا 7: 32-36). وكأن العبادة تعود بقوة ويصير للكهنة أنصبة كثيرة. كما يشير الدسم إلى حالة الرخاء التي سيعيش فيها الشعب (مز 36: 8؛ 63: 5؛ إش 55: 2).

  1. نهاية حزن راحيل:

“هكذا قال الرب:

صوت سمع في الرامة نوح بكاء مرّ.

راحيل تبكي على أولادها وتأبى أن تتعزى عن أولادها لأنهم ليسوا بموجودِين.

 هكذا قال الرب:

امنعي صوتكِ عن البكاء، وعينيكِ عن الدموع،

لأنه يوجد جزاء لعملكِ يقول الرب.

فيرجعون من أرض العدو.

ويوجد رجاء لآخرتكِ يقول الرب.

يرجع الأبناء إلى تخمهم” [15-17].

 “رامة” تعني حرفيًا “مرتفع” وتقع في نصيب سبط بنيامين (يش 18: 25؛ قض 4: 5) على الحدود ما بين مملكتيّ الشمال والجنوب. حاليًا تدعى أرام وهي مدينة تبعد إلى الشمال من أورشليم بخمسة أميال. قريبًا منها يوجد قبر راحيل (1 صم 10: 2-3) كما يوجد تقليد بأن القبر كان بالقرب من بيت لحم (تك 35: 19؛ 48: 7؛ 1 صم 10: 2-3). ويتضح من سفر إرميا أنها كانت المكان الذي نُقل إليه المسبيين وُجمعوا فيه قبل أن يُؤخذوا إلى السبي إلى بابل إذ نقرأ “الكلمة التي صارت إلى إرميا من قِبل الرب بعدما أرسله نبوزردان رئيس الشرط من الرامة إذ أخذه وهو مقيد بالسلاسل في وسط كل سبي أورشليم ويهوذا الذين سبوا إلى بابل” (40: 1-2).

تختار النبوة راحيل بالذات لأنها في البداية توسلت وطلبت أولادًا إذ نقرأ “فلما رأت راحيل أنها لم تلد ليعقوب غارت راحيل من أختها وقالت: ليعقوب هب لي بنين وإلاّ فأنا أموت” (تك 30: 1).

ماتت راحيل في نهاية أيامها في حزنٍ إذ كُتب: “وحدث حين تعسرت ولادتها أن القابلة قالت لها: لا تخافي لأن هذا أيضًا ابن لك، وكان عند خروج نفسها لأنها ماتت أنها دعت اسمه بن أوني، وأما أبوه فدعاه بنيامين، فماتت راحيل وُدفنت في طريق أفراتة التي هي بيت لحم” (تك 35: 17-19). ها هي راحيل التي طلبت أولادًا في البداية وماتت في الحزن، تظهر في النهاية مصورة وكأنها قد قامت من الأموات وهي تبكي وصوتها يُسمع في الرامة لأنها ترى أولادها يحملون إلى بابل.

تصور إرميا أن روح راحيل زوجة يعقوب ووالدة يوسف وبنيامين تبكي على أولادها (أسباط إفرايم ومنسى وبنيامين) الذين احتلوا بقعة ضخمة من المملكة، إذ ترى ترحيلهم من أرض الموعد إلى السبي.

يقتبس الروح القدس هذه الأقوال ويطبقها على حادثة قتل أطفال بيت لحم. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[540] إذ قد تحقق ما سبق أن قيل بإرميا النبي يمتلئ السامع لهذا القول بالفزع إذ يرى مذبحة عنيفة مملوءة ظلمًا، لكنه يعود فيستريح إذ يدرك أن ما يحدث ليس عن عجز قوة الله عن منعها، ولا عن عدم معرفة الله لها، وإنما سبق فأخبر عنه علانية بواسطة نبيِّه. لهذا يليق بنا ألاّ نضطرب ولا نيأس متطلعين إلى عناية الله التي لا يُنطق بها، التي يمكن للإنسان أن يراها في أعمال الله كما فيما يسمح به من الآلام.

قدم الله لراحيل تعزية، مؤكدا عودة أبنائها، وتقديم جزاء لها عن عملها [17] لحساب أطفالها الذين يردهم منالسبي.

“سمعًا سمعت إفرايم ينتحب.

أدبتني فتأدبت كعجلٍ غير مروضٍ.

توبني فأتوب، لأنك أنت الرب إلهي.

لأني بعد رجوعي ندمت وبعد تعلمي صفقت على فخذي.

زنيت وخجلت لأني قد حملت عار صباي.

هل إفرايم ابن عزيز لدى أو ولد مسر،

لأني كلما تكلمت به أذكره بعد ذكرًا.

من أجل ذلك حنت أحشائي إليه.

رحمة أرحمه يقول الرب” [18-20].

جاءت هذه العبارات اعترافًا وتوبة من جانب إفرايم الذي يعلن عن حاجته إلى عمل الله نفسه واهب التوبة.

يقول الأب بينوفيوس:

[بينما يكون الإنسان في انكسار قلب وانسحاق روح، مع استمرار الجهاد والبكاء إذا بالنعمة الإلهية تلاشى تذكر الخطايا السابقة وتنزع وخزات الضمير عنها. وهنا يكون واضحًا أنه قد نال غاية الرضى ومكافأة العفو، وانتزعت منه وصمات الخطايا التي ارتكبها. وعندئذ يمكننا أن نصل إلى نسيان الخطية وذلك بإزالة آثارالخطايا والرغبات العتيدة مع نقاوة القلب وكماله. هذه الحالة لا يصل إليها الكسالى والمتهاونون… إنما يصل إليها من استمروا في التنهد والتأوه بحزن لأجل إبادة كل آثار الخطايا بصلاح قلوبهم مع جهادهم، يعلن كل منهم للرب: “اعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي” (مز 32: 5)، ويقول: “صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلاً” (مز 42: 3)… فيوهب له في النهاية أن يسمع هذه الكلمات: “قد محوت كغيم ذنوبك وكسحابة خطاياك” (إش 44: 22)، وأيضًا “أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا اذكرها” (إش 43: 25). وهكذا إذ يتحرر من رباطات خطاياه التي ربط الكل بها يشكر الرب مسبحًا: “حللت قيودي فلك اذبح ذبيحة حمدٍ” (مز 116: 16-17)[541]].

يقول القديس أمبروسيوس:

[لننقي ذواتنا بالدموع، فيسمع الرب إلهنا حينما ننوح كما سمع لإفرايم حين بكي “سمعت إفرايم يبكي[18] وقد عبر عن ذلك مكررًا ذات الكلمات التي لإفرايم “أنت أدبتني فتأدبت كعجلٍ غير مروضٍ[18]. لأن العجل يلهي ذاته، ويترك معلفه، هكذا إفرايم لم يكن مروضًا كعجل بعيدًا عن المعلف، إذ نسى المعلف الذي أقامه الرب له وتبع يربعام وعبد العجول، الأمر الذي تنبأ عنه بالفعل هارون (خر 31) بان الشعب سيسقط. وإذ تاب إفرايم قال: “توبني فأتوب لأنك أنت هو الرب إلهي. بالتأكيد في نهاية أسري ندمت”، وإذ تعلمت بكيت على أيام الاضطراب وأخضعت نفسي لك إذ تقبلت انتهارك” راجع [19][542]] .

 جاء [20] إجابة لصرخة التوبة تؤكد شوق الله نحو توبته، إذ أحشاء الله تحن عليه. يدعوه “الابن العزيز لديه“، “الولد المسر” يذكره الرب على الدوام.

“انصبي لنفسك صوى اجعلي لنفسك أنصابًا.

اجعلي قلبك نحو السكة الطريق التي ذهبت فيها.

ارجعي يا عذراء إسرائيل ارجعي إلى مدنك هذه.

حتى متى تطوفين أيتها البنت المرتدة؟!

لأن الرب قد خلق شيئًا حديثًا في الأرض.

أنثى تحيط برجل[21-22].

بعد أن تحدث عن إفرايم كابن محبوب جدًا، عاد ليتحدث عن إسرائيل كعذراء يدعوها لتقيم لها بيتًا، وأن تضع علامات في الطريق حتى لا تضل عنه. وكأنها تعود من ذات الطريق الذي فيه تركت وطنها!

ستجد في عودتها ترحيبًا في بيتها ومدنها… ستكون في أمان كإنسانٍ في حضن أمه [22].

أما عن الأنثى التي تحيط برجلٍ فتوجد عدة تفاسير:

أ. يرى البعض أن الأنثى المُشار إليها هنا هي عذراء إسرائيل المذكورة في [21] كما أن كلمة أنثى المستعملة في هذا النص وهي (تكلببه) لا تعني فتاة غير متزوجة (ألماه) التي استخدمها إشعياء النبي في نبوته عند حديثه عن ولادة المسيح من العذراء إذ قال “ها العذراء تحبل وتلد ابنًا…” (إش 7: 14). ولذلك فليس هناك أي تشابه بين النبوتين. فالأنثى أو المرأة في الكتاب تشير إلى الضعف الإنساني وحالة الضعف والخوف المشبه بها الأمة ترِد كثيرًا في النبوات، فإشعياء يشبه الأمة المصرية في ضعفها وخوفها فيقول: “في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء فترتعد وترتجف من هزة يد رب الجنود التي يهزها عليها” (إش 19: 16).

ب. كلمة “نساء” كرمز للضعف ترد أيضًا في نبوة إشعياء ونبوة إرميا (انظر إش 3: 12، إر 51: 3) ويشير الرجل إلى قوة الإنسان، والتعبير المذكور هنا ليس الإنسان العادي لكن الإنسان القوي، لأن الكلمة المستعملة في الأصل هي كلمة “geber” وتعني الرجل القوي أو الرجل الجبار. جاءت الكلمة هنا لتشير إلى رجلٍ شابٍ قوي العزيمة شجاع[543]، والكلمة المنسوبة لها gibbor تعني محارب، وكأن المرأة تحتضن محاربًا شابًا… وهي ليست الكلمة التي تستعمل عادة للرجل (أنوش) ومعناها الرجل في ضعفه. فالرجل المذكور هنا ليس أنوش الضعيف الهش لكن الإنسان القوي. فضعف المرأة هنا يقهر ويغلب قوة الرجل، ضعف المرأة هنا يهزم كل قوة الرجل وهكذا سيجعل الله هذه المرأة التي كانت بمثابة بنت مرتدة منتصرة وغالبة على كل قوة الإنسان. أو كأنها وهي عذراء قد صارت – باحتضانها المحارب – شجاعة ومحاربة لها دورها في المعركة الروحية.

ج. إن كانت المرأة تشير إلى إسرائيل والرجل إلى يهوه، كأن المرأة التي صارت مطلقة بسبب زناها، بعيدة عنه، عادت إلى إلهها تحتضنه وتلتصق به (هو 1-3؛ إر2: 20-21). هذا هو أمر جديد.

د. الأمر الجديد هنا أن امرأة تحمي رجلاً، وهذا يبين عمل المحبة من الطرف الأضعف جسميًا نحو الأقوى.

هـ. يرى القديس جيروم[544] أن الشيء الجديد الذي يثير الانتباه هو الأنثى التي تحيط برجل، أي العذراء الذي تحتضن كلمة الله المتجسد… هذا هو الرجوع عن السبي! هذا هو التمتع ببركة الرب، فتصير النفس مسكنًا للبر وجبلاً مقدسًا!

[بخصوصها نحن نقرأ عن معجزة عظيمة في نفس النبوة [22]: أن امرأة احتوت رجلاً، وأن أب كل الأشياء يكون في أحشاء عذراء[545]].

يطلب الله من الشعب الذي صار كبنت مرتدَّة أن يتطلع إلى العذراء المقدسة التي تحتضن في أحشائها كلمة الله المتجسد. إذ يقول: “حتى متى تطوفين أيتها البنت المرتدَّة؟! لأن الرب قد خلق شيئًا حديثًا في الأرض. أنثى تحيط برجل” [22].

و. أن كانت الخطية تجعل النفس كبنت عاصية تطوف في الشوارع ليس لها أين تستقر أو تستريح، فإن الحياة البتولية الصادقة تجعل من النفس موضعًا يستريح فيه الكلمة المتجسد نفسه! خطايانا تحطم سلامنا واستقرارنا، وبرنا في الرب يعطينا راحة، بل ويستريح الرب فينا!

  1. إصلاح إسرائيل ويهوذا:

يَعِدْ الله شعبه بالرجوع من السبي، ليمتلك أرض الموعد، وينزع عن راحيل حزنها على بنيها المسبيين، ويحولها من بنت مرتدَّة عنيدة إلى أنثى مملوءة قوة وحبًا تحيط برجلٍ جبارٍ، تحمل روح القوة والنصرة عوض الانهيار والفشل. الآن يقدم لنا صورة حية عن إصلاح إسرائيل ويهوذا حيث يرجع الكل من بابل شعبًا مقدسًا للرب، فيقول:

“هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل.

سيقولون بعد هذه الكلمة في أرض يهوذا وفي مدنها عندما أرد سبيهم.

يباركك الرب يا مسكن البر يا أيها الجبل المقدس” [23].

هنا يدعوا يهوذا “مسكن البر أو البار” (راجع زك 8: 3) ويعني به مسكن الله البار sedeq، وأيضًا “الجبلالمقدس أو جبل القدوس“. فيسكن الله وسط شعبه الذي يصير مسكنًا له وجبلاً خاصًا به [23]. كأن سرّ فرح الشعب ليس تحرره من بابل بل بالأحرى تمتعه ببركة سكنى الله البار والقدوس وسطه، فيجعل منه هيكلاً مقدسًا وجبلاً حيًا. يدعو شعبه “مسكن البار” و”جبل الله القدوس“، باللقب الأول يعلن بركة الشعب إذ يسكن فيه البار، محولاً شعبه إلى جماعةٍ مقدسة لا تعرف إلا العبادة الحية، وباللقب الثاني الرسوخ كالجبل لا تهزه رياح العالم المقاومة!

بمعني آخر إننا لا نفرح لأننا تحررنا من إبليس بل بالأحرى لأننا اقتنينا الله القدوس. قيل عن الرسل: “رجع السبعون بفرحٍ قائلين: يارب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك” (لو 10: 7)، “قال لهم: رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء. ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شيء؛ ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالأحرى أن أسماءكم كُتبت في السموات”.

يقيم الله من شعبه كما من كل عضوٍ فيها جبلاً مقدسًا كجبل طابور، عليه يتجلى حيث يجتمع برجال العهد القديم (موسى وإيليا) مع رجال العهد الجديد (بطرس ويعقوب ويوحنا)، يعلن بهاء مجده الذي يسكب نورًا على الجميع ويحول حياتهم إلى فرحٍ لا ينقطع.

 “فيسكن فيه يهوذا وكل مدنه معًا الفلاحون والذين يسرحون القطعان.

لأني أرويت النفس المعيية، وملأت كل نفس ذائبة” [24-25].

يعود الشعب إلى أرض الموعد ليمارسوا حياتهم اليومية من فلاحة الأرض ورعاية الغنم [24]، لتجد النفس التي صارت في حالة عياء راحةً، والذائبة بسبب ما حل بها من فقدان شبعًا وارتواءً [25].

الله يشبع التائبين ويرويهم، هذا منظر يملأ قلب إرميا النبي بالفرح والسعادة وسط الكارثة والظلام.

من هم هؤلاء الفلاحون الذين يزرعون أرض يهوذا؟ ومن هو هؤلاء الرعاة الذين يهتمون بقطعانها؟

مسيحنا هو فلاح قلبنا القادر بروحه القدوس أن يحول بريتنا الداخلية إلى فردوسٍ مثمرٍ، ويقود خرافه الناطقة إلى سمواته، مقدمًا دمه الثمين ثمنًا لمجدنا. الآن في حبه لكنيسته أقام تلاميذه ورسله وخدامه فلاحين ورعاة، يقدمون به كلمته بذارًا تأتي بثمرٍ كثيرٍ، ويهبهم شركة المجد أن يرعوا شعبه بروحه القدوس.

كل مؤمنٍ حقيقيٍ تتحول طاقاته الداخلية وإرادته مع أفكاره إلى فلاحين ورعاة يعملون بلا توقف حتى يُعلن فردوس الله في الداخل، وتتحول الأعماق إلى مرعى سماوي مقدس.

“على ذلك استيقظت ونظرت ولذّ لي نومي” [26].

يكون الرب كمن كان نائمًا واستيقظ، إذ رد شعبه إلى راحته، ولذ له نومه لأنه لا تتكرر بعد هذه المأساة [26]. ويرى القديس أمبروسيوس في تعبير “لذّ لي نومي[26] إشارة إلى الموت الإرادي الذي قبله السيد المسيح بسرور لأجل خلاصنا.

v     ذاك الذي حمل ضعفاتنا حمل أيضًا مشاعرنا، حيث كان حزينًا حتى الموت (مت 26: 38) ولكن ليس بسبب الموت. لأن الموت الذي قبله باختياره الحر لا يمكن أن يحزنه، إذ فيه فرح كل البشرية العتيد وانتعاش الجميع. قيل عنه في الكتاب المقدس في عبارة أخرى: “استيقطت ونظرت ولذّ لي نومي[16]. صالح هو النوم الذي فيه لا يجوع الجائعون، ولا يعطش العطشى، مهيئًا لهم مذاقًا حلوًا للأسرار[546].

القديس أمبروسيوس

ها أيام تأتي يقول الرب وأزرع بيت إسرائيل وبيت يهوذا بزرعِ إنسانٍ وزرعِ حيوانٍ” [27].

يقوم الرب نفسه بزرعهم، بزرع إنسانٍ وزرع حيوانٍ، إذ يقدس النفس (الإنسان) والجسد (الحيوان) معًا، وينمى الإنسان بكليته ليمارس الحياة الجديدة بعد العتق من سبي الخطية.

“ويكون كما سهرت عليهم للاقتلاع والهدم والقرض والإهلاك والأذى، كذلك أسهر عليهم للبناء والغرس يقول الرب” [28].

يسهر الله على بنائهم وغرسهم، هو الذي سمح بالتأديب الآن يقوم بنفسه ببنائهم وغرسهم، ساهرًا عليهم ليجدد حياتهم… بل يقيمهم شعبًا جديدًا بعهدٍ جديدٍ! لقد سهر الله بحبه حين سمح بالتأديب لكي يهدم فيهم الشر ويقتلع جذور الخطية ويحل بهم ما حسبوه أذى، وبذات الحب يسهر عليهم ليغرس بره ويبني فيهم قداسته ويهبهم كل بركة روحية مفرحة.

ماذا يعني الله بقوله: “أسهر عليهم“؟ ليس عند الله ليل قط، ولا يحتاج إلى نومٍ، فالسهر هنا إنما يعني بلغة بشرية اهتمام الله بنا خاصة في اللحظات التي نظن فيها أن الليل قد حلَّ بظلمته حولنا، أي حينما نفقد رجاءنا في الخلاص. إنه يشرق بنوره وسط ظلمتنا مؤكدًا أنه يسهر علينا حين ينام كل من حولنا، ويعلنون عجزهم التام على مساندتنا.

“في تلك الأيام لا يقولون بعد: الآباء أكلوا حصرمًا وأسنان الأبناء ضرست.

بل كل واحد يموت بذنبه كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه” [29-30].

يقتبس المثل الوارد في (حز 18: 2)، فقد كان الشعور السائد بأن ما يحل بهم إنما هو ثمرة خطايا قديمة ارتكبتها أجيال سابقة، بهذا أحسوا أن الله عاملهم بقسوة لظروف لم يكن لهم فيها يد، ولم يرتكبوا ذنبًا. وأن في ذلك ظلم وليس عدالة (حز 18: 25). يرفض إرميا النبي هذه الفكرة مبينًا أن الله إنما يعاقب الإنسان على خطاياه، لا على خطايا الغير.

غالبًا ما اعتمد حزقيال على إرميا، وكلاهما أشارا إلى المثل ليؤكدا المسئولية الشخصية عن ما يرتكبه الإنسان دون النظر إلى سلوك آبائه وأجداده. لقد أُستخدم هذا المثل في (تث 24: 16) لا لنفي المسئولية الشخصية وإنما لاعتبارات أخرى منها أن الإنسان الذي لا يرتدع عن شره خلال التهديد بالعقوبة قد يرتدع عندما يدرك ما لشره من أثر على حياة أولاده، هذا بجانب الالتزام الجماعي. فكما توجد خطايا عامة يشترك فيها الشعب كله هكذا تلزم التوبة العامة.

  1. العهد الجديد:

“حمى غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل” (خر 32: 19). وكأن موسى قد أعلن عن كسر العهد، وعجز الإنسان عن الحفاظ عليه. هذا ما دفع الأنبياء في العهد القديم إلى التطلع إلى عهدٍ جديدٍ بسماتٍ جديدةٍ قادرٍ على تغيير قلب الإنسان والدخول إلى الحياة الداخلية لكي لا يكسر الإنسان العهد.“ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا.

“ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب.

بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام.

يقول الرب: أجعل شريعتي في داخلهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا.

ولا يعلمون بعد كل واحدٍ صاحبه وكل واحدٍ أخاه قائلين: اعرفوا الرب،

لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب.

لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد” [31-34].

يقول حزقيال النبي: “وأقطع معهم عهد سلامٍ فيكون معهم عهدًا مؤبدًا وأقرهم وأكثرهم وأجعل مقدسي في وسطهم إلى الأبد، ويكون مسكني فوقهم وأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا” (حز 37: 36-37).

v     قال الله بوضوح (خلال أنبيائه) أن شرائع موسى (الطقسية) تنتهي وتقوم شريعة جديدة يقدمها المسيح: “ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدي فرفضتهم يقول الرب” (31: 31-32). لقد وعد بعهد جديد، وكما قال الحكيم بولس: “فإذ قال جديدًا عتق الأول، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال” (عب 8: 13). فإذ شاخ القديم كان بالضرورة أن يحتل الجديد موضعه، وقد تحقق هذا لا بواسطة أحد الأنبياء القديسين بل بالأحرى بواسطة رب الأنبياء[547].

القديس كيرلس الكبير

العهد الجديد ليس منقوشًا على حجارة خارجية كالعهد القديم (خر 31: 18؛ 34: 28-29؛ تث 4: 13؛ 5: 22) أو في درج (خر 24: 7)، إنما هو منقوش في القلب الذي احتلته الخطية. يسجله الروح القدس في أعماقنا، إذ يمس حياتنا الداخلية حيث ملكوت الله فينا… “يقول الرب: أجعل نواميسي في أذهانهم وأكتبها على قلوبهم، وأنا أكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا” (عب 8: 10).

عندما حلّ يوم الخمسين واجتمع التلاميذ في علية صهيون كان اليهود من حولهم يعيدون بتجديد العهد مع الله، متذكرين ما حدث مع آبائهم حين سلم الله عهده وشريعته لموسى النبي، وما صاحب ذلك من رعودٍ وبروقٍ وأصوات بوقٍ ودخانٍ حتى ارتعب الكل (خر 20: 18)… في هذا اليوم حلّ الروح القدس على التلاميذ وُسمع أيضًا صوت هبوب عاصف وارتعب الكل وحدث تجديد للعهد خلال الروح القادر أن يجدد القلوب والأذهان، ويكتب الشريعة والعهد في قلوب المؤمنين (31: 31-34)… صار للكنيسة الروح الإلهي الناري الذي يغير الطبيعة الداخلية ويهب روح البنوة فتتقبل عهدًا جديدًا.

يرى البعض أن الله أقام مع الإنسان عهودًا، كملت بالعهد الذي أقامه السيد المسيح بدمه على الصليب.

  1. العهد مع آدم، خلاله ينعم الإنسان بجنة عدن وكل خيراتها، لكن آدم نقض العهد وُطرد من الجنة. وقد جاء في سفر هوشع: “لكنهم كآدم تعدّوا العهد، هناك غدروا بي” (هو 6: 7).
  2. العهد مع نوح الخاص بالأرض الجديدة بعد الطوفان، حيث بارك الله نوحًا وبنيه (تك 9: 1)، وقال لهم: “أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض” (تك 9: 1؛ 1: 28). هنا نلاحظ أن الله هو الذي بادر بإقامة العهد (تك 9: 11-12)، وأن العهد قام على أساس الدم، أي تقديم المحرقات.
  3. العهد مع إبراهيم: وعده الله أن يهب نسله أرض كنعان، وبه تتبارك كل الأمم. ارتبط العهد بالختان “يُختن منكم كل ذكر، فتختتنون في لحم غُرلتكم، فيكون علامة عهدٍ بيني وبينكم” (تك 17: 11).
  4. العهد الموسوي: ارتبط هذا العهد بالذبائح والعمل الكهنوتي وشرائع التطهير والوصايا الإلهية. خلال هذا العهد تحل البركات على أبناء الطاعة واللعنات على أبناء المعصية (تث 28).

هنا [31] أول اشارة إلى “العهد الجديد” في العهد القديم وتُعتبر صلب سفر إرميا كله، تمثل أعمق نظرة في العهد القديم كله. رأى أصحاب الشيع في قمران أنهم رجال العهد الجديد، بالنسبة لهم العهد الجديد هو التمسك بالشريعة الموسوية في حرفية أشد. أما المسيحيون فقد رأوا في الكنيسة تحقيقًا لهذه النبوة، حيث قدم السيد المسيح عهدًا جديدًا ببذل دمه كفارة عن خطايا العالم كله (لو 22: 20؛ 1 كو 11: 15؛ عب 8: 8، 9: 28).

إذ انكسر العهد القديم الذي أقيم بين الله وإسرائيل أقام الله عهدًا جديدًا بينه وبين جميع الأمم، خلال خروج جديد، فيه عُتق لا من عبودية فرعون ولا من سبي بابل بل من أسر إبليس.

ينقش الروح القدس هذا العهد في داخلنا ويكون الله نفسه هو معلمنا، إذ يقول الرسول: “ولا يعلمون كل واحدٍ قريبه وكل واحدٍ أخاه قائلاً اعرف الرب، لأن الجميع سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم” (عب 8: 11). كان العهد القديم بين يدى الأنبياء والكهنة والمعلمين أما العهد الجديد فصار في أيدي كل البشر!

v     هنا نفهم إعلان توقف الختان الأول الذي أُعطى ومجيء موكب الشريعة الجديدة (ليس كما سبق فأُعطيت للآباء) وذلك كما سبق فأعلن جبل الرب وبيت الله في رأس الجبال، ونقول: “يرتفع فوق التلال وتجرى إليه كل الأمم وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب” (إش 2: 2-3)[548].

v     هكذا يظهر أن العهد القديم مؤقت فقط، مشيرًا إلى تغييره، وأيضًا إذ يعد أن ما يتبعه عهدًا أبديًا، إذ يقول بإشعياء: “اسمعوا فتحيا أنفسكم وأقطع لكم عهدًا أبديًا مراحم داود الصادقة” (إش 55: 3)، ليظهر أن هذا العهد يتحقق في المسيح[549].

العلامة ترتليان

v     لنقبل شرائع الحياة، لننصت لعتاب الله، لنتعرف عليه، فينعم علينا[550]!

القديس إكليمنضس الأسكندري

v     صنع معنا عهدًا جديدًا، لأن ما ينتمي لليونانيين واليهود قديم. أما نحن الذين نعبده بطريق جديدة، في شكل ثالث فمسيحيون.

من الواضع كما أظن، لقد أظهر أن الله الواحد الوحيد عُرف بواسطة اليونانيين بطريق أممي، وبواسطة اليهود بطريق يهودي، وبطريق جديد روحي بواسطتنا![551]

القديس إكليمنضس السكندري

إذ يتحدث القديس غريغوريوس النيصي عن ميليتس يوم نياحته يصفه بتابوت العهد المقدس والحاوي أسرارًا إلهية فيقول: “فيه يوجد لوحا العهد، مكتوبًا على ألواح القلب لا بحبر بل بروح الله الحيّ. فأنه لا يوجد على هذا القلب النقي فكر مظلم أو من الحبر مطبوعًا عليه!”[552].

ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لان المعلم الآن يملأ الموضع، إذ مكتوب يكون الكل متعلمين من الله (يو 4: 45، إش 45: 13) [553]…].

  1. رباط لا ينحل:

هكذا قال الرب الجاعل الشمس للإضاءة نهارًا وفرائض القمر والنجوم للإضاءة ليلاً، الزاجر البحر حين تعج أمواجه رب الجنود اسمه.

إن كانت هذه الفرائض تزول من أمامي يقول الرب

فإن نسل إسرائيل أيضًا يكف من أن يكون أمة أمامي كل الأيام.

هكذا قال الرب إن كانت السموات تقاس من فوق وتفحص أساسات الأرض من أسفل فإني أنا أيضًا أرفض كل نسل إسرائيل من أجل كل ما عملوا يقول الرب” [35-37].

كما أقام الله ناموسًا طبيعيًا للشمس والقمر والكواكب الأخرى للإضاءة نهارًا وليلاً، ووضع للبحر حدًا، هكذا يقيم الله في عهده الجديد مع شعبه ناموسًا روحيًا أبديًا. يقيمهم شعبًا دائمًا له، يشرقون بنوره نهارًا وليلاً، لا تستطيع أمواج بحر العالم أن تكتسحهم! الله الذي خلق العالم المنظور لأجل الإنسان فأبدعه كيف لا يهتم بإقامة ناموس جديد مبدع لبنيان الإنسان نفسه ومجده؟!

  1. أورشليم الجديدة:

ها أيام تأتي يقول الرب وتبنى المدينة للرب من برج حننئيل إلى باب الزاوية.

ويخرج بعد خيط القياس مقابله على أكمة جارب ويستدير إلى جوعة.

ويكون كل وادي الجثث والرماد وكل الحقول إلى وادى قدرون إلى زاوية باب الخيل شرقًا قدسًا للرب.

لا تقلع ولا تهدم إلى الأبد” [38-40].

إن كان الله قد سمح بسبي شعبه، وخراب مدينته المقدسة بسبب الشر، فأنه خلال العهد الجديد يقيم أورشليم الجديدة، تُبنى له، وقد وضع لها حدودها.

من برج حنيئيل إلى باب الزاوية: هذا البرج في شمال شرقي المدينة (زك 14: 10، نح 3: 1؛ 12: 39) بينما يبدوا أن باب الزاوية في شمال غربي المدينة (زك 14: 10، 2 مل 14: 13، 2 أي 26: 9)، وقد بنى الملك عزيا في القرن السابق ابراجًا فيها كما في مواضع أخرى (2 أي 26: 9).

الوادي المذكور في [40] هو وادي ابن هنوم (7: 31)، بينما يمثل “الرماد”  بقايا الدهن من الذبائح البشرية. “والحقول” غير مؤكدة المعنى، ينسبها البعض إلى حقل موت Mot، أي حقل إله الموت الكنعاني. كان نهر قدرون يجرى شرق أورشليم، وكان يقع باب الخليل في الركن الجنوبي من الهيكل (نح 3: 28).

 

 


 

من وحي إرميا 31

محبة أبدية أحببتك

v     لكل حبٍ بداية ونهاية،

أما حبك فأزلي أبدي،

أحببتني قبل أن أوجد،

وتبقى تحبني بعد عبوري هذا العالم.

v     اقمتني لك ابنًا،

ونسبت نفسك لي يا إلهي!

تهبني مع كل لحظة خروجًا جديدًا،

اخرج بقيادة روحك القدوس،

من عبودية فرعون وأسر بابل وسخرة إبليس،

لتردني إلى أحضانك الأبوية!

بيديك يا إلهي تقيم خيمتي الساقطة،

وتجعل منى بناءً إلهيًا شاهقًا،

تقطنه أنت مع صفوف ملائكتك!

عوض العبودية المرّة،

تقيمني عروسًا متهللة لا يتوقف عُرسها!

تضمني إلى كنيستك السماوية المتعبدة بالروح والحق!

v     من وسط التدمير الشامل والأنقاض،

تقيم مني بناءً عجيبًا فائق البهاء!

عوض النوح الدائم يحل بي فرحك السماوي!

لا أعود أبكي مع راحيل على أطفالها،

إذ أراهم موكب الغالبين الحالين أينما وُجدت!

تحول صرخات التوبة وعويلها إلى تهليلات لا تنقطع!

v     يا للعجب أرى أنثى تحيط برجلٍ،

عذراء بتول تحمل كلمة الله في أحشائها!

نفسي المسكينة تقتنيك داخلها!

يا له من سرٍ فائقٍ!

هوذا الآنية الخزفية الضعيفة تحوي كنز الكنوز!

v     حبك الأبدي يحررني من السبي!

يدخل بي إلى أرض البر!

يغير بريتي إلى فردوس مثمر!

تغرس أشجار الروح في!

تبنيني بنفسك وتغرسني!

v     حبك الأبدي قدم لي عهدًا جديدًا.

آدم أبي دخل معك في عهدٍ، لكنه نقضه!

نوح البار قبل العهد خلال العالم الجديد،

لكن سرعان ما شاخ العالم وفسد!

إبراهيم أب الآباء نال عهدًا، لكن خلال ختان الجسد.

رجال العهد القديم قبلوا عهد سيناء خلال ذبائح حيوانية.

أما أنا فنلت عهدك الجديد،

تمتعت بجسدك ودمك المبذولين حبًا!

رفعني عهدك إلى الصليب فمزق الصك القديم،

تحررت من الديون والآثام ونلت برك العجيب!

دخل بي عهدك إلى سمواتك وأمجادك!

v     عهدك الجديد حوَّلني إلى أورشليم جديدة!

أقام مني هيكلاً للروح القدس،

وجعل مني عضوًا في جسد المسيح المقدس،

ووهبني البنوة للآب السماوي!

يا لحبك الأبدي الفائق!

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى