تفسير سفر إشعياء ٢٧ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح السابع والعشرون
تحطيم لويثان
إن كان الله يخرج من مكانه ليُعاقب، ففي خروجه لا يطلب هلاك الخطاة وإنما الخطية، لا يُريد الدخول في معركة مع البشرية إنما مع إبليس الحية القديمة المخادعة والتنين البحري… إنه يدخل إلى معركة فريدة خلال الصليب – سيف الحق – القاتل للشر والواهب الحياة لشعبه.
- قتل لويثان [1].
- حماية الكرمة المشتهاة [2-9].
- ضرب العدو [10-11].
- الله يجمع شعبه [12-13].
- قتل لويثان:
“في ذلك اليوم يُعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم لويثان الحية الهاربة، لويثان الحية المتحوِّية، ويقتل التنين الذي في البحر” [1].
إن كان البعض يرى في تعبير “في ذلك اليوم” إشارة إلى اليوم الأخير الذي فيه يضرب الله الشيطان ضربته القاضية النهائية بتمتع الكنيسة بالحياة الأبدية وهلاك عدو الخير، ويحاول اتباع الملك الألفي أن يحسبوه يوم المُلك الألفي حيث يتحطم سلطان إبليس، ألا إننا نراه يوم الصليب، أو يوم الفداء الذي فيه ملك الرب على خشبة الصليب، وفيه “محا الصك الذي علينا… إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه” (كو 2: 14- 15)، إذ بدأ المُلك الألفي (الروحي) بصلب الرب.
كما سبق فقلت أن اتجاه بعض المفسرين إلى تطبيق نبوات إشعياء الخاصة بالعصر المسياني على الملك الألفي هو ثمرة طبيعية لعدم تذوق المسيحيين في العصر الحالي لقوة الصليب في حياتهم واختبارهم للسلطان الإلهي ضد إبليس وأعماله وعدم تلامسهم مع الحياة الغالبة الداخلية المملوءة فرحًا وسلامًا فائقًا للعقل.
ما هو هذا السيف القاسي الذي به يُعاقب الرب لويثان إلاَّ كلمة الله السيف الماضي ذو الحدين الخارج من فمه (رؤ 1: 16؛ عب 4: 12). خلال الكلمة نلتقي بالمسيح نفسه “كلمة الله المتجسد المصلوب” المختفي وراء الحروف والكلمات، يعمل دومًا لخلاصنا. وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [ابن الله حيّ وفعّال يعمل يومًا فيومًا لخلاص الكل[291]].
معاقبة الحية بالسيف وقتل التنين البحري إنما يعني أن كلمة الله المتجسد، مسيحنا المصلوب والساكن في داخلنا يتسلم قيادة المعركة ليُدين كل شر فينا حتى يُحطم كل ظلمة مقيمًا فينا مملكة النور.
v لقد غلب العالم كله كما نرى أيها الأحباء… لقد قهر لا بقوة عسكرية بل بجهالة الصليب… لقد رُفع جسده على الصليب فخضعت له الأرواح.
القديس أغسطينوس[292]
v سلب (الرب) الرؤساء والسلاطين وظفر بهم بصليبه. وهذا كان سبب مجيء ربنا لكي يطرحهم خارجًا ويسترد الإنسان الذي هو بيته وهيكله.
القديس مقاريوس الكبير[293]
في دراستنا عن “الروح القدس بين ميلاد الجديد والتجديد المستمر” رأينا أن طقس المعمودية الذي في حقيقته تمتع بالموت مع السيد المسيح والدفن معه والتمتع بقوة قيامته، يقوم على خطين رئيسيين هما: المتع بالإنسان الجديد الذي على صورة خالقه وتحطيم أعمال الإنسان القديم؛ أي التمتع بالسيد المسيح وجحد إبليس وكل طاقاته وأعماله. في مياه المعمودية نتحد بمسيحنا الملك المصلوب محطم لويثان الحية المخادعة والتنين القاطن في المياه.
v بعد أن تحنوا ركبكم يُطلب منكم أن تنطقوا بهذه الكلمات: “أجحدك أيها الشيطان”… ماذا حدث؟ ما هذا التغير المفاجىء الغريب؟ أنتم الذين كنتم ترتعشون بخوف هل تثورون ضد سيدكم؟ هل تتطلعون إلى مشورته بازدراء؟ ما الذي جاء بكم إلى هذا الجنون؟ متى حلت بكم هذه الجسارة؟
تقولون: لدينا سيف؛ سيف قوي.
أي سيف هو هذا؟ أي حليف لكم؟ أخبروني.
تجيبون: إننا ندخل في خدمتك أيها المسيح ، لهذا فإننا متجاسرون وثائرون، لأن لنا ملجأ قوي. هذا جعلنا فوق الشيطان. نحن الذين كنا قبلاً نرتعب منه ونخافه، لسنا فقط نجحده وحده بل ومعه كل مواكبه.
v يطلب منكم الكهنة أن تقولوا: أجحدك أيها الشيطان وكل مواكبك وكل خدمتك وكل أعمالك.
كلمات قليلة لكنها عظيمة القوة!
الملائكة تقف بجواركم، والقوات غير المنظورة تفرح بتغيركم، ويتقبلون الكلمات من ألسنتكم ويحملونها إلى سيد كل الخليقة، لتنقش هناك في كتب السماء.
القديس يوحنا الذهبي الفم[294]
- حماية الكرمة المشتهاة:
إذ يتسلم الرب نفسه قيادة المعركة يصير هو شخصيًا طرفًا فيها لتتمتع كرمة المشتهاة بنصرته وحراسته لها ورعايته واهتمامه بها، لذلك يقول النبي على لسان الرب: “في ذلك اليوم غنوا للكرمة المشتهاة، أنا الرب حارسها، اسقيها كل لحظة لئلا يوقع بها، احرسها ليلاً ونهارًا…” [3-5].
الله نفسه هو مالك الكرمة، يحبها ويشتهيها، وهو الكرام والحارس لها، يتعهدها كل لحظة يرويها ببركاته الإلهية، عينه عليها ليلاً ونهارًا، لا يتركها ولا يتخلى عنها، ينزع عنها الشوك والحسك ليحرقه، ويصالحها مع الآب خلال صليبه (رو 5: 1).
إن كان الصليب قد حطم إبليس وجرده من سلطانه على المؤمنين، فإنه قدم أيضًا البركات التالية:
أ. “غنوا للكرمة المشتهاة” [3]. تُرى لمن قيل هذا إلاَّ للسمائيين الذين أدركوا ثمار الصليب في حياة الكنيسة فتهللت حياتهم وصاروا يسبحون الله مخلص البشر على عمله العجيب فيهم، إذ جعل الأرضيين سمائيين، ورفع الكنيسة إلى حيث العرش تُشارك السماء تسابيحها وليتورجياتها. صارت الكرمة المشتهاة من الله مخلصها موضوع شهوة الملائكة وكل الطغمات العلوية (رؤ 5: 11-14).
إن كان ذكر الله شهوة نفس الإنسان فإن ذلك هو ردّ فعل لحب الله لنا ولاشتهائه إلينا بكوننا كرمه المشتهاه وعروسه المحبوبة لديه وكنيسته التي يشتهي السكنى فيها. يقول المرتل: “لأن الرب قد اختار صهيون اشتهاها مسكنًا له. هذه هي راحتي إلى الأبد ههنا اسكن لأني اشتهيتها” (مز 132: 13-14)؛ “الجبل الذي اشتهاه الله لسكنه، بل الرب يسكن فيه إلى الأبد” (مز 68: 16).
ب. حراسة إلهية: “أنا الرب حارسها… أحرسها ليلاً ونهارًا” [3]. أن كان الله يرسل ملائكته لحماية شعبه من المخاطر الزمنية؛ لكنه يقوم بنفسه بحراستها من ضربات الخطية القاتلة. لقد حُطم العدو بالصليب لا كحدث تاريخي مضى وإنما كعمل إلهي قائم وفعّال، ثبّت صليبه في وسط كنيسته ليحتضنها من كل ضربات العدو مادامت تبقى في احضانه وتطلب حراسته. لذلك يقول القديس مار إفرآم السرياني: [المجد لك يا من أقمت صليبك جسرًا فوق الموت، تعبر عليه النفوس من مسكن الموت إلى مسكن الحياة[295]].
ج. رعاية مستمرة: “أسقيها كل لحظة” [3]؛ إذ يُنزل عليها أمطار نعمته المجانية فتحول قفرها إلى فردوس إلهي. لذا تُناجيه قائلة: “ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس” (نش 4: 16). ما أحمله من ثمار الروح هو عمله في، ثمر رعايته غير المنقطعة.
بماذا يسقي الله كنيسته الكرمة المشتهاة؟
أنه يهبنا روحه القدوس عاملاً فينا، يهبنا حياته فينا… يعطينا ذاته!
v سخي هو ذاك الذي يهبنا اعظم كل العطايا، حياته ذاتها!
القديس إكليمندس الاسكندري[296]
v بسبب نعمة الروح التي أُعطيت لنا، صرنا نحن فيه وهو فينا (1 يو 4: 13)…
خارج الروح نحن غرباء عن الله وبعيدون عنه، أما بشركة الروح فصرنا قريبين للاهوت، فوجودنا في الآب ليس من عندياتنا إنما هو عمل الروح الذي فينا ساكنا في داخلنا.
البابا أثناسيوس الرسولي[297]
د. عدم إدانتها: “ليس ليّ غيظ” [4]. إذ تقبل عطيته المجانية وتتجاوب عمليًا مع نعمته لا تسقط تحت الغضب الإلهي بل بثقة تقول: “إذًا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح، لأن ناموس روح الحياة في المسيح قد اعتقني من ناموس الخطية والموت” (رو 8: 1-2).
يرى البعض أن كلمة “غيظ” يجب أن تقرأ هنا “hemah” وتعني “عنبًا”[298]، فإنه إذ لم يجد عنبًا جيدًا بل شوكًا وحسكًا، أو عنبًا بريًا قام بحرق الشوك والحسك لإعطاء الفرصة للإثمار الجيد.
هـ. حرق الشوك والحسك: “ليت عليّ الشوك والحسك في القتال فأهجم عليها واحرقها معًا” [4]. لقد أخذ على عاتقه مقاومة الشوك والحسك الخانق للكرمة المشتهاة، قائلاً: “ليت عليّ الشوك…”. بالفعل حمل الشوك على رأسه حين صُلب، نازعًا العار أو اللعنة عنا ليحملها من أجلنا. وكما يقول القديس مار يعقوب السروجي: [حمل لعنة الأرض بالإكليل الذي وضعوه على رأسه، وحمل ثقل العالم كله كالجبار!… صار لعنة حتى يتبارك به الوارثون الراجعون! بإكليله خلع زرع الحية الملعون… بإكليل الشوك هدم تاج الشيطان الذي أراد أن يكون إلهًا على الخليقة! بإكليل شوكه ضفر إكليلاً لإبنة الأمم، العروس التي خطبها من بين الأصنام، وكتبها لإسمه[299]].
و. مصالحتنا مع الله: “أو يتمسك بحصني فيصنع صلحًا معي، صلحًا يصنع معىي” [5]. هذه هي نهاية عمل الصليب: مصالحتنا مع الله، إذ ونحن بعد اعداء صولحنا مع الله بموت ابنه (رو 5: 10).
v ابن الله تألم ليجعلنا ابناء لله، وابن الإنسان (نحن البشر) يرفض أن يتألم لكي تستمر بنوته لله!!!
القديس كبريانوس[300]
ز. نمو الكنيسة الجامعة أو إسرائيل الجديدة: “في المستقبل يتأصل يعقوب، يزهر ويفرع إسرائيل ويملأون وجه المسكونة ثمارًا” [6]. لعل الله أراد منهم ألا ينظروا إلى عمله معهم في المستقبل القريب (خلاصهم من السبي البابلي) وإنما خلال المستقبل البعيد حيث يتأصل يعقوب الجديد، فتقوم كنيسة العهد الجديد بكونها إسرائيل الجديد، التي ضمت من اليهود التلاميذ والرسل وكثير من المؤمنين جاءوا بثمار روحيه فائقة ملأت وجه المسكونة. يقول القديس إيريناؤس: [أُلقيت البذار في كل المسكونة… فمن (أورشليم) هذه إستطاع المسيح والرسل أن يأتوا بثمار[301]].
ح. تأديبه لأولاده [7-9]: يُعاملهم كأبناء وليس كأعداء، فيسمح بتأديبهم لأجل خلاصهم وبنيانهم، إذ يقول: “هل ضربة كضربة ضاربيه؟!” [7]، بمعنى هل ضرب الله يعقوب إسرائيل كما ضرب ضاربي يعقوب؟! حينما يضرب شعب إنما لأجل بنيانهم أما ضربة للاعداء ضاربي شعبه فليهدمهم لأنهم مصرون على الجحود ومقاومة الله. بذات المعنى يقول: “أو قُتِل كقتل قتلاه؟!” [7].
“يزجر (بكيل) إذ طلقتها خاصمتها، أزالها بريحه العاصفة في يوم الشرقية” [8]. حتى في الخصومة إنما يُخاصمها كما بكيل، أي يسمح لها بالضيق قدر احتمالها، لأجل تأديبها على خطاياها، حتى وإن بدى أنه قد طلقها وسلمها للريح العاصف القادم من الشرق، أي لأشور أو بابل عام 722 ق.م. و587 ق.م.
- ضرب العدو:
مقابل تأديبه لأولاده حتى وإن بدى قاسيًا مستخدمًا أشور وبابل، أو كمن قد طلقهم إذا به يسمح بهلاك العدو الشرير؛ فيحول بابل المدينة الحصينة إلى مسكن مهجور متروك كالقفر.
يرى البعض أن الحديث هنا عن السامرة أيضًا التي صارت خرابًا بسبب جهل شعبها الروحي واعتزالها عبادة الله والسقوط في الوثنية [19-11].
- الله يجمع شعبه:
يرى البعض في ذلك نبوة عن جمع شعب إسرائيل في أواخر الدهور عندما يقبلون الإيمان بالسيد المسيح، غير أن البعض يراها صورة لعمل الله عبر العصور عندما أخرج شعبه من مصر ثم خلصه من السبي البابلي.
ربما يُشير هنا إلى إسرائيل الجديدة، الكنيسة التي جُمعت من بين الشعوب والأمم لتتمتع بالحياة المقامة.