البابا مرقس الرابع

البطريرك رقم 84

رسامته

 انقضی شهر وسبعة وعشرون يوماً على انتقال البابا بطرس الخامس إلى دار الخلد . ثم رأي الأساقفة والأراخنة وجوب البدء في التشاور لأنتخاب راعيهم الأول وبخاصة لأن فترة الهدوء كانت لا تزال سائدة .

وحينما اجتمعوا تذكروا انهم التقوا براهب من دیر شهران يوم أن اجتمعوا لعمل الميرون في دير الأنبا مكارى الكبير تلبية لدعوة البابا المتنيح ، وهذا الراهب كان ابن كاهن كنيسة السيدة العذراء المعروفة بالمعلقة واسمه الأسعد فرج الله ابن القس الأكرم . وحين تذكروه تذكروا أيضا أنه حين ترهب اتخذ اسم الملاك المبشر اسماً له فأصبح الراهب غبريال. وحين استثارت الذكرى هذه الصورة التي للراهب غبريال لما كان بينهم رأوه الشخص الذي ينشدونه فأجمعوا على انتخابه. وبذلك أصبح الأنبا مرقس الرابع البابا الإسكندری الرابع والثمانين سنة ١٣٥٠ م . وقد تمت رسامته في أواخر أيام الناصر محمد بن قلاوون – وهي الأيام التي استقر فيها السلام .

سائح إنجليزي 

ومن الطريف أنه جاء إلى مصر في تلك الفترة سائح انجليزي أسعده الحظ بمقابلة السلطان وفيما الاثنان يتسامران قال السلطان لضيفه بأن هناك اعتقاداً سائداً بين المسلمين بأن النصارى قد خسروا مصر وسوريا بسبب معاصيهم وابتعادهم عن الله، وأنه سيأتي وقت يتوبون فيه ويعودون بنية خالصة إلى طاعة الله والعمل بوصاياه. وعند ذلك سيسودون على أرض مصر كلها.

حادث لم يكن في الحسبان

وحدث حادث لم يكن في الحسبان أدى بدوره الى معاودة اضطهاد القبط ، وهذا الحادث يتلخص في أن حكومة أراجوان ( بأسبانيا ) أرسلت وفداً إلى السلطان ترجو منه أن يصدر الأمر بفتح بعض الكنائس الخاصة بالملكيين ويفك أسر أسبانی محتجز في بلادنا. وقد وافق السلطان على الطلبين. إلا أنه حينما كان وفد الوساطة عائدة إلى الإسكندرية ليبحر منها إلى بلاده رأي السلطان أن يجعله يدفع فدية عن الأسير الذي أطلقه والا أعاده إلى الأمير. فلم يكتف الوفد الأسباني برفض طلب السلطان بل حملوا رسله قسراً إلى أسبانيا. فأوغر هذا العمل صدور المسئولين في مصر ضد القبط وعاودوا البطش بهم مع أنه لا ذنب لهم إطلاقاً. وهذا الغضب كان بالطبع نتيجة لكون الأسبان مسيحيين فهم في نظر المسلمين مشاركين للقبط في إيمانهم . لهذا السبب وحده حرض الأمراء المماليك الشعب على مضاعفة بطشهم بالقبط كما حملوا السلطان على اخراجهم من الوظائف الحكومية. فأثبت هذا الحادث صدق المثل الشائع : ” كل هم في البلد بيجي على قلبي ويسند”.

صوت نذير

 ثم مات الناصر محمد بن قلاوون فخلفه على عرش السلطنة ابنه الملك الصالح الثاني الذي كانت أفعاله أبعد ما تكون عن اسمه وفي بداية حكمه انتشر الطاعون بشكل مزعج فأهلك الآلاف من الناس . وبينما هذا الوباء يحصد المئات يومياً جاء إلى القاهرة رجل قبطي من الريف وأخذ يتنقل في الشوارع منذراً الناس بالويل إن لم يتوبوا عن شرورهم ، وعندها قبض عليه وسيق إلى قاضي الأسلام . فوقف أمام القاضي وأعلن في شجاعة تامة بأنه إنما جاء ليوبخ القبط الجاحدين ويهيب بهم أن يعودوا إلى دین آبائهم. فهدده القاضي بالتعذيب فلم يرهب التهديد وأعلن أنه ليس مستعداً لأن يتحمل صنوف العذاب التي يمكن أن تكال له فقط بل أنه على أتم استعداد لأن يلقي الموت أيضا ، فاستثارت شجاعته غضب القاضي والمحيطين به ومن ثم صدر الأمر بتعذيبه . واستمر التعذيب أسبوعاً کاملاً. فتحمله الرجل الباسل بصبر وهدوء . إلا أن بسالته وصبره لم يشفعا فيه أمام جلاديه إذ قد صدر الأمر بقتله . فقطعوا رأسه ثم أحرقوا جثته . وهكذا نال إكليل الشهادة على أننا لا نعرف اسم هذا الشهيد الصبور ولا البلد الذي كان يعيش فيه قبل مجيئه إلى القاهرة . فهو بدوره جندي مجهول.

وكأنما كانت هذه الحادثة الشرارة التي أوقدت نار الاضطهاد من جديد وأول شرارة التهمت كنيسة بناحية شبرا إذ قد خرج والى القاهرة إلى هناك وأمر بهدم الكنيسة أمام عينيه.

تعسف شامل

 ولم ينصب تعسف الملك الصالح على القبط الأوفياء لمسيحيتهم فقط بل شمل المارقين منهم أيضا. ذلك أنه كان قد استوزر الصاحب علاء الدين ابن زنبور من عائلة زنبور التي أسلم جميع أفرادها. على أن أحد رجال البلاط تقدم إلى الملك يتهم وزيره بأن اسلامه في المظهر فقط أما في الواقع فهو ما زال على دينه ، فاشتد غضب الملك على ابن زنبور إلى حد أنه لم يكتف بتعذيبه وحده بل أنزل العذاب بكل أفراد عائلته وبجميع خدمه إلى أن أرشدوه إلى مكان مال وزیره فاستولى عليه وبعد أن أذيق ابن زنبور مختلف العذابات صدر الأمر بنفيه إلى قوص.

ثم أمتد التعسف إلى الأموال فصودرت أوقاف القبط وهدم عدد كبير من كنائسهم وبعض من أديرتهم. 

ولقد اتفق ذات يوم أن مر قبطي على الطريق الممتد أمام الجامعة الأزهرية وهو لابس الحرير المزركش وراكب حصانا وحوله عبيده وخدامه فاستثارت وجاهته غضب بعض الغوغاء وهجموا عليه وأنزلوه من على حصانه ومزقوا ثيابه وكادوا يقتلونه لولا تدخل بعض من عقلاء المسلمين ولكن هذا الحادث لم يمر بهدوء لأن الثائرين تقدموا إلى الأمير طاز يشتكون  إليه وجاهة القبط . فأمر باستدعاء البابا المرقسي وقرأ له العهدة المكتوبة بين المسلمين وبين أهل الذمة الخاصة بالملابس. ومع أن الأنبا مرقس أعلن استعداده لأن يلتزم هو وشعبه بما جاء في العهدة إلا أنه أذيق صنوف العذاب وألقي في السجن فترة من الزمن دون مراعاة لكرامته.

 كذلك بعث السلطان برسالة إلى جميع ولاته يفرض عليهم فيها أن لا يستخدموا قبطياً في دواوين الحكومة. فلو أن أحد القبط أعلن اسلامه بيمنعونه من العودة إلى منزله ومن مقابلة أهله إلا أن أسلموا هم بدورهم. وعلى كل من يشهر اسلامه أن يلازم المساجد والزوايا وأن يجلس عند أقدام الفقهاء ويستمع إلى ما يقوله شيوخ الاسلام. أما متى مات أحد القبط فيتولى المسلمون تقسیم تركته . فإن لم يكن له وارث دخلت التركة بيت المال .

خلع السلطان

ثم حدث أن تنازع وزیران مرتدان وانضم إلى كل منهما فریق يسانده فأدى هذا النزاع إلى خلع الملك الصالح واحلال أخيه الناصر حسن محله .

 وبعد هذا كله وصل إلى مسامع ملك النوبة خبر تعذيب البابا المرقسي والقائه في السجن كما وصلته أخبار البطش بالقبط والتشكك فيمن يسلم منهم فأصدر أمره بالقبض على التجار المسلمين من رعاياه وسجنهم ليكونوا رهائن لديه إلى أن يصدر الأمر بالإفراج عن الأنبا مرقس الرابع . وبهذه الوسيلة نجح ملك النوبة في بلوغ هدفه إذ قد خرج البابا الاسكندري من السجن .

نياحته

وقد جاز الأنبا مرقس الرابع كل هذه الشدائد بصبر واتزان ملقياً همه على الرب الذي ائتمنه على رئاسة الكهنوت وعاملاً على مواساة شعبه . ثم رأى الآب السماري أن يريحه من كل هذا الظلم والبطش فنقله إلى دار النعيم بعد أن قاد دفة الكنيسة أربع عشرة سنة وأربعة شهور وستة وعشرين يوماً.

فاصل

البابا بطرس الخامس القرن الرابع عشر العصور الوسطى البابا يوحنا العاشر 
تاريخ البطاركة
تاريخ الكنيسة القبطية

 

زر الذهاب إلى الأعلى