تفسير سفر إشعياء ٥٢ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثاني والخمسون
بهجَة الخلاص

بعدما أعلن عن دعوته الجامعة للتمتع بعمل الخلاص الفريد كشف عن ضعفات شعبه التي بسببها ذاقوا المرارة، الآن وقد فتح لهم باب الرجاء على مصراعيه يتحدث عن بهجة الخلاص وروعته.

البسي ثياب جمالك  [1-2].

استيقظي استيقظي، البسي عزك يا صهيون، البسي ثياب جمالك يا أورشليم المدينة المقدسة، لأنه لا يعود يدخلك في ما بعد أغلف ولا نجس، انتفضي من التراب، قومي اجلسي يا أورشليم، انحلي من ربط عنقك أيتها المسبية ابنة صهيون[1-2].

بينما يؤكد النبي عودة الشعب من السبي بكرامة لم يكن يتوقعها إذ به يتحدث عن عودة البشرية إلى مكانها الأول، رجوعها إلى مدينة الله الروحية وتمتعها ببهائه الفائق لتعيش حرة من كل نجاسة كما أراد الله لها…

الله يحب الإنسان ويشتاق أن يدخل به إلى الأمجاد ليعيش في حياة قدسية مكرمة ومجيدة، لهذا جاءت الدعوة هنا للتمتع بالبركات الإلهية التالية:

أ. الحياة المقامة المجيدة: “استيقظي استيقظي“، فقد انحدرت كما إلى القبر لتضطجع وسط الظلمة ويحل بها الفساد. هذا هو حال إسرائيل في بابل حيث فقدوا كل رجاء في العودة إلى بلادهم وتمتعهم بالحرية، فحسبوا أنفسهم كأموات. هذا هو حال كل إنسان أسرته الخطية فانهارت حياته الداخلية وفقد الإرادة الصالحة والقدرة على التمتع بالحياة القدسية ليصير أشبه بميت يحل به الفساد. أنه محتاج إلى من يوقظه من موت الخطية، ويهبه الحياة الجديدة المقامة.

يقول الرسول: “لذلك يقول: استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح” (أف 5: 14). “وأقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات في المسيح يسوع” (أف 2: 6).

الآن قد جاء المخلص إلى كل نفس ساقطة ومهانة ليُناجيها قائلاً: “مررت بك ورأيتك وإذا زمنك زمن الحب، فبسطت ذيلي عليك” (حز 16: 8)… ماذا يعني بسط ذيله عليها إلاَّ قبولها عروسًا له تتحد معه وتتمتع بحياته المقامة؟! جاءها كعريس لتجد فيه “القيامة” فتستيقظ كما من الموت الأبدي. هذا ما عناه الرسول بولس بقوله: “لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد فبالأولى كثيرًا الذين ينالون فيض النعمة وعطية البر سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح” (رو 5: 17).

هكذا تتحد النفس بالعريس واهب الحياة فتخلع عنها الأكفان وترتدي ثوب العرس: “البسي عزك يا صهيون، البسي ثياب جمالك يا أورشليم المدينة المقدسة” [1]. يقول لها: “البستك مطرزه ونعلتك بالتخس وأزرتك بالكتان وكسوتك بزًا، وحليتك بالحلي… وجَملتِ جدًا جدًا فصلحت لمملكة، وخرج لكِ اسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليكِ يقول السيد الرب” (حز 16: 10-14). ما هو هذا اللباس الذي سكب عليها بهاء الرب فجمُلت جدًا جدًا وصلحت أن تكون ملكة إلاَّ شخص المسيح نفسه الذي نختفي فيه كقول الرسول: “قد لبستم المسيح” (غل 1: 27).

v يليق بالكنيسة كلها أن تتهلل مسبحة السيد المسيح على مثال النسوة القديسات حينما تحققن قيامة الرب، هذا الذي أيقظ البشرية من النوم، إذ أعطاها الحياة وملأها بنور الإيمان.

القديس إيرونيموس[542]

v   اليوم هو “عيد القيامة”، وإنه ليّ لبداية جديدة.

v لقد مسحني السرّ الإلهي… الذي يحضرني إلى هذا اليوم العظيم المشرق، واهبًا عونًا لضعفي، فيعطيني ذاك الذي قام من الأموات – في مثل هذا اليوم- حياة لنفسي أيضًا، ويلبسني الإنسان الجديد (إف 4: 23-24)، ويجعلني من الخليقة الجديدة من هؤلاء الذين وُلدوا من الله… فأكون مستعدًا أن أموت معه وأقوم أيضًا معه…

بالأمس (الجمعة العظيمة) ذُبح الحمل ورُشت القوائم بدمه… وعبر الملاك المهلك بسيفه المهلك مرتعبًا وخائفًا… لأننا محفوظون بالدم الثمين.

بالأمس قد صُلبت مع المسيح، واليوم أنا ممجد فيه!

بالأمس مُت معه، واليوم وُهبت حياة معه!

بالأمس دُفنت معه، واليوم أقوم معه!…

من استطاع أن يتفهم هذا السرّ العظيم في المسيح وما صنعه لأجلنا ولم يُعطِ المسيح نفسه فهو لم يعطه شيئًا!

القديس غريغوريوس النزينزى[543]

ب. تصير مدينة مقدسة لا يعود يدخلها أغلف ولا نجس، أي لا يدوسها بعد الغرباء. كمدينة الله تتقدس من كل نجاسة لتحمل طبيعة الحياة السماوية اللائقة بالملك السماوي.

v   الآن يا أحبائي… قد ذُبح الشيطان، ذاك الطاغية الذي هو ضد العالم كله، فنحن لا نقترب من عيد زمني بل من عيد دائم سماوي… 

الآن بطل الموت، وانهدمت مملكة الشيطان، لذلك امتلأ كل شيء بالفرح والسعادة…

يلزمنا أن نقترب إلى العيد هكذا لا بثوب مدنس، بل أن تلتحف نفوسنا بأثواب طاهرة. يلزمنا أن نلبس ربنا يسوع (رو 13: 4)، حتى نستطيع أن نحتفل بالعيد معه.

الآن نحن نلبسه عندما نحب الفضيلة ونبغض الشر؛ عندما نُدرب أنفسنا على العفة ونُميت شهواتنا؛ عندما نحب البرّ لا الإثم؛ عندما نُكرم القناعة، ويكون لنا العقل الراسخ؛ عندما لا ننسى الفقير بل نفتح أبوابنا لجميع البشر؛ عندما نعين الضعفاء وننبذ الكبرياء.

البابا أثناسيوس الرسولي[544]

ج. تنتفض من التراب، إذ لا تعود تتعلق النفس بالزمنيات وإنما تطلب ملكوت الله وبره أولاً وهذه كلها تزاد لها. تحيا منطلقة نحو الأبدية متحررة من رباطات العالم.

د. تقوم كملكة لتجلس على كرسي المُلك [2]، بعدما كانت أَمَة وعبدة أسيرة تجلس في التراب تخدم سادتها في مذلة وهوان، تقوم إلى يمين الملك السماوي. وكما يقول المرتل: “جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير” (مز 45: 9).

هـ. التمتع بالحرية: “انحلي من ربط عنقك أيتها المسبية ابنة صهيون” [2]. بعدما كانت مربوطة من عنقها لتُسحب كإحدى الحيوانات في السبي انحلت هذه الربط وعادت إليها كرامة الحرية لتعيش سيدة نفسها، صاحبة سلطان داخلي. إن كانت الخطية تذل الإنسان لتسحبه كما تشاء، تلهو به كألعوبة في يدي عدو الخير، ففي المسيح يسوع يعيش الإنسان ملكًا (رؤ 1: 6)، يحمل سلطانًا على قلبه وفكره وأحاسيسه وجسده.

في اختصار يقوم الإنسان من موت الخطية، يخلع أكفانه ويلبس السيد المسيح نفسه ثوبًا أبديًا، يرفض كل نجاسة ليحمل برّ المسيح فيه، ينتفض من تراب محبة الأرضيات لتحلق نفسه في السمويات، يقوم من المذلة ليجلس عن يمين الله ليتمتع بشركة الأمجاد. تُفك قيوده الداخلية لينعم بحرية مجد أولاد الله.

خلاص مجاني   [3-6].

فإنه هكذا قال الرب: مجانًا بُعْتُم وبلا فضة تُفكون” [3]. لم يبع الله شعبه لبابل، إنما هم الذين باعوا أنفسهم بأنفسهم خلال تركهم الله وعصيانهم له، فسلمهم لهم. لم ينالوا شيئًا مقابل ذلك ولا نال الله شيئًا، لأن بابل لم تشكر الله الذي سلمهم هذا الشعب كأسرى بل جدفوا عليه. كأن الله لا يود تسليمهم لبابل لكنهم ألزموه ببيعهم أنفسهم للخطية والرجاسات الوثنية.

لقد سبق فنزل شعب الله إلى مصر وتغرب هناك وأذله فرعون؛ ومع ذلك لم يتعلم فباع نفسه لآشور الذي ظلمه بلا سبب أو بلا إثارة من جهة الشعب ضد آشور… لهذا يتدخل الله ليُخلص شعبه ويتمجد إسمه القدوس.

نحن أيضًا سلمنا أنفسنا لسلطان الخطية واستعبدنا أنفسنا لعدو الخير بلا ثمن… الآن تقدم المخلص ليفكنا مجانًا، لا بذهب أوفضة وإنما بدمه الثمين (رؤ 5: 9).

بشارة مفرحة   [7-10].

جاءت البشارة برد الشعب عن السبي من قبل الرب نفسه الذي ملك على شعبه [7]، فارتفعت أصوات التسبيح والترنم، لا من أجل رجوعهم إلى بلادهم وإنما من أجل “رجوع الرب إلى صهيون[8]. جاء بنفسه ليُعزي شعبه، ويشمر ذراع قدسه للعمل لإصلاح ما حلّ بشعبه ومدينته من خراب، ليعلن علانية “أمام عيون كل الأمم[10] لتمجده كل أطراف الأرض.

جاء الحديث بالأكثر عن البشارة المفرحة الخاصة بإنجيل الخلاص:

ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام، المبشر بالخير، المخبر بالخلاص، القائل لصهيون: قد ملك إلهك[7]. ما هما هاتان القدمان الجميلتان إلاَّ كنيسة العهد الجديد التي تنطق خلال كلمة الله (الجبال) لتُبشر بالإنجيل وتعلن أن ربنا يسوع قد ملك على خشبة وأنه أقامنا معه؟!

v يرى (إشعياء) أنه ما أجمل وما أليق كرازة الرسل السالكين في (الرب) القائل “أنا هو الطريق”، ممتدحًا أقدام السالكين في الطريق العقلي الذي ليسوع المسيح، فأنه خلال هذا الباب يدخلون إلى الله (الآب). إنهم يبشرون بالأخبار السارة، هؤلاء الذين اقدامهم جميلة إذ صار لهم يسوع (طريقًا لأقدامهم وسرًا لجمالهم).

العلامة أوريجانوس[545]

v عندما يكرزون لنا بإنجيل هذا السلام الذي سبق فتنبأ عنه: “ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام، المبشرين بالخير” [7]، يبدأ كل واحد منا أن يكون ابنًا للسلام بطاعته وإيمانه بهذا الإنجيل، فإنه يتبرر بالإيمان ينال سلامًا مع الله[546].

v   ما هما قدما الرب؟ أنهما الإنجيليون القديسون[547]!.

v   خلال أقدام البشر الجميلة المخبرة بالصالحات صارت قلوب البشرية طريقًا مفتوحًا للرب[548].

القديس أغسطينوس

اعتزال الشر   [11-12].

بروح النبوة رأى إشعياء الكهنة حاملي آنية الرب التي أخذها نبوخذ نصَّر والتي استعملها بيلشاصَّر في الوليمة باستخفاف (عز 1: 7-11)، في موكب مهيب استغرق حوالي أربعة شهور.

كشف النبي عن سرّ مهابة هذا الموكب ألا وهو:

أ. من الجانب السلبي: اعتزال الشر والخروج المستمر من أسر الخطية؛ “اعتزلوا اعتزلوا، اخرجوا من هناك، لا تمسوا نجسًا؛ اخرجوا من وسطها، تطهروا يا حاملي آنية الرب[11].دعوة للخروج المستمر كقول الرسول: “لذلك أخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب، ولا تمسوا نجسًا فأقبلكم، وأكون لكم أبًا وأنتم تكونون ليّ بنين وبنات” (2 كو 6: 17-18).

v ينصح بولس قائلاً: “اعزلوا الخبيث من بينكم”، “حتى يُرفع من وسطكم الذي فعل هذا الفعل” (1 كو 5: 13، 2). إنه أمر مرعب، ومرعب حقًا، هو مجمع الأشرار، فإن وباءهم ينتقل بسرعة ويؤثر على من يتعاملون معهم كمن هم مرضى… “فإن المعاشرات الرديئة تُفسد الأخلاق الجيدة” (1 كو 15: 33)… ليته لا يكون لأحد صديق شرير.

القديس يوحنا الذهبي الفم[549]

ب. من الجانب الإيجابي: قبول الله نفسه قائدًا للموكب، لهذا نخرج في هدوء وطمأنينة واثقين من قدرة قائدنا وحمايته لنا كل الطريق؛ “لانكم لا تخرجون بالعجلة، ولا تذهبون هاربين؛ لأن الرب سائر أمامكم وإله إسرائيل يجمع ساقتكم[12].

مجد عبد الرب    [13-15].

إذ أوصى أن يقود الرب المخلص الموكب، قدم لنا صورة عن مجد المخلص الذي صار عبدًا ليتمجد لحسابنا وباسمنا، وقد فسر اليهود القدامى هذا النص على أنه خاص بالمسيا.

أ. “هوذا عبدي“: صار الكلمة جسدًا، وحُسب عبدًا للآب كنائب عن البشرية، العبد الذي يطيع فنُحسب فيه مطيعين لله.

ب. “يعقل يتعالى ويرتقي ويتسامى جدًا[13]، هو حكمة الله، من أجلنا قبل روح الحكمة والفهم يستقر عليه (إش 11: 2) مع كونه هو روحه القدوس الغير منفصل عنه.

ج. منظره على الصليب أثار دهشة السمائيين والأرضيين: “كما اندهش منك كثيرون. كان منظره كذا مُفْسدًا أكثر من الرجل وصورته أكثر من بني آدم” [14]. هذا ما سيعلنه باكثر وضوح في الأصحاح التالي: “لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه…” (إش 53: 2-3).

د. خلال هذا المنظر المؤلم كذبيحة مرفوعة على الصليب نضح بدمه على الأمم فقدّسهم له، وسد أفواه ملوك (ربما يعنى قوات الظلمة) إذ أبصروا خلاصًا لم يكونوا يدركونه من قبل.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى