تفسير سفر حزقيال ٩ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح التاسع
جماعة المختومين
حقًا أن “إثم إسرائيل ويهوذا عظيم جدًا جدًا، وقد امتلأت الأرض دماء وامتلأت جَنفًا” [9]، ولكن وُجد أناس بالرغم من قلة عددهم كانوا يئنون في حزن شديد على ما وصلت إليه أورشليم، هؤلاء يختمهم الرب بسمة خاصة ليحفظهم تحت اسمه معتزًا بهم. هذا هو موضوع هذه الرؤيا التي قدمها الله لحزقيال النبي ربما ليكشف له ما سبق أن أعلنه لإيليا عندما صغرت نفسه جدًا، قائلاً: “أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعل” (رو 11: 4، 1 مل 19: 18).
- الرجل الستة [1-2].
- لبس الكتان [3].
- السمة [4].
- حاملوا السمة [4].
- حركة التأديب [5-10].
- ظهور السيد متمنطقًا [11].
- الرجال الستة:
جاء هؤلاء الرجال “مقبلين من طريق الباب الأعلى الذي من جهة الشمال، وكل واحد عُدَّته الساحقة بيده” [2] لعل مجيئهم من جهة الشمال إشارة إلى الهجوم الكلداني من جهة بابل. وربما لأن مجلس تمثال الغيرة كان في مدخل الدار الداخلية المتجه نحو الشمال (8: 3) وكأنه حيث يوجد الشر من هناك ينطلق التأديب الإلهي. أما كون عددهم سته فربما لأن أبواب أورشليم في ذلك الحين كانت ستة، وكأنه سيتم الهجوم من كل الأبواب ولا يوجد مجال للهرب كما كان قادة جيش الكلدانين أيضًا ستة (إر 39: 3). على أية الأحوال رقم 6 غالبًا ما يشير إلى النقص لذلك فان رقم اسم الوحش 666[96]، أي تأكيد نقصه ثلاث مرات. إذن هؤلاء الرجال إنما يقدمون للأشرار ثمن شرهم الذي هو الثمر الطبيعي له.
- لابس الكتان:
وسط هؤلاء المؤدبين من يلبس ثيابًا كهنوتية: “رجل لابس الكتان وعلى جانبه دواة كاتب” [2].
قديمًا قليلون هم الذين كانوا يعرفون الكتابة، فكان الكاتب غالبًا ما يلازم الأشخاص المهمين الذين يقومون بإرسالية معينة كأمين سر لهم. كانت الدواة عبارة عن قرن حيوان مملوء حبرًا يتكون من سُخام المصابيح (السَّناج) ممتزجًا بصمغ وماء، وكان الكاتب يضع الدواة بالحبرعلى جنبه. أما القلم المستخدم فهو من الخشب أو العظام. كان الكاتب دائما مستعدًا للكتابة[97]. أنه بلاشك يمثل السيد المسيح الذي جاء لخلاصنا، هذا الذي أفاض من جنبه المطعون دمًا وماءً لتسجيل أسمائنا في سفر الحياة.
حين صار حزقيال “آية لإسرائيل” قدمت له آثامهم شللا فصار نائمًا على جنبه بلا حركة، أما السيد المسيح فإذ أحنى رأسه ليحمل آثامنا ويدينها في جسده لم يكن ممكنًا للموت أن يمسك به ولا للخطيئة أن تتعلق به، فأفلض لنا من جنبه سر الحياة وخلاصًا أبديًا! لقد انفتح جنبه لكي ندخل إلى أحشاء محبته اللانهائية، فيرفعنا إلى حضن أبيه، مصالحًا إيانا معه بدمه الكريم. وكما يقول الرسول: “فإذ لنا أيها الاخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقًا كرسه لنا حديثًا حيًا بالحجاب أي جسده، وكاهن عظيم على بيت الله لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير ومغتسلة أجسادنا بماء نقي” (عب 10: 19-22).
دخل الرجال الستة “ووقفوا جانب مذبح النحاس” [2]، الذي يرمز إلى صليب ربنا يسوع المسيح الحامل الذبيحة، وفي ضوئها يُدان غير التائبين. خلال الذبيحة يتمتع التائبون بالمراحم اللانهائية، ويسقط الأشرار تحت دينونة أبدية.
“ومجد إله إسرائيل صعد عن الكروب الذي كان عليه إلى عتبة البيت” [3]. لقد تحول عرش النعمة إلى عرش قضاء، لقد ديست النعمة الإلهية وأسئ إلى قداسة الله.
- السمة:
“وقال له الرب: اعبر في وسط المدينة
في وسط أورشليم وسم سمة على جباه
الرجال الذين يئنون ويتنهدون على
الرجسات المصنوعة في وسطها” [4].
كلمة “سمة” هنا Taw أي ختم ارتبطت باسم الله، فإن السيد المسيح إذ قدم دمه كفارة عن خطايانا دخل بنا إلى ملكية الله، فصرنا حاملين اسمه على جباهنا كسر تقديسنا، كما كان رئيس الكهنة في القديم يضع صفحية ذهبية على جبهته مكتوب عليها: “قدس للرب”، بدونها لا يقدر أن يتمتع بالمقدسات الإلهية (خر 28: 36-38). بهذا ندخل إلى الحضن الأبوي، فنصير محفوظين من الهلاك. هذا هو عمل الروح القدس الذي نختم به في سر الميرون، فتصير كل أعضائنا في ملكية الرب، وتحفظ نفوسنا في حمايته الإلهية[98].
كلمة “سمة” أو Taw جذبت أنظار الكثيرين بكونها تحمل الحرف اليوناني Taw الذي يحمل شكل الصليب، فيشير العلامة أوريجانوس إلى هذا الأصحاح متحدثًا عن السمة أنها علامة الصليب[99]. ويتحدث العلامة ترتليان عنها بكونها علامة آلام السيد المسيح كسر للخلاص من الهلاك[100]، كما قال: [الحرف اليوناني Tou أو حرفنا (اللاتيني) T هو نفس شكل الصليب الذي تنبأ عنه كعلامة أورشليم الجامعة الحقيقية[101]]. هذه هي العلامة التي تحفظ المؤمن، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أنت أحد المؤمنين، ارسم علامة الصليب. قل: هذا هو سلاحي الوحيد، هذا هو دوائي، لا أعرف شيئًا سواه[102]]. كما يقول: [ليعلق الصليب فوق أَسرّتنا عوض السيف، ولننقشه على أبوابنا بدل المزلاج. وليكن حول بيوتنا موضع السور[103]].
يقول القديس جيروم: [“يقول حزقيال: سِمْ سمة Thaw على جباه الذين يئنون ولا تقتل أيا مما لهم السمة؛ ليس أحد له علامة الصليب على جبهته يمكن للشيطان أن يضربه، فإنه لا يقدر أن يمحيها، إنما الخطية وحدها تقدر[104]].
- حاملوا السمة:
يقول عنهم: “الذين يئنون ويتنهدون على كل الرجاسات المصنوعة في وسطها” [4]. لم يقل لم يسقطوا في الخطأ لكنه يؤكد كراهيتهم له وأنينهم المستمر على الرجاسات. يرى القديس أغسطينوس أنهم يمثلون صورة حية للمجاهدين الذين يعيشون وسط الرجاسات، يتعرضون لها لكنهم يطلبون الخلاص منها بتنهدات غير منقطعة. [إنهم يتنهدون ويتأوهون لذلك ختموا جباههم، ختموا على جبهة إنسانهم الداخلي لا الخارجي، إذ توجد جبهة للضمير كما توجد للوجه… هؤلاء اتسموا بالعلامة لكي لا يهلكوا، لأنهم وإن كانوا غير قادرين على تصحيح الخطايا التي ترتكب في وسطهم لكنهم يحزنون. هذا الحزن في ذاته يجعلهم في عيني الله مفصولين (عن الأشرار) حتى وإن كانوا في عيني الناس مختلطين بالآخرين. إنهم يحملون العلامة بطريقة سرية وليس علنًا[105]].
على أية الاحوال سفر حزفيال الذي يركز في أغلب أصحاحاته الأولى على التأديب والعقوبة، كثيرًا ما يتحدث عن البقية المحفوظة لله. إنها قصة كل جيل وموضوع رعاية الله، فلم ينس الله لوطًا وعائلته حين تعاظمت خطية سدوم وعمورة جدًا وأمطر عليها كبريتًا ونارًا من السماء (تك 19)، ولا نسى نوحًا وعائلته حينما أغرق الأرض بالطوفان (تك 6، 7)، وحينما رفضته أورشليم مدينة الملك العظيم وجد في بيت عنيا راحته في فترة البصخة…
- حركة التأديب:
يقول: “ابتدئوا من مقدسي، فابتدأوا بالرجال
الشيوخ الذين أمام البيت وقال لهم: نجسوا
البيت واملأوا الدور قتلى اخرجوا فخرجوا
وقتلوا في المدينة” [6-7].
صدر الأمر الإلهي بالتأديب، على أن يبدأ بالشيووخ العاملين في بيت الرب وكما يقول العلامة أوريجانوس: [تبدأ الدينونة مع بيت الله[106]]. وعندما حاسب الرب أصحاب الوزنات بدأ أولاً بصاحب العشرة وزنات وانتهى بصاحب الوزنة الواحدة. هكذا يهتم الله بتقديس الذين يعملون في كرمه لكي يقدروا أن يكونوا مثلاً حيًا لشعبه، فإن أساء هؤلاء التصرف سقطوا في التأديب قبل غيرهم. حقًا ما أحوج أن تهتم الكنيسة بتقديس كهنتها وكل العاملين في بيت الرب قبل الشعب حتى لا يسقطوا في الفِرّيسيّة أو الناموسية. لقد نجسوا البيت الإلهي بالعبادة الوثنية، وها هو الرب يتركه مُدنسًا بجثث القتلى فيه، هؤلاء الذين تمردوا عليه.
- ظهور السيد متمنطقًا:
جاء في الترجمة السبعينية (9: 11) أن اللابس الكتان كان متمنطقًا. ويعلن القديس يوحنا الذهبي الفم[107] على ذلك بقوله: [إن التمنطق يشير إلى اليقظة المستمرة، لهذا أمر الله أيوب أن يتمنطق (أي 38: 3)، وموسى والأنبياء والرب نفسه يظهر متمنطقًا].
لقد خرّ النبي على وجهه [8] حين رأى حثث الكهنة والشعب، وصرخ من أعماقه إلى الله ألا يهلك البقية الباقية عندما يصب غضبه على أورشليم، فأجابه الرب أنه متمنطق بالبر… إن كان قد سمح بالتأديب القاسي لكنه لا يتجاهل القلة المقدسة، فقد سبق فقال: “لا تقربوا من إنسان عليه السمة” [6]… أن صرخات النبي لن تضيع، بل يسمع الصوت الإلهي: “قد فعلُت كما أمرتني”[11].
من وحي حزقيال 9
ما أعظم ختم الروح!
v ما أعظم ختم روحك القدوس عليّ!
ختمتني بالسمة في سرّ الميرون،
فحسبتي في ملكيتك!
صليبك على جبهتي علامة الجندية الروحية،
وعليها السمة: “قدس للرب!”
صرت بك مخوفًا،
لا يقدر العدو أن يُحطمني مادمت معك!
v إني أخاف لئلا تدينني ثيابي السوادء،
أخشى لئلا أتهاون، متسترًا في ثياب الخدمة!
أحرسني، فإني في خطر!
v عجيب أنت أيها القدوس،
في التأديب تبدأ بكهنتك،
أنت حازم مع تلاميذك لأجل بنيانهم،
لكنك رئيس الكهنة العامل فيهم!
أنت حلو وعذب حتى في تأديباتك
جراحات تأديباتك أعذب من قبلات العدو!
لتؤدبني شمالك ولتخضني يمينك يا عريس نفسي!