تفسير سفر حزقيال ٢٨ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثامن والعشرون
دينونة رئيس صور
بعد أن تنبأ ضد صور (ص 26)، وقدم مرثاة عليها (ص 27)، انتقل إلى التنبؤ ضد رئيسها ثم تقديم مرثاة على ملكها. ربما قصد العائلة الملكية كلها، وأخيرًا التنبؤ ضد صيدون بكونها قد ارتبطت كثيرًا بصور.
- نبوة ضد رئيس صور [1-10].
- مرثاة على ملك صور [11-19].
- نبوة ضد صيدون [20-25].
نبوة ضد رئيس صور:
يرى القديس جيروم أن كلمة “صور” تعني “محنة”[255]، لهذا فإن ما ورد بخصوص رئيس صور أو ملكها إنما قصد به الشيطان بكونه يدفع الناس إلى المحن والتجارب. وقد رأى الكثير من الآباء أن ما ورد في هذا الأصحاح يصف سقطة الشيطان من درجته الملائكية. وجاء ذلك الوصف مطابقًا لما ورد في (إش 14: 12) عن لوسيفر.
ويلاحظ في هذا الأصحاح أن رئيس صور أو ملكها وصف كخليقة الله الصالحة، بل الكاملة، لأن الشيطان لم يُخلق شريرًا، إنما هو خليقة الله الصالحة والتي سقطت بسبب الكبرياء بإرادتها الحرة.
لقد وصف هكذا:
“أنت خاتم الكمال، ملآن حكمة وكامل الجمال.
كنت في عدن جنة الله.
كل حجر كريم ستارتك عقيق أحمر… أنشأوا فيك صنعة الفصوص وترصيعها يوم خلقت.
أنت الكروب المنبسط المظلل وأقمتك،
على جبل الله المقدس كنت.
بين حجارة النار تمشيت.
أنت كامل في طرقك من يوم خلقت حتى يوم وجد فيك إثم” [12-15].
لقد كان الشيطان من أكبر الطغمات السمائية وأعظمها، طغمة الكاروبيم الحاملة للعرش الإلهي، الملتهبة نارًا كمركبة نارية إلهية! كان خاتمًا للكمال، لأنه يحمل العرش، مملوءًا حكمة، إذ نعرف أن الكاروب مملوء أعينًا، كامل الجمال إذ يعكس بهاء الله عليه. يتزين بكل حجر كريم، إذ لم ينقصه الله شيئًا، يظلل بأجنحته على جبل الله المقدس، حيثما وجد إنما يعلن عن وجود الله الذي يقدس كل شيء. كان يتمشي بين حجارة نار علامة الحضرة الإلهية النارية. خلق بلا عيب كاملاً في كل طرقه.
واضح أن الحديث هنا لا ينطبق على الإنسان أكمل خليقة الله على الأرض ولا على أي طغمة سماوية بل على أعظم الطغمات وأسماها… يقول العلامة ترتليان: [إن عدنا إلى نبوة حزقيال نجد أن هذا الملاك كان صالحًا بخلقته لكنه فسد باختياره. فإنه في شخص ملك صور قيل عن الشيطان: “أنت خاتم الكمال… الخ”، وواضح أن هذا الوصف [11-16] إنما يخص عصيان الملاك لا رئيس صور، فإنه ليس من بين الكائنات البشرية من ولد في فردوس الله، حتى آدم نفسه إنما نقل إليه، وليس من هو كاروب يوضع على جبل الله المقدس، أي في أعالي السموات إلا ذاك الذي شهد عنه الرب أنه من هناك سقط (لو 10: 18) [256]].
يتحدث العلامة أوريجانوس الإسكندري عن الشيطان وملائكته كخليقة صالحة أخطأت بإرادتها قائلاً: [الذين يقولون إن الشيطان ليس خليقة الله مخطئون. فبقدر ما هو شيطان ليس خليقة الله، أما الكائن نفسه (كمخلوق) فهو خليقة الله. وذلك كالقول بأن القاتل ليس خليقة الله، لكنه كإنسان هو خليقة الله[257]].
ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: [لم يخطئ (الشيطان) عن إلزام كأن فيه نزوعًا طبيعيًا للخطيئة، وإلا ارتدت علة الخطيئة إلى خالقه أيضًا. إنما هو مخلوق صالح وبإرادته الحرة صار إبليسًا، فتقبَّل الاسم من خلال عمله. كان رئيس ملائكة، لكنه دعي “إبليسًا” بسبب أضاليله. كان خادمًا لله صالحًا، فصار شيطانًا بحق. لأن “الشيطان” يعني “الخصم”. هذا التعليم ليس من عندياتي إنما هو تعليم حزقيال النبي الموحى به، إذ رفع مرثاة عليه قائلاً: “كنت خاتم صورة الله، تاج البهاء، ولدت في الفردوس”، ثم يعود فيقول: “سلكت كاملاً في طرقك من يوم خلقت حتى وجد فيك إثم”. بحق قال: “حتى وجد فيك إثم”، إذ لم يأته الإثم من الخارج بل هو جلبه على نفسه. وللحال أشار إلى السبب، قائلاً: “قد ارتفع قلبك لبهائك. بسبب كثرة خطاياك طعنت فطرحت إلى الأرض”. هذا القول يتفق مع قول الرب في الإنجيل: “رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء” (لو 10: 18)[258]].
إذ يرفع مرثاة على الشيطان يعلن عن عطايا الله له والإمكانيات التي وهبت له يوم خلقته، فبقدر ما وهب له الكثير يطالب بالكثير، وبقدر ما تمتع بعلو شاهق صار سقوطه عظيمًا. أما أهم العطايا الإلهية له فهي:
أ. عطية الحكمة: “ها أنت أحكم من دانيال. سِرّ ما لا يخفي عليك” [3]. وهبه الحكمة فكان أحكم من دانيال النبي، هذا الذي كشف له أسرار الملك وأحلامه الشخصية وتفاسيرها ليسنده في غربته. وكأن الله في معاملاته مع الشيطان قبل سقوطه قد كشف له أسرارًا كثيرة حتى قال: “سِرّ ما لا يخفي عليك”. تعامل معه كصديق مؤتمن وموضع ثقة فلم يخفِ عنه سرًا ما بقوله له: “أنت خاتم الكمال ملآن حكمة وكامل الجمال” [12]. جعله أكمل خليقته السماوية وأجملها ليس منظرًا بل في الحكمة، لكنه إذ سقط في الكبرياء سقط من هذا العلو إلى الهاوية!
والإنسان أيضًا أكمل خليقة الله على الأرض، زيَّنه الله لا بجمال الجسد بل بما هو أعظم: جمال الحكمة، إذ خلقه “على صورته ومثاله” وأراد منه أن يكون سيدًا يسيطر على الخليقة الأرضية بروح الحكمة الإلهية، كما نزل الكبرياء بالملاك إلى شيطان، هكذا أحدر الكبرياء الإنسان إلى الطبيعة الفاسدة الشهوانية، جعله في أمور كثيرة يتصرف كأدنى من الحيوانات، حتى المفترسة.
ب. إقامته في جنة الله: “كنت في عدن جنة الله” [13]. كلمة عدن تعني “بهجة”، وكأنه أقامه في الفرح الإلهي ينعم بالحضرة الإلهية، بل يشترك مع بقية الكاروبيم في حمل العرش الإلهي وصار إلى عذاب داخلي لا ينتهي.
والإنسان أيضًا أقامه الله في جنة عدن ليعمل ويفرح، وبكبريائه فقد فردوسه الحقيقي، وحرم نفسه من الله مصدر الفرح. لهذا كان لزامًا لإصلاح طبيعتنا أن نُغرس من جديد في الله لنصير كمن في الفردوس الأبدي.. لهذا يحدث القديس كيرلس الأورشليمي المتقدمين للمعمودية هكذا: [حالاً سيفتح الفردوس لكل واحد منكم[259]]، إذ يدخلون إلى الاتحاد مع الله في المسيح يسوع الفردوس الحقيقي.
ج. عطية العمل: يقول السيد المسيح: “أبى يعمل حتى الآن وأنا أعمل ” (يو 5: 17). إنها سمة الله الذي يعمل بلا انقطاع، وهبها الخليقة العاقلة لكي تعمل دومًا، لكن الشيطان عمل لا لمجد خالقه بل لحساب مجده الذاتي فصار عمله لا لبنيانه بل لهدمه. “وبحكمتك وبفهمك حصَّلت لنفسك ثروة وحصَّلت الذهب والفضة في خزائنك. بكثرة حكمتك في تجارتك كثَّرت ثروتك” [4-5]، بهذا يفرح الله إذ يشتهي أن يرى خزائن خليقته دائمًا تمتلئ من كل ثروة ثمينة وغنى، لكن ما أحزنه: “فارتفع قلبك بسبب غناك” [5] الغنى بركة ونعمة، لكن ارتفاع القلب يفسد قلب الغني فيظن في نفسه إلهًا: “من أجل أنك جعلت قلبك كقلب الآلهة، لذلك هأنذا أجلب عليك غرباء عتاة الأمم، فيجردون سيوفهم على بهجة حكمتك ويدنسون جمالك، ينزلونك إلى الحفرة فتموت موت القتلى في قلب البحار” [6-8]. ما يحل به ليس بسبب حكمته ولا جماله ولا غناه لكنه بسبب كبرياء قلبه، ظن أنه إله فحُرم من حكمته وجماله وغناه ومن الحياة ذاتها.
لقد تحدث الآباء كثيرًا عن العمل وأهميته، والغنى وبركاته… معلنين أن الكبرياء هو الذي يفسد العمل والغنى. وقد كتب القديس إكليمنضس الإسكندرى كتابًا في هذا الموضوع عنوانه: “من هو الغني الذي يخلص؟”[260] جاء فيه: “لا نُلقي بالغني أرضًا، هذا الذي يفيد إخوتنا… لا يبدد الإنسان غناه، بل بالأحرى يليق به أن يُحطم شهواته الداخلية التي تتعارض مع الاستخدام الصالح للغنى. فإذ يصير الإنسان فاضلاً وصالحًا يمكنه أن يستخدم هذا الغنى بطريقة صالحة. إذن لنفهم ترك مملكاتنا وبيعها (مر 10: 13-17) أنه ترك وبيع لشهوات نفوسنا”.
د. أعطى كل حجر كريم [13]: جاءت في الترجمة السبعينية نفس الحجارة الاثنتى عشرة التي كانت توضع على صدر ورئيس الكهنة، والتي زين بها سور أورشليم السماوية (رؤ 21: 19-20). وهي تشير إلى الفضائل الإلهية والمواهب التي يزين بها الله النفس لكي تدخل بها إلى مقدساته بهية ومتلألئة. لهذا يُعزي الرب كنيسته المجاهدة، قائلاً لها: “أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية. هأنذا أبني بالإثمد حجارتك، وبالياقوت الأزرق أؤسسك، وأجعل شرفك ياقوتًا، وأبوابك حجارة بهرمانية، وكل تخومك حجارة كريمة… هذا هو ميراث عبيد الرب وبرّهم من عندي يقول الرب (إش 54: 11-17). الله يزين خليقته العاقلة بالمواهب والفضائل… لكنها متى سقطت في الكبرياء صارت علة دينونة عليها!
هـ. الطبيعة النارية: “أنت الكروب المنبسط المظلِّل وأقمتك، على جبل الله المقدس كُنتَ” [14]. لقد أقامه بطبيعة نارية، كاروبًا متقدًا، وأسكنه في المقدسات، فصار بلا عذر. لقد وهبنا الله إمكانيات الطبيعة الجديدة وغرسنا فيه “الجبل المقدس” فصرنا بلا عذر أمامه.
و. بين حجارة النار تمشيت [16]، إذ كان ككاروب يتمشى بين الكاروبيم والسيرافيم المتقدون نارًا. فكان يلزمه أن يبقى مثلهم كنار مقدسة ولا يسقط من بينهم. فالكاروبيم يدينون الشيطان، لأنه كان معهم وسقط! والرسل أيضًا سيدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر، لأنهم كانوا يهودا وقبلوا الإيمان أما اليهود فرفضوا الإيمان بالمسيح سر تقديس البشرية وخلاصها!
دينونته:
الكبرياء تجعل من المخلوق – في عيني نفسه – إلهًا: “فقد ارتفع قلبك وقلت أنا إله” [2]، لهذا تحدره ليموت أبشع ميته: “موت الغلف تموت بيد الغرباء، لأني أنا تكلمت يقول السيد الرب” [10]. كان الفينيقيون يمارسون الختان[261]، ويعتبرون أن من يموت أغلف يكون محتقرًا وفي عار عظيم! هكذا فالكبرياء لا تقتله فقط بل وتجعله في عار عظيم!
أما موضع القتل فكما جاء في الترجمة السبعينية “أقطعك (أطرحك) كمن ذبح من جبل الله” [16]. يوضح لنا القديس جيروم جبل الله هذا الذي ذبح فيه ملك صور، قائلاً: [جبل الله غني في بركاته (مز 86: 16)، هذا هو الجبل الذي ذكره حزقيال عليه عوقب ملك صور[262]].
[يشير (الجبل) إلى حضرة المخلص الذي صار جسدًا، لأن فيه سكنت الطبيعة الإلهية. حقًا، ليست هناك طريق أخرى وجد فيها الروح القدس سكناه في الحال وعلى الدوام إلا في المخلص، وكما يقول يوحنا: “الذي ترى الروح نازلاً ومستقرًا عليه فهذا هو” ( يو 1: 33)، “الرب يسكن فيه إلى الأبد” (مز 86: 18)، في الجسد الذي أخذه من الطوباوية مريم[263]]. خلال هذا الجبل المقدس جُرح الشيطان، إذ لم يجد له فيه موضعًا، خلال السيد المسيح طرد الشيطان عن البشرية.
نبوة ضد صيدون:
سبق أن تحدثنا عن صيدون بكونها “أرض الصيد”، اشتركت مع صور في السخرية من يهوذا عن سبيها، وصارت سلاء ممررًا وشوكة موجعة. إذ مرَّرت حياة أولاد الله لذلك يرسل عليها الوبأ ليكون شوكة مؤلمة لها.
أخيرًا يوضح أنه يفعل هذا كله لكي يجمع شعبه المتفرق ويقدس اسمه فيهم، يشبعهم بالخيرات ويهبهم سلامًا! هذا هو شوق الله المستمر أن يرى البشرية قد رجعت لتستريح فيه وتشبع وتمتلئ سلامًا كعروس مقدسة له.
من وحي حزقيال 28
درس من الشيطان!
v صار الشيطان درسًا لي!
خلقته بين الكاروبيم كاملاً ومملوء حكمة وجمالاً!
يعرف الكثير من أسرارك الإلهية!
لكنه بالكبرياء انهار من السماء إلى الهاوية!
أوجدتني أروع خليقتك على الأرض،
وهبت لي عقلاً وحكمة وجمالاً!
هب لي روح الاتضاع فالتصق بك،
وأنعم ببهاء جمالك عليّ!
v أقمته في السماء فرحًا متهللاً بحضرتك،
بعناده انهار إلى عذاب أبدي!
أقمتني في جنة عدن لأعمل وأسبح!
متى ترفعني إلى فردوسك أتمتع بالمجد الأبدي؟!
v أعطاه الله غنى، فارتفع قلبه بغناه!
لم تدعني معوزًا من أعمال كرامتك!
متى أقتنيك يا كنزي وغناي!
أنت حبي! أنت تسبيحي!
أنت فرحي وتهليل قلبي!
أنت شبعي وغناي!
معك لا أُريد شيئًا!
v زينته بكل حجر كريم،
بعصيانه صار في قبح، محرومًا من كل ما جميل وثمين!
زينتني بالمواهب كحجارة ثمينة،
أضرم فيّ مواهبك كميراث ثمين!
v خلقته كاروبًا ناريًا،
أسكنته في المقدسات،
وبإرادته انهار ليسكن في نار أبدية لا تنطفئ!
جددتني بروحك القدوس الناري،
ليحملني إلى عرش مجدك، إلى نورٍ لا يُدنى منه!
متى أصير كالكاروب وكخادمٍ من نور!
أني أتترقب مجيئك أيها النور الحقيقي!