تفسير سفر العدد ٣٠ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثلاثون
النذور
إذ ختم حديثه عن التقدمات والذبائح بالتقدمات الشخصيّة أراد أن يوضح مدى التزام المؤمن بنذوره مميزًا بين الرجل الناضج وبين الابنة التي تحت وصاية أبيها والزوجة المطيعة لرجلها.
- نذر الرجل 1-2.
- الابنة في بيت أبيها 3-5.
- الزوجة في رعاية رجلها 6-8.
- الأرملة والمطلقة 9-16.
- نذر الرجل:
المبدأ العام في النذر أن الملتزم بالنذر “فلا ينقص كلامه، حسب كل ما خرج من فمه يفعل” [2]. هذا النذر أو القسم يلتزم به مادام “للرب”، فهو ينذر نذرًا يليق بالرب فيه طاعة لوصاياه، وإلاَّ فلا يحسب هذا نذرًا أو قسمًا يخضع لما ورد في هذا الأصحاح.
وقد لاحظ العلامة أوريجينوس أن العبارة هنا جاءت في الأصل تكرر كلمة “الرجل” مرتين: “إذا نذر الرجل رجل نذرًا للرب“، وهو يتساءل عن سبب تكرار الكلمة، وفي نفس الوقت يجيب بأن هذا يشير إلى مبدأ روحي هام. وهو أن الناذر نذرًا إنما هو “الرجل رجل” إي إنسان يحمل في داخله “الإنسان الجديد” أو “الإنسان الداخلي”. فإن الإنسان لا يقدر أن يقدم للرب شيئًا، ولا يفي له نذرًا ما لم يحمل في داخله الإنسان الجديد الذي حمل إمكانيات روحيّة تفرح الله؛ إذ يقول: “لا تستطيع أن تقدم للرب نذورًا دون أن نملك في أنفسنا أو في طبيعتنا شيئًا نقدمه. الإنسان الخارجي لا يمكنه أن يقبل ناموس الله ولا أن يقدم بنفسه نذورًا، إذ لا يمكن أن يوجد لديه ما يكون لائقًا بالرب. وعلى العكس، الإنسان الداخلي له في طبيعته (الجديدة) ما يقدمه للرب، إذ فيه تتركز كل الفضائل ومجموعة العلم والمعرفة، فيه تتجدد صورة الله. عندما ينال الصورة التي وهبه الله إياها في البدء، عندما يحيي الفضائل، وعندما يعود إلى جماله الأول، حينئذٍ يقدر أن يقدم للرب نذورًا، فلا نسميه “الرجل” بل يدعى “الرجل رجل” إن لم يُهذب الإنسان الداخلي ونحافظ عليه ونزينه بالفضائل ونهيئه بالعادات الصالحة وندربه بالتداريب الإلهيّة، وإن لم يبحث عن حكمة الرب ويجتهد في معرفة الكتب المقدسة، لا يمكن أن يدعى “الرجل رجل” بل “الرجل” فقط، أو “الإنسان الجسداني”… إن رأينا الإنسان الداخلي الذي فينا مختبيء تحت أوساخ الخطايا وعفونة الرذائل يجب علينا أن نسرع في تخليصه من الأدناس وانتزاعه من نجاسة الجسد والدم وإقناعه بالتوبة ليتذكر الله ويأمل في الخلاص… هكذا نستطيع أن نقدم النذور للعلي ونسمي “الرجل رجل[277]“.
هذا عن الإنسان مقدم النذور، لكننا نتساءل: ما هو النذر الي يطلبه الرب؟ يُجيب العلامة أوريجينوس: [ماذا يطلب منك الرب إلهك إلاَّ أن تتقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه وتحبه، وتعبد الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك؟ (تث 10: 12). إن كنا لا نقدم له أولاً فلا نأخذ منه… إن أعطيتم المجد لله فستنالون مجدًا، لأن الله نفسه يقول: “أكرم الذين يكرمونني” (1 صم 2: 30). أما من جهتي فأقول أنه إذا قدمنا طهارة أقصد طهارة الجسد ننال منه طهارة الروح. وإن سلمناه فكرنا فهو يقدم لنا فكره ككلمات الرسول “أما نحن فلنا فكر المسيح[278]” (1 كو 2: 16)].
إذًا الله يريد القلب كاملاً، يطلب أعماقنا وحبنا وجهادنا فلا ينسى تعب المحبة، يأخذ مما له فينا نذره ليرده إلينا مضاعفًا. نعطي لذلك مثالاً في حياة موسى حين أعلن حبه لله ولشعبه بإصراره “إن لم يَسِر وجهك فلا تصعدنا من ههنا” (خر 33: 15). قدم موسى النبي حبًا إذ صمم ألاَّ يتحرك ما لم يحتل الرب مكانه وسط شعبه، وكأنه يقول لله: لك في وسطنا موضع من يقدر أن يحتله غيرك؟، لهذا بعد قليل يقول الرب لموسى: “هوذا عندي مكان” (خر 33: 21). ردَّ الله الحب بالحب! وعلى العكس حينما حمل إسرائيل في قلبه أصنام الأمم عِوَض محبة الله، وذهبوا يسألون النبي، قال الرب: “أنا الرب أجيبه حسب كثرة أصنامه، لكي آخذ بيت إسرائيل بقلوبهم” (خر 14: 5)، حتى يرجعوا عن أصنامهم.
في العهد القديم نذرت حنة للرب ثمرة بطنها وكرَّست صموئيل للهيكل (1 صم 1: 11، 24)، وللأسف نذر يفتاح أن الخارج من أبواب بيته للقائه عند رجوعه من معركته مع بني عمون يصعده محرقة للرب، وإذا بالخارجة للقائه ابنته الوحيدة كانت تستقبله بدفوف ورقص فمزق ثيابه وامتلأ حزنًا وكدرًا وقدمها محرقة (قض 11: 30-40). وآخرون قدموا بيوت وحيوانات نذرًا للرب. أما السيد المسيح فقدَّم حياته نذيرًا للآب، حاملاً صليبه ذبيحة حب للبشريّة ووقود رائحة سرور للآب. فاشتمه الآب رائحة رضا عن البشريّة المؤمنة والمقدسة فيه. ونحن أيضًا إذ نحمل هذا النذير الفريد في داخلنا نقبل سمات نذره فينا، فنحمل صليبه في داخلنا ونقدم حياتنا كاملة لله، فلا نعيش بعد لذواتنا بل لله الذي افتدانا. أما علامة نذورنا فهو: “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ” (غل 2: 20)، “إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضًا معه” (2 تي 2: 11).
- الابنة في بيت أبيها:
إذا نذرت ابنة نذرًا وهي في بيت أبيها وسمع أبوها النذر ولم ينتهرها في نفس اليوم تلتزم الابنة بكل ما نذرته. هذا هو حال كنيسة العهد القديم التي كانت أشبه بفتاة قاصرة في بيت أبيها. لقد نذرت نذرًا حين سمعت وصايا الرب وشرائعه فقالت بلسان “جميع الشعب بصوت واحد… كل الأقوال التي تكلم بها الرب نفعل” (خر 24: 3). وصارت الكنيسة ملتزمة أن تحقق هذا النذر، لكنها للأسف كسرته، لأن الجميع وُجدوا كاسرين للوصيّة.
- الزوجة في رعاية رجلها:
إذا نذرت زوجة نذرًا وهي في بيت رجلها وسمع النذر ولم ينتهرها في نفس اليوم تلتزم بكل ما نذرته. إنها حال كنيسة العهد الجديد التي صارت عروسًا للرب، التزمت أن تقدم حياتها مقدسة له. حقًا إنها لن تستطِع أن تفي بالنذر إلاَّ بروح عريسها الذي نالته في داخلها ليقدسها على الدوام ويهيئها للعرس الأبدي.
- الأرملة والمطلقة:
أظن أن الأرملة والمطلقة تشير إلى النفوس التي رفضت الإيمان وحُرمت من بيت عريسها… فهل تقدر أن تفي بنذرها؟