تفسير إنجيل القديس يوحنا 17 للقمص أنطونيوس فكري

الأصحاح السابع عشر

 

مقارنة بين صلاة المسيح في (يو17) وبين صلاة بستان جثسيماني

 صلاة المسيح في (يو17) طابعها المجد واستعلان ملء لاهوته، أمّا صلاة بستان جثسيماني حينما عرق دمًا وطلب إعفائه من شرب الكأس (عب7:5 + مر36:14 + لو44:22) فطابعها ملء ناسوته والذي فيه أخلى المسيح ذاته (في7:2، 8) وفي كلا الصلاتين نرى الكلمة صار جسدًا (يو14:1). والله ظهر في الجسد (1تي16:3). أي نرى الإله المتجسد الذي قبل أن يحمل ضعف الإنسان ليرفعه ليحيا في السماويات.

أين صلى المسيح هذه الصلاة؟

 في (يو1:18) قيل أنه خرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون. وهذا قيل بعد أن أنهى المسيح صلاته الشفاعية في (ص17). ووادي قدرون هذا يفصل بين الهيكل وبين جبل الزيتون حيث بستان جثسيماني. فيكون غالبًا أن المسيح قال هذه الصلاة في الهيكل، في بيت الله يقدم هذه الصلاة للآب أبيه فبيت أبيه بيت الصلاة يُدعى. وهي صلاة فيها مجد للابن وللآب، وللإنسان، فقد كان عمل المسيح الذي تممه هو أن يعطي للإنسان مجدًا.

صلاة المسيح الشفاعية الأخيرة للآب

وهي موضوع الإصحاح (17). وهي طلبات مباركة رفعها الرب يسوع من أجل التلاميذ ومن أجل المؤمنين أعضاء كنيسته. وفيها نرى علاقة ابن الله بأبيه. وكيف أنهما واحد، جوهر واحد متحد في كيان واحد يتسامى على فهم البشر، إلاّ للذين يُعطِى لهم الله أن يدركوا وأن يفهموا، وهؤلاء هم من الأنقياء القديسين المؤمنين الذين يفتح الله بصيرتهم ليروا بعين الروح لا الجسد.

هي صلاة تكريس

فالمسيح أنهى تعاليمه للتلاميذ بقوله “ثقوا أنا قد غلبت العالم” (33:16). وهذه كانت المدخل لصلاة التكريس التي كرَّس فيها نفسه للموت كآخر مرحلة من مراحل خطة الخلاص التي جاء بها من عند الآب. وقوله أنا قد غلبت العالم تعني أنه بلا خطية، وأنه قدوس لا تمنعه خطية واحدة من أن يقدم ذاته ذبيحة لأجل الآخرين. وبقداسته الكاملة تأهل أن تكون ذبيحته شاملة لكل العالم، فهو غلب في معركة العالم وبناء عليه استحق أن تقبل ذبيحته ويُعْلَنْ مجده فَتُفْهَمْ ذبيحته أنها ذبيحة إلهية. وكل من يشترك في هذه الذبيحة يشترك في انتصارها فهي ذبيحة انتصار لحسابنا (1يو4:5، 5) ونحن نشترك في الذبيحة بالإيمان والتناول من الذبيحة وعدم التعلق بالخطية والعالم ومن يغلب سيجلس مع المسيح في عرشه (رؤ1:3). ولأن المسيح غلب العالم فهو استطاع أن يغلب الموت (يو30:14 + رؤ2:6)

هي صلاة شفاعية

فيها يطلب المسيح من أجل خاصته وأحباءه والمؤمنين به. نرى فيها محبة فياضة يفيض بها قلبه نحوهم. في هذه الصلاة نرى صورة لشفاعته عنا في السماء. ونلاحظ أن شفاعة المسيح هذه ليست لكل العالم بل لمن قال عنهم “الذين أعطيتني” وهذه العبارة تكررت في هذا الإصحاح (7 مرات) ويعني بها المؤمنين الذين آمنوا به واتحدوا به في المعمودية وظلوا حياتهم في حياة توبة. أي صاروا جسده من لحمه ومن عظامه (أف30:5).

في (يو31:13) حينما خرج يهوذا لتدبير مؤامرته قال المسيح الآن تمجد ابن الإنسان وفي (يو1:17) يبدأ صلاته بقوله أيها الآب قد أتت الساعة مجد ابنك. ففي بداية حديثه مع تلاميذه والذي بدأ بالآية (يو31:13) وانتهى بنهاية (ص16) وفي بداية حديثه مع الآب يشير لمجده الذي سيظهر في الصليب، يشير للصليب الذي يكلله المجد. المجد الذي كان بطاعته الكاملة للآب، طاعة حتى الصليب. ومحبة كاملة للآب وللبشر الذين سيصلب من أجلهم. الصليب بداية لأن يجلس بجسده عن يمين الآب في مجد، هو أراد أن يعطيه للإنسان فبالصليب كانت النصرة على قوات الظلمة والجحيم والموت والخطية. وبه تم تقييد إبليس. وهو العلامة المرعبة لإبليس دائمًا.

أقسام الصلاة الشفاعية

(الآيات 1-5): تدور حول مجد الابن الذي هو مشترك مع مجد الآب. والابن يطلبه لحساب الإنسان عمومًا.

(الآيات 6-19): تدور حول حفظ وتقديس تلاميذه.

(الآيات 20-26): تختص بوحدة الكنيسة على طول المدى.

الإصحاح السابع عشر

الآيات (يو1:17-26):-

 1تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ:«أَيُّهَا الآبُ، قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضًا، 2إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ. 3وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ. 4أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ. 5وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ. 6«أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَالَمِ. كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي، وَقَدْ حَفِظُوا كَلاَمَكَ. 7وَالآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ، 8لأَنَّ الْكَلاَمَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ، وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِينًا أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ، وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي. 9مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ الْعَالَمِ، بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ. 10وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي، وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ. 11وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي الْعَالَمِ، وَأَمَّا هؤُلاَءِ فَهُمْ فِي الْعَالَمِ، وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآبُ الْقُدُّوسُ، احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ. 12حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي الْعَالَمِ كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ابْنُ الْهَلاَكِ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ. 13أَمَّا الآنَ فَإِنِّي آتِي إِلَيْكَ. وَأَتَكَلَّمُ بِهذَا فِي الْعَالَمِ لِيَكُونَ لَهُمْ فَرَحِي كَأمِلاً فِيهِمْ. 14أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كَلاَمَكَ، وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ، 15لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ. 16لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ. 17قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَق. 18كَمَا أَرْسَلْتَنِي إِلَى الْعَالَمِ أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى الْعَالَمِ، 19وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ. 20«وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ، 21لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي. 22وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. 23أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي. 24أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ. 25أَيُّهَا الآبُ الْبَارُّ، إِنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ، أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ، وَهؤُلاَءِ عَرَفُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي. 26وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ». “

 

آية (1): “تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء وقال أيها الآب قد أتت الساعة مجد ابنك ليمجدك    ابنك أيضًا.”

رفع عينيه نحو السماء وقال= نحو السماء= إشارة لأنه بدأ يتحدث مع الآب، بدلاً من كلامه مع التلاميذ. المسيح هنا يدخل في حديث إلهي. فالسماء رمز الحضرة الإلهية. هو حديث إلهي بين الآب والابن. ولكنه على مستوى الإنسان لنسمع ونفهم ونرتقي للمستوى الروحي فالإنسان مدعو للدخول في شركة الآب والابن (1يو3:1). لذلك قصد السيد المسيح أن تكون هذه الصلاة مسموعة لنسمعها ونفهمها لندخل في هذه الشركة مع اللهأيها الآب= لم يقل يا أبانا كأننا صرنا مثله وصار هو إنساناً واحداً من البشر لا يفترق عنهم، بل هو الابن الوحيد الجنس للآب، ابن الآب بالطبيعة. ولكن المؤمنين هم أبناء بالتبني (يو17:20). ولم يقل يا أبي فهو بفدائه الذي سيتم بعد قليل سيعطي للإنسان البنوة فيه. فهو هنا يتكلم لا كواحد من البشر بل كرأس للخليقة الجديدة المدعوة للتبني، هو هنا يمثل هذه الخليقة (رو15:8 + غل6:4) وبنفس المفهوم قال أبي وأبيكم (يو17:20). قد أتت الساعة= هي ساعة متفق عليها بين الآب والابن. إذاً المسيح يعرف تمامًاً هذه الساعة التي ستبدأ بالصلب والمهانة ثم المجد. مجد إبنك ليمجدك إبنك أيضاً= بداية مجد الابن كانت بطاعته للآب وقبوله للصليب، فبالصليب النصرة (في6:2-11 + يو13:12-16 + 19:21 + 23:12) ومجد المقاتل هو يوم إنتصاره على عدوه ، ويوم الصليب إنتصر فيه المسيح على الشيطان وعلى الموت وعلى الخطية. والمسيح يتمجد أيضاً باستعلان طبيعته الإلهية أمام العالم بقيامته وإنتصاره على الموت (وهذا يعني قبول الآب لذبيحة ابنه وعمله) وإنتصاره بالموت على الموت وكسره لشوكة الموت وفتح بفدائه باب السماء للناس ليعطيهم حياة أبدية. والآب يمجد الابن بتعضيده وتأييده ليكسر شوكة الموت ثم برفعه وأن يعطيه إسماً فوق كل اسم. والمسيح يطلب مساندة الآب حتى لا يخور ويموت قبل أن يصلبوه. فهو بدأ نزف الدم وهو يصلى في بستان جثسيمانى، ثم في أثناء الجلد ومع إكليل الشوك، ثم بالمسامير في الصلب. والمسيح أراد أن يصلب ليحمل عنا اللعنة ويصير لعنة بدلا منا (غل3 : 13) فالصلب لعنة (تث21 : 23). وحينما يتمجد الابن يتمجد الآب أيضاً حينما يعلم البشر أن خطة الخلاص بدأت بإرسال الآب لإبنه (في9:2-11). وسيتمجد الآب حين يستعلن الابن الآب ومحبته للبشر. ونرى هنا العلاقة الواضحة بين مجد الابن ومجد الآب فهي علاقة متبادلة على المستوى الواحد (يو27:12-30). فالآب يتمجد بالإبن كما تمجد الابن بالآب (يو31:13). وقول المسيح “إبنك” ولم يقل الابن فيه إشارة أن تمجيد الابن شرط ليتمجد الآب فالإبن هنا منسوب للآب. مجد الابن ظهر أولًاً في أنه فعل ما فشل البشر أن يقوموا به. وما فشل فيه الإنسان هو طاعة الله والنصرة على الشيطان والموت، وهذا ما قام به المسيح بناسوته. وقمة طاعة الابن كانت في الصليب، قمة الطاعة. والمؤمنين سيكون لهم هم أيضاً مجد ولكنه إنعكاس لمجد الله عليهم “لأننا سنراه كما هو” (1يو2:3) ولكن نجماً يمتاز عن نجم في المجد بحسب القرب أو البعد من الله (رو30:8 + 1كو41:15).

مجد إبنك ليمجدك إبنك= هل الآب محتاج لأن يتمجد أو هل الابن محتاج لأن يتمجد؟ الآب في الابن والابن في الآب منذ الأزل في مجد. ولكن الابن أخلى ذاته وأخذ صورة عبد وأتى للصليب لكي يمجد الإنسان، ليعطي مجداً للإنسان (22:17). فالمجد الذي يطلبه المسيح هو للإنسان، يتمجد ليعطينا هذا المجد (رو17:8).

مجد إبنك= أنا ذاهب للصليب وأطلب القيامة والصعود وإظهار المجد الخاص بي كإبن فكل هذا سيكون للإنسان. فالآب مجد ابنه المسيح في قبول عمله ونصرته على قوات الجحيم والموت. فالمسيح لا يطلب المجد لأنه مشتاق إليه، فهو بلاهوته واحد مع الآب ولهما نفس المجد. لكنه تجسد ليمجد جسده الذي هو كنيسته، وهذا ما يطلبه الآن، النصرة على الموت كبداية ليحصل الإنسان على المجد (راجع آية22:12).

ليمجدك إبنك= لكي أظهر محبتك للبشر فيحبونك ولكي أعلن لهم أبوتك. فالمسيح أتى ليستعلن محبة الآب للبشر ، والمجد الذي يريد الآب أن يعطيه للبشر. فيؤمن الناس بالله ويتركوا تبعيتهم لغيره ، ويمجدوه باعمالهم .

وفي (ص12) حين طلب اليونانيون أن يروا يسوع. قال المسيح “مجد إبنك” فجاء صوت من السماء “مجدت وأمجد أيضاً” فقال المسيح “هذا الصوت كان لأجلكم” أي لتعرفوا أن المجد الذي أطلبه هو لكم.

هل لو فهم كل إنسان أن هذا المجد السماوي معد له يرجع إلى خطيته أو اهتمامه بشهوات العالم الباطلة ، أو حتى يغضب من المسيح لأي خسارة مادية.

إن هدف المسيح من تجسده ليس فقط غفران الخطية. بل بعد غفران الخطية نصير طاهرين فنثبت في المسيح فيأخذنا للحياة الأبدية في مجد. والمسيح صلي هذه الصلاة بصوت مسموع لنعرف إرادة الله من نحونا فتتغير شكل عبادتنا:-

  1. لا نعود نعبد إله مرعب مخيف منتقم، بل إله هو أب لنا، محب نقول له “أبانا الذي..” ويريد لنا المجد.
  2. نحتقر شهوات هذا العالم في مقابل هذا المجد.
  3. أمام هذا الحب الإلهي نقدم كل شيء حتى حياتنا لمن أحبنا كل هذا الحب.
  4. لا تعود عبادتنا عبادة نفعية، كل ما نريده منها الماديات، بل تكون أعيننا نحو هذا المجد.

والمجد الذي كان للمسيح ويطلبه هنا بجسده، هو مستحق لأنه غلب كإنسان فكان بلا خطية على الأرض ثم غلب الموت بصليبه (يو33:16). وبهذه الغلبة دخل لقدس الأقداس عند الآب ، دخل المسيح رئيس كهنتنا  ليحملنا فيه فحيث يكون هو سنكون نحن – ليس كما كان رئيس الكهنة اليهودي يدخل وحده مرة في السنة. هو دخل وحده ليتمجد الآن. ولكن ذلك لحساب الكنيسة التي ستلحقه بعد ذلك والتي يطلب المسيح لها المجد في (22:17). وهذا العمل الذي عمله المسيح كان ليستعلن لنا الله، فنعرفه فتكون لنا حياة (آية3) ولذلك يقول القديس يوحنا “والحياة أظهرت” (1يو2:1).

ملحوظةإن كان المسيح يصلي لينصره الآب في معركة الصليب ويهزم أعداءه (الشيطان/ الموت/ الخطية) ألا يجب أن نصلي نحن قبل البدء في أي عمل وفي بداية كل يوم بل ودائماً وبلا انقطاع.

 

آية (2): “إذ أعطيته سلطانًا على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته.”

المسيح سبق وطلب أن يتمجد في الآية السابقة. وهنا نرى لماذا طلب المسيح أن يتمجد بل وأن يتجسد ويصلب ويقوم ويصعد فيتمجد؟ فهو فعل كل هذا ليعطي حياة أبدية للبشر، جلس عن يمين الآب ليرسل الروح القدس المحيي ليقدس ويعطي حياة أبدية. وكل من له حياة أبدية يظل يمجد الآب والابن هنا على الأرض وفي السماء وإلى الأبد فما يطلبه المسيح كغالب للموت وجالس عن يمين الآب هو لصالح البشر ليكون لهم حياة أبدية. والحياة الأبدية التي نأخذها هي حياة المسيح التي قام بها من الأموات وهي أبدية لأنه لن يموت ثانية، نأخذها في المعمودية والروح القدس يعطينا هذه الحياة ويثبتنا فيها. ولنتأمل وضع آية (1) مع آية (2) مجد إبنك= إعطني نصرة على الشيطان والموت لماذا؟ لأعطي حياة للبشر= إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية.

سلطانًا على كل جسد= هذا القول يفيد ألوهية المسيح. فمن هو الذي له سلطان على كل البشر سوى الله (قارن مز2:65 مع يو35:3 + 22:5 + 3:13) كل بشر في (مزمور 2:65) أي كل جسد، فالله وحده له السلطان على كل جسد وهذا السلطان هو للمسيح. ولكن ما معنى أن الآب يعطي سلطانًا للإبن؟ أليس الآب والابن واحدًا؟ هذه الآية وردت بنفس المفهوم في (يو26:5) “لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون له حياة في ذاته”.والمعنى أنه طالما أن الابن له حياة في ذاته فهو له السلطان أن يعطي هذه الحياة لمن يريد. ومن له سلطان أن يعطي حياة فهو الله. ولاحظ فالابن له كل السلطان علينا أي يحيي أو يميت، ولكنه يريد أن يستخدم هذا السلطان في أن يعطينا حياته، وحياته هي حياة أبدية.

ولكن لنفهم معنى الآية. فالآب يريد والابن والروح القدس ينفذان إرادة الآب، يترجمان إرادة الآب إلى فعل. هنا نعود للآية الأولى في الإنجيل (يو1:1) فنجد الإنجيل الفرنسي يترجم “الكلمة” (VERBE) أي فعل. فالابن يترجم إرادة الآب إلى فعل. ويكون المعنى أنه في توزيع العمل داخل الثالوث، صار للابن حياة في ذاته ويعطيها لمن يشاء وبهذا يترجم إرادة الآب في أن يحيا الإنسان. الآب هو طاقة الحياة والابن ينفذ ويفعل ويترجم إرادة الآب في أنه يعطي حياة لمن يريد، فهذا في سلطانه.

ولكن الابن لأنه مولود من الآب فهو ينسب السلطان للآب المولود منه. ولكن إذا وضعنا أمامنا الآيات الأخرى “أنا في الآب والآب فيَّ” (يو38:10). “أنا والآب واحد” (يو30:10) “كل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي” (يو10:17). نفهم أن الابن له نفس السلطان. فالسلطان ليس من مصدر خارجي لأن الابن واحد مع الآب في الطبيعة الإلهية. ولكنه يقول هذا لأنه قبل في طاعة أن ينفذ إرادة الآب ليتمم خلاصنا ومصالحتنا معه. فهو هنا يتكلم كمنفذ لإرادة الآب. هذه العبارة تماثل “كل ما أراني الآب أفعله” (يو19:5-21). وتماثل أيضًا “وأعطاه سلطانًا أن يدين” (يو27:5). هذه عن الأفعال. وأما عن الأقوال فيقول “كما أسمع أدين.  أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا (يو30:5). فهنا تعني تطابق الإرادة، فهو لا يقدر أن يفعل إلاّ ما يريده الآب فإرادتهما واحدة متطابقة لكن الآب يريد والابن يفعل. وأيضًا “وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم” (يو26:8). وقيل هذا عن الروح القدس “لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية” (يو13:16). وحين لا يريد الآب إعلان الساعة فالابن لا يعلنها ويقول وحتى الابن لا يعرف. ويكون المقصود أنه لن يفعل فهو لا يفعل (أي لن يعلن) إلاّ ما يريده الآب. فالآب له الإرادة والابن له الفعل.

لكل من أعطيته= سبق ورأينا أن المسيح له سلطان أن يعطي حياة أبدية ولكننا هنا نراها مقصورة على من أعطاهم الآب للابن فقط.. فهل هناك تضاد في المعنى؟ أو هل الآب قَيَّدَ حرية المسيح مرة أخرى في سلطانه المطلق على البشر في أن يعطيهم حياة أبدية؟ العالم كله للآب. ومن أعطاهم الآب للابن هم من آمنوا واعتمدوا فصاروا جزءًا من جسده.

لنفهم الإجابة عن هذه التساؤلات نراجع الآيات (يو21:5-30). وفيها نرى أن المسيح إمّا يهب حياة أبدية لمن يؤمن أو يُدين من لم يؤمنوا. فمن الذي سيعطي له الآب حياة أبدية..؟ هو من يقبل المسيح ويؤمن به. وأمّا من يرفض الحياة الأبدية التي يقدمها الآب برفضه للمسيح يكون سلطان المسيح عليه هنا للدينونة. فالمسيح له سلطان على كل جسد إمّا بإعطائه حياة أبدية أو بدينونته. المسيح يعطي بالفعل والآب يعطي بالمشيئة والاختيار ويستحيل فصل الفعل عن المشيئة المتممة له ولا المشيئة عن الفعل. ونرى هنا أن كلمة كل ترددت مرتين الأولى تشير لسلطان المسيح على كل البشر والثانية تشير للمؤمنين الذين هم خاصة المسيح (14:10).

وهنا سؤال إذا كان الابن له حياة في ذاته وله سلطان أن يهب هذه الحياة لمن يشاء، فلماذا يقول أن الآب أعطاه هذا؟ لماذا لم يقل أنا لي سلطان وسأعطيكم حياة؟ الإجابة ببساطة أن المسيح تجسد ليستعلن لنا حب الآب وإرادة الآب نحونا “الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر”. بالإضافة إلى أن التلاميذ حتى الآن لا يعرفون بالضبط من هو المسيح وأنه هو يهوه بنفسه. لذلك فالمسيح لا يقول ما يعثرهم.

 

آية (3): “وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته.”

هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك =

كلمة يعرف في الكتاب المقدس تشير للإتحاد الذي يثمر حياة. وهناك ثلاثة مستويات لهذا الإتحاد:- إتحاد جسد بجسد / إتحاد على مستوى اللاهوت / إتحاد المسيح بنا.

1- إتحاد جسد بجسد:- “وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين” (تك1:4) وهذا لأنهما صارا جسداً واحداً “يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بإمرأته ويكونان جسداً واحداً” (تك24:2). وهذا إتحاد أثمر حياة هو قايين.

2- إتحاد على مستوى اللاهوت:- وأيضاً يقال “ليس أحد يعرف من هو الابن إلاّ الآب ولا من هو الآب إلاّ الابن ومن أراد الابن أن يعلن له” (لو22:10). ففي هذه نرى الآب يعرف الابن والابن يعرف الآب. لأن الآب والابن واحد (يو30:10) والآب في الابن والابن في الآب (يو38:10). وبهذا نفهم أن المعرفة إتحاد. وأيضا هو إتحاد يثمر حياة، فالآب يريد حياة للإنسان، والابن يخلق الإنسان. وهذا ما تم أيضًا بالفداء، فالآب يريد أن الجميع يخلصون والابن تمم الفداء فكانت للإنسان حياة.

3- إتحاد المسيح بنا:– ولأن المسيح يقول “ومن أراد الابن أن يعلن له” أي من أراد الابن أن يعلن له الآب ويعلن له الابن، أي يعطيه أن يعرف الآب والابن، وفي هذه المعرفة إتحاد، والإتحاد يعني حياة. فالإتحاد مع المسيح يعني أن المسيح يعطيني حياته (في21:1 + غل20:2) وهذه الحياة حياة أبدية، فالمسيح إذ قام “لا يسود عليه الموت بعد” (رو9:6). وبهذا نفهم أن الحياة الأبدية التي نحصل عليها هي ثمرة لإتحاد المسيح بنا. إتحاد المسيح بنا أثمر حياة أبدية لنا.

إذا هناك نوعين من المعرفة:- الأول بمعنى الإتحاد. الثاني بمعنى to know.

وهذا الثبات في المسيح أو الإتحاد ينمو وكلما حدث النمو تزداد معرفة المسيح وتنمو (معرفة هنا = know him)، ولكنها ليست معرفة من خارج، كما يعرف إنساناً إنسان آخر، بل معرفة من خلال هذا الإتحاد الذي عمله المسيح “وأوجد فيه.. لأعرفه” (في9:3، 10). فكلما زاد الإتحاد تنمو المعرفة ويزداد الوضوح، وضوح الرؤية والاستعلان. فالمعرفة هي معرفة إتحاد وحب، وإدراك لمحبة الله العجيبة لنا، وبالتالي مبادلته حباً بحب. فالمعرفة هي حالة حب حقيقي مع الله، وتذوق وإختبار لمحبة الله. فالله محبة والله حياة فمن أدرك وتذوق المحبة صارت له حياة (راجع تفسير يو15: 9).

والرؤية هنا على الأرض محدودة. فالقداس الغريغوري وصف الله هكذا “غير الزمني، غير المحدود..” لكن ما هو الله بالضبط فهذا لا يعبر عنه بالضبط على الأرض.

والسماء فيها إتحاد على مستوى أكبر بكثير من الأرض تم التعبير عنه بالعرس (رؤ7:19) وهناك على هذا المستوى نعرف الله أي إتحاد(2كو18:3 + 1كو12:13) وهذا الإتحاد هو ما عبر عنه المسيح بقوله “أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي” (مت29:26) فهو إتحاد على مستوى جديد، ومعرفة على مستوى “وجهاً لوجه” على مستوى زيجي والمعرفة إتحاد، والإتحاد حياة أبدية. وهناك تعرف الكنيسة باسم “إمرأة الخروف” (رؤ19: 7) فالإتحاد أصبح كامل في السماء، هو ثبات في المسيح، والمسيح هو الحياة. والحياة الأبدية مجد وتذوق فرح أبدي بمعرفة هذا الذي أحبنا كل هذا الحب وأعد لنا كل هذا المجد، ويحملنا فيه إليه، وهذا معنى أن الحياة الأبدية أن يعرفوك أي يتحدوا بك ولكنه ليس إتحاد عادي ولكن اكتشاف فيه لذة وفرح بهذا الإله الحلو المحب.

هنا يُعرِّف المسيح الحياة الأبدية.. وهي أن نعرف الله الآب والمسيح يسوع. والمسيح هو القيامة والحياة (يو25:11). والمسيح له الحياة في ذاته مثل الآب وهو يحيي من يشاء (21:5، 26) ولأنه تجسد فهو أعطى العالم هذه الحياة بتجسده (37:6) وبالذات لأخصائه (28:10) وللذين يسمعونه ويدخل صوته إلى أعماق قلوبهم (24:5). فالمسيح هو الحياة أي قوة فعّالة محيية. وهو يعطينا هذا ليقدمنا لله أبيه (6:14) والوسائل التي إستودعها سر الحياة هي في المعمودية (5:3) وفيها نموت ونقوم لنحيا معه إذ نتحد به (رو3:6-5) والإفخارستيا (35:6، 48) وفي كلامه المحيي (63:6، 68). وفي الإيمان (37:7) وفي (63:6، 68). نرى أن كلام الله محيي (قارن مع “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” مت 4:4). وهنا نرى الرابطة بين الحياة والمعرفة (know). فكلام الله الذي أوحى به الروح القدس (لكل من كتب الكتاب المقدس) له القدرة أن يحيي ويلدنا من جديد (1بط23:1). وهذه أهمية دراسة الكتاب المقدس لذلك يقول أحد الآباء أن الكتاب المقدس هو كلمة الله والمسيح هو كلمة الله.. لذلك فحينما نتأمل في الكتاب المقدس نرى صورة المسيح فنعرفه ونحبه ويتحول الحب إلى فرح. نحن نحصل على الحياة الأبدية هنا بواسطة الأسرار ولكننا نثبت فيها في السماء.

الحياة والنور

المسيح هو الحياة. وهو قال “أنا هو النور” (12:8). وفي (4:1) نسمع أن الحياة كانت نور الناس. فمن يعطيه المسيح حياته يدخل نوره إلى قلبه فيفتح وعيه فيدرك الله ويعرفه (know him) ويعيش في حضرته (1يو1:1-5). والعقل لا يمكنه إدراك هذه الحياة الأبدية، فالعقل لا يُدْرِكْ سوى الملموسات بالحواس الخارجية. ولكن الروح القدس المعطي لنا يعيننا على أن ندركها هنا إدراكاً جزئياً باستعلان يأتي من فوق، من خارج الكيان الإنساني (1كو9:2-12). هنا نرى أن الروح القدس يقود عقل الإنسان فيدرك ما لا يمكنه إدراكه وحدهُ. بل الروح القدس يقود الحياة كلها، فكر الإنسان وعمله ليكون بحسب مشيئة الله سواء بالفكر أو بالعمل ليكون الله غاية كل شيء. ولأن الحياة هي حياة المسيح والمسيح لن يموت ثانية فنحن صارت لنا حياة أبدية (رو9:6). وسمات هذه الحياة الأبدية أن يتذوق فيها الإنسان لذة الفرح الروحي والسلام الذي يعطيه المسيح الذي يفوق كل عقل (لذلك أطلق أباء اليهود على مجد الله الذي يظهر من بين كاروبي تابوت العهد لفظ شكينة وهي من السكينة والسلام الذي يملأ القلب حين يرى مجد الله) ولكن مهما كان السلام والفرح الذي نتذوقه هنا فهو كسبق مذاق، كعربون لما سنحصل عليه من فرح أبدي، هو عربون الملء الذي سنحصل عليه. ونلاحظ أنه كلما عرفنا شيئاً عن الله نفرح. فهل يمكن للإنسان أن يعرف الله بالكمال والتمام حتى في الأبدية؟ الله غير متناهي والإنسان حتى في الأبدية سيظل محدوداً غير قادر أن يدرك الله ويعرفه تمامًاً. لكن الله سيكشف له كل يوم جديداً فيفرح إلى درجة أنه لا يستطيع أن يفرح أكثر لمحدوديته، فيعطيه الله إتساعاً أكثر.. فيدرك ويعرف أكثر.. وهكذا. وهذا لن ينتهي فالله غير متناهي وهكذا نستمر للأبد نعرف شيئاً جديداً عن الله فنفرح ويزداد فرحنا للأبد. من صارت حواسه الروحية مفتوحة فهو في نظر الله حي. ومن حواسه مفتوحة يعرف الله. فمن يعرف الله إذاً هو الحي. ومن لا يدرك الله هو ميت. والحواس الروحية تبدأ تنفتح في سر المعمودية والميرون. فالمعمودية تعطي إستنارة والروح القدس يدرب الحواس الروحية (عب14:5) ومن يبدأ هذا الطريق يبدأ طريق الفرح الروحي وإدراك السماويات ومعرفة الله. هذه تبدأ لغير المؤمن عن طريق الأسرار. ولاحظ فالمعمودية تعطينا أن تكون لنا حياة المسيح الأبدية والروح القدس الذي يسكن فينا بسر الميرون يثبتنا في هذه الحياة. أما للمؤمن الخاطئ فيبدأ طريق التذوق بالتوبة التي هي معمودية ثانية فتتفتح حواسه الروحية، وهذه المعرفة التي تؤدى للفرح تنمو يوما بعد يوم هنا وفي السماء.

وفي مقابل الحياة الأبدية التي يحياها المؤمن التائب يحيا الآخرين في حياة وهمية في لذات مؤقتة مخادعة للحظات تنتهي ويعودوا لكآبتهم وأحزانهم. أمّا حياة المؤمن الأبدية التي يبدأها من هنا في عشرة المسيح فهي حياة الفرح الحقيقي والسلام الحقيقي. بل أن كل من تذوق لذة الفرح الروحي والسلام الذي يعطيه المسيح عاش هذه الأبدية. هو ربما يتذوقها في دراسته للكتاب المقدس أو في قداس أو في الصلاة. وهذه اللحظات التي يتذوق فيها الإنسان لذة الفرح الروحي تعطيه قوة للصمود في وجه الضيقات وآلام هذا العالم. بل يحيا مشتاقاً لحياة ملء الفرح في الأبدية (في23:1). أما من يعيش على ملذات العالم المظلمة لا يعرف سواها فقد اختار طريق الموت.

أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيحالمسيح يعطي الحياة بالفعل والآب يعطي الحياة بالمشيئة. فالآب والابن يشتركان في إعطاء الحياة الأبدية. وعلى ذلك يتحتم أن تكون الحياة الأبدية هي معرفة الآب والابن معاً. وإدراك سر الله والخلاص وإدراك محبة الله الآب الذي بذل ابنه وإدراك محبة الابن الذي قدَّم ذاته في حب يسمو عن التعبير. وهذه العبارة تشير للمساواة بين الآب والابن. فهي إذاً برهان على لاهوت المسيح فمعرفة الآب موازية لمعرفة يسوع المسيح. ونلاحظ قوله يسوع (أي المخلص) .المسيح وهذه وظيفته بإعتباره الممسوح من الله بالروح القدس ليكون رئيساً وملكاً على كنيسته ورئيس كهنة يقدم ذبيحة نفسه ليقربنا لله أبيه. وحدك= أي دون الآلهة الوثنية وإبليس أو كل ما يؤلهه الإنسان في حياته كالذات والشهوات. ومعلمنا يوحنا يصف هذه الحياة الأبدية بأنها عشرة مع الآب والابن (1يو1:1-4) وفي هذه الآيات نرى معلمنا يوحنا يكلمنا عن المسيح الذي رآه وعرفه ولمسه. فيكف نرى المسيح ونلمسه ونعرفه؟ هذا يناله من يحبه ويؤمن به.. وكيف نصل لدرجة الحب؟.. هذا يأتي من العشرة مع المسيح في صلواتنا ودراستنا للكتاب المقدس وحضور القداسات والتناول. ومن أحب المسيح وقال مع عروس النشيد “أنا لحبيبي وحبيبي لي” يُعلِنْ له المسيح ذاته. والمحبة حياة فالله محبة. والتعرف على المسيح هو هو التعرف على الآب لأن رسالة المسيح هي استعلان الآب الذي فيه (يو9:14). ومعرفة الآب والابن هي بعينها شركة مع الآب والابن. وقول يوحنا “فإن الحياة أظهرت” فهذا إشارة للتجسد الذي به عرفنا الآب والابن.

الإله الحقيقي وحدك= الإله الحقيقي هو الذي يخلق ثم يحافظ على حياة مخلوقاته، يدبر ويعول ويعطيهم فرحاً حقيقياً. ومن اكتشف هذه الحقيقة هو إنسان له حياة، فالله الذي آمن به يكفل له حياة كريمة على الأرض وحياة أبدية بعد الموت. لكن هناك آلهة أخرى يخلقها الإنسان ويظن أنها حقيقية وهي غير ذلك، كالمال مثلاً الذي لا يستطيع هذا ولا علاقة له بالأبدية، والملذات يظنها الإنسان أنها تعطيه فرحاً حقيقياً وهذا وهم.. هذه آلهة غير حقيقية فهي لا تعطي حياة أبدية، بل تعطي موتاً.

أنت الإله الحقيقي وحدك= هنا المسيح يوجه كلامه للآب. وكلمة وحدك عائدة على الله مثلث الأقانيم. ونحن حين نوجه كلامنا للمسيح نقول له أيضاً أنت الإله الحقيقي، لأن صفة الألوهة هي للآب كما للإبن. والله واحد غير منقسم ولا منفصل. الله هو الحق والعالم وما فيه باطل ومن يعرف الحق يختاره فيحيا ومن يختار الباطل يموت ويستعبد فكلمة حقيقي تعني الثابت غير المتغير، أما العالم فسيفنى وهو متغير ومخادع. وقوله

ويسوع المسيح الذي أرسلته= هذه إشارة لأن الآب لم يُعْرَفْ إلاّ بتجسد المسيح الذي أعلن الآب. وكما أن الآب يمجد الابن، والابن يمجد الآب، كذلك الابن يستعلن الآب والآب يستعلن الابن بالروح القدس الذي أرسله. لذلك يستحيل معرفة أحدهما بدون الآخر. ولا يمكن فصل الإرادة (الآب) عن الفعل (الابن). محبة الآب لا يمكن أن تصل إلينا إلاّ بيسوع المسيح.

أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح = الملخص:-

1) الحياة الأبدية هي معرفة الآب والابن معا (إتحاد وحب متبادل). والآب والابن إله واحد لهما نفس جوهر الألوهية.

2) لا يوجد إله يعطى حياة أبدية كلها فرح ولذة وشبع سوى الله الآب وإبنه يسوع المسيح،3) أما كل ما في العالم لا يشبع فالعالم باطل (سراب).

4) الله هو الخالق وهو ضابط الكل الذي يحفظ خليقته،5) هو خلقنا لأنه أحبنا ويريد لنا حياة أبدية بالإتحاد معه والثبات فيه.

6) من يختار الله بحريته يحيا أبديا في فرح أبدى ومجد أبدى ،7) ومن يذهب وراء أي إله آخر (مال/شهوة/ذات/..) يهلك.

8) الله الآب أرسل الله الابن ليستعلن لنا الآب ومحبته وإرادته في أن نحيا أبديا في مجد وفرح وشبع.

 

الآيات (4-5): “أنا مجدتك على الأرض العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته. والآن مجدني أنت أيها  الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم.”

هنا نرى معنى أن يعرفوك (آية3). فحينما أكمل المسيح عمله الذي أعطاه له الآب، إستعلنت حقيقة المسيح الإلهية وكونه واحداً مع الآب. وأن عمله أتمه بالفداء والقيامة ومازال يكمله بشفاعته الكفارية عنا في السماء. والآن= بعد أن أكملت العمل.

والمسيح في آية (1) يقول “مجد إبنك” وهنا يقول مجدني أنت. فما الفرق بينهما؟

في آية (1) كان المسيح يطلب تدخل الآب لتكميل باقي المهمة العظمى بكل ما تشمله من صلب وإهانة = “الرب عن يمينك” (مز110: 5). ثم بقيامة ومجد = مجدنى أنت أيها الآب = “إجلس عن يميني” (مز110: 1).

في آية (1) يطلب المسيح أن يسانده الآب، يساند ناسوته ليكمل عمل الصليب الذي به يتمجد الابن إذ يكمل إنتصاره على قوات الظلمة والموت. أمّا هنا في آية (5) فهو يطلب المجد المستحق عن العمل الذي سيكمله. والآب سيمجده بإعلان بنوته له واستعلان لاهوته وأنهما واحد.

ونلاحظ أن المسيح لا يطلب المجد للاهوته بل لناسوته أي الجسد الذي أخذه من الإنسان. فلاهوته لم يفارقه مجده أبداً، لكنه يطلب المجد للطبيعة البشرية. وهذا الطلب هو عمل عظيم من المسيح لحساب البشر (قارن مع آية 22). هذه هي شفاعته واستحقاق ذبيحة طاعته. هذا هو جوهر الفداء والخلاص للإنسان الذي ينتهي بالمجد (راجع أف5:2، 6 + 19:3 + في21:3 + كو12:1، 13 + كو4:3 + 2تس14:2 + 1بط10:5 + عب10:2 + رو17:8 + يو24:17) هذه شركة في المجد البنوي لله. وقوله الذي أعطيتني يشير للمجد الذي حازه المسيح كإبن الإنسان لحساب الإنسان (يو36:13) ففدائه أعطى للإنسان مجداً وحياة أبدية وهذه إرادة الآب “الذي يريد أن الجميع يخلصون” (1تي4:2). فالإبن هو الفعل، يفعل ما يريده الآب. ونلاحظ أن من له الحياة الأبدية وعرف الله فهو في مجد. وهذا ما يريده المسيح للمؤمنين.

أنا مجدتك على الأرض= باستعلانه للآب = هو أظهر محبة الآب للبشر وأبوته لهم (يو18:1) وكان ذلك بأن تمم وأكمل عمل الفداءقد أكملته= تفيد الكمال فهو تمم العمل بكمال في طاعته للآب. وكان طعام المسيح أن يتمم ويصنع مشيئة الآب (يو34:4). عند ذاتك= “عند” يمكن ترجمتها أيضاً “مع” وتفيد معنى المجد الواحد للذات الإلهية، مجد الآب ومجد الابن فالإبن كائن مع الآب وفي الآب، في حضن الآب، وتفيد معنى الوحدة القائمة بالمجد في الله بين الآب والابن. وتفسير هذه العبارة نجده في (يو1:1، 18) فالكلمة كان عند الله وهو الابن الوحيد الذي في حضن الآب. وبعد أن أخلى الابن ذاته من مجده آن الآوان أن يدخل الابن بالجسد إلى أحضان الآب كعودة الذات لذاتها بكل المجد الذي كان له وعنده ومعه قبل كون العالم. وعند ذاتك تفهم أيضاً “في ذاتك” فالمسيح له نفس المجد الذي للآب باللاهوت. وقد صار نفس المجد للناسوت عندما “جلس عن يمين أبيه”. الابن هنا يرى ما بعد الصليب، هو يرى الصليب كأنه حدث ويرى ما سيحدث بعده من قيامة وجلوس في العرش.

بالمجد الذي كان لي= المسيح كان له المجد دائماً منذ الأزل أي أن مجد الآب هو نفس مجد الابن ولو أنه أخلى ذاته منه في أيام تجسده. وكان إخلاء المسيح لذاته يعني أنه ظهر في صورة عبد مهان (أش2:53) وهذه ليست صورة مجد، فالمهمة التي سيقوم بها فيها عار وذل ومهانة وقبول للموت. والمسيح الآن يطلب ما بعد ذلك من استعلان لاهوته ووحدته مع الآب. وهذا المجد الذي يطلبه هو ليس في احتياج إليه بل هو مجده. لكنه يطلبه لجسده أي الكنيسة. فالإخلاء يعني الإخفاء عن أعين الناس ومدارك الشيطان، والآن المسيح يطلب استعلان ما هو له عند ذات الآب. قبل كون العالم= قبل كون العالم والخليقة لم يكن هناك سوى الله. وهذه العبارة تصريح واضح بلاهوته الازلى.

مجدني= هنا الناسوت يتكلم. بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم= هذا المجد هو مجد لاهوت الابن وهو مجد أزلي. والمسيح يطلب أن الناسوت يكون له نفس مجد اللاهوت وذلك لحساب الكنيسة جسده. وهذا نراه بوضوح في آية (يو22:17).

 

آية (6): “أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم كانوا لك وأعطيتهم لي وقد حفظوا كلامك.”

أنا أظهرت اسمك= توازي أنا مجدتك (آية4). وهي تعني أظهرت كل صفاتك ومحبتك الأبوية للمؤمنين وكل إمكانياتك وقدراتك. وهذه المعرفة هي حياة (آية 3). وهذا هو العمل الذي أكمله المسيح بطاعته للآب حتى الصليب وبأعماله العجيبة وتعاليمه التي أظهرت أن الآب يعمل فيه. فاسم الله يشير للحضور الإلهي ذاته. وهذا معنى ترديد صلاة يسوع للشعور بحضرته. فالاسم هو إشارة للكيان كله. وهذا ما تعنيه الكنيسة إذ تبدأ كل صلاة أو اجتماع “باسم الآب والابن..” ليحل الله وسطنا ونسمع صوته.

الذين أعطيتني= ليس كل الناس قد قبلوا هذا الاستعلان. والذين أعطيتني تشير لمن انفتحت أعينهم وقبلوا رسالة المسيح، هؤلاء الذين اجتذبهم الآب (يو44:6، 65) وهذا الاختيار يُنسب أيضًا للمسيح (يو32:12 + 16:15). وواضح أن هناك من يرفض هذا الاختيار كيهوذا. فحرية القبول مكفولة للجميع. الذين أعطيتني= التلاميذ وكل المؤمنين عبر العصور. كانوا لك= [1] هؤلاء التلاميذ كانوا يعرفونك ويؤمنون بك مثل كل اليهود ومثل شاول الطرسوسي وكان لهم علاقة معك لا يعرفها سواك. [2] وقد تفهم أن الله خلق العالم كله، وأن العالم كله كان لله بحسب الخلق الأول، والله له سلطان على العالم كله وهو الذي يعتني بكل خليقته. الكل خاصة الآب. وأعطيتهم لي= الله حينما رأى استقامة قلب التلاميذ وأنهم أرضًا خصبة وأنهم سرعان ما آمنوا به سلمهم للمسيح ليكمل خلاصهم وفداءهم. وتفهم عن الخلق الثاني الذي فيه تجددت بنويتنا “إذ ليس بغيره الخلاص”. فانتقلوا بذلك من الموت إلى الحياة. فالخليقة كانت كلها لله ولكنها ضلت وأتى الابن ليعيد الخليقة لله. وذلك بأن وحدنا فيه فصرنا “أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه” (أف30:5). وهذا نراه بوضوح في

(اف 2: 10) نحن عمله (الله خلقنا =كانوا لك)…مخلوقين في المسيح يسوع (كخليقة جديدة = اعطيتهم لي)

حفظوا كلامك= كلمة حفظ هنا تعني العناية مع السهر والواسطة الوحيدة لحفظ كلمة الله هي في إطاعتها والعمل بها. وعلينا أن نحفظ كلمة الله ككنز في قلوبنا ونسهر عليها ونقبلها ونهتم بتنفيذها. وحفظ كلمة الله هو التلمذة الحقيقية لله، ومن يتأمل فيها يكتشف المسيح كلمة الله، مثل هذا هو من قال عنه المسيح أنهم بنوا بيوتهم على الصخر (مت7: 24- 27). لذلك فالتلاميذ عرفوا المسيح وآمنوا به لأنهم حفظوا وصايا الله. ولكن قول السيد المسيح هنا حفظوا كلامك تعنى حفظوا كلامك بأن آمنوا بي وصدقوني. وهذا يفهم من الآيات (7، 8). وبهذا نفهم أن المسيح أظهر الآب (اسم الآب):-

  1. للذين يحفظون الوصايا.
  2. آمنوا بالمسيح “علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك”. عمومًا كل من حفظ الوصايا لا بُد وسيعرف المسيح إذ ستكون عيناه مفتوحتين بسبب النقاوة.
  3. علموا “أني خرجت من عندك” (فهموا سر التجسد)= المسيح هو الله المتجسد.

إذًا المسيح كون كنيسته من الذين حفظوا وصايا الله فعرفوا الله. وكنيسة المسيح هذه هي جسده. وهؤلاء أي جسد المسيح هم من عرفوا الله ومن عرف الله صار حيًا (آية3).

 

آية (7): “والآن علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك.”

المسيح هنا يشرح ثمرة حفظهم لأقوال الله، كلمة الآب. فهم أدركوا بعيون مفتوحة أن المسيح جاء ليستعلن الآب قولًا وفعلًا وأدركوا العلاقة بين المسيح والآب، وصدقوا أن المسيح جاء من عند الآب. وأن كل أقواله وأعماله هي من عند الآب، بل أن كل أعمال التلاميذ هي هبات من عند الآب. وأن كل ما للمسيح هو من الآب. إذًا من يحفظ كلام الله، يدرك من هو المسيح ويقبله ويؤمن إذ يعرفه فتكون له حياة. فلأنهم حفظوا كلام الله أي أطاعوه ونفذوه، عرفوا الله. فلما ظهر المسيح أمامهم عرفوه لأنه صورة الله الذي عرفوه.

الآن= وهو مقبل إلى الموت. فبينما يفصل الموت بين إنسان وإنسان إلاّ أنه بموت المسيح ستزداد الرابطة بينه وبين تلاميذه وسيعرفونه تمامًا كمخلص وإله فادي. وبينما أن صلب المسيح سيجعلهم يشكون ولكن لمدة قليلة ثم يجعلهم الروح يفهمون. هذه الآية وما بعدها يشرح كيف كانوا للآب وصاروا للمسيح (آية6). هم عرفوا الآب إذ حفظوا أقواله. ولما رأوا المسيح عرفوه إذ هو صورة للآب الذي يعرفونه فآمنوا بالمسيح. وهذا هو ما قاله في آية (3) أن هؤلاء لهم الحياة إذ عرفوا الآب ويسوع المسيح.

 

آية (8): “لأن الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم وهم قبلوا وعلموا يقينا أني خرجت من عندك وآمنوا    أنك أنت أرسلتني.”

الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم= هذه الآية تساوي “كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه” (عب2:1). وقوله لأن تعنى أن الآية راجعة للآية السابقة، فالتلاميذ صدقونى (آية7) لأن كلامى الذي سمعوه هو كلامك (آية 8)، وهم كانوا ينفذون وصاياك في بساطة وقد حفظوا كلامك” (آية 6)، لذلك حينما كلمتهم بكلامك رأوا في صورتك فآمنوا بي (آية8).

نلاحظ هنا درجات الإيمان:

1-    قبلوا= رحبوا بالمسيح قلبيًا، تشير لفرحهم ومشاعرهم تجاهه، مثل هذا يطيع بدون معرفة كثيرة ثم تبدأ المعرفة.

2-    علموا= هنا بدأوا التمييز والحكم بالعقل فحكموا على كلام المسيح أنه سماوي. هنا بدأت المعرفة. قبول المسيح أعطاهم استنارة بها عرفوا المسيح وأنه من عند الله. كما قال المسيح لبطرس “أبي أعلن لك”

3-    آمنوا= هنا كان القرار والإرادة بعزيمة ثابتة ملتهبة بنار القلب وملهمة بنور العقل. هنا إيمان بالعمل الذي جاء من أجله المسيح من عند الآب. ومن هو المسيح. هذا إيمان بوعي.

وهنا نرى التلاميذ وقد وصلوا لدرجة اليقين في معرفتهم للمسيح. فالمسيح أعطاهم ما استلمه من الآب وكان قبولهم للكلمة هو سر انفتاح بصيرتهم على المسيح ومعرفتهم له إلى درجة اليقين= علموا يقينًا= والكلمة الأصلية تفيد معنى أنهم علموا حقًا وبالحقيقة. فالإنسان قد يكون على يقين من أمر ما ولكنه ليس الحق بالضرورة. والحق هو الله. وقبول الحق لا يأتي بالفهم والمناقشة بل بالطاعة. لذلك كل من سمع وصايا الله وأطاعها ونفذها سيكتشف سهولتها وجمالها مهما بلغت في مظهرها الخارجي من صعوبة ظاهرية في التنفيذ.

خرجت= تفيد التجسد. أرسلتني= تفيد العمل الذي أُرسِل من أجله وهو الفداء. والمسيح سيبني على هذه الكلمات ما سيأتي فهو ليس من العالم لذلك رفضه العالم وصلبه. ولذلك كل من يقبله ويؤمن به ويتحد به وينضم إليه سيصير هو أيضاً ليس من العالم وسيضطهده العالم وهذا ما حدث مع المسيح وما سيحدث للتلاميذ (يو18:15-21 + 1يو13:3 + 1يو5:4، 6).

 

آية (9): “من أجلهم أنا اسأل لست اسأل من أجل العالم بل من أجل الذين أعطيتني لأنهم لك.”

أنا أسأل= في صلاتي الشفاعية هذه. في هذه الآية يسأل عن التلاميذ الذين عرفوه وآمنوا به. ثم في آية (20) يسأل عن كل المؤمنين. لست أسأل من أجل العالم= المسيح يسأل ويشفع عن الذين كانوا للآب وأعطاهم الآب له ليكمل خلاصهم (يو24:10-26 + أر16:7 + يو42:8-44). وليس من أجل من لا يزال يحيا في شره غير مؤمن بالمسيح. هؤلاء يسميهم العالم. فالمسيح حقاً مات من أجل كل العالم ولكن ليس كل العالم قد تمتع بالغفران وأنهم أصبحوا من جسد المسيح. والمسيح صلي على الصليب “يا أبتاه إغفر لهم”. لكن من تاب وآمن هو من غفر له. فكيف يصلي المسيح عن من لا يزال في شره لكي يحفظه الآب، فهو يطلب أولًاً إيمانه ثم يطلب أن يحفظه الآب. المسيح هنا يطلب المجد لمن آمن. فهل يطلب مجداً لمن لا يزال في شره أو لمن لا يزال غير مؤمن. لأنهم لك= هنا نرى معنى المحبة بين المسيح والآب فهو تمم الفداء ويشفع فيمن هم للآب حباً وطاعة للآب، فهذه إرادة الآب خلاصهم. لذلك أرسل تلاميذه ليكرزوا به ومن يؤمن سيترك العالم فتكون هذه الصلاة من أجله. وصلاة المسيح المسموعة هذه وأنه يطلب لأجل تلاميذه الذين آمنوا به هي من أجل أن يعرفوا محبته لهم.

 

آية (10): “وكل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي وأنا ممجد فيهم.”

كل ما هو لك فهو لي وكل ما هو لي فهو لك= نرى هنا الآب والابن على مستوى واحد فالمؤمنون هم تابعين للآب بقدر ما هم تابعون للإبن، أو أن الإيمان بالمسيح يعتبر تأكيدًا لتبعية المؤمن لله الآب. المسيح يقول هذا حتى لا يفهموا أنه أخذ شيئًا حديثًا لم يكن له من قبل لأنه قال “الذين أعطيتني” بل هم له كما للآب. ولكن هم صاروا جسده، صاروا من لحمه ومن عظامه. وكونهم صاروا جسده فهذا لا ينهي علاقتهم بالآب. فهو والآب واحد. وكل ما للآب هو للابن وكل ما للابن هو للآب. ولماذا يسأل المسيح عنهم؟

1)            لأنهم لك= هم أولادك وخاصتك وأنت مهتم بهم.

2)   كل ما هو لي فهو لك= هم أيضًا للمسيح، سعي المسيح لأجل خلاصهم. ولقد آمنوا بالله وبالمسيح.

3)            وأنا ممجد فيهم= المسيح من هو وعلاقته بالآب هم سيعلنوها للعالم كله.

4)            ولست أنا بعد في العالم= (آية11) المسيح يطمئنهم أن تركه للعالم لن يسبب لهم أي ضرر.

ونلاحظ أن في إمكان أي مؤمن أن يقول لله كل ما هو لي فهو لك ونشترك مع المسيح في هذه العبارة. أمّا الشق الثاني.. كل ما هو لك فهو لي= فهو قول لا يجرؤ ملاك أو إنسان، بل ولا أي مخلوق أن يقوله. هذا الكلام لا يقوله سوى الابن الواحد مع الآب ولهم نفس الطبيعة والجوهر. وفيه تأكيد واضح للاهوته.

 

وأنا ممجد فيهم= مجد الطبيب الماهر يظهر في شفاء مرضاه. ومجد المسيح ظهر في تجديد خليقة المؤمنين وفي ثمارهم. وتشير لأن صفات المسيح قد انطبعت في تلاميذه “هم لبسوا المسيح” (رو14:13). فصار الناس يرون في تلاميذ المسيح صورة المسيح. فإيمانهم إذًا أبرز للناس مجده الإلهي. ولاحظ أن المسيح في محبته لهم لم يرى إنكارهم وضعفهم، فهو قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ، بل أقام منهم أعمدة الكنيسة. ونلاحظ أيضًا في هذه الآية أن الآب ممجد في التلاميذ فكل ما هو للابن هو للآب أيضًا، وهذا ما يشير إليه قول السيد المسيح “لكي يرى الناس أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم..”

 

آية (11): “ولست أنا بعد في العالم وأما هؤلاء فهم في العالم وأنا أتي إليك أيها الآب القدوس احفظهم  في اسمك الذين أعطيتني ليكونوا واحدًا كما نحن.”

أتى الوقت الذي سيفارق المسيح تلاميذه ليذهب للسماء ويمارس عمله الشفاعي عنهم. وهنا نرى نموذج لهذا العمل الشفاعي. والمسيح يعرف أن للعالم قوة وإمكانية أن يبتلع تلاميذه بالشر المحيط والجذب العنيف والإغراء الذي له قوة شيطانية. والشيطان له وسيلتين يهاجم بها المؤمنين [1] الإغراء بملذات العالم [2] الآلام والاضطهاد. وهذا الأسلوب اتبعه مع الرب يسوع نفسه. ففي التجربة على الجبل بدأ بإغوائه بملذات العالم، فلما رفض هيج عليه اليهود ورؤساء كهنتهم والرومان. يتضح هذا أيضًا من (رؤ13) فالوحش الأول يستخدم العنف ضد الكنيسة والوحش الثاني يستخدم الخداع. ولكن هل حقًا سيترك المسيح العالم بعد صعوده؟ قطعًا لا. فوعده أنه معنا للأبد (مت20:28). فلماذا يقول هذا؟ التلاميذ الآن في حالة حزن إذ أنهم يشعرون أنه سيفارقهم، وهم حتى الآن لا يدركون من هو المسيح بالضبط. فهذه الصلاة لتعطيهم شعورًا بأن هناك حماية إلهية ستحيطهم حتى ولو فارقهم المسيح بالجسد، وهذا يتضح من آية (13). وهذا ما فعله من قبل حينما وعد بإرسال الروح القدس الذي من عند الآب ينبثق (يو26:15)

أيها الآب القدوس= القدوس = السماوي المرتفع والمتسامى عن الأرضيات الذي في مجد لا ينطق به، فإن كان الشيطان يجذب أولاد الله بإغراءات خطايا العالم، فعلى أولاد الله أن يوجهوا أنظارهم للآب السماوي كما قال بولس الرسول “إن كنتم قد قمتم مع المسيح فأطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الآب” (كو3: 1). ومن يوجه نظره للسماء سيجد المعونة السماوية القادرة أن تحفظه، ولكن من ينظر لملذات الخطية ينجذب من شهوته. فمن ينظر للسماء يعطيه الروح القدس أن تنفتح عينيه على أمجاد السماء فيحتقر تفاهة ملذات الأرض، هذا فضلا عن المعونة الإلهية له، وهذا رأيناه في سير بطرس على المياه إذ غرق في الماء إذ حول نظره عن المسيح ونظر للبحر الهائج.

هذه الكلمات لم ترد في الكتاب المقدس سوى هنا، فالحل الوحيد أمام التجارب الشريرة هو الإلتجاء إلى قداسة الآب. فقداسة الآب هي حصن الذين في العاصفة معرضين للتهديد والإغراء من دنس العالم أو معرضين للإرتداد أمام ضغوط إضطهاد العالم فهي قوة تجذبنا فنترك الأنا وننجذب إلى الله فنصير واحداً. لأنه أمام قداسة الله يتضح زيف ملذات العالم، وأمام محبة الله نقدم حياتنا رخيصة إذا أُرْغِمنا على الإستشهاد. القداسة هي الإرتفاع والسمو عن الأرضيات بكل ما فيها “أني انا الرب الهكم فتتقدسون وتكونون قديسين لأني انا قدوس” (لا11: 44).

وقداسة الله هي قوة قادرة أن تحفظ أولاده من إغراءات وإضطهاد العالم. فهي قوة تجذبنا فنترك الأنا وننجذب لله، لأننا أمام قداسة الله يتضح زيف ملذات العالم، فقداسة الآب هي الضمان الأوحد لقداسة المؤمنين. فقداسة الآب أي سموه ليست هي إنعزاله عن العالم بل قوة قادرة أن تجذب من يريد لينفصل وينعزل عن الشر الذي في العالم. هذا نفس ما قاله القديس يعقوب ” الله غير مُجَرَّب بالشرور ” (يع1: 13).

وهنا يربط المسيح بين القداسة والوحدة. حيثما توجد القداسة يوجد الحب والوحدة، حب متبادل ووحدة مع الله ومع الإخوة، لذلك يطلب المسيح قائلا = ليكونوا واحدا . وحيثما توجد الخطية يوجد الشقاق والحسد. لذلك علمنا السيد أن نصلي هكذا “ليتقدس إسمك” فالإلتجاء إلى اسم الله القدوس ليتقدس في حياتنا وأفكارنا وعيوننا وقلوبنا وضمائرنا، هو قوة غالبة وحصن منيع “اسم الرب برج حصين يركض إليه الصديق ويتمنع” (أم10:18). “ليتقدس إسمك”= لتظهر قوة عملك في أن تجعلنا واحداً بالمحبة.

إحفظهم في إسمك= الكتاب يستخدم اسم الله ليقول الله. ويكون المعنى إحفظهم فيك. وإسم الآب يحمل معنى قوته وحكمته وقدراته ومحبته وقداسته وصفاته كلها ورحمته (وهذه قد أعلنها المسيح). وحفظهم في الاسم يراد به حفظهم ثابتين في دائرة هذا الحق المعلن متحصنين في ذات الله وفي شخصه. فالإسم هنا هو طاقة وقوة حفظ. إذاً هي قوة محبة الله التي تبطل الأنانية والغرور والذات ليكونوا واحداً = والله يحفظنا ليس على المستوى الفردى في أنانية وإنعزالية عن باقي الكنيسة، بل نكون في وحدة مع كل الكنيسة فنحن عروس واحدة للمسيح. والحفظ يعني أن يشمل الآب التلاميذ بهذه الطاقة والقوة، فله قوة يجذب بها بعد أن يستعلن نفسه لهم ثم يحفظهم حتى لا يخرجوا خارجاً. ولذلك فمجرد النطق بالإسم (اسم الله) يدخلنا في مجال قوة عمله وكأنه هتاف بالدخول إلى حضرته. لذلك تفتتح كل صلاة باسم الآب والابن والروح القدس. ومن هنا تأتي قوة صلاة يسوع. هنا نرى أن اسم الله هو بيئة مقدسة محصنة يريد المسيح أن يحفظ تلاميذه داخلها فترتد عنهم سهام إبليس. اسم الله قوة تحيط بالإنسان وتحرره. فإذا شعرنا بروح يأس أو شهوة فلنردد اسم يسوع فهو قوة تعطي النصرة.

ولكننا نفقد هذه القوة إذ نسعى وراء ملذات العالم. فالرب يقول أنه أعطانا المجد (آية22) لكن هذا لمن هو ثابت فيه أما المرتد كديماس الذي ترك بولس الرسول وترك خدمة الله لأنه أحب العالم الحاضر فهذا يخسر وحدته مع الله فيخسر المجد المعد له. إذاً لنتمتع بحفظ الله لنا من إغراءات العالم [1] هناك قوة قداسة قادرة أن تحفظنا. [2] وعد بمجد يجعلنا نحتقر ملذات العالم ويراه كل من يرفع رأسه للسماء طالبا الله القدوس ومعونته.

ليكونوا واحداً= (أف1:4-6) واحداً في المحبة والإرادة والغاية والفكر والاهتمامات والتسليم لله، وفي هذا فالآب والابن واحد= الكنيسة هي الوجه الظاهر للملكوت، وملكوت الله منظم جدًاً وكل ما فيه مترابط بمحبة في وحدة وإنسجام مقدسين. ولذا فالمسيح يطلب أن تبعد الانقسامات عن الكنيسة. فالانقسامات هي حروب شيطانية تقسم جسد المسيح وكل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب. والمسيح يريد أن تكون كنيسته صفاً واحداً وإرادة واحدة. وإذا تقدس الجميع بالقوة التي لإسم الآب، سيحفظهم الآب ويوحدهم كأعضاء لجسد المسيح = الكنيسة عروس المسيح. وهذه هي الكنيسة الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية (أع42:2-47).  وهذه الوحدة هي في جسد المسيح وكل مؤمن هو عضو في جسد المسيح له دوره ووظيفته وموهبته الخاصة بحيث يتكامل الجميع كجسد واحد (1كو1:12-30). وهذه الوحدة هي وحدة تقديس وطهارة فخارج القداسة والتقديس يوجد العالم. والقداسة في مفهومها هي انفصال عن العالم. والوحدة التي ستجمع التلاميذ هي في انفصالهم عن العالم بإنجذابهم المشترك نحو الآب وهذه هي القداسة. وهذه لا تأتي إلاّ بالالتصاق بالله في صلاة بلا انقطاع ودراسة وتأمل في الكتاب المقدس. وهذه الوحدة قوتها من المسيح وفيه. وليست علاقات اجتماعية أو ما شابه بل هي مؤسسة على إتحاد بالمسيح. ولاحظ أن الشيطان يحارب هذه الوحدة ولا يطيقها. لكن اسم الآب قوة حفظ من تجارب العدو. ونعود للآية (22) “وانا قد اعطيتهم المجد الذي اعطيتني ليكونوا واحدا”، فمما يساعد على أن نكون واحدا، هذا المجد الذي أعطاه المسيح لكنيسته عروسه. فهل يقبل من رفع عينيه للآب القدوس وإنفتحت عينيه على المجد المعد أن يخسر أخيه بسبب تفاهات العالم.

كما نحن= المسيح في وحدة مع الآب وهو يطلب أن قوة الوحدة التي بينه وبين الآب تعمل في المؤمنين وتوحدهم. ويكون إتحادهم إنعكاس للوحدة والحب الكائنة بين الآب والابن. وقوله كما نحن هو مشابهة في الصورة وليس في المقدار طبعاً. هو مشابهة في الحب فالآب في الابن والابن في الآب وهما واحد بالحب الذي هو طبيعة الله. ونحن نصير واحداً لو صارت لنا طبيعة المحبة مثل الله. والله القدوس بقوته مستعد أن يعطينا هذه المحبة فهل نقبل؟!. وقوله نحن يشير للتمايز بين الأقانيم فالآب غير الابن.

 

آية (12): “حين كنت معهم في العالم كنت احفظهم في اسمك الذين أعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم    أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب.”

بينما كان المسيح مع تلاميذه كانت القداسة والمحبة التي كانت في المسيح وتشع منه كانت تؤثر فيهم وكان يسهر عليهم بالتعليم فحماهم من جذب العالم وذلك بأن حصر قلوبهم في دائرة معرفة الآب. وكان ثمرة عمل المسيح أنه لم يهلك أحد منهم بل ظلوا محفوظين ومحروسين في اسم الآب وقوته. ما عدا يهوذا (يو70:6، 71) الذي اختار طريق الخيانة في مقابل كل ما أعطاه المسيح من اختيار وحب وتعليم. فالمسيح قدم لهم كل حماية مطلوبة حتى ليهوذا. لكن من يصر على الانفصال عن المسيح لن يجبره المسيح على البقاء.

ابن الهلاك= غالباً هي تسمية عبرية لمن اختار طريق الشر فيكون الهلاك مصيره ومثلها “ابن الموت” (1صم16:26) “وإبناً لجهنم” (مت15:23) “وأبناء المعصية” (أش4:57) “وأبناء الغضب” (أف3:2). وعكسهم “أولاد النور” (أف8:5) وكلمة ابن الهلاك إستخدمت مرتين هنا في هذه الآية وعن ضد المسيح إنسان الخطية في (2تس3:2). والهلاك يبدأ من وقت الانفصال عن المسيحإسمك الذين أعطيتني= المعنى أن المسيح كان يحفظ تلاميذه الذين أعطاهم له الآب. كان يحفظهم بحماية إلهية يشير لها كلمة إسمك ولكن الآية في أصلها يمكن ترجمتها “إسمك الذي أعطيتني” والإسم الذي أخذه المسيح هو “يهوه” = أنا هو. والمعني أنني بإسمي وقدراتي الإلهية كنت أحفظهم. كنت أحفظهم في إسمك= في تواضع المسيح لم يقل أنا أحفظهم بقداستي بل بإسمك أيها الآب القدوس. فالإبن يشهد للآب والآب يشهد للإبن. والروح القدس يشهد للإبن وهكذا.

ليتم الكتاب= أي أن هلاك يهوذا جاء متفقًا مع النبوات أي بسابق العلم الإلهي ولكن الله كان قد وهبه حرية كاملة للاختيار (مز8:109 + مز9:41). وهناك سؤال فالآب أعطى التلاميذ للمسيح ليخلقهم خليقة جديدة فهل لم يكن الآب يدري أن منهم من سيخون والإجابة كامنة هنا في قوله ليتم الكتاب= فالله قطعًا كان يعلم والنبوات تشهد بذلك.

 

آية (13): “أما الآن فأني آتى إليك وأتكلم بهذا في العالم ليكون لهم فرحي كاملًا فيهم.”

المسيح يتكلم وهو هنا على الأرض وهو متأهب أن يترك العالم. أتكلم بهذا في العالم ليسمعني التلاميذ الذين أنا معهم الآن في العالم. والمسيح يتكلم إلى الآب ليشعر تلاميذه أنهم في حضرة الآب محفوظون في اسمه وأن المسيح بدأ بالفداء وكان يحفظهم وهو معهم والآب سيكمل. وهو نفسه أي الابن يشفع فيهم ليحفظهم الآب ومن هو محفوظ في اسم الآب فهو كأنه إنتقل من الموت إلى الحياة. وهذا ما يفرح المسيح أن الموت لم يعد له سلطان على تلاميذه، وأن العالم لم يعد له سلطان عليهم. وهذا ما يصلي المسيح لأجله أن يحفظهم الآب فيكون لهم حياة. وأن فرح المسيح بإنهاء عمله الذي سيعطيهم حياة وأيضاً برجوعه للآب، فرح المسيح هذا هو فرح كامل وهذا الفرح سيكون لتلاميذه، سيسكب عليهم من فرحه هو ، فحينما يفرح المسيح ينعكس فرحه علينا، فنحن لا فرح حقيقي لنا إلاّ بأن يضع المسيح فينا فرحه. وهذا الفرح الذي يضعه المسيح فينا لا يستطيع أحد أو أي ظروف أن ينزعه منا (22:16). ونلاحظ أن فرح المسيح كان كاملاً بالرغم من إنطلاقه للصليب مع كل الآلام التي وقعت عليه. ولم يزل المسيح يتكلم بهذا للعالم أجمع، لكل إنسان في العالم، ومن يستجيب ويؤمن ويترك العالم ويتحد بالمسيح سيكون له فرح المسيح كاملاً= وأتكلم بهذا في العالم. وما يفرح المؤمنين أن لهم حماية إلهية في هذا العالم.

ملحوظةنحن كثيراً ما نتكلم عن قوة الشيطان وقوة الخطية، وهذا خطأ ليتنا ندركه من هذه الآيات (11-13). فنحن لنا إمكانيات نغلب بها الشيطان والخطية. نحن لنا قوة الآب وشفاعة المسيح. وهذه الغلبة حينما نغلب تفرح الله وتفرحنا، الإمكانيات متاحة لكل من يريد.

 

آية (14): “أنا قد أعطيتهم كلامك والعالم ابغضهم لأنهم ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم.”

أنا قد أعطيتهم كلامك= وواضح أن المسيح هو كلمة الله، فهو الذي استعلن الآب وكلام المسيح هو هو نفسه كلام الآب فكل ما للآب هو للابن وما للابن هو للآب. والمقصود بكلامك هو كل ما أعلنه المسيح للتلاميذ عن ذاته وعن الآب. ولما قبل التلاميذ كلام المسيح صارت لهم شخصية جديدة وتحرروا من سلطان رئيس هذا العالم. لذلك أبغضهم العالم، إذ لم يَعُدْ لهم شكل العالم، بل صار لهم شكل أخروي جديد (أع40:5، 41 + 2كو21:11-27) صار لهم شكل المسيح. فهم والمسيحليسوا من العالم” فهم يعيشوا في العالم لكن بلا شر العالم. لقد وُهِبَ للكنيسة أن تتألَّم ويكون لها شركة سرية مع المسيح في آلامه، هذه الآلام هي إكليل المجد الذي سيوضع على رؤوس الذين يصبرون إلى المنتهي، وبهذه الآلام يطهرنا المسيح من قذر هذا العالم. إذًا لا بُد أن يكون تلاميذ المسيح لهم تعليم المسيح ويكونون مبغضين من العالم لماذا؟ لأنهم ليسوا من العالم.. كما أنا لست من العالم= فهم تبعوني واتحدوا بي. فكل من يصير شكل المسيح يبغضه العالم.

المسيح هنا في الآيات (13-15) يتكلم عن حتمية الصليب قبل أن يتكلم عن المجد المعد للكنيسة، فالصليب هو طريق المجد السمائي. وهو مجد على الأرض. وهذا فعله مع نفسه، ففي آية (1) كان يقصد مجد الصليب ونصرته وفي آيات (4، 5) تكلم عن المجد السمائي لجسده، فهو تكلم عن صليبه قبل أن يتكلم عن مجده.

 

آية (15): “لست اسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير.”

تأخذهم من العالم= أي يموتوا. المسيحية ليست سلبية وانسحاب من الحياة، بل هي التقدم لحل مشاكل الناس وليست هي عدم المبالاة بهم (1كو9:5، 10). والمسيح يرسل تلاميذه نورًا للعالم وملحًا للأرض، وما نفع الطعام بدون ملح، وما قيمة المدينة بدون نور. المسيح هنا يُعَلِّمْ تلاميذه أن لا يكلوا من الضيقات فيسألون أن يتركوا العالم ويخطئوا كما أخطأ إيليا وطلب الموت لنفسه (1مل4:19). بل يكملوا رسالتهم في العالم ويشهدوا للحق ويتقبلوا الاضطهاد بفرح. فالنصرة والمجد في المسيحية ليس في الخروج من الضيقة بل باحتمالها بعدم تذمر. ولاحظ فهم بولس الرسول لهذه النقطة (في23:1، 24 + 1تس3:3، 4) المسيح لا يريد أن ينهي العالم، بل أولاده بوجودهم في العالم لهم رسالة في العالم ليتقدس العالم، وتصل رسالة المسيح لكل العالم. ما يطلبه المسيح أن يخرج منا العالم وليس أن نخرج نحن من العالم.

فترة وجودنا في العالم:-

  1. نكمل العمل الذي خلقنا من أجله (أف10:2)
  2. نكون نورًا للعالم وملحًا للأرض لنشر معرفة المسيح. لذلك يجب أن نعيش وسط العالم.
  3. نحتمل بعض الآلام فنشترك في صليب المسيح، وكما اشتركنا في آلامه نشترك في مجده (رو17:8)
  4. الله يستغل هذه الآلام معنا حتى تزداد قداستنا “فمن تألم في الجسد كف عن الخطية” (1بط1:4) فالألم يجعلنا نزهد في محبة العالم “التي هي عداوة لله” (يع4:4) ونتجه للسماويات وهذه هي القداسة. والله يحول العقوبة (الألم) إلى خلاص (القداس).

الشرير= هو الشيطان رئيس هذا العالم. فالشر الذي في العالم نابع من سيطرته على نفوس الناس (1يو19:5). والمسيح هنا يسأل الآب أن يحفظ أولاده من سلطان وتأثير الشرير المخادع. وما يعمله الله هو أنه يسمعنا صوته بالروح القدس الذي له قوة جذب. فإن لم نقاوم واستجبنا وصلبنا أهوائنا مع شهواتنا نكتشف أن قوة جذب الله التي يجذبنا بها للقداسة أقوى بكثير من إغراءات العالم. وهذه الآية مرادفة لما علمنا المسيح أن نصلي به قائلين “لكن نجنا من الشرير” والمسيح سبق وقال “احفظهم في اسمك” فالاسم القدوس يحيط النفس بجو القداسة ويخفي عن عينها الشر ويبطل قوة العدو وخداعه وتزييفه فالشيطان هو الكذاب الذي يزيف كل شيء كما فعل مع حواء. بل ويعطي قوة وشجاعة إن وصل الأمر للتهديد بالموت (عب4:12).

ملحوظةالذهاب للدير والرهبنة ليس هروب من العالم. فالراهب يتعرض لحروب من الشيطان أكثر ممن في العالم.

 

آية (16): “ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم.”

هذه الآية تكرار يقصد به التعقيب على الآية السالفة والتمهيد للآية القادمة. أي لأنهم ليسوا من العالم (كما أنا) فهم داخل تبعية المسيح. المسيح رأسهم وملكهم، يعيشوا له ويخدموه لذلك يحاربهم إبليس. قدسهم في الحق حتى يحفظوا من الشرير ويغلبوا كما غلبت.

 

آية (17): “قدسهم في حقك كلامك هو حق.”

قدسهم في حقك= قدسهم أي خصصهم لك بمسحة الروح القدس للخدمة وكمِّلهم في طريق القداسة وإعطهم الإمكانيات التي بها يحيون لك. وأهلهم روحياً وذهنياً وقلبياً لذلك. والحق هو المسيح الذي قال عن نفسه أنه هو “الطريق والحق والحياة” (يو14: 5) وهو كما قال لبيلاطس أنه جاء ليشهد للحق (يو18: 37). فيصبح المعنى خصصهم للثبات في. كلامك هو حق = والمسيح هو كلمة الله وهو الحق. وهم سيكونوا مخصصين لينشروا كلمة الحق لكل العالم.

والسيد سبق في آية (15) وطلب من الآب أن يحفظهم من الشرير أي من إغراءات العالم. والحفظ هو عمل سلبي أي حفظهم من الشرير، أمّا التقديس فهو عمل إيجابي لذلك فكان لا بُد للآية (15) أن تأتي قبل آية (17). فالحفظ يسبق التقديس. هنا نجد التلاميذ وقد نقلهم الآب من منطقة الشرير الموبوءة إلى منطقة الحق النقية. الطلبة الأولى في (آية15) أساسها أن التلاميذ يحيون وسط العالم ولكنهم يحيون منعزلين عن خطيته. وأساس الطلبة الثانية في (آية17) أن يتقدموا للخدمة في العالم ليشهدوا للحق الذي فيهم. فالتقديس هو إنتزاع كل ميل نفساني جسداني مادي من قلوبهم ونزع كل ما هو مغاير لروح الله وإرادته، ثم تكريسهم وتخصيصهم نهائياً لخدمة الله لتكون حياتهم ذبيحة حية مقدسة مرضية أمام الله” (رو1:12). كما أن المسيح نفسه قدسه الآب وأرسله ليكون ذبيحة فداء عن البشرية. قدسهم في الحق نرى فيها الله وقد نقلهم تمامًاً من تبعية العالم لتبعيته هو، بل وينقل حياتهم وأفكارهم ورغباتهم وتعلقاتهم من عالم الشهوات والماديات التي سبق وتعلقوا بها إلى حياة الحق، فتكون كل رغباتهم وأفكارهم وتعلقاتهم هي لخدمة الله. ومن تقدس في الحق تتحرر نفسه من التعلق بالعالم الباطل ومادياته. وهذا ما طلبه بولس الرسول “إن كنتم قد قمتم مع المسيح فأطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس” (كو1:3) فالقداسة هي الاهتمام بالسماويات وهذه (أي القداسة) هي الحق، أما العالم فباطل. وهكذا تعيش الكنيسة في الحق والآب يقدسها في اسمه ويُرِسِلْ لها الروح القدس ليقدس بتبكيته وتعليمه ومعونته، والمسيح يقدسها بدمه، وبهذا تعيش وسط العالم محفوظة من الشرور وإغراءات العالم، وقد اكتشفت أنها تعيش مخصصة لله وللحياة الأبدية. والكنيسة اكتشفت أن أعدائها هم العالم والجسد والخطية وعلى رأسهم الشيطان فقاومتهم، وعاشت في حرية أولاد الله، غير مخدوعة بأفراح العالم المزيفة التي سريعاً ما تزول بل هي مزيفة ومخادعة، أما أفراح الله فلا ينزعها أحد، وسلامه ليس من هذا العالم (يو22:16 + 27:14). بل أن ما في العالم يتسبب في الضيق والقلق والإضطراب، بل هو باطل وفانٍ، لذلك فمن ينخدع به لا يجد راحة. وعين الإنسان الذي تقدس بالحق الذي هو خلاصة ما أعلنه المسيح، تكتشف خداع العالم فمثل هذه النفس لها النور الذي يكشف الحقيقة. وهذا معنى كلام المسيح في (يو31:12، 32) الآن دينونة هذا العالم.. أي الحكم على العالم بالتزييف والخداع بعد أن ظهر الحق الإلهي فعزل قوة التزييف التي قتل بها إبليس البشر من قبل (يو44:8). ومن يتقدس في الحق يكون نور يفضح أكاذيب العالم. قدسهم= القداسة هي أن نحيا في السماويات. وبهذا فكلمة قدسهم تعني نزع كل ما هو أرضي من القلب ليتفرغ القلب لحب الله وخدمته وفي العبرية تعني كلمة مقدس “مخصص لله”.

إذاً تقديس الحق هو إنفتاح الوعي الداخلي للإنسان بقوة الروح الذي يسكبه الرب على التلاميذ فيرفع رؤية الإنسان وإدراكه فيكشف خداع العالم والشيطان (2كو11:2) فيصير الإنسان قادراً أن يتعامل مع أفكار الظلمة ويطاردها ويكتشف زيفها (يع7:4) لذلك فهناك علاقة وثيقة بين النور والحق، فمن إنفتحت بصيرته لا يستهويه سوى الحق. أما الذين يستهويهم الزيف فلا يرون النور نوراً بل حرماناً من ملذات وهمية فانية مائتة. فالإنسان الأعمى لا يرى إلاّ ما هو تحت رجليه (يو20:3).

وحينما يملك الحق بالكامل يملك سلام الله الكامل. ويكون الإتضاع الحقيقي. وحينما يتقدس الإنسان فعلاً تتغير طبيعته فلا يصبح قابلاً للخداع والتزييف بل تكون له طبيعة محصنة بالحق وقوته فلا يعود الإنسان يُحْمَل بكل ريح بل يثبت في الله (1يو16:4) والحق والنور إستعلنا للعالم في شخص المسيح (يو12:8 + 6:14). وبإتحاده بنا جمعنا في جسده وكشف لنا زيف العالم ووحدنا وقدمنا لله أبيه فتبنانا (في 1يو19:5 نرى الحق في مقابل الخداع). ونلاحظ أن عبد الخطية المتعبد لأصنام الجسد والشهوات الجسدية يشعر بنفسه شعوراً محدوداً ضيقاً لأنه محصور في دنيا الأطماع الجسدية. أمّا الذي تقدس بالروح لله وعبادته وإستعلن له الحق فيشعر أنه تحرر من ضيق الجسد وإنحسرت أطماعه ورغباته ولا يعود للملذات جمالها المخادع بل تصير تحت قدميه. ومن هنا يبدأ الخلود والحياة الحقيقية لذلك قال القديس أغسطينوس “جلست فوق قمة العالم حينما أصبحت لا أشتهي شيئاً” وحينما يعيش من تقدس في الحق وسط العالم، يعمل وسط العالم بروح الله ولا يخدعه العالم، لا يكون من داعٍ بعد ليأخذه الله من العالم (آية15) ولاحظ أن بولس الرسول حين قال أنه يشتهي أن ينطلق ويكون مع المسيح، قال أنه محصور بين هذه الشهوة وشهوة أخرى هي أن يعيش ويكرز ليخدم المسيح (في22:1-24).

كلامك هو حق= أي كل التعليم الذي يخص الآب والذي أعلنه الرب يسوع. هذا الكلام فليتقدسوا فيه. كلام الحق أو الكلام الذي هو حق هو استعلان الله للوعي الداخلي للإنسان. وتصير الكلمة هي المرشد والقائد للنفس الأمينة، لتُدْخِلها إلى حضرة الله الآب فترتسم على النفس صورة الله وتحترق منها كل شوائب الخداع وتنطبع فيها ملامح الله في القداسة والحق (أف21:4-24) فكلام الله هو واسطة الدخول إلى الله، على أن نأتي إلى كلمة الله بنية التغيير (عب1:2). كلام الله هو وسيلة تقديس. “وأنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به” (يو3:15) وهذه أهمية دراسة كلمة الله.

  

آية (18): “كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم.”

إذاً تقديس التلاميذ الذي يطلبه المسيح ليس ليرتفعوا به عن العالم بل أن يقتحموا العالم وظلمته فيحطموا أوثانه، كما حدث مع الإمبراطورية الرومانية. وكما أرسل الله الآب ابنه وقدّسه ليشهد للحق (يو36:10) فرفضه العالم وصلبه، هكذا أرسل الابن تلاميذه وقدّسهم ورفضهم العالم. ولكن لنلاحظ أن المسيح أُرسل من السماء إلى العالم أمّا التلاميذ فأرسلوا من العالم إلى العالم. ورسالة المسيح كانت للفداء أمّا رسالة التلاميذ فهي للتبشير. إلاّ أنه بنوع ما فإن رسالة التلاميذ هي امتداد لرسالة المسيح وبآلامهم يكملون نقائص شدائد المسيح (كو24:1). المسيح أرسل تلاميذه ليؤسس كنيسته بتعاليمهم، هم إقتحموا مملكة إبليس ليخطفوا أولاد الله منه، وهو إضطهدهم، ولكن بالمسيح الذي فيهم لم تقوى عليهم أبواب الجحيم أي كل قوات الظلمة التي هاجت ضدهم، وإمتدت الكنيسة في كل العالم.

 

آية (19): “ولأجلهم اقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق.”

أقدس أنا ذاتي= سبق المسيح وقال أن الآب قدَّسه (يو36:10). ومن هنا نفهم أن الآب والابن متساويان في الألوهية. فبمقدار ما اختار الآب أن يخصص الابن المتجسد لعمل الفداء بقدر ما استجاب الابن لدرجة الموت. فالمشيئة واحدة فهم ذات واحدة. وهذا التطابق في المشيئة أزلي نفذه الابن في ملء الزمان.

والتقديس هو عمل الله وحده، ولا يوجد إنسان يمكنه أن يقول أقدس أنا ذاتي. فالتقديس هو أن يصير الإنسان من خاصة الله، والله وحده يعين خاصته وللإنسان فقط أن يطلب التقديس ولكنه لا يعطيه قط. لذلك قوله أقدس أنا ذاتي دليل ألوهيته.

أقدس= أي أنا وضعت ذاتي للصليب وأيضًا قبلت تخصيص الآب لي للقيام بعمل الفداء (مز8:40). فمشيئة الآب والابن واحدة لكن ما يريده الآب ينفذه الابن. فالآب يريد فداء البشر والابن يقبل بسرور إتمام الفداء فهذه إرادته أيضًا وسلطانه (يو18:10).

لأجلهم أقدس أنا ذاتي= هنا المسيح يتكلم كرئيس كهنتنا، أقدم ذاتي وأكرسها لأكون ذبيحة من أجل البشر (يو17:10، 18) ولاحظ أنه يقول أقدس ولم يقل قدست. فنحن محتاجون لهذا التقديس باستمرار. وبنفس المفهوم قال السيد المسيح عند تأسيس سر الإفخارستيا “هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم.. دمي الذي يسفك عنكم” (لو19:22، 20) فهو دم مسفوك دائمًا، لذلك فذبيحة الإفخارستيا هي هي نفسها ذبيحة الصليب.

وحان الوقت ليكمل المسيح عمله وبمشيئته. وفي (عب10:10) نرى أنه بهذه المشيئة الأزلية وبتطبيقها وتنفيذها في ملء الزمان نحن مقدسون (أف4:1، 5 + 2تي9:1). فالآب أرسل ابنه ليفتدي البشر ويقدسهم وبطاعته قدسهم= لأجلهم وتلاميذه بطاعتهم له وإتباعهم وصاياه حتى الموت كما فعل هو يتقدسوا.

ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق= تقديس التلاميذ يكون بتطهيرهم داخليًا ثم تكريسهم خارجيًا. ولكن تقديس المسيح هو عمل خارجي عبارة عن تكريسه لذاته وتقديمها لله ذبيحة حيَّة مقدسة. ولاحظ أن التلاميذ عاجزين أن يقدسوا ذواتهم بل هم محتاجين أن الله يقدسهم (عب10:10). فتقديس التلاميذ هو عمل إلهي من عمل الله نفسه، وبذبيحة المسيح غير المحدودة في التقديس من ناحية الزمان والمكان. ولنلاحظ ارتباط هذه الصلاة مع ما قدَّمه لهم المسيح منذ دقائق، ذبيحة جسده ودمه المسفوك لتقديسهم. فتقديس المسيح سلًّمه لنا في ذبيحته تسليمًا أكلًا وشربًا. فلنطلب لنصير مقدسين في الحق، حق المسيح، في ذبيحته وقيامته وحياته ولنجحد العالم ونلتصق بالله فنتقدس.

 

الآيات (20-26): فيها يطلب المسيح من أجل وحدة الكنيسة كلها عبر الدهور. والمسيح هنا ينتقل من الوحدة بين التلاميذ إلى وحدة الكنيسة كلها. ومن المعرفة المعلنة للتلاميذ بحضوره إلى المعرفة المستعلنة بالروح والممتدة عبر العالم كله. وهذا هو عمل الروح القدس أن يوحد المؤمنون في شخص المسيح كأعضاء في جسد واحد (أف16:4 + كو19:2). وكأغصان في كرمة واحدة (يو1:15، 2). والأعضاء ترتبط بالمسيح الرأس لتكون واحداً في المسيح. والوحدة التي بين المؤمنين تفترق عن أي وحدة أخرى في العالم. فالحق هو محور هذه الوحدة، والحب هو عصبها. ومن (أف1:4-6) نفهم أن مصادر الوحدة هي الإيمان بالله الواحد والمعمودية الواحدة والتناول من جسد المسيح الواحد والمحبة ووحدانية القلب. في آية (11) “إحفظهم في إسمك” وفي آية (17) “قدسهم في حقك” ومن حفظهم الله وقدسهم لا بُد وأنهم سيكونوا في وحدة وبلا انشقاق وينعكس مجد المسيح عليهم كما طلب من الآب (آية 5) وهذا موضوع الآيات التالية.

 

آية (20): “ولست اسأل من أجل هؤلاء فقط بل أيضًا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم.”

الذين يؤمنون= في كل زمان وكل مكان. بكلامهم= هذه قد تفهم أنه بكلام التلاميذ وبكرازتهم وبأقوالهم التي سجلوها في الأناجيل والرسائل وسفر الرؤيا، يؤمن الناس بكلامهم. والمسيح يطلب الوحدة لكل من يؤمن في كل مكان وكل زمان. وقد يفهم هذا أن من يؤمن سيجاهر بإيمانه وكلامه علنًا وصراحة. والرأي الأول هو الأرجح. الذين يؤمنون= إذًا الذين لا يؤمنون لا شفاعة لهم في هذه الصلاة، والسبب بسيط أن المسيح لا يجبر أحد أن يؤمن به. لكن علينا نحن أن نصلي لكل الناس. فشفاعة المسيح هي شفاعة كفارية بدمه. فمن لا يؤمن لا يستفيد من دم المسيح. لكن المسيح أرسل تلاميذه يدعون العالم كله للإيمان، فهو يريد أن الجميع يخلصون، ومن يؤمن يستفيد من هذه الشفاعة.

أسأل= وماذا يطلب المسيح عن المؤمنين؟ في الآيات الآتية يطلب أن يكونوا واحدًا. هي وحدة في الفكر والهدف والمشاعر بلا انقسامات أو تحزبات، فنحن جسد واحد ونحن من لحمه ومن عظامه (أف3:4-6 + أف30:5) وإذا فهمنا أن المسيح وحدنا في جسده وجعلنا جسد واحد، فهذا المفهوم هو أقوى من موضوع المشاعر فهذه وحدة كيان.

 

الآيات (21-23): “ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدًا كما أننا  نحن واحد. أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني.”

*واضح من هذه الآيات أن هدف الرب هو الوحدة. وكون أن الرب يسوع يقول هذا الكلام قبل أن يخرج للصليب مباشرة، فهذا يدل على أهميته، بل يعنى أنه جاء لهذا الهدف.

الله خلق الملائكة أولًا.

*ثم خلق الله الإنسان. خلق آدم ثم أخذ من آدم ضلعا وعمل منه حواء، ولاحظ أن الله لم يخلق حواء منفصلة عن آدم بل هي جزء من آدم. والأولاد هم من كليهما فيكون آدم وحواء وأولادهم، بل وكل بني آدم هم من واحد هو آدم، إذاً هم آدم. وهذا هو فكر الوحدة. وكان الطبيعي أن تسود المحبة بين أعضاء الجسد الواحد.

ونضع أمامنا هذه الآيات:-

*”والكلمة كان عند الله” (يو1: 1).

*”الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر” (يو1: 18) .

*”أنا في الآب والآب في” (يو14: 10).

*”أنا والآب واحد” (يو10: 30).

*”كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو1: 3).

*”الذي هو صورة الله.. بكر كل خليقة.. فإنه فيه خلق الكل: ما في السموات وما على الأرض.. وهو رأس الجسد: الكنيسة. الذي هو البداءة ..” (كو1: 15 – 18).

*”بداءة خليقة الله” (رؤ3: 14).

من كل ما سبق نفهم ما يلي على قدر ضعف إمكانيات عقولنا البشرية، فنحن نتكلم عن أسرار إلهية عن طبيعة الله الغير محدودة واللانهائية، وهي قطعا تسمو عن تصوراتنا. والله في محبته كشف لنا هذه الأسرار لا لنتفلسف بها بل لكي ندرك قدر محبته لنا وفكره من ناحيتنا، فمحبته تحصرنا، وكأب يحتضننا، وحينما ضللنا كالإبن الضال تجسد ابنه ليأخذنا فيه ويعيدنا إلى الأحضان الأبوية ويعانقنا ويقبلنا، كما فعل الأب مع ابنه الضال، وكما ذهب الراعى ليعيد الخروف الضال.

الابن هو في حضن الآب، هو في الآب، هو عقل وحكمة وقوة الله ، ونحن كنا في عقل الله منذ الأزل. فالله غير زمني ولا يتغير فكره، فلا يمكن أن يبدأ الله في التفكير في خلقة البشر في وقت ما، ولم نكن في فكره قبل هذا الزمن لأن فكر الله لا يتغير، ولا يطرأ فكر جديد عليه. كنا في فكر الله ومحل محبته منذ الأزل، وسيظل يحبنا إلى الأبد، وهذا معنى الآية:

“إذ كان قد أحب خاصته…     أحبهم إلى المنتهى”     (يو13: 1).
         
محبة الله لنا أزلية     محبة الله لنا أبدية      

 

فالله خلقنا لأنه أحبنا أزليًا. ويقول الحكيم في سفر الحكمة “لأنك تحب جميع الأكوان ولا تمقت شيئا مما صنعت، فإنك لو أبغضت شيئا لم تكونه” (حك11: 25).

*”أنا البداية والنهاية” (رؤ1: 8).

*”الذي هو البداءة” (كو1: 15 – 18).

فنفهم أنه في الوقت الذي حدده الله لبدء الخليقة، وفي ملء الزمان خرجت الفكرة التي كانت في عقل الله، وكانت هذه البداية، الابن كان هو البداية، فبه كان كل شيء، وصار هو رأس الخليقة، “فيه خلق الكل”. فنحن كنا فيه فكرة، وهو في حضن الآب، وبالتالي كانت الخليقة كلها ملائكة وبشر في حضن الآب.

*”بكل من دعى باسمي ولمجدي خلقته وجبلته وصنعته” (إش43 : 7).

*الله خلق الإنسان ليمجده، وهذا حق. ولكن الله المحب للبشر والكامل الذي لا يحتاج لأحد ليمجده، هو خلق الملائكة والبشر ليفرحوا أمامه بمجده، وانعكاس مجد الله عليهم يظهر مجد الله ومحبته. فالله حين يقول خلقت الإنسان لمجدى، فهذا يشير لأن الله خلق الكل ملائكة وبشر ليعكسوا مجد الله فيظهر جمال الله ومجد الله فيهم.

*ونجد أن أول آية في الكتاب المقدس كانت “في البدء خلق الله السموات والأرض” ومن هذه الآية نفهم أن الله بخلقته للسمائيين والبشر والطبيعة الجميلة التي هيأها الله لنحيا فيها كانت لإظهار خيرية الله وطبيعة الله وعظمة الله وأنه إله جبار قوى ومحب وجميل، خلق عالم جميل وسموات جميلة، وكان الملائكة والبشر يحيون في هذا المجد “أكون مجدا في وسطها” (زك2: 5). وهم كالمرايا يعكسون هذا المجد وهذا النور فيظهر للجميع مجد الله ومحبته وفرحه بخليقته الفرحانة. وهذا ما قاله الله لأيوب “أين كنت حين أسست الأرض… أو من وضع حجر زاويتها، عندما ترنمت كواكب الصبح معا، وهتف جميع بنى الله (أى38: 4 – 7). وما قاله الله هنا يشرح معنى أن الله خلق الكل لمجده، فالملائكة كانوا يشاهدون أعمال الله في الخليقة فيفرحون بعظمة الخالق ويهتفون ويسبحون الله على أعمال محبته وعلى قدرته، والله يفرح بأنه استطاع أن يجعل خليقته تفرح، فهو قد خلقهم ليفرحوا. وهذا معنى اسم جنة عَدْنْ التي أسكن الله آدم فيها

جنة = تعنى مكان جميل جدًا يفرح آدم بوجوده فيه.

عَدْنْ = تعنى فرح. فهدف الله من الخلق أن تفرح خليقته .

الأب يفرح حين يرى نظرة الفرح في عيون أولاده حين يأتي لهم بهدية ليسعدهم.

*التسبيح ليس فرضا بل هو تعبير عن حالة الفرح، وهذا كما رأينا الملائكة تهتف وترنم إذ رأت عمل الله في الخليقة. ونحن في السماء سنسبح الله إذ نرى مجده وندرك عظم محبته وجماله.

*فالخليقة كلها خرجت من الابن الذي به كان كل شيء فهو خالق الكل، وهو رأس الخليقة، وهو كائن في الآب وفي حضنه وبالتالي كانت الخليقة كلها ملائكة وبشر في حضن الآب. وكان المفروض أن تكون صورة الوحدة هذه سببا أن تسود المحبة بين الكل، فالكل واحد في الابن الكلمة، والكل محاط بمحبة الآب.

*وسقط بعض من الملائكة وصاروا ملائكة ساقطين وهم الشياطين وإنفصلوا عن الله إذ “لا شركة للنور مع الظلمة” (2كو6: 14). وظل الملائكة القديسين في حضن الله بينما فقد الملائكة الساقطين صورة المجد والنور التي خلقهم الله عليها (راجع إش14، حز28) وكان لا أمل في رجوع الشيطان وتوبته إذ أن طبيعة الملائكة ليس فيها تردد وبالتالي لا توبة، فالشيطان أخذ قراره في تحدٍ لله ولن يغير قراره.

*وسقط الإنسان بغواية الحية (الشيطان) وإنفصل عن الله. وهو أيضا فقد صورة المجد والنورانية إذ كان مخلوقا على صورة الله. ولكن كان الإنسان بسبب ضعف طبيعته قابلا للتوبة والندم على خطيته، ولهذا تجسد المسيح ليفديه ويخلصه. وبالسقوط والانفصال عن الله ضاعت وتشوهت صورة الوحدة والمحبة ودخل للإنسان الانشقاق والكراهية، وقام الأخ على أخيه وقتله.

*وما حدث للإنسان لم يكن في قصد الله الذي خلق الإنسان ليفرح ويعكس مجد الله، ولكن لا يمكن أن يفشل قصد الله.

*وبالتجسد اتحد المسيح بجسده مع الإنسان ليعيده ثانية إلى حضن الآب، ولهذا يطلب المسيح منا “اثبتوا في وأنا فيكم” (يو15: 4). وهذا الثبات يكون بالثبات في المحبة (راجع تفسير يو15: 9). ومن يثبت في المسيح يعود إلى حضن الآب، ويستعيد الصورة النورانية والمجد فيتحقق فيه قصد الله.

*المسيح الابن جعل من كنيسته جسده، وهو رأس هذا الجسد، وكل من يؤمن ويحيا تائبا ثابتا في المسيح يصبح عضوا في “جسد المسيح من لحمه ومن عظامه” (أف5: 30). وصار المسيح رأسا للكنيسة والملائكة “ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السموات وما على الأرض في ذاك” (أف1: 10).

المسيح الابن الذي هو في حضن الآب الذي جعل كنيسته جسدا واحدا هو رأسه، ولأن الإنسان له جسد وروح كان على الابن أن يأخذ جسدا ليتحد بالطبيعة البشرية الجسدية. وأيضا هو رأس السمائيين، ولأن السمائيين هم أرواح بلا أجساد فهم أصلا كانوا متحدين بلا انفصال. وصار يحمل الكل فيه إلى حضن الآب ، كما أراد الله منذ البدء.

*وبهذا صار الله يتمجد بإظهار مجده على الملائكة والبشر القديسين في السماء.

*وأيضا صار الله القدوس الذي لا يقبل الخطية والشر، يتمجد بإظهار عدله في إخضاع الشياطين والبشر الأشرار، وانفصالهم عنه في الظلمة الخارجية في الدينونة، وهم إختاروا بعنادهم طريق الانفصال.

*وتصمم الكنائس لشرح هذا المعنى، فالشعب يجتمع في صحن الكنيسة يصلون، والروح القدس يملأهم (وهذا المعنى تجده في المزمور 133)، والروح القدس يحول القرابين إلى جسد ودم المسيح، ويثبتنا في المسيح. والمسيح يحملنا إلى حضن الآب (الجزء الدائرى المواجه للمذبح [الموضوع عليه الجسد والدم] يسمى حضن الآب).

*عمل المسيح الابن الفدائى بتجسده أعاد الصورة التي أرادها الله منذ البدء. فعاد البشر الثابتين فيه إلى حضن الآب ويمجدوه “بكل من دعى باسمي ولمجدى خلقته وجبلته وصنعته” (إش43: 7)، فقصد الله لا يفشل وعادت الصورة التي أرادها الله، لذلك فالمسيح هو النهاية وهو البداية “أنا البداية والنهاية” (رؤ1: 8). هو البداية لأن منه بدأت الخليقة تخرج إلى الوجود في الزمن المحدد ولمجد الله، وهو النهاية لأنه هو أعاد الصورة التي أرادها الله منذ البدء، وهي أن الخليقة تمجد الله وتكون الخليقة في وحدة ومحبة على صورة خالقها “الله محبة” وهذا هو قصد الله، وهذا ما أتى المسيح متجسدا ليتممه.

*الله أراد أن تكون الخليقة في وحدة في الابن، والابن في الآب، فيكون الكل في الآب. وهكذا كانت البداية. والمسيح المتجسد أعاد هذه الصورة وهذه هي النهاية التي تحقق قصد الله. وهذه الصورة ستبقى إلى الأبد وبلا نهاية.

*أما فترة الانفصال عن الله فيقول عنه الله “لحيظة تركتك وبمراجم أبدية سأجمعك” (إش54: 7). فمهما كانت الفترة منذ سقوط آدم حتى مجيء المسيح فهي لحيظة، لأن وضعنا الثابت في المسيح هو مستمر إلى ما لا نهاية.

*”الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر” (يو1: 18). كلمة حضن تأتى بمعنى “خليج”، والخليج هو جزء من البحر داخل الأرض، والأرض تحيطه من كل جانب ما عدا فتحة متصلة بالبحر. وهذا يشير لمعنى أن الابن في الآب. والابن خرج من عند الآب ليتجسد ويدخل إلى العالم “خرجت من عند الآب” (يو16: 28)، ليدخل إلى العالم متجسدا “وأيضا متى أدخل البكر إلى العالم” (عب1: 6)، وليتحد بالإنسان ويعيده إلى حضن الآب، فيصير الإنسان في الابن وفي الآب، فالإبن في الآب.

 

الملخص

أزليا ………. الابن في حضن الآب….. أنا هو الأول والآخر.

الابن يخلق الملائكة لمجد اللهأنا هو البداية. الملائكة في الابن والابن في الآب.

جزء من الملائكة يتمرد وينفصلوا عن الله…. من إنفصل صاروا الشياطين.

        ↓
    ذهبوا للظلمة الخارجية
الابن يخلق آدم وحواء لمجد الله آدم وحواء في الابن والابن في الآب.
   
  آدم وحواء في الابن وفي الآب
آدم وحواء يسقطان فيموتا  لا شركة للنور مع الظلمة
 

 
  آدم وحواء ينفصلان عن الله
     
  الابن يتحد بالبشر……. التجسد

من يؤمن ويثبت في المسيح

 

 من لا يؤمن + من آمن ثم إرتد للشر

 

يثبت في المسيح الابن للنهاية

 

 ينفصل عن المسيح الابن

في المجيء الثاني

يذهب إلى المجد

 

يذهب إلى الظلمة الخارجية

في الابن وفي حضن الآب مع الملائكة

 

مع الشياطين

أنا هو النهاية … قصد الله الأزلي يتحقق، الملائكة والأبرار يتمجد الله فيهم بأن يكونوا معه في المجد. والشياطين والأشرار يتمجد الله فيهم بإظهار قداسته في رفض الشر.

 

ماذا طلب السيد المسيح من الآب حتى الآن ليطلب الوحدة في الآيات التالية؟

(آية1):- أن ينصره الآب في معركة الصليب ليتم الفداء.

(آية2):- الفداء كان ليكون لنا حياة أبدية، أتى المسيح ليعطيها لنا.

(آية3): من حصل على الحياة الأبدية تتفتح حواسه الروحية فيعرف الله.

(آية4، 5):- المسيح يطلب أن يتمجد بالجسد بنفس مجد لاهوته الأزلي. وهذا الطلب هو لحساب البشر كما نفهم من آية (22) ولكن كيف يتم هذا؟ هذا سنراه فيما يلي:

(آية6):- لكل من ينفذ وصايا الله سيعرف المسيح، والمسيح يجعله جزءًا من جسد الكنيسة. والكنيسة هي جسد المسيح.

(آية7، 8):-هذا لمن يؤمن بالمسيح (وهم التلاميذ الذين آمنوا بالمسيح حتى الآن).

(آية9):- شفاعة المسيح هي لمن آمن. فشفاعة المسيح يستفيد بها من آمن فقط.

(آية10):- المسيح يجمع كنيسته في جسده ليقدم بكنيسته الخضوع للآب، الصورة التي يفرح بها الآب وهي المحبة. الآب يفيض بمحبته في صورة عطايا وبركات. والكنيسة تظهر محبتها في خضوعها للآب (1كو28:15).

(آيات11-13):-هناك حماية إلهية لمن ينتمي إلى جسد المسيح فالآب يقدس والابن يقدس. ولكن دون إجبار، لكن من يرفض فهو ابن للهلاك. وما يفرح المسيح خلاص نفوس المؤمنين، بل هذا يفرح المؤمنين أن يعرفوا أن هناك حماية إلهية لهم في هذا العالم.

(آيات14-16):- كما أبغض العالم المسيح سيبغض كنيسته. ولكن لاحظ فالمسيح قبل أن يخبرنا بغضب العالم علينا أخبرنا بالحماية الإلهية لكنيسته (آيات11-13) والمسيح يكلمنا في هذه الآيات عن الصليب قبل أن يتكلم عن المجد الذي لنا، فالصليب مجد على الأرض وطريق المجد المعلن في السماء.

(آية17):- الآب يقدس المؤمنين ليعيشوا في الحق ويشهدوا للحق وسط العالم الذي يبغضهم، والشهادة للحق تجعلهم نورًا للعالم، فيهتدي العالم ويؤمن بالمسيح.

(آية18):- هذا هو دور الكنيسة، أن تكمل عمل المسيح فتكون نورًا للعالم وملحًا للأرض، تشهد للحق وسط العالم الباطل. فالله يريد أن العالم كله يخلص (1تي4:2) ولقد لخص بولس ما سبق فقال نحن عمله (= كانوا لك)(وأعطيتهم لي)= مخلوقين في المسيح يسوع. لأعمال صالحة (=أرسلتهم للعالم) (أف10:2)

(آية19):- المسيح يشجع الكنيسة وهو يخبرها بهذه الأخبار بأنه هو نفسه سيموت كذبيحة عن العالم= أقدس أنا ذاتي. وهو بدم صليبه سيقدس كنيسته طوال الأيام ليكون شعبه مقدسًا في الحق.

(آية20):- كل من يؤمن يستفيد بشفاعة المسيح الكفارية.

(آيات21-23):- هنا نرى طلب المسيح أن نكون واحدًا فهو كما رأينا يكون كنيسته أي جسده من أعضاء هي نحن. والوحدة بيننا ستكون بأن يكون كلٌ منا جزء من جسده، والثبات فيه سيكون بالمحبة، فمن يثبت في محبته سيثبت فيه “كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا، اثبتوا في محبتي” (يو9:15). 

كما أحبني الآب= كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك.

ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا= أنا في أبي وأنتم فيَّ وأنا فيكم (يو20:14)

أنا في أبي= هي وحدة لاهوتية بين الآب والابن.

أنتم فيّ= صرتم جزءًا من جسدي= هؤلاء قال عنهم “الذين أعطيتني”

أنا فيكم= صارت فينا حياة المسيح.

فنحن نتحد بالمسيح بالجسد فنصير واحدًا فيه ولنا حياته.

ولأن الابن يتحد ناسوته بلاهوته قال الرسول “حل فيه كل ملء اللاهوت” (كو9:2) ولأننا اتحدنا بالابن “صرنا مملوئين فيه” (كو10:2).

مملوئين براً وقداسة وبركات روحية ومادية (خبزنا كفافنا) ومحبة وسلطان على الخطية وإبليس. ولنا حياة أبدية في فرح أبدى نأخذ عربونه الآن ولنا مجد أبدى.. وهذه قال عنها القديس يوحنا “أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع” (1يو3:1) لقد حملنا المسيح إلى حضن أبيه بعد أن وحدنا فيه.

وقيل عن الابن أنه في “حضن أبيه” (يو18:1) تعبيراً عن الوحدة. والوحدة مع الآب هي الدخول في شركة حب معه، يفيض علينا بمحبته ونعمته ونحن إعلاناً عن محبتنا نخضع له، وهذه هي الصورة التي عبر عنها بولس الرسول بقوله “حينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع” (1كو28:15) فهو رأس الكنيسة أتى بكنيسته خاضعة لأبيه. وَحَّدَها كما يريد الآب وصيرها خاضعة له كما يريد أيضاً.

أنا فيهم= أعطيتهم حياتي وأنت فيَّ = فقد حلَّ في جسدي كل ملء اللاهوت. وبهذه القوة اللاهوتية التي في جسدي أحفظهم في وحدة، ككنيسة واحدة لها مجد أبدي.

(آية24):- هذه الكنيسة ستكون حيث مسيحها في مجده.

(آية25-26): العالم بسبب خطيته انفصل عن الآب البار ولم يعد يراه ولا يرى مجده، والمسيح أتى ليبرر العالم فيعود لمعرفة الآب ورؤية الآب ومجد السماء. وهذا لن يكون إلاّ بالحب الذي هو طبيعة الله. وهذا المجد للكنيسة أبدي= أكون أنا فيهم فالمسيح لن يعود يموت (رو9:6). وبالتالي كنيسته التي تحيا بحياته لن تموت للأبد.

المسيح يطلب الوحدة بعد أن سبق وأعلن أنهم آمنوا به ثم طلب أن يحفظهم الآب في اسمه القدوس في العالم. وطلب بعد ذلك أن يقدسهم في الحق. والآن يطلب أن يبلغوا الوحدة. فمن يؤمن تكون الخطوة التالية له أن يحفظه الآب في اسمه القدوس. ومن يُحْفَظْ في اسم الآب يؤهل للتقديس في الحق. ومن يتقدس في الحق يؤهل للوحدة. ونلاحظ أنه بالخطية تفتتت الوحدة بين الإنسان، وفقد وحدانيته التي كان يتراءى بها في حضرة الله. والآن المسيح يطلب لتعود لكنيسته صورة الوحدة (أف11:4-13). الله خلق الإنسان في وحدة فالبشرية كلها جسد واحد هو جسد آدم. وكان المفروض أن تكون في وحدة؟ وحدة محبة الجسد الواحد. ولكن بالخطية تبددت الوحدة وقام قايين وقتل أخاه هابيل. وجاء المسيح ليعيد هذه الوحدة. ولاحظ أن آيات الوحدة هذه هي آخر كلمات يقولها المسيح قبل صلبه، والمعنى.. أنا أتيت لأجل هذا، لأعيد الوحدة المفقودة. الوحدانية التي هي هدف الخلقة والمحبة لله وللناس. وهذا ما تحقق في الكنيسة الأولى (أع44:2 + 32:4). وهذا يكون بسبب الروح القدس الذي يسكب المحبة في قلوبنا (رو5:5) محبة الله والناس. أما كل حب خارج المسيح فهو نفعي أو شهواني. ولكن الحب في المسيح فهو بذل على شكل حب المسيح لنا. وهذه الوحدة درجة أعلى من الإيمان. فالمسيح يطلب عن التلاميذ، الذي سبق وأعلن يقينية إيمانهم، وهي وحدة على صورة وحدة الآب والابن، وحدة بالحب. وبالتأمل في (أف11:4-13) نرى أن الرسول بولس يتكلم عن الكنيسة جسد المسيح، وكل واحد من أعضاء الكنيسة الواحدة صار عضوا في جسد المسيح الواحد، ولكل عضو مواهبه، فيتكامل الجميع وتبلغ الكنيسة ككل في النهاية إلى صورة المسيح الكاملة التي يُعَبِّر عنها بولس الرسول هكذا “إلى قياس قامة ملء المسيح” (أف13:4) ولكن علينا أن نجتهد في سبيل ذلك (أف3:4-5).

الكنيسة عروس المسيح هي كنيسة واحدة وحيدة مقدسة جامعة رسولية.

تبدأ هذه الآيات بطلب الرب ليكون الجميع واحدا فهذا ما أراده الآب منذ البدء حين خلق آدم واحد، وهذه الوحدة تكون بالحب على نفس نمط الوحدة بين الآب والابن كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك ، والآن ما هو الهدف النهائى ليكونوا هم أيضًا واحدا فينا وهذا كان هدف الله وقصد الله منذ البدء.

وإتحادنا بالمسيح هو الطريق للوحدة بيننا وبين بعضنا ثم هو الطريق للوحدة مع الآب. ولاحظ أن الطريق لنكون واحداً في الله، أنه يسبق هذا وحدتنا. والطريق لوحدتنا أن نثبت في المسيح فثباتنا في المسيح يملأنا بالروح القدس الذي يسكب محبة الله فينا ومن ثماره المحبة، إذاً من يجاهد في سبيل هذه المحبة يعينه الروح ويعطيها له فيزداد ثباته في الابن، فلن يثبت في الابن إلا من له محبة للإخوة، وكل من له محبة لله وللإخوة يثبتوا كلهم كأعضاء في جسد المسيح، والمسيح الابن هو في الآب وبهذا يتحقق طلب المسيح = ليكونوا واحداً فينا= فلا يصلح أن نكون واحداً فقط، بل المهم أن نكون واحداً في المسيح وفي الآب. فهناك من إتحدوا في الشر. ولكن من الذي يتحد بالمسيح سوى من أحب إخوته بل وأعدائه، فمن يجاهد ليحب إخوته يثبت في المسيح وهذا يبدأ بالمعمودية. وبلوغ الكنيسة حالة الوحدة في ذاتها يؤهلها للإتحاد بالمسيح وبالآب، لذلك بدأت طلبة المسيح بأن يكون الجميع واحداً كعطية من عند الآب يهبها للكنيسة بسكب مواهب الروح في أعضائها. وهذا لمن يجاهد أن يحب إخوته. وبعد هذا يؤهلوا أن يكونوا واحداً في الابن والآب. فالمسيح وحدنا فيه بالروح القدس بالمعمودية. ولكن من يجاهد ليحيا في محبة مع الآخرين يثبت في المسيح. وكل من يفعل هذا يحيا في وحدة. وعن طريق وحدتنا مع المسيح أيضاً نتحد مع الآب. والمسيح بروحه القدوس يوحد مثل هؤلاء ويجعلهم واحداً. فالجماعة لا تتحد إلاّ بالوجود في الآب والابن. وهذه الوحدة وهذه المحبة هي التي تؤثر في العالم إذ يرى العالم هذه المحبة= ليؤمن العالم أنك أرسلتني.

كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك.. المقصود هو المشابهة وليس المساواة. فالمسيح يضع الوحدة بينه وبين الآب كنموذج ليكون لنا الوحدة في المحبة، فالآب واحد مع الابن بالمحبة. وهذه العبارة “أنت فيَّ وأنا فيك” تشير لكيان واحد ذاتي، فالآب كله للإبن والابن كله للآب. وكل ما لأحدهم هو للآخر “كل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي” ومن الآيتين نفهم طبيعة الوحدة بين الآب والابن. وكيف ينطبق هذا علينا؟.. من سألك فأعطه إذاً هي محبة باذلة(مت42:5 + أع44:2-46، 32:4).

وإتحادنا معاً لا يلغي شخصياتنا بل كما الفرقة الموسيقية تصدر لحناً واحداً. وهكذا للأقانيم الثلاثة فلكل أقنوم عمله. ونحن لكل منّا دوره في الكنيسة ونتكامل معاً.

وإذا فهمنا أن المطلوب أن يكون كل واحد لا لنفسه بل للآخرين نأتي لمفهوم المحبة التي يجب أن تكون بيننا والتي هي صورة للمحبة الكائنة بين الآب والابن والتي هي صفة جوهرية من صميم طبيعة الله فالله محبة. وهذه المحبة من الابن للآب ظهرت في طاعته حتى الصليب وراجع (يو31:14 + 35:3 + 9:15 + 24:17، 26) لنرى حب الآب للإبن والابن للآب. وهذا الحب الذي بين الآب والابن إنسكب كعطية على البشر (رو5:5). وهذه المحبة فائقة للطبيعة البشرية وبها يمكننا أن نحب أعدائنا، بل نقدم أنفسنا ذبائح عن المسيح وعن الآخرين (يو12:15 + 1يو16:3 + 1يو7:4، 8). وهذه المحبة دليل وحدتنا مع الله وحضور الله في روح الإنسان وقلبه وهي إعلان عن الإيمان القوي الفعال. ومن يثبت في المحبة يثبت في الله، والله فيه (1يو16:4). والمحبة هي هبة عظيمة مجانية ولكننا نأخذها لنعطيها. وعطاؤها هو بذل النفس وإنكارها حتى الموت. ومن لا يتشجع ويعطي تسحب منه ويصبح بلا محبة، غريباً عن صليب المسيح (1يو14:3). إذاً فالوحدة التي وهب لنا الله أن نبلغها في المسيح في الله يجب أن تكون ضحيتها الأنا وإذا ماتت الأنا فسأحب أعدائي (غل20:2 + أع24:20). لكن لنفهم أن وحدانية الآب والابن هي وحدانية تساوي في الجوهر. فلهما وحدة كيان وجوهر وذات وكرامة وطبيعة. أما وحدانيتي مع الله فهي شيء مكتسب برحمة الله ونعمته. وليس للتساوي. هو يكمل عجزي ونقصي. وفي هذه الوحدة يعطيني حياته فأقول “لي الحياة هي المسيح” (في21:1 + غل20:2) ويعطيني إمكانياته فأقول “أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني” (في13:4) وأعطيه حياتي وكل ما لي قائلاً “أنا لحبيبي وحبيبي لي” (نش3:6).

أنا فيهم وأنت فيَّ= لم يقل المسيح أنت فيَّ وأنت فيهم لأن حلول الآب في المسيح يختلف عن حلوله في المؤمنين. ولم يقل المسيح هم فيك وأنا فيك لأن ثبوت المسيح في الآب غير ثبوت المؤمنين فيه (بنفس المفهوم نفهم قول المسيح أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم” 17:20) وبنفس الطريقة نفهم أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني فهذه لا تعني المساواة بيننا وبينه فهو ابن للآب بطبيعته وله كل المجد الذي للآب، أمّا نحن فصرنا أبناء بالتبني وتنعكس صورة مجده علينا. والوحدة بين الآب والابن قائمة على أساس التساوي بينهما فهم واحد في الجوهر. أمّا الإنسان فكل واحد مختلف عن الآخر، وكل البشر هم لا شيء أمام الله. ولكن وحدتنا مع الله تعني انسكاب قوته فينا ليعيد تشكيلنا لنصير على صورته، وتعمل هذه القوة فينا فتلغي عداواتنا وانقساماتنا ونتقدس، ويبدأ نور معرفة المسيح ينساب داخلنا فتستعلن لنا الوحدة الكائنة في المسيح والآب بقوة تدخلنا في الإحساس والوجود الفعلي في حضرة الآب والابن. وهكذا نتحد بسبب الروح الواحد الذي نستقي منه (1كو13:12) والجسد الواحد الذي نغتذي عليه (1كو16:10، 17).

والإتحاد مع الله هو إتحاد كل القوة والقداسة والحق باللاشئ، بالإنسان الميت، ليقدس ويحيي هذا المائت. كما تقول ثيؤطوكية الجمعة “أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له.. ” هو إتحاد لتغطية النقص والعجز من ملئه (كو9:2، 10).

وحلول كل ملء اللاهوت في المسيح جسدياً تعني أن الابن قَبْل التجسد هو الله، وأنه أي الابن بالتجسد كان له ملء اللاهوت. وملء اللاهوت جسدياً يعني أن الابن صار جسداً منظوراً ملموساً لنعرف الله ونسمعه وندركه (1يو1:1-3). فملء اللاهوت جسدياً هو ملء الله حل في جسد المسيح وهذا جعله في متناول أخذنا (يو16:1). نأخذ من ملئه كل احتياجاتنا من القداسة والحياة الأبدية. ونأخذ وداعة ونور وحق وخبز حقيقي وماء حياة.. وهذا ما عناه المسيح بقوله “أنا فيهم.. وأنت فيَّ”. فهذا إتحاد غير منفصم. بل صار لنا فكر المسيح (1كو30:1 + 16:2). أنا فيهم= حياتي فيهم. أنت فيّ= أنا في الآب والآب فيّ فأنا والآب واحد.

لقد وضع المسيح بصليبه أسس الإتحاد المقدس. إن وحدة الآب مع المسيح تقوم على التساوي كلياً وفي كل شيء. هي وحدة ذات وكرامة ومجد وكمال مطلق، وحدة طبيعة جوهرية، أمّا الوحدة التي لنا في المسيح فهي وحدة نعمة ورحمة وتفضل وهبة يأخذها من يؤمن ويحفظ كلامه.

 

 الوحدة بين المسيح وبين الإنسان

ليكونوا واحداً= بعمل المسيح والآب والروح القدس يصير المؤمنين واحداً. لكن المؤمنين وحدهم لا يمكنهم أن يتحدوا. ليكونوا مكمَّلين إلى واحد= هنا إرتقاء وسمو بالوحدة التي يطلبها لنا المسيح، فهي وحدة أولًاً بيننا ثم هي بيننا وبينه وبين الآب، وأخيراً تكميلها إلى الكمال أي نصير مملوئين فيه (يو14:1، 16 + كو10:2 + أف14:3-20).

أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً= هو مجد ناشئ عن حياة المسيح فينا وإتحاد جسده بجسدنا.. المسيح فيكم رجاء المجد (عب10:2 + كو27:1). وهذا ما يعطينا البنوة لله بالمسيح، ونصير كلنا واحداً. وهو مجد حلول الروح القدس فينا يوزع على كل واحد مواهبه. والمجد الذي نأخذه الآن هو عربون المجد العتيد أن يستعلن فينا (رو18:8). حلول الله فينا هو المجد ولكنه الآن غير مرئي. أما في السماء فسيكون مرئياً. هذا المجد أعطاه الآب للإبن في الجسد. وهذا المجد الذي صار للإبن بالجسد يكون لنا بإتحادنا به. هذا المجد الذي لنا غير مرئى الآن، أما في السماء فسيكون هذا المجد ظاهراً فنكون مثله (1يو2:3) نحن سيكون لنا جسد ممجد، ولكن هذا سيكون إنعكاس مجد المسيح علينا، فنحن ليس لنا طبيعة المجد، بل لأننا سنرى المسيح كما هو فينعكس مجده علينا، وكل حسب درجته “فإن نجم يمتاز عن نجم في السماء” (1كو15: 41). عموماً من يصير على صورة المسيح على الأرض (غل19:4) يصير مثله في السماء (1يو2:3). المجد الذي أعطاه المسيح لنا هو سبب وحدة الكنيسة. وذلك لأن الشقاق والانقسامات بين الناس سببها صراعهم على أمجاد هذا العالم الباطل أي الأمجاد الوهمية. لكن من يصدق أن المسيح أعطاه كل هذا المجد سيبيع اللآلئ العادية (أمجاد العالم) أي تصير عنده بلا قيمة، إذ قد حصل على اللؤلؤة كثيرة الثمن (أمجاد السماء) التي سيحصل عليها بل حصل عليها بإتحاده بالمسيح. ومن حصل على هذا المجد الذي نحن فيه الآن وسوف يستعلن فينا (رو18:8) لن يتصارع على أمجاد هذا العالم. والروح القدس الذي فيه سيعطيه محبة لكل الناس حتى أعدائه. وبالمحبة نتحد معاً بل نتحد مع الله، فالله طبيعته المحبة، ومن هو مملوء محبة يستطيع أن يتحد بالله فالله محبة.

وإتحاد الآب والابن هو بالمحبة وقد تم التعبير عن هذا الإتحاد بتسمية الآب بالمحب وتسمية الابن بالمحبوب (أف6:1) والروح القدس هو روح المحبة فالروح القدس ينقل حب الله الآب المحب إلى الابن المحبوب. وبإتحادنا بالإبن بالمحبة تنتقل محبة الآب أيضاً إلينا أي نثبت فيه (رو5: 5).

الآية (22) نجد فيها الرب يقنعنا بأن نحتقر العالم إذ لنا هذا المجد الذي يَعِدْنا به السيد فنتحد. أما في آية (11) نجد قوة تحفظ هذه الوحدة. ولنلاحظ أن إنتقال محبة الآب لنا هو شركتنا ووحدتنا مع الآب.

المجد الذي أعطيتني= المسيح بلاهوته لا يقول هذا فهو له المجد منذ الأزل. ولكن هذه تعني المجد الذي ناله بجسده لحساب الإنسان، وهذا ما كان المسيح يطلبه في الآيات (4:17، 5). وتم التعبير عن مجد المسيح بالجسد في قانون الإيمان بقولنا جلس عن يمين الآب (يو39:7 + 31:13، 32).

وهذا المجد يتحول للإنسان إذا قبل الصليب مع المسيح (لو28:22-30 + رو17:8، 18 + 1بط14:4) فمجد المسيح بجسده بدأ بالصليب. وكما أن الخطية شتتت الوحدة التي للإنسان، فالمسيح بجسده الممزق على الصليب أعاد وحدة الكنيسة وبجسده المكسور في الإفخارستيا يوحدنا به. هكذا صار الصليب هو المجد وروح المجد وإكليل المجد الذي وُهِبَ للإنسان أن يتقلده مثل المسيح. ونلاحظ في (عب10:2 + 9:5) أن المسيح تَكَمَّلَ بالآلام. وهنا نسمع ليكونوا مكملين إلى واحد ومن هذا نفهم أن كمال الوحدة يكون في احتمال الكنيسة للآلام والصليب، وأن من يحتمل الألم يكون له مجد. فنحن باحتمالنا للألم يكون لنا شركة آلام وحب مع المسيح وبالتالي نتمجد كما تمجد. إذاً نحن نتوحد مع المسيح بشركة آلامه، وقبل هذا بالإيمان، والحفظ في اسمه والتقديس في الحق. ليعلم العالم أنك أرسلتني= حينما يرانا العالم في محبة ووحدة يؤمن بالمسيح إذ يرى التغيير الكبير في حياة أولاد الله. وبعد صعود المسيح ما عاد الناس يرونه، لكنهم يرون كنيسته، فإن كانوا واحداً في محبة سيؤمنوا بأن المسيح كان من عند الله. وهذه المحبة ستشهد أيضاً أننا محبوبين من اللهوأحببتهم كما أحببتني= فنحن محبوبين كما أن الابن محبوب عند الآب، لأننا في المسيح. والعالم سيدرك هذا. وحينما يرانا العالم نحتمل الآلام في فرح، محبة في الله، ويرى وحدتنا يكون هذا شاهداً لصدق رسالة المسيح. فأكبر عثرة تعطل الإيمان هي عدم المحبة بين المؤمنين. وهذا ما كان سبب الإيمان في الكنيسة الأولى، أن غير المؤمنين كانوا يرون احتمال الشهداء للموت والآلام بفرح، ومحبتهم لله ولبعضهم البعض، وقبول الموت بفرح نابع من انسكاب محبة الله فيهم. أحببتهم كما أحببتني الآب يحبنا بنفس قدر محبته للإبن. وهذه محبة لا نهائية ولا توصف. والمسيح يعلن هذا لندرك مدى هذا الحب. وللأسف فمن يهتم وسط هذا العالم المادي.. !! ونلاحظ أننا موضع سرور الآب، فهو يحبنا في ابنه المتحد بنا.

المجد الذي أعطيتني= المجد الذي ناله المسيح بالجسد هو نفس مجد لاهوته الذي كان له منذ الأزل وهو نفس مجد الآب. وهذا تم تصويره في (رؤ21:3) “كما غلبت أنا أيضاً وجلست مع أبي في عرشه”. فالجلوس في عرش الآب يعني أن المسيح بالجسد صار له نفس مجد الآب، كما نقول في قانون الإيمان (جلس عن يمين أبيه). وأنا قد أعطيتهم المجد= كل منا يعكس جزء من مجد الابن بقدر ما يستحق وبقدر جهاده، “ونجم يمتاز عن نجم في المجد” (1كو41:15). وهذا تم التعبير عنه “من يغلب يجلس معي في عرشي”. لكن قطعاً لن يكون لنا نفس مجد الابن. فإذا كان مجد إنسان قديس نقى يمتاز عن مجد إنسان آخر أقل منه نقاء، فكم وكم يكون مجد أي إنسان مهما بلغت نقاوته بالنسبة لمجد الابن.

 

آية (24): “أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم.”

أريد= ولأن الآب والابن واحد فإرادة الابن هي إعلان عن إرادة الآب. المسيح هنا يقول أريد وهي أعمق بكثير من أسأل (آية9). وماذا يريد؟ أن نكون معه لنرى مجده ونفرح. هل هناك حب أعظم من هذا! أريد= هي إعلان عن إرادة الآب، وهي أيضًا نتيجة شفاعة الابن وعمله الفدائي عنا.

يكونون معي= هذا هو مجد الوحدة وإكليلها الفاخر (يو26:12). فمن يتبع المسيح في الصليب سيتبعه في المجد (رؤ4:14، 5 + يو3:14 + 36:13 + رؤ21:3). والقديس يوحنا في (يو14:1) يقول رأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب. فهذا المجد الذي استطاع أن يراه هو كل ما أمكنه إدراكه من خلال حجاب الجسد والمسيح في حالة إخلاء. كما من خلال مرآة أو لغز (1كو12:13). ولكن المسيح هنا يتكلم عن رؤية مجده وهو في كامل استعلان لاهوته في السماء مع الآب ولا يحجز الجسد منها شيئاً “لأننا سنراه كما هو” (1يو2:3). وقوله أنا فيكم وأنتم فيَّ فهذا عن وجودنا في العالم فنحن نكون فيه الآن بالإيمان فقط (أف17:3). فالوحدة بالحلول وبسر الإفخارستيا (يو56:6) يُعوِّقها الجسد ويُحِّدْ من فاعليتها واستعلانها وينقص من بهجتها بسبب عجز الجسد وقصوره ورغباته المعاكسة. ولكن حين نتخلص من هذا الجسد الفاسد سنتواجد مع المسيح في حالة رؤية كاملة واستعلان كامل ولكن المسيح لم يخبرنا عمّا سنراه فنحن لا يمكن أن نتخيله الآن (يو12:3 + 2كو4:12 + 1كو9:2) وقارن مع (1يو2:3 + كو4:3 + في21:3 + 2كو18:3) لنرى جسد المجد الذي سنأخذه ولاحظ عمق محبة المسيح لنا، فبينما هو مقبل على الصليب نجده مشغولاً بأن نكون معه في المجد.

لينظروا مجدي= مجد الكلمة المتجسد (في8:2-11) والذي إكتسبه بطاعته لله الآب (عب9:2). فنحن حين ننظر مجده 1) ينعكس مجده علينا فنتمجد. 2) يكمل فرحنا. 3) يفرح بنا الله فهذا كان قصده منذ البدء، فالله يفرح إذ صار أولاده في مجد وفي فرح.

لأنك أحببتني= ولقد إمتد حب الله الآب لإبنه ليشمل كل الذين آمنوا به وقبلوه (يو16:3). لقد نلنا بالتبني عينة من حب الآب لإبنه لنحيا في مجال حب الله الأزلي لإبنه. فالمسيح إذاً يطلب الوحدة بيننا وبين بعضنا البعض وبيننا وبين الله حتى نضمن أن نعاين هذا المجد للأبد إذا كنا ثابتين فيه بالحب. ونتمتع بالحضرة الإلهية. وإذا رأيناه نصير مثله (1يو2:3) إذاً فالمسيح طلب [1] الحفظ [2] التقديس [3] الوحدة.. والهدف المجد للمؤمنين برؤية مكشوفة.

لأنك أحببتني= والآن أحببتهم فهم صاروا جسدي= الذين أعطيتني.

 

آية (25): “أيها الآب البار أن العالم لم يعرفك أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا انك أنت أرسلتني.”

أيها الآب البار= هذه هي المرة الوحيدة التي إستعمل المسيح فيها هذا اللقب للآب وكما قال سابقاً أيها الآب القدوس لأن طلبه كان أن يتقدس تلاميذه. قال هنا عن الآب أنه بار:

فسبب كل ما حدث للبشر من آلام وموت راجع لانفصالهم عن الآب البار، فالخطية تفصل عن الله القدوس البار.

المسيح أتي ليبرر المؤمنين فيسلكوا في بر “لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه” (2كو21:5). ومن يتبرر يثبت في الابن فيحمله الابن إلى حضن الآب البار.

ليشير لبر الله وعدله وأنه سيعطي أكاليل البر لمن آمنوا به ويمتعهم بالمجد. فكلمة بار تترجم عادل (1يو9:1). والله في بره وعدله وقداسته لا يطيق الخطية ولكنه في رحمته ومحبته الغافرة أرسل ابنه ليكون سبباً في غفران خطايا المؤمنين (1يو9:1).

والمسيح هنا يوجه هذا اللقب للآب بعد أن أنهى صلاته الشفاعية كأنه يشير أنه طلب كل طلباته في هذه الصلاة لأنه:

يعرف بر الآب الذي لا يعرفه سواه فهو وحده الذي يعرف قداسته وعدله ومحبته ورحمته، ولذلك فهو يتوجه إلى عدالة الآب وبره التي بها غفر للإنسان عن طريق صليب ابنه، وهو يُسمِع تلاميذه ما يقول ليعرفوا محبة الآب لهم وتدبيره، الذي جذبهم من العالم فعرفوا المسيح وآمنوا به فصاروا بنين. وإذ صاروا بنين حق لهم حب الآب كأبناء ولن يكون نصيبهم كنصيب العالم الذي لم يعرف الله بل جحده= لم يعرفك= أي نتيجة خطاياهم إنفصلوا عنك فأنت بارفكيف يتحد العالم الخاطئ بالآب البار، كيف يكون هناك شركة للنور مع الظلمة. بالإضافة لأنهم هم رفضوا ما أعلنه المسيح فحرموا من مجده. يقولها المسيح في أسى عليهم.

أنا عرفتك= لا أحد يعرف الآب إلاّ الابن وهذا يعنى إتحاد الآب والابن. ولاحظ أنه لا يوجد إنسان قادر أن يتبرر وحده، لهذا أتى المسيح ليكمل كل بر، فيبرر من يؤمن به ويتحد به ، وكل من يجاهد ليسلك في بر يثبت في المسيح، ويبرره المسيح فيعرف الآب ويثبت فيه وفي محبته.

طريق معرفة الآب هو أن نسلك في بر. ولأن التلاميذ سلكوا في بر فهم عرفوا الآب وعرفوا الابن وبررهم الابن فعرفوا الآب معرفة أعمق.

هؤلاء عرفوا= أي التلاميذ، وهؤلاء قبلوا الحق المعلن في المسيح فإستمتعوا بمجد المسيح وإتحدوا به فكانت لهم حياة أبدية (يو3:17). هنا المسيح يعطى تلاميذه إطمئنان أنهم تبرروا بإيمانهم به

 

آية (26): “وعرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم.”

عرفتهم إسمك= أي أن المسيح إستعلن الآب وقوته ومحبته وقصده تجاه البشر. وإسم الآب أي محبته فالله محبة والمسيح إستعلنها على الصليب في أعمق معانيها. ومن أدرك محبة الآب وعرفه رفض محبة العالم الزائف الفاني. وسأعرفهم= التعريف باسم الله الآب عمل بدأه الابن بتجسده وصليبه وسيمتد للأبدية فالله لا يُدْرَكْ كماله، وهذا ما فعله المسيح بأن أرسل الروح القدس ليرشد إلى جميع الحق (يو13:16) ويسكب محبة الله في قلوبنا (رو5:5). وكل من بدأ يعرف اسم الله هنا سيكمل له المسيح المعرفة في الأبدية ومن رفض الصليب هنا ورفض أن يتعرف على اسم الآب لن يكون له نصيب أبدي.. ومن سكن اسم الآب في قلبه في تقوى فقد سكن الحب الأبوي فيه بضمان سكني المسيح. إذاً هي معرفة مستمرة متنامية، وشركة متزايدة بعمل الروح القدسليكون فيهم الحب= كلما نعرف ربنا بالأكثر نزداد ثباتا فيه، وامتلاء من ثمار الروح، فنمتلئ حباً له وللناس. فالعلاقة الحية تتم بالمحبة. وأكون أنا فيهم= هو القيامة والحياة (يو25:11) فحينما يكون فينا تكون لنا حياة أبدية. ونحن لن نذوق الحب الأبوي بدون المسيح (يو27:16) فالحب الجارف في قلب الآب استطاع المسيح أن يحوله نحو قلوبنا ولكي يضمن انسكابه فينا أمّن على ذلك بوجوده الدائم (مت20:28). وصحيح أن المسيح سيفارق تلاميذه بالجسد ولكنه سيظل فيهم بالروح للأبد، لن نراه بعيوننا المادية ولكن نراه بعيون قلوبنا التي سوف تشعر وتتيقن من وجوده. ومن يعرف المسيح حسب الجسد فلن يعرفه بعد (2كو16:5، 17). لذلك فشغل المسيحي الدائم أن يحوز على حلول المسيح في القلب (أف16:3-18). ولكن لاحظ ترتيب الآية. فالمسيح بدأ عملاً هو أن يعرفنا بالآب وسيكمله بالروح القدس وكلما إزددنا معرفة نزداد حباً. والهدف النهائي أن يسكن المسيح فينا ويتحد بنا فهذا هو المجد الذي أراده للبشر والحياة الأبدية لهم في المجد. هذا هو هدف التجسد، أن نكون في المسيح ويكون هو فينا ويعيدنا إلى حضن الآب. وهذا كان موضع سرور الآب الذي قال “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”. والصليب كان لغفران خطايانا فنتطهر ونؤهل لسكنى المسيح فينا.

والعجيب أن الآيات التالية هي مؤامرة يهوذا والكتبة والفريسيين والكهنة ورؤساءهم والجند والرومان ضد من أحبهم كل هذا الحب!! فبينما كان المسيح يتكلم بهذا كانت المؤامرة تتم في الخارج. قارن مع (يو2:18).

ملخص إصحاحات الباراقليط

كما رأينا في (17 : 21) الهدف الذي يهدف إليه المسيح أن يعيد صورة الوحدة التي قصدها الله من الخلقة “ليكونوا هم أيضًا واحدا فينا”. وكان هذا قصد الله منذ البدء، فالله خلق آدم واحد ومنه جاءت كل الخليقة. وبالخطية فسدت الصورة وإنقسمت هذه الوحدة بل قتل قايين أخيه، لضياع المحبة من الإنسان نتيجة الانفصال عن الله بسبب الخطية (والمحبة هي صورة الله). وجاء المسيح ليصير هو الطريق (14 : 6) ليحقق قصد االله الأزلي:-

  • تجسد المسيح ليتحد بالإنسان.
  • بالمعمودية تغفر خطايانا ونثبت في المسيح. فنصير كلنا كأبناء لله أعضاء ثابتة في جسد المسيح ابن الله كأغصان في كرمة (15 : 1). وكان غسيل الأرجل (13 : 5) إشارة لهذا التطهير، فلا يمكن الثبات في جسد المسيح القدوس دون أن نتطهر، ودم المسيح المطهر هو ما يعطى المعمودية قوتها على التطهير والميلاد الجديد.
  • حتى نظل ثابتين في جسد المسيح القدوس، يوصينا رب المجد بالآتى:- 1) المحبة (15 : 9).        2) حفظ الوصية (15 : 10).     3) المحبة الباذلة للجميع (15 : 12 ، 13).    4) العالم سيبغضنا لأنه يبغض المسيح (15 : 18). ولكن كما أحب المسيح العالم علينا أن نحب الجميع حتى هؤلاء الذين يبغضوننا.
  • وكيف يمكننا أن ننفذ هذا؟ نحن كبشر غير قادرين على هذا!! هنا يعد المسيح بإرسال الروح القدس (15 : 26) الذي يعطينا القوة لتنفيذ الوصايا ويعزينا، فنحتمل إضطهاد العالم الذي يصل إلى أن “كل من يقتلنا أنه يظن أنه يقدم خدمة لله” (16 : 2).
  • والروح القدس يثبتنا في المسيح بأنه يبكتنا (16 : 8) فنرجع للمسيح فنثبت فيه. والروح يرشدنا لجميع الحق فلا نضل (16 : 13).
  • والروح القدس يخبرنا عن المسيح فنحبه لأننا حين نعرفه نكتشف أنه يستحق كل الحب، بل يكون سبب الفرح الحقيقي حين نكتشف كم يحبنا وتدبيره لنا، بل أنه هو صار لنا، وأعطانا نفسه “أنا لحبيبى وحبيبى لي”.
  • ولكن يا رب مع كل هذا الحب لماذا تسمح بالألم؟ يقول الرب ليخرج منك إنسانا جديدا يشبهنى هنا على الأرض ويكون مثلى في السماء (16 : 21 + غل4 : 19 + 1يو3 : 2). ومن يفهم هذا سيقول مع المرنم “جربنى يا رب وإمتحنى، نقى قلبي وكليتىَّ” (مز26). وهل سيتركنى المسيح في التجربة وحدى؟ أبداً بل هو يبحث عنى ليحول حزنى إلى فرح ينتصر على التجربة (16 : 22) فأعبر التجربة في فرح. وهذا هو مفهوم النصرة في المسيحية. أما المبتدئ روحيا فيظن أن التجربة هي تخلى من الله، بينما أن هدف التجربة هو التنقية وخروج الإنسان الداخلى الجديد. ومع إزدياد النقاوة يزداد الثبات في المسيح. ويتحقق قصد الله.
  • وقصد الله من الخليقة كما قال في (إش43 : 7) “بكل من دعي باسمي ولمجدي خلقته وجبلته وصنعته”. فالخليقة خلقها الله لتمجده وتعكس مجده. ومع الخطية ما عدنا نعكس مجد الله. وتجسد المسيح بجسد كجسدنا وشابهنا في كل شيء ما عدا الخطية. وتمجد بجسده حين جلس عن يمين الآب (17 : 5) وذلك ليتمجد المؤمنين معه (17 : 22). وهذه هي إرادته أن نكون معه فتظهر فينا صورة مجده (17 : 24) وقارن مع (1يو3 : 2) “أيها الأحباء الان نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو”. وهذا يعنى أننا سنأخذ صورة جسد مجده لأننا سنراه، والمعنى أن مجده سينعكس علينا، فيكون لنا الجسد الممجد ليس من ذواتنا بل إنعكاس لصورة مجده “الذي سيغير شكل جسد تواضعنا (وضاعتنا أي صورة الجسد الترابي) ليكون على صورة جسد مجده بحسب عمل استطاعته أن يخضع لنفسه كل شيء” (فى3 : 21).
  • ويخطف الروح القدس أبصارنا نحو السماء، حيث المجد المعد لنا، ونحو المسيح الذي ينتظرنا في إشتياق ومحبة العريس لعروسه. فنقول مع المرنم “معك لا أريد شيئا في الأرض” (مز73 : 25). ولو سألنى الرب ماذا تريد؟ يكون الرد…لا أسأل شيئا هنا على الأرض (16 : 23) فالعين تثبتت على شخص المسيح ووجدت العالم كله نفاية. بل سننشغل بأن نطلب ما يفرح قلب الله، ولا نعود نتركه وحده وننشغل عنه (16 : 32).
  • ولكن المسيح يقول أطلبوا باسمي (16 :26) أي لقد صرتم أبناء فأطلبوا بدالة البنوة، وتكون إجابتنا… يا رب نريد ما تريده أنت… نريد ما يمجد إسمك، ولا نطلب لأنفسنا شيئا. فكلما إقتربنا من حالة الثبات في المسيح تتوافق إرادتنا مع إرادة الله. ومع هذا الثبات في المسيح نحيا في سلام حقيقي (16 : 33).
  • ومع هذا الثبات في المسيح ابن الله، الذي هو واحد مع أبيه، نصير نحن واحدا في الآب والابن. ويتحقق القصد الإلهي…نصير واحدا، جسد واحد رأسه المسيح، فيحملنا المسيح إلى حضن أبيه. وبهذا نكون معه في المجد إلى الأبد.

فاصل

فاصل

تفسير يوحنا 16 تفسير إنجيل القديس يوحنا
القمص أنطونيوس فكري
تفسير يوحنا 18
تفسير العهد الجديد

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى