تفسير إنجيل متى 4 للقمص أنطونيوس فكري

الأصحاح الرابع

مقدمة

نجد الإنجيليين الثلاثة الذين أوردوا قصة تجربة المسيح، أنهم يأتون بها بعد معموديته وحلول الروح القدس عليه. إذ أن حلول الروح القدس على المسيح يعني مسحه أي تكريسه لعمل الفداء وهذا يعني حتماً الدخول في صراع مع الشيطان.

وما الذي أثار الشيطان ليبدأ المواجهة مع المسيح؟

من المعروف أن الشيطان هو رئيس هذا العالم كما أسماه المسيح (يو30:14). وهو يستخدم إغراءات وملاذ العالم في إبعاد أولاد الله عنه. الله خلق العالم بما فيه لنستعمله، ولكن إبليس حوَّل العالم إلى هدف عند الناس. والمسيح بدأ حربه ضد إبليس بأنه صام والصوم هو زهد في ملذات هذا العالم، وكأن المسيح يعلن لرئيس هذا العالم أنه لا يهتم بأسلحته وملذاته، وبهذا أثار الشيطان.

ولكن كما نفهم من أقوال السيد المسيح أن الصوم والصلاة أقوى أسلحة ضد الشيطان (مت21:17). ولذلك فالكنيسة الأرثوذكسية تضع أصوامًا كثيرة لتسلح أولادها ضد إبليس، فإن كان المسيح قد احتاج للصوم فكم وكم أنا الخاطئ الضعيف.

نعود ونقول أن الصوم هو سلاح ضد الشيطان ولكننا نجد هنا أن الصوم أثار الشيطان ضد المسيح فحاربه، فهل نصوم ليحاربنا الشيطان؟ نقول نعم فنحن في حروبنا لسنا نحارب بقوتنا بل أن المسيح الغالب يغلب فينا (يو33:16+ رؤ2:6). والروح الذي فينا هو روح قوة ونصرة ضد إبليس، فلماذا الخوف من حروبه!! بل أننا إذا غلبنا إبليس برفضنا لملذات العالم وجهادنا في صلواتنا وأصوامنا نمتلئ بالروح أكثر، وهذا ما حدث مع المسيح إذ يقول الكتاب أن المسيح بعد التجربة رجع بقوة الروح إلى الجليل (لو14:4). لذلك فالله يسمح بالتجارب الشيطانية ضدنا ولكن هذا لنغلب به، وحينما نغلب نمتلئ أكثر بالروح وبهذا يعظم انتصارنا (رو37:8) وهناك قصة من العهد القديم تشرح هذه الفكرة تمامًا. فقد جاء يهوشافاط كملك قديس على يهوذا، فأثارت قداسته ثائرة إبليس فأهاج الأعداء ضده واجتمع عليه جيش عظيم. إذًا سمح الله بتجربة هذا الملك القديس. فماذا فعل يهوشافاط؟ نجده يصلي ويسبح ويصرخ لله، ونجد الله يتدخل ويزيل العدو من أمامه، ويعود يهوشافاط وشعبه ومعهم غنائم كثيرة، عادوا أعظم من منتصرين (2أي1:20-30) (أي لم ينتصروا فقط بل عادوا ومعهم غنائم). والمسيح أتى ليفتتح ملكوت الله في صميم العالم وهذا معناه اقتحام سلطة الشيطان رئيس هذا العالم ونهب داره أولًا، داره الذي سلَّحه بأسلحة الخطية المتعددة من شهوات وملذات العالم (مت28:12-29) إذن فقد لزمت المواجهة.

ولقد تقدم المسيح أعزل من سلطانه الإلهي، إذ تخلى عمدًا عماَّ له ليستطيع أن يقف موقفنا ويأخذ دورنا، ففي كل ما انتصر فيه المسيح معناه أننا انتصرنا، لقد انتصرت البشرية فيه. ولنلاحظ أن المسيح بلاهوته لا قوة تقف أمامه ولا معنى أن نتكلم عن انتصاره بلاهوته على إبليس أو غيره، فقوة الله لا يفوقها قوة أخرى.

لقد أتى المسيح ليحارب الشيطان بعد أن حل عليه الروح القدس، والروح القدس هو قوة رادعة للشيطان، والمسيح أرسل لنا الروح القدس لنغلب الشيطان وندوسه، فالشيطان قوي وخداعاته قوية، لكننا بالروح القدس الذي فينا نكتشف ألاعيبه ونهزمه ونرفض عروضه الخبيثة.

ونكرر أنه علينا أن لا ننزعج إذا حاربنا الشيطان إذا زهدنا العالم وصمنا وصلينا وذهبنا للكنيسة وواظبنا عليها، فهو لا يحتمل كل هذا والله يسمح بهذه التجارب إذ نخرج منها ببركات كثيرة وغنائم عديدة، بل نمتلئ بالروح أكثر وأكثر. وهذا ما يحدث وحدث مرارًا مع الرهبان والمتوحدين، إذ حينما تركوا العالم وذهبوا للبرية أثاروا الشيطان بزهدهم ورفضهم لأدوات إغراءاته وأسلحته، أي ملذات هذا العالم، فكان أن زادت حروبه ضدهم، حتى أنه كان يظهر لهم في صورة وحوش ضارية تحاربهم، ولكن لنراجع سيرة هؤلاء لنرى البركات التي حصلوا عليها، فعادوا أعظم من منتصرين.

والمسيح دخل التجربة وهو حامل البشرية فيه وممثلها بقصد مباشر، هو أن يجيز البشرية التي فيه كل تجارب الشيطان ثم يغلب الشيطان بجسده الضعيف، وبهذا فهو يحطم أسلحته وقوته لحساب الإنسان الجديد أو الخليقة الجديدة التي هو رأسها التي ستقوم به وفيه من بين الأموات.

بعد هذه التجربة ربط المسيح إبليس بعد أن هزمه، ثم بعد ذلك على الصليب جرده من كل سلطانه، ثم نزل ليهزم الشيطان في الناس ويشفيهم ويخرج الشياطين منهم إعلاناً لأنه أتي ليحرر البشرية من إبليس. المسيح بموته على الصليب كحامل لخطايانا أبطل أقوى أسلحة الشيطان أي الخطية، فالنعمة التي وهبها الله لنا أعظم وأقوى وقادرة أن تتغلب على شهوات الإنسان الخاطئة (رو6: 14 + يع4: 6) . فصارت الخطية فينا ميتة أي مدانة (رو3:8) صارت الخطية مدانة في المؤمنين إذ ماتوا مع المسيح، وجرد المسيح إبليس وتابعيه من رتبهم وسلطانهم ليوم الدينونة (كو15:2). ولكن بقى لهم عمل يتناسب مع ضعفهم حتى إلى ذلك اليوم، فهم ما زالوا يحاربون المؤمنين ولكن في ضعف، وشرح هذه الفكرة نجده في عدة أماكن في العهد القديم:

1- (حز24:30) فالله يكسر ذراعي فرعون (رمز إبليس) ولكنه لا يكسر رقبته. سيظل له رأس ولكن بلا قوة الذراعين. فإبليس مازال يستخدم رأسه في بث أفكاره المسمومة من تشكيك، وإثارة شهوات في المؤمنين، لكن لنثق أنه بلا ذراعين أي بلا قوة، الشيطان هو قوة فكرية ولكنه هو لا يستطيع أن يرغم أحد على قبول أفكاره، بل أن المؤمنين حين يصرخون لله يطردون هذه الأفكار سريعًا.

2- نسمع في قصة فرعون والخروج أن جيش فرعون قد غرق في البحر الأحمر، ولكننا لم نسمع أن فرعون نفسه قد غرق. وفرعون رمز لإبليس الذي بقي بعد معركة الصليب بلا قوة (بلا جيش).

المسيح كرأس للخليقة الجديدة دخل المعركة وغلب لأن آدم رأس الخليقة القديمة دخل المعركة وهُزِمَ.

بالمعمودية وحلول الروح القدس على المسيح تكرس المسيح للصليب، وهذا معنى قول السيد المسيح “هذا الذي قدسه الله الآب (كرسه أو خصصه)” (يو36:10)، في التجارب عروض من إبليس على المسيح كما سنرى ليبتعد عن الصليب في خدمته.

ربما استخدم إبليس سلاح الأفكار ضد المسيح، فهو تارة يشككه في محبة الآب الذي تركه جائعًا ولم يحول له الحجارة إلى خبز، وتارة يثير فيه شهوة امتلاك العالم، وهذا ما يصنعه إبليس معنا. ولكن لنلاحظ أن التعرض للتجربة الفكرية ليس خطية وليس هو السقوط، بل أن انتصارنا على هذه التجارب يعقبه نصرة وبركة، لكن أن نتلذذ بالفكر فهذه هي الخطية، أن نتحاور مع إبليس، هذا هو الخطأ.  لذلك قال الآباء “ليس الخطأ أن تحوم الطيور حول رؤوسنا، بل الخطأ أن تتخذ الطيور من رؤوسنا أوكارًا لها.

الله يسمح إذًا بالتجارب ويعيننا في أثنائها لنخرج مملوئين من الروح ونخرج منها أكثر قوة وصلابة وخبرة، واثقين في وعود الله، مختبرين قوته ونصرته، الله بهذا يكون كأم تعلم أولادها المشي، وكالنسر الذي يحمل أفراخه على جناحيه ويرتفع لأعلى ثم يتركهم ليتعلموا الطيران ولكنه يهبط ويصير تحتهم حتى لا يسقطوا على الأرض بل عليه.

بل نخرج من هذه التجارب أكثر تواضعًا إذ ندرك ضعفنا وندرك أيضًا قوة الله، بل ندرك أننا بالمسيح أقوى من الشيطان وأسلحته.

المسيح هو الطريق، ففيه اعتمدنا وفيه نلنا قوة الروح القدس وفيه نصوم ونزهد في العالم، وفيه نُقْتاد إلى التجارب غير هيابين وفيه نغلب ونخرج من التجارب أعظم من منتصرين.

نتعلم أيضاً من المسيح أن نستخدم كلمة الله في حروبنا للرد على إبليس وعلينا أيضاً أن نستخدم اسم يسوع، فحينما تهاجمك الأفكار أصرخ قائلاً “يا ربي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ، يا ربي يسوع المسيح أعني” فتهرب منك الأفكار. إرشم نفسك بعلامة الصليب التي يفزع منها إبليس، إستعن بالقديسين وشفاعتهم فيأتون لمعونتك.

إبليس هو المجرب ومن أسمائه أي صفاته أنه الشيطان أي المقاوم. وهو المعاند والمشتكي والمتمرد. هو خصم لا يكف عن الحرب.

كلمات السيد المسيح التي استخدمها مقتبسة من سفر التثنية (تث3:8+ تث16:6+ تث13:6) بالترتيب.

ملحوظة: في طقس المعمودية نجحد الشيطان وهذا معناه أن المؤمن سيدخل في تحد مع الشيطان يرفضه ويرفض أعماله وإغراءاته. وكما أن التجربة للمسيح ارتبطت بالمعمودية هكذا نحن بالمعمودية ندخل في معركة مع إبليس العمر كله، لكنها معركة ستنتهي حتمًا بانتصار أولاد الله الذين قبلوا المسيح رأسًا لهم وحل عليهم الروح القدس. فالروح القدس هو الذي يقودنا بعد المعمودية.

فاصل

(مت1:4-11)

آية (1): “ثم اصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس.”

ثم= هذه الكلمة هنا بعد المعمودية تعني أن التجربة أمر طبيعي كان لزامًا على السيد أن يدخل فيه نيابة عنا، فاتحًا لنا طريق الملكوت. ولنلاحظ أن إبليس حارب السيد بعد حلول الروح عليه، فنحن أيضًا معرضين لحروب إبليس بعد كل نعمة ننالها (فهو يحسدنا).

أصعد يسوع.. من الروح= الروح يقتاد المسيح وفق خطة إلهية ليهزم إبليس ويربطه، وتحسب إمكانياته إمكانيات البشرية بعد ذلك. والمسيح لم يقتاده الروح عنوة، بل أن المسيح كان في اشتياق لهزيمة إبليس. لكن نفهم من كلمة أصعد يسوع، أن الروح القدس يدفع الإنسانية التي في المسيح. حقًا الروح القدس والابن واحد مع الآب، ومشيئتهم واحدة، إلاّ أن هذا يعني أن الروح يحرك ويدفع الإنسانية التي في المسيح، وهذا ما يعمله الروح القدس فينا الآن فهو يحركنا ويدفعنا ويبكتنا ويتوِّبنا ويدفعنا دفعًا للأحضان الإلهية. ويعطينا القوة لرفض أفكار إبليس.

البرية= بحسب المفهوم اليهودي فالبرية هي مسكن للشياطين، فهي أماكن خربة وقبور، والمسيح ذهب بهذا للشيطان في عرينه ليحاربه.

والإنسان قبل المسيح كان كبرية خربة، حولها الروح القدس لجنة مثمرة. (الروح القدس يرمز له بالمياه). كان الإنسان مسكنًا للشياطين، ميتًا كقبر، رائحته نتنة فصرنا رائحة المسيح الزكية. إذًا فالإنسان هو أرض المعركة بين المسيح وإبليس. ومن المؤكد أن الشيطان جرب المسيح كثيرًا لكن الإنجيليين لم يذكروا سوى ثلاث تجارب.

 

آية (2): “فبعدما صام أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاع أخيرًا.”

نلاحظ أن الحرب بدأت أو اشتدت حينما جاع المسيح، ومع الجوع تشتد شهوة الإنسان للطعام، هي لحظة ضعف للجسد، والشيطان متمرس في إسقاط الإنسان بعراكه مع شهوة الجسد. لقد كان جوع المسيح أو زهده وتركه للطعام ولملذات العالم هو استدراج الشيطان لمنازلته. ولقد صار الصوم والزهد سلاحاً به نهزم إبليس مع الصلاة. بالصوم ننزع من إبليس رئيس هذا العالم سلاحه الذي هو ملذات العالم، والصلاة هي سلاحنا المخيف للشيطان، إذ بالصلاة تكون لنا صلة بالله الذي يرعب الشياطين. لذلك قال الرب أن “هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم”.

ولنلاحظ أن المسيح بصومه قدس أصوامنا وشجعنا عليها، كالأم التي تتذوق الدواء أمام طفلها المريض حتى يشرب منه. بدون ضبط البطن طرد آدم من الفردوس. وبضبط البطن والصوم هزم المسيح إبليس.

وكان جوع المسيح إعلانًا وتأكيدًا لحقيقة ناسوته، فهو ليس خيالًا. فجسد المسيح كان جسدًا كاملًا حقيقيًا يجوع ويعطش ويتألم.

أربعين يومًا= رقم (40) يشير لفترة ما يعقبها خير أو عقوبة فموسى صام 40يومًا ليستلم شريعة العهد القديم، والطوفان كان 40 يومًا. وإسرائيل جُرِّب في سيناء 40 سنة لكنهم تذمروا، أما المسيح فذهب بإرادته ليجوع ويجرب ولم يتذمر. وهذه الأربعين يومًا تشير لمدة غربتنا على الأرض، إن قضيناها في زهد وأصوام وبلا تذمر نذهب للسماء.

 

الآيات (3-10): “فتقدم إليه المجرب وقال له أن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزا. فأجاب وقال مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله. ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل. وقال له أن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى اسفل لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك. قال له يسوع مكتوب أيضًا لا تجرب الرب إلهك. ثم أخذه أيضًا إبليس إلى جبل عال جدًا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها. وقال له أعطيك هذه جميعها أن خررت وسجدت لي. حينئذ قال له يسوع اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد.”

لخص معلمنا القديس يوحنا في رسالته الأولى الخطايا التي في العالم في ثلاث فئات هي شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة (1يو16:2) وهي بعينها نفس الثلاث التجارب التي قام بها إبليس ضد آدم الأول وضد المسيح آدم الأخير.

شهوة الجسد (البطن)

آدم: الأكل من الشجرة

المسيح: تحويل الحجارة لخبز

شهوة العيون

الشجرة شهية للنظر بهجة للعيون

أعطيك كل هذه

تعظم المعيشة

تكونان كالله

يلقي نفسه ولا يصاب

والسيد المسيح قهر الشيطان بعدم إبلاغه مراده واحتقاره لوسائل الإغراء التي اتبعها معه. ولاحظ أن المسيح يستخدم سلاح كلمة الله بقوله مكتوب. فالكلمة المقدسة هي سيف ذو حدين وهي سيف الروح (أف17:6+ عب12:4)

التجربة الأولى: تجربة شهوة البطن (الخبز) – آيات (3-4):

ماذا يقصد إبليس بهذه التجربة؟

1- هو يشكك المسيح في محبة الآب، فهو يقصد أن يقول، إن كان الآب أي الله هو أبوك حقًا، وهو إله خير محب، فلماذا يتركك جائعًا. إذًا فليحول لك الحجارة إلى خبز. والمقصود من التشكيك هو تخريب العلاقة مع الله. وهذا ما يصنعه إبليس مع كل منا، فهو يأتي ليهمس في أذن من له مشكلة أو مصاب بمرض “أطلب من الله إن كان يحبك أن يصنع معك معجزة ويشفيك، أو يحل لك المشكلة. وهذا أسلوب يتبعه معنا في حالات ضعفنا نتيجة تجربة أو مرورنا بأي ضيقة (فنجده هنا يحارب المسيح إذ وجده جائعاً). وإذا لم تحل المشكلة يأتي إبليس ليقول لك الله لا يحبك فهو يشفي كل الناس إلا أنت وهذا معنى تخريب العلاقة مع الله وكان رد المسيح ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم اللهوهذا يعني ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل إن أراد الله لي الحياة حتى بدون خبز فسأحيا. وعلينا أن نستخدم نفس الرد على إبليس “إن حاول أن يشككنا في محبة الله قائلين “ليس بحل المشكلة أو بالشفاء من المرض وحده يحيا الإنسان، بل بإرادة الله. ونتعلم من رد المسيح:

‌أ- أن لا نطيع إبليس فيما يقترحه علينا.

‌ب- أن لا نطلب ونلتمس المعجزات في أمورنا ومطالبنا.

‌ج- الجسد يطعم بالخبز ولكن لا ننسى أن لنا روحًا تطعم بكلمة الله. فالجسد المأخوذ من التراب يتغذي على ما تخرجه الأرض، أما الروح لأنها على صورة الله فهي تتغذى بكلمة الله. ومن لا يتغذى بكلمة الله هو ميت روحيًا. لقد أراد إبليس أن يجذب المسيح للاهتمام بالماديات فحوَّل المسيح الكلام إلى الروحيات.

2- الشيطان رأي ولادة المسيح المعجزية وسمع الآب السماوي يشهد عن المسيح قائلًا “هذا هو ابني الحبيب” وهو يريد أن يتأكد من شخص المسيح فيقول له “إن كنت ابن الله” فهو تشكك فيه إذ رآه جائعًا.

3- إن كان المسيح هو ابن الله فليستخدم لاهوته لعمل معجزة، أو يطلب من أبيه عمل المعجزة، لكن المسيح أثبت هنا أنه لا يريد هذا لنفسه، لأن إرادته كإرادة أبيه أي خلاص النفوس، هو أتى لأجل هذا، وليس لعمل معجزات تفيده هو شخصياً. ولاحظ أن المسيح يُشبع الجموع بمعجزة ولا يعمل معجزة لأجل نفسه وهو جائع. فالمسيح لا يريد أن ينحصر في ذاته بل هو يسلم بكل ما يريده الآب، هو لا يريد أن يستخدم مشيئته بعيداً عن مشيئة الله ليكمل شهوة جسده. وبهذا انتزع سلاح الشيطان الذي يقوم على استخدام مشيئة الإنسان بعيداً عن مشيئة الله (يو38:6).

وكانت التجربة الأولى هي تجربة الخبز، ولكن لنلاحظ أن النفس الشبعانة تدوس العسل، أي أن عدو الخير لن يجد له مكانًا داخلنا ما دامت نفوسنا شبعانة بالله.

آدم غلبه إبليس إذ أكل والمسيح هزم إبليس إذ امتنع عن الأكل.

التجربة الثانية: تجربة جناح الهيكل – آيات (5-7):

كان رد المسيح على الشيطان في التجربة الأولى أنه بكلمة الله يحيا الإنسان أي أن المسيح استخدم كلمة الله. وهنا نجد أن الشيطان يتقدم بمشروعه الثاني القائم على الاعتماد على كلمة الله. هو يستخدم كلمة الله بطريقة مضللة ويجعلها أساسًا للتجربة، وكان رد المسيح أيضًا بكلمة من كلام الله. ففي كلام الله كل الكفاية للرد على تشكيك إبليس ومحاولاته.

 

ما هو هدف إبليس من هذه التجربة؟

1- إما يموت المسيح فَيُسَّرْ إبليس بموته، أو على الأقل يتألم.

2- أو يفعلها المسيح وينجو فعلًا فيقع في الافتخار والكبرياء. ولاحظ أن المسيح لو فعل هذا وقت احتشاد الجماهير لآمن الجميع به بسبب هذه المعجزة الخارقة ولكن طريق المسيح هو طريق الصليب وليس هذه الأساليب الصبيانية التليفزيونية. وعموما فالشيطان يريد أن يتأكد هل هذا هو ابن الله، وإن كان هو فليبعده عن الصليب عن طريق عمل المعجزات والخوارق مثل هذا العرض الذي يعرضه عليه بإلقاء نفسه. وهذا ما سوف يعمله الشيطان مع ضد المسيح في الأيام الأخيرة إذ يزوده بالعجائب (رؤ13).

3- أو أن المسيح لا يجيب خوفًا من الموت فيعيره إبليس بأنه غير قادر.

4- إبليس يقنع المسيح باستخدام حقه كابن لله بطريقة فيها تهور، طريقة خاطئة وفيها تجربة للآب ولكن محبة الآب لنا لا تحتاج لإثبات بهذه الأساليب فهو يحفظنا في كل طرقنا الصالحة، ولا داعي أن نضعه موضع الامتحان.

5- قول إبليس أطرح نفسك يعبر عن شهوته لسقوط كل إنسان.

6- لاحظ أن إبليس يحارب المسيح في المدينة المقدسة وعلى جناح الهيكل أي في الأماكن المقدسة، والشيطان لا يكف عن أن يحاربنا حتى في أقدس الأماكن.

7- قد تكون حرب الشيطان هنا ذهنية فقط أي هو يغري المسيح بأن يذهب ويفعل هذا ليصير الكارز المشهور بالأعاجيب وهذا هو تعظم المعيشة أما المسيح فاختار طريق الصليب.

8- الشيطان استخدم آيات من (مز91) ولكنه لم يكملها، فالباقي ليس في مصلحته، إذ أن بقية الآيات تقول “تطأ الأفعي”.. كناية عن إبليس.

9- ونرى في رد السيد المسيح.

[1] لم يسخط ولم يثور ولم يهتاج ضد إبليس بل يرد في ثقة وهدوء.

[2] الله يحفظنا من التجارب التي أتعرض لها وليس التي اصنعها بنفسي حتى أجرب محبته. وعلينا أن نثق في محبة الله دون طلب إثبات.

[3] المسيح اختار طريق الصليب ورفض طريق استعراض إمكانياته بطلب ملائكة تحفظه. وعلينا أن نختار طريق الألم واحتمال الألم دون أن نطلب معجزات تسهل لنا الطريق، أو بقصد المباهاة والمجد الباطل.

التجربة الثالثة: شهوة العيون – آيات (8-10):

الشيطان هو رئيس هذا العالم، وهو يغوي المؤمنين بملذات وأمجاد هذا العالم الباطلة التي يملكها ويتحكم فيها والثمن هو للأسف السجود له أي التبعية الكاملة له التي تصل لحد عبادته. الشيطان يطبق المثل العامي “حسنة وأنا سيدك”. وكون أن الرب يسميه رئيس هذا العالم (يو14: 30) فهذا يعنى أنه قادر أن يعطى من يخضع له كل الملذات الخاطئة.

وقد تكون التجربة هنا هي مجرد تجربة ذهنية فكرية في داخل العقل أي أن الشيطان يُصَوِّر للمسيح كل مباهج الدنيا وأنه قادر أن يعطيه ملك كل العالم، أي يسهل له تكوين مملكة من العالم كله دون الحاجة للصليب وكان هذا هو طلب اليهود.

هذه التجربة هي تجربة كل يوم للمؤمنين، أن يدخلوا من الباب الواسع لذلك ينبهنا الكتاب “لا تحبوا العالم..” ولاحظ أن إبليس كذاب وأبو الكذاب” (يو44:8) فهو يغوي المؤمنين بعالم فانٍ زائل.

ونجد المسيح هنا ينتهر إبليس وهذا يعلمنا أن لا نساوم الشيطان بل ننتهره صارخين “كيف نفعل هذا الشر أمام الله”. نحن بالمسيح الذي فينا قادرين أن ننتهر الشيطان قائلين له “اذهب يا شيطان” هذا معنى أن المسيح غلب ويغلب فينا، أنه أعطانا فيه هذا السلطان. والأفضل أن نقول حين نحارب “يا ربي يسوع المسيح أبعد الشيطان عني” فأنا لا سلطان لي على الشيطان مثل المسيح، لكن باسم المسيح نطرده.

خداع إبليس هنا خطير إذ يوهمنا أنه لا داعي للصليب أو للألم، بل يكفي الخضوع له أو السجود له، وهو سيعطينا الكثير، لكن على أولاد الله أن يرفضوا هذا الفكر وينتهروه، راضين بالصليب.

بعد أن هُزِمَ إبليس في التجارب الثلاث اتضح أن المسيح قد حطم سلاحه. وهذا ما يعنيه بأنه ربطه، إذ أن ربطه هو نتيجة حتمية لتحطيم سلاحه الكامل الذي اعتمد عليه وهو إغراءات العالم (التي رفضها السيد) وسلاح المراوغة والخداع لاسقاط الإنسان بعيدًا عن الله ووصاياه (وهذه استخدم السيد ضدها سلاح كلمة الله)

والخطوة التالية للسيد هي نهب أمتعته (مت29:12). وهذه تمت بخدمة المسيح وعمله طيلة ثلاثة سنوات ونصف، كان فيها يجذب النفوس لله ويحررها من سلطة إبليس ليؤسس ملكوت الله إذ كنا قبل المسيح أمتعة إبليس (كان يسكن فينا سكنى المتاع).

والمسيح هزم إبليس في التجارب الثلاث فلم يعد له قدرة أن يواجه المسيح. ثم نزل المسيح للعالم ليخرجه من البشر الذين كان قد استولى عليهم فبعد أن أكمل ردع الشيطان على الجبل نزل ليردعه في الناس. المسيح دائماً يخرج غالباً ولكي يغلب.

 

آية (11): “ثم تركه إبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه.”

الملائكة تخدم هذا المنتصر على إبليس، ربما هي أتت له بطعام والأغلب أن الملائكة جاءت تسبحه. فالملائكة تفرح بكل نصرة وتأتي لتخدم لتثبت كرامة المنتصر. وإذا غلبت إبليس تأتي الملائكة لتمدحك وتخدمك كحراس لك.

فاصل

الآيات 12-17

آية (12):-

ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل.

بعد معمودية يسوع في الأردن والتجربة في البرية، ذهب يسوع إلى الجليل وهناك حَوَّل الماء إلى خمر (يو 11:2) ثم ذهب ليقيم في كفر ناحوم (يو 12:2). وبعد هذا عاد يسوع لأورشليم وطهر الهيكل لأول مرة (يو 13:2-22) وتقابل مع نيقوديموس (يو 1:3-21). وفي هذه الآية (مت 12:4) نسمع أن يسوع يغادر اليهودية منصرفًا إلى الجليل وقارن مع (مر 14:1 + يو 1:4-3).

 

آيات (13-17):-

وترك الناصرة واتى فسكن في كفرناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتاليم. لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل. ارض زبولون وارض نفتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب الجالس في ظلمة ابصر نورا عظيما والجالسون في كوره الموت وظلاله أشرق عليهم نور. من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات.

بعد عودة السيد المسيح إلى الجليل أتى إلى الناصرة، وكان اليهود من سكان الجليل فيها قليلي العدد ومن سبطيّ زبولون ونفتالى، وأكثر سكانها كانوا من الفينيقيين واليونان والعرب. ولهذا سميت جليل الأمم + أش 1:9. وكأن إشعياء كان يتنبأ بما سيحدث لمنطقة الجليل. وكان الوثنيون قد ملأوا الجليل لما كان إسرائيل في السبي. ولاختلاط اليهود بالوثنيين صار حالهم رديء، لذلك قيل عنهم الشعب الجالس في الظلمة= ظلمة الخطية والجهل وانقطاع الأمل في الخلاص أبصر نورًا عظيمًا= هو المسيح الذي أتى نورًا للعالم. طريق البحر = بحر الجليل. عبر الأردن= أي غرب الأردن. من ذلك الزمان= أي بعد القبض على يوحنا، آية (12).

والمسيح ترك الناصرة وذهب إلى كفر ناحوم.

  1. لأن الناصرة رفضته…. إذًا لنحذر أن نرفضه وإلاّ سيتركنا.
  2. ليختار تلاميذه من بين صياديها لأن كفر ناحومعند البحر أي ساحلية. وفي آية 17 نجد أن دعوة المسيح هي التوبة، نفس دعوة المعمدان، فالتوبة هي المدخل، والبشارة المفرحة بأن من يتوب يدخل الملكوت.

ملكوت السموات = وعند الربيين كانت عبارة ملكوت الله (ملكوت يهوه في الترجوم) وملكوت السموات هما متكافئتان. وعادة كان اليهود يستخدمون كلمة “السموات” بديلا عن “الله” حتى لا يستخدموا اسم الله على نحو غير ملائم أو بإفراط، وحتى لا تتعود الأذن على إستخدام الاسم المقدس. وغالبا فإن هذا هو السبب في إستخدام القديس متى تعبير ملكوت السموات في إنجيله فهو موجه لليهود. ويتضمن تعبير ملكوت السموات تضاد مع مملكة الأرض، فالله حين يملك على شعبه في الأرض يجعله يحيا في السموات [أف2 : 6 + فى3 : 20].

فاصل

آيات (18-22):-

وإذ كان يسوع ماشيا عند بحر الجليل ابصر أخوين سمعان الذي يقال له بطرس واندراوس أخاه يلقيان شبكة في البحر فانهما كانا صيادين. فقال لهما هلم ورائي فأجعلكما صيادي الناس. فللوقت تركا الشباك وتبعاه. ثم اجتاز من هناك فرأى أخوين آخرين يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه في السفينة مع زبدي أبيهما يصلحان شباكهما فدعاهما. فللوقت تركا السفينة وأباهما وتبعاه.

المسيح لا يستخدم قوى سحرية لجذب الناس، بل أننا نفهم أنه قضى يومًا تقريبًا في إقناع يوحنا وأندراوس بعد أن شهد المعمدان لهما بأن يسوع هو المسيا (يو 35:1-42). ويوحنا وأندراوس أقنعا أخويهما بطرس ويعقوب فأتيا للمسيح فأقنعهم أولًا (أر 7:20) وبعد هذا دعاهم هنا. فطريقة الله هي الإقناع وليس الإجبار. والمسيح اختار صيادين بسطاء ليحولهم إلى صيادين للناس، ولم يختار حكماء وفلاسفة، حتى تظهر قوته الإلهية العاملة فيهم (1كو 17:1-31)

بحر الجليل= هو بحيرة عذبة طولها 13 ميلاً ، وهي شرق مقاطعة الجليل يصب فيها نهر الأردن الآتي من الشمال ثم تذهب المياه بعد ذلك إلى البحر الميت. وتسمى بحيرة جنيسارت وأيضاً بحر طبرية، وهذا الاسم أطلقوه عليها إكراماً لطيباريوس قيصر.

ملحوظة: اختار الله في العهد القديم رعاة غنم ليرعوا شعبه كموسى وداود وغيرهم، لأن في العهد القديم، كان الشعب اليهودي هو شعب الله، والله هو راعيهم الأعظم، وأرسل لهم الله رعاة يرعون شعبه الذي كان داخل حظيرة الإيمان فعلاً، أمّا في العهد الجديد فإختار الله صيادين ليصطادوا الأمم الذين كانوا غارقين في بحر هذا العالم (لو5: 10). والمسيح اختار صيادين بسطاء من الجليل المحتقر ليعمل بهم، فيكون المجد لله لا للبشر.

تركا الشباك. تركا السفينة = تركا مصدر رزقهم وأطاعا. لذلك كانوا رسلاً جبابرة. والسامرية تركت جرتها ، وإبراهيم ترك أور. وماذا تركنا نحن ؟

فاصل

آيات (23-25):-

وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب. فذاع خبره في جميع سورية فاحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة والمجانين والمصروعين والمفلوجين فشفاهم. فتبعته جموع كثيرة من الجليل والعشر المدن وأورشليم واليهودية ومن عبر الأردن.

مجامعهم= المجامع هي قاعات في المدن الإقليمية حيث كان اليهود يجتمعون للصلاة والتسبيح يوم السبت، وللتعليم أيضاً، أما باقي الأيام فكانت تستخدم للقضاء. لكن لا يوجد سوى هيكل واحد في أورشليم وتقدم فيه الذبائح. ونلاحظ أن السيد المسيح صنع معجزات كثيرة ليظهر بها نفسه فتقبله الجموع ويذيع صيته، فيجتمعون حوله، فيبدأ يعلمهم.

العشر المدن= كانوا عشر مدن قريبة من بعضها على الشاطئ الشرقي من بحر الجليل، واسمها باليونانية ديكابوليس Δέκα πόλεις.

 

مر(14:1-20)

وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله. ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وأمنوا بالإنجيل. وفيما هو يمشي عند بحر الجليل ابصر سمعان واندراوس أخاه يلقيان شبكة في البحر فانهما كانا صيادين. فقال لهما يسوع هلم ورائي فأجعلكما تصيران صيادي الناس. فللوقت تركا شباكهما وتبعاه. ثم اجتاز من هناك قليلا فرأى يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه وهما في السفينة يصلحان الشباك. فدعاهما للوقت فتركا أباهما زبدي في السفينة مع الأجرى وذهبا وراءه.

نجد هنا نفس قصة دعوة التلاميذ، وتركهم سفنهم ومهنتهم وأنهم تبعوا يسوع فورًا. وتفسير هذه الاستجابة الفورية، هو سابق اقتناعهم بالمسيح كما قلنا سابقًا.

وفي آية 14:- قد كمل الزمان= فالنبوات حددت زمان مجيء المسيح (دا 9).

بحر الجليل = هو بحيرة طبرية ، ويسمى أيضًا بحيرة جنيسارت.

 

لو (1:5-11)

وإذ كان الجمع يزدحم عليه ليسمع كلمة الله كان واقفا عند بحيرة جنيسارت*.فرأى سفينتين واقفتين عند البحيرة والصيادون قد خرجوا منهما وغسلوا الشباك. فدخل إحدى السفينتين التي كانت لسمعان وسأله أن يبعد قليلا عن البر ثم جلس وصار يعلم الجموع من السفينة. ولما فرغ من الكلام قال لسمعان ابعد إلى العمق والقوا شباككم للصيد. فأجاب سمعان وقال له يا معلم قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئًا ولكن على كلمتك القي الشبكة. ولما فعلوا ذلك امسكوا سمكا كثيرا جدًا فصارت شبكتهم تتخرق. فأشاروا إلى شركائهم الذين في السفينة الأخرى أن يأتوا ويساعدوهم فأتوا وملأوا السفينتين حتى أخذتا في الغرق. فلما رأى سمعان بطرس ذلك خر عند ركبتي يسوع قائلًا اخرج من سفينتي يا رب لأني رجل خاطئ. إذ اعترته وجميع الذين معه دهشة على صيد السمك الذي أخذوه. وكذلك أيضًا يعقوب ويوحنا ابنا زبدي اللذان كانا شريكي سمعان فقال يسوع لسمعان لا تخف من الآن تكون تصطاد الناس. ولما جاءوا بالسفينتين إلى البر تركوا كل شيء وتبعوه.

أمّا القديس لوقا فأورد بعض التفصيلات الأخرى عن هذا اللقاء بين السيد المسيح وتلاميذه، إذ دعاهم وهم بجانب سفنهم وشباكهم. وهنا نجد أن المسيح قد أظهر سلطانه أمام تلاميذه في معجزة صيد السمك الكثير، وبهذا نفهم سببًا آخر لماذا تبع التلاميذ يسوع فورًا إذ دعاهم. إذاً لنلاحظ أسباب استجابة التلاميذ لدعوة المسيح لهم:-

  1. شهادة يوحنا المعمدان له، والمعمدان كان المعلم الأول لهم قبل المسيح.
  2. حوار يسوع معهم لمدة يوم كامل (يو 35:1-42).
  3. معجزات الشفاء التي أجراها المسيح أمامهم (مت 24:4).
  4. تعاليم المسيح للجموع من سفينة سمعان (لو 3:5).
  5. معجزة صيد السمك الكثير (لو 6:5-7) جعلتهم يطمئنون لتدبير الله لاحتياجاتهم المادية.

ونلاحظ أن آخر لقاء للمسيح حدثت فيه نفس القصة، أي معجزة صيد سمك كثير (يو 1:21-14).. وبمقارنة المعجزتين نجد الآتي.

  1. المعجزة الأولى كانت في سفينتين والأخيرة كانت في سفينة واحدة فالمسيح أتى ليجعل الاثنين واحدًا (اليهود والأمم أو السمائيين والأرضيين بحسب فكر كنيستنا أو أي اثنين منشقين على بعضهما).
  2. في المعجزة الأولى أمرهم بطرح الشباك ولم يحدد الجهة. وفي الأخيرة طلب السيد إلقاء الشباك على الجانب الأيمن. وفي الأولى لم يذكر عدد السمك وفي الثانية ذُكِرَ عدد السمك (153 سمكة) لأن الأولى تشير لكل الداخلين للإيمان وهم كثيرين، أمّا الثانية فتشير للقطيع الصغير أي الذين سيخلصون وهؤلاء معروفين واحدًا فواحدًا وهم على الجانب الأيمن (الخراف على الجانب الأيمن، أمّا الجداء فهم على الجانب الأيسر): فالدعوة موجهة للجميع لكن قليلين هم الذين يخلصون.
  3. في الأولى صارت الشبكة تتمزق فيهرب منها السمك الصغير (رمز لمن إيمانهم ضعيف). وفي الثانية لم تتمزق الشبكة وكان السمك من كبار السمك (يو 11:21) رمز لمن إيمانهم ثابت ناضج فهؤلاء لا يتركون الكنيسة مهما حدث من تجارب، فالشبكة رمز للكنيسة، ومن يترك الكنيسة يغرق في بحر هذا العالم حتى أخذتا في الغرق = بسبب هؤلاء الذين إيمانهم قليل. ولكن نشكر الله فالكنيسة يحفظها المسيح.
  4. في الثانية طلب السيد المسيح من التلاميذ أن يعطوه السمك الذي اصطادوه، فالمؤمنين هم للمسيح وليس للكارزين أو للخدام، أما السيد فأعطاهم من عنده سمكًا مشويًا وخبز، أي أن المسيح متكفل بإعالة خدامه ليصطادوا هم لهُ المؤمنين، ويكون المؤمنين للمسيح (راجع تفسير نش8: 11، 12).

تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئًا= بعد هذا مباشرة نجد يسوع يستخدم هذه السفن كمنبر للتعليم (تأمل:- لو كان التلاميذ لم تقابلهم ليلة فشل في رزقهم لما كانوا قد نالوا كل هذه البركات الروحية، أي لو كانت السفن قد امتلأت سمكًا هذه الليلة ما كانوا قد اقتنعوا بأن يتركوا مصدر رزقهم ويتبعوا يسوع، وما كان يسوع يستطيع أن يدخل سفنهم ليستخدمها للكرازة) ولكن بعد هذا نرى أن السفن قد امتلأت سمكًا بوفرة (بركات مادية). إذًا لنثق أنه لو أغلقت أمامنا بعض الأبواب فإن هذا يكون بسماح من الله لنحصل على بركات أكثر، ولو فرغت سفينتنا من السمك (بركات مادية) فهذا ليدخل المسيح لسفينة حياتنا.

إبعد إلى العمق = الصيد يكون ليلًا لذلك قال بطرس تعبنا الليل كله أي تعبنا في الوقت المناسب للصيد ومع هذا لم نحصل على شيء. أما الآن وبالنهار فالوقت غير مناسب للصيد. والصيد لا يكون بالشباك في العمق بل على الشاطئ. وهنا فكلام بطرس يعبر عن الخبرة البشرية بما تحمله من فشل ويأس ولكن أروع ما قاله بطرس هو على كلمتك ألقى الشبكة = هنا ينتقل بطرس من خبراته البشرية المحدودة إلى الإيمان العميق بكلمة الله. وكثيرًا ما تقودنا خبراتنا البشرية لليأس، ولكن مع الإيمان نرى العجائب.

العمق= طالما بطرس سيصير صياد للناس فليعلم أول درس، هو أن الخادم يجب أن يحيا في العمق، عمق معرفة المسيح وعمق الحب وعمق الإيمان، أمّا من يحيا في السطحيات بلا خبرات روحية في مخدعه فهذا لن يصطاد شيئا. وهنا نرى الجهاد مع النعمة. فالجهاد يتمثل في الدخول للعمق وإلقاء الشبكة (حياة الخادم الداخلية = عمق، كلمة الكرازة = إلقاء الشبكة) والنعمة هي عمل الله العجيب بكلمات الخادم لتأتى هذه الكلمات بثمارها.ولنلاحظ أن الدعوة هي للجميع فالمسيح لم يحدد الجهة التي يلقون فيها الشباك. ومسئولية خلاص المؤمن هي مسئوليته الشخصية.

 لعمق : أيضًا العمق يفهم على أنه عن النبات الذي يتعمق في باطن الأرض ليحصل على المياه، فلا تحرقه حرارة الشمس فيثمر. والمياه تشير للروح القدس الذي يعطى التعزيات وسط التجارب ويعطينا أن نثمر.

كيف ندخل إلى العمق ؟ هذا يكون بتنفيذ الآية ” حب الرب إلهك من كل قلبك…” (تث 6: 5). ومحبة المسيح تعني الاتحاد معه ( راجع تفسير يو 15: 9). وبالتالي فالروح القدس المنبثق من الآب ويملأ الابن يملأنا إذا كنا ثابتين في الابن.

وفي قول بطرس تعبنا الليل كله = إشارة لعمل الأنبياء في العهد القديم كله، إذ تعبوا ولكن كانت الخطية مسيطرة على قلوب البشر. ويشير هذا القول أيضًا لمن يكرز ويعلم ببلاغة بشرية ولكن من عندياته وليس بعمل المسيح فيه. وربما تشير للخدام الذين يتعبون كثيرًا ولكن الوقت، وقت الثمار لم يأت بعد فلقد كانت ليلة التلاميذ فاشلة بمقاييسهم ولكنها كانت بداية نجاح عجيب وتحول عجيب.

ونلاحظ أن المسيح جذب التلاميذ إليه بعد أن خاطبهم بلغتهم، فهو كلمهم بلغة صيد السمك فانجذبوا إليه، وهكذا كلم المجوس بلغتهم عن طريق نجم، وكلم قسطنطين الملك بلغته حينما أرشده أن يضع علامة الصليب على أسلحته فيغلب في الحرب.

فأشاروا إلى شركائهم = فالحصاد كثير والفعلة قليلون.

أخرج من سفينتي = قطعا بطرس لا يريد من المسيح أن يخرج حقيقة من سفينته لكن هذا مجرد تعبير عن شعوره بعدم استحقاقه بوجود السيد في سفينته فحينما واجه بطرس نور المسيح رأى خطاياه وشعر بعدم استحقاقه، وهذا ما حدث مع إشعياء إذ رأى الله (أش 6). وقد طمأنه المسيح بقوله = لا تخف. عمومًا فالمؤمنين ينقسمون إلى فئتين الأولى مثل بطرس حينما يعطيهم الله بركة من عنده يشعرون بأنهم غير مستحقين لشيء، وإذا صادفتهم تجربة ينسبونها لخطاياهم، أما الصنف الثاني فهو شاعر بأن الله لا يعطيه ما هو أهل له، وأن الله قد ظلمه، وإذا صادفته تجربة نسبها لظلم الله له. ولنعلم أن الفئة الأولى هي التي يدخل المسيح قلبها ويملك عليها كما دخل لسفينة بطرس.

تركوا كل شيء وتبعوه = من يعرف المسيح حقيقة يترك كل شيء حاسبًا إياه نفاية ويكرس القلب بالتمام للمسيح. ولنلاحظ أن بطرس ترك شبكة وصنارة ولنرى ماذا أعطى الله لبطرس حتى الآن من مجد في السماء وعلى الأرض. شبكتهم تتمزق.. أخذتا في الغرق = التجارب التي تواجه الكنيسة فيتركها ضعاف الإيمان.

فاصل

إنجيل معلمنا متى : 12345678 910111213141516171819202122232425262728 

تفسير إنجيل معلمنا متى : مقدمة – 12345678910111213141516171819202122232425262728 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى