تفسير صموئيل الثاني ١٥ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الخامس عشر
عقوق أبشالوم
عاد أبشالوم إلى أورشليم ليس من أجل شوقه لصفح أبيه عن قتله لأخيه أمنون، ولا حبًا في والده، وإنما ليهيئ الطريق لنفسه كي يغتصب المُلك من والده مهما كلفه الأمر.
١. أبشالوم يعد الطريق لنفسه [١].
٢. أبشالوم يمالئ الشعب [٢-٦].
٣. المناداة به ملكًا [٧-١٢].
٤. هروب داود ورجاله [١٣-١٧].
٥. هروب أتاي الجثي [١٨-٢٣].
٦. بقاء التابوت في أورشليم [٢٤-٢٩].
٧. رجوع حوشاي الأركي [٣٠-٣٧].
“وكان بعد ذلك أن أبشالوم اتخذ مركبة وخيلاً وخمسين رجلاً يجرون قدامه” [١].
يكشف هذا التصرف عن هدف أبشالوم من العودة إلى أورشليم، فقد حمل في داخه لهيب نار محبة المجد الباطل، تصالح مع والده لا لينال رضاه، ولا ليُقابل حبه الأبوي بالحب البنوي الخالص، وإنما ليخطط كي يغتصب منه العرش بروح العجرفه والعقوق، مظهرًا نفسه كرجل عظيم يستخدم مركبة ملوكية وخيلاً ويجري أمامه خمسون رجلاً.
لقد أعد الله لداود المُلك خلال الضيق والتعب لسنوات طويلة أما أبشالوم فهيأ نفسه للمُلك خلال المظاهر الخارجية والمجد الباطل. فقد تعلم من جده تلماي بن عميهود ملك جشور (١٣: ١٧) استخدام المركبة الملوكية والخيل وجري الرجال أمامه الأمر الذي سبق فحذر صموئيل النبي منه الشعب حينما طلبوا لأنفسهم ملكًا كسائر الأمم قائلاً لهم: “يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه لمراكبه وفرسانه فيركضون أمام مراكبه” (١ صم 8: 11).
هكذا اقتدى أبشالوم بملوك الأمم في العظمة بينما كان والده يمتطي بغلاً في بساطة مظهر واتضاع، وقد وجدت المظاهر الخارجية مع جمال أبشالوم الجسدي هوى لدى الكثيرين فزادت شعبيته، وحسبه البعض أولى بهذا المركز القيادي.
كان أبشالوم يجري وراء المجد الباطل ليستلم العرش ولم يدري أنه إنما يجري وراء هلاكه الروحي والجسدي أيضًا، ليفقد أبديته كما حياته الزمنية.
يحدثنا الآباء عن أهمية الاتضاع كطريق للمجد وخطورة المجد الباطل:
v كن وضيعًا في عيني نفسك فترى مجد الله في داخلك.
حيث ينبت الاتضاع هناك يتفجر مجد الله.
إن جاهدت لكي يستهين بك كل بشر، فالله يمجدك.
إن كان لك اتضاع في قلبك، فسيظهر الله لك مجده في قلبك.
كن مزدري في عظمتك ولا تكن عظيمًا في تفاهتك…
لا تطلب أن تكون مكرمًا بينما داخلك مملوء جراحات.
أرفض الكرامة فتصير مكرمًا ولا تحبها فلا تُهان.
من يطلب الكرامة تهرب منه، ومن يهرب من الكرامة تطارده، ويعلن كل بشر عن اتضاعه.
v اهرب من المجد الباطل فتتمجد، خف من الكبرياء فتتعظم.
مار اسحق السرياني[86]
v إنني أثق أن العمل الروحي البسيط حين نمارسه باتضاع، فإنه يبلغ بنا أن نكون مع القديسين الذين جاهدوا كثيرًا وصاروا خدامًا حقيقيين لله.
v يوجد طريق حقيقي للنمو: بالنمو في الاتضاع يبلغ الإنسان المجد الإلهي الحقيقي.
الأب دوروثيوس[87]
لكي يسحب أبشالوم الكرسي من تحت والده لم يقف عند اهتمامه بجماله الجسدي ومظاهر الأبهة والعظمة وإنما في خداع صار يمالئ الشعب. كان يبكر ويقف بجانب طريق باب المدينة ليمنع المتقاضين من الوصول إلى موضع اجتماع أبيه؛ يُعطي اهتمامًا لكل شخص فيسأله عن مدينته وسبطه، ليقول له في خداع دون فحصه لقضيته: “انظر أمورك صالحة ومستقيمة، ولكن ليس من يسمع لك من قبل الملك” [٣]. هكذا يتحدث أبشالوم بذات القول للطرفين المتخاصمين لا ليقضي وإنما ليثير الكل على والده ويحثهم على إقامته هو ملكًا وقاضيًا، إذ كان يردد القول: “من يجعلني قاضيًا في الأرض فيأتي إليّ كل إنسان له خصومة ودعوى فأنصفه؟!” [٤].
في اتضاع مزيف متى أراد أحد أن يسجد له كابن ملك وولي عهد، يمد يده ويمسكه ويقبله، كأنه صديق شخصي له… بهذا استرق أبشالوم قلوب الكثيرين، أمالهم إليه ليكسب ودّهم واحترامهم وطاعتهم له حتى يقيموه ملكًا عوضًا عن أبيه.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان أبشالوم مخادعًا، يسرق كل قلوب الناس. لاحظ كيف كان عظيمًا في خداعه! قيل إنه كان يذهب ويقول: أليس من يقضي لك؟! راغبًا في أن يصالح كل أحد معه؛ أما داود فكان بلا عيب. ماذا إذن؟ أنظر إلى نهاية كل منهما. أنظر كيف كان الأول في جنون مطبق! إذ كان يتطلع فقط إلى أذية أبيه صار أعمى في كل الأمور الأخرى، أما داود فلم يكن كذلك، لأن “من يسلك بالاستقامة يسلك بأمان” (أم ١٠: ٩)، وبتعقل[88]].
تم ذلك في نهاية أربعين سنة من مسح داود ملكًا على يدي صموئيل (١ صم 16: ١). يرى البعض أنه في نهاية أربعة أعوام من مصالحة أبشالوم لأبيه أعد الطريق لنفسه لكي يملك.
طلب من أبيه السماح له بالذهاب إلى حبرون ليفي نذرًا تعهد به وهو في جشور قائلا: “إن أرجعني الرب إلى أورشليم فإني أعبد الرب” (١٥: ٨). وكان ذلك على الأرجح خداعًا، لكن أباه الذي يطلب استقامة ابنه فرح جدًا أن يسمع منه أنه يريد أن يعبد الرب في حبرون بلد مولده، لذا سمح له بالذهاب بكامل حريته.
وضع أبشالوم الخطة ربما مع بعض المشيرين، وقد أحكمها تمامًا، إذ احتوت الخطوط العريضة التالية:
أ. أن يعلن توليه الحكم في حبرون – أحدى مدن يهوذا – التي عاش فيها داود زمانًا كملك لسبط يهوذا، وأقامها عاصمة لمملكته. في حبرون – بعيدًا عن أورشليم – يستطيع أبشالوم أن يجمع حوله كل الطاقات والشخصيات التي تسنده ضد والده، خاصة أن رجال يهوذا كانوا قد غضبوا لانتقال داود من حبرون إلى أورشليم.
ب. بعث أبشالوم إلى جميع الأسباط رُسلاً دعوا جواسيس لأن عملهم كان سريًا، حتى ينادي الكل به ملكًا في وقت واحد، فلا يجد داود أمامه ملجأ للهروب.
ج. أخذ أبشالوم معه مائتين من عظماء الرجال، دعاهم لأجل الذبيحة وهم لا يدرون ما ينوي عليه أبشالوم. وجودهم معه في حبرون يوحي للأسباط بأن عظماء المملكة تركوا داود لتعضيد أبشالوم، وأنهم جاءوا معه لتحقيق هذا الهدف؛ بهذا يشعر الكل أن أبشالوم يستحق المُلك عن أبيه. هذا وسحبهم إلى حبرون يغلق الباب أمام العظماء عن التشاور مع داود في أمر عقوق ابنه وفتنته، فيصيرون أمام الأمر الواقع أن يقبلوا الملك الجديد.
د. استعان أبشالوم بأخيتوفل الجيلوني [١٢]، إذ توسم فيه الرغبة مع القدرة على خيانة داود، وهو في هذا يشبه يهوذا في خيانته لسيده كما يشبهه في طريقة موته (مز 41: 9؛ يو ١3: ١8)
“جيلوه” قرية في جبال يهوذا (يش ١٥: ٥)، يحتمل أن تكون هي “خربة جعلا” الحالية، التي تبعد حوالي خمسة أميال شمال غربي حبرون[89].
هكذا أحكم أبشالوم الخطة بطريقة بشرية ولم يكن أمام داود طريق إلا الهروب أو الاستسلام فيتعرض للقتل على يدي ابنه.
أدرك داود الخطر مبكرًا، ولعله تذكر خطيته وقول الرب له: “والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد لأنك احتقرتني… هأنذا أقيم عليك الشر من بيتك” (١٢: ١٠-١١).
أشفق داود على المدينة، وخشى أن يضربها أبشالوم بالسيف بسببه، لذا قال لجميع عبيده: “قوموا بنا نهرب، لأنه ليس نجاة من وجه أبشالوم. أسرعوا للذهاب لئلا يبادر ويدركنا وينزل بنا الشر ويضرب المدينة بحد السيف” [١٤].
خرج الملك وكل رجاله في اثره ووقفوا عند آخر بيت من بيوت المدينة من جهة الشرق على طريق وادي قدرون ليعبروا بين يديه…
تمررت نفس داود لخيانة ابنه له وثورته ضده، لكن قلبه امتلأ رجاء في الرب مخلصه. بروح النبوة أدرك داود أن ما حل به من خيانة أبشالوم وأخيتوفل له إنما يرمز لخيانة يهوذا للسيد المسيح.
عندما هرب داود ترنم بالمزمور الثالث:
“يارب لماذا كثر الذين يحزنونني؟!
كثيرون قاموا عليّ.
كثيرون يقولون لنفسي: ليس له خلاص بإلهه.
أنت يارب، أنت هو ناصري، مجدي، ورافع رأسي.
أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت…”.
يعلق القديس أغسطينوس على هذا المزمور قائلاً:
[الكلمات “أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت، لأن الرب يعضدني” تقودنا إلى الاعتقاد بأن هذا المزمور يُفهم في شخص المسيح، فإنها تنطبق على آلام ربنا وقيامته أكثر منها على تاريخ هروب داود من وجه ابنه العاق… إذ كُتب عن تلاميذ المسيح “بنو العريس لا يصومون مادام العريس معهم” (راجع مت ٩: ١٥)، فلا نعجب إن كان ابنه العاق هنا قصد به التلميذ الذي خانه. يُفهم هروبه من أمام وجهه تاريخيًا عندما سحب السيد بقية التلاميذ إلى الجبل عند خروج الخائن، ويُفهم روحيًا عندما ترك ابن الله الذي هو قوة الله وحكمته ذهن يهوذا إذ ملأ الشيطان قلبه، يُفهم بهذا أن المسيح هرب من وجهه. لا يعني هذا أن المسيح أعطى مكانًا للشيطان، وإنما إذ تركه المسيح ملك الشيطان فيه…
هرب الحق من ذهن يهوذا عندما توقف الحق عن إنارته.
أما “أبشالوم” فكما يفسرها البعض معناها باللاتينية Patrs pax أي سلام أبيه.
يبدو من الصعب أن يُفهم “سلام أبيه” سواء في تاريخ الملوك حيث أثار أبشالوم الحرب ضد أبيه، وفي تاريخ العهد الجديد حين خان يهوذا ربنا. لكن من يقرأ بتروٍّ يرى أن داود كان في سلام مع ابنه أثناء الحرب، إذ يقول “يا ابني أبشالوم، يا ليتني متُّ عوضًا عنك” (١٨: ٣٣). وفي تاريخ العهد الجديد فإنه بطول أناة ربنا العجيبة والمدهشة احتمله كثيرًا جدًا كما لو كان إنسانًا صالحًا مع أنه لم يكن يجهل أفكاره. لقد ضمه إلى العشاء… وأخيرًا تقبل قبلته في ذات لحظات خيانته. إنه من السهل أن نفهم كيف أظهر المسيح سلامًا نحو خائنه…[90]].
عندما هرب داود من وجه شاول أقام في جت ونظم جيشًا قوامه ستمائة جندي وأقام إتاي الجتي قائدًا لهم. دام هذا الجيش معه حين صار ملكًا في حبرون وأيضًا في أورشليم، وكانوا إسرائيليين لكن دخل بينهم بعض الجتيين.
لعل من أجمل السمات التي اتصف بها داود هي عدم تفكيره في صالحه الخاص حتي في لحظات الضيق المُرّة، إذ لم يطلب تسخير الغير لحسابه. لهذا طلب من إتاي أن يبقى مع أبشالوم كملك جديد، إذ لا يُريد أن يُحمل إتاي فوق طاقته، لأنه غريب الجنس. لقد قال له: “ارجع وأقم مع الملك. لأنك غريب ومنفي أيضًا من وطنك. أمسًا جئت واليوم أتيهك بالذهاب معنا، وأنا أنطلق حيث أنطلق. ارجع ورجع إخوتك، الرحمة والحق معك” [ ١٩] الخ. لكن إتاي غريب الجنس رفض أن يترك داود وقت ضيقه، إنما تحدث معه بروح الحب والإخلاص والوفاء، متشبها في ذلك براعوث الموآبية في حديثها مع حماتها نعمى (را ١: ١٦).
أراد الله أن يُعزي قلب داود، بينما كان ابنه يخونه ويسلب ملكه طالبًا قتله، إذا بغريب الجنس يتعلق به في ضيقته ويشاركه متاعبه.
كان أبشالوم بن داود يمثل جماعة اليهود الذين من خاصة السيد المسيح وقد صمموا على جحده بعد تقديمه الخلاص على الصليب، أما إتاي فيشير إلى جماعة الأمم الذين تعلقوا بابن داود وقبلوا التغرب معه، يخرجون معه خارج المحلة ويشاركونه عاره (عب ١٣: ١٣).
إتاي المذكور هنا غير إتاي المذكور في (2 صم ٢3: ٢9، ١ أي ١1: 31) الذي من جبعة بني بنيامين، وكان أحد أبطال داود.
عبر الملك ورجاله الوادي الذي بين أورشليم وجبل الزيتون، حيث لا يكون فيه ماء إلا في فصل الشتاء. وقد عبر المسيح ذات الوادي في ليلة آلامه ليدخل بستان جثيماني (يو ١٨: ١).
أراد داود النبي أن تكون كل تحركاته تحت ظل الرب نفسه كمخلص له لذا طلب من صادوق الكاهن واللاويين أن يأتوا بالتابوت حتى يعبر الشعب، وإذ تم العبور لم يقبل أن يأخذه معه خارج أورشليم بل طلب إرجاعه مؤمنًا بأن الله يسمح له بالعودة إلى حيث التابوت رمز الحضرة الإلهية – إن أراد الرب.
أظهر داود تسليمًا كاملاً لحياته بين يدي الله مع شعوره بخطاياه وعدم استحقاقه، لذا رد التابوت ومعه صادوق الكاهن ومعه ابنه أخيمعص، وأبيأثار الكاهن وابنه يوناثان، حاسبًا ذلك سندًا له في أورشليم، وخشية أن يحل بالتابوت شيئًا!
أدرك أنه يمر بفترة تأديب إلهي لكنها إلى حين، أما قلبه فكان مرتبطًا بالله وبشعب الله وتابوت العهد والمدينة المقدسة أورشليم…
لقد طلب من الكاهنين أن يُرسلا إليه ابنيهما وهو متباطئ في البرية ليعرف أخبار أبشالوم ورجاله عند دخولهم المدينة.
صعد داود جبل الزيتون شرق مدينة أورشليم، قمته على بعد ميل منها، وكان يصعد باكيًا ورأسه مغطى ويمشى حافيًا، وجميع الشعب يتمثلون به. وإذ بلغ القمة “سجد لله” [٣٢]، فقد اعتاد أن يسجد لله ويشكره في وسط الضيقات. يقول مار اسحق السرياني: [القلب الذي يتحرك دائمًا بالشكر هو مرشد يقود لعطايا الله للإنسان[91]].
على ذات الجبل وقف رب المجد يسوع يتطلع نحو أورشليم باكيًا بسبب رفض أولادها أبوة الله ورعايته (مت ٢٣: ٣٧؛ لو ١٣: ٣٤).
مما زاد حزن داود الملك جدًا سماعه أن أخيتوفل أفضل أصدقائه يخونه، إذ هو بين الفاتنين مع أبشالوم، لذا صرخ إلى الرب أن يبدد مشورته، لأنه معروف بحكمته وتدابيره.
طلب داود من حوشاي الأركي أن يرجع لأنه شيخ لا يحتمل المشقات فيصير عبئًا على داود في تحركاته، ومن جانب آخر فإنه رجل أمين ووفي يقدر أن يبطل مشورة أخيتوفل خلال صداقته مع أبشالوم.
يبدو أن حوشاي كان غائبًا عندما هرب داود، وإذ سمع بالخبرأسرع إليه لكن داود فضل بقاءه في أورشليم، فكانت محبة حوشاي وأمانته بلسمًا لنفس داود المتمررة بسبب خيانة أخيتوفل.
عبّر داود النبي عن مرارة نفسه من جهة خيانة أخيتوفل وعن تهلله في نفس الوقت من أجل إخلاص حوشاي الأركي في المزمور ٤١.
“طوبى للرجل الذي ينظر إلى المسكين، في يوم الشر ينجيه الرب…
الرب يعضده وهو على فراش الضعف. مهدت مضجعه كله في مرضه…
أيضًا رجل سلامتي الذي وثقت به آكل خبزي رفع عليّ عقبه” (مز ٤١).
لعله عنى بالمسكين نفسه إذ صار طريدًا، فقد تطلع إليه حوشاي بالرغم من شيخوخته وضعف جسده لذا يسنده الرب ويعينه بقية أيام حياته. أما رجل سلامته فهو أخيتوفل الذي أنعم عليه بالحب والصداقة مع نعم وعطايا وها هو يحطم الثقة ويرفع عليه عقبه لأذيته فيصير رمزًا ليهوذا الخائن.