فتى الناصرة حتى الثلاثين

سؤال يملأ وجدان كل من ارتبط بالمسيح بالمحبة: ماذا كانت أيام صبوته الأولى وشبابه الغــض ورجولته اليافعة؟ لأنه منذ أن كان وهو في الثانية عشرة، عندما قص علينا ق. لوقا زيارة العائلة والمسيح معهم إلى أورشليم في عيد الفصح ، لم نسمع عنه شيئاً …

في سن الثانية عشرة:

+ «وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح. ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد. وبعدما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في رشليم، ويوسف وأُمه لم يعلما. وإذْ ظنَّاه بين الرفقة، ذهبا مسيرة يوم، وكانا يطلبانه. وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل، جالساً في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم. وكل الذين سمعـــوه بهتوا من فهمه وأجوبته. فلما أبصراه اندهشا وقالت له أُمُّه : يا بُنَيَّ، لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كُنَّا نطلبك معذبين ! فقال لهما : لماذا كنتما تطلباني؟ ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في ما لأبي؟ فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما. ثم نزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان خاضعاً لهما.» (لو 2: 41-51)

اندهشا من کلامه واندهش هو من كلامهما كيف يطلبانه في غير ما هو لأبيه؟ وكيف تقول أمه أن أباه كان يطلبه معذَّباً، وهو جالس مع أبيه الوحيد الذي له؟ «ينبغي أن أكون في ما لأبي»

معروف في طقس تربية الأولاد عند اليهود أنه بمجرَّد أن يبلغ الصبي اثنتي عشرة سنة من عمره، يجوز اختباراً ويُقدَّم في الهيكل لكي يأخذ لقب “ابن التوراة ” ويدخل كعضو عامل في اليهودي، وعليه بعد ذلك أن يحضر ثلاثة أعياد سنوياً في أورشليم (خر 34: 22و23). والمسيح قدموه هكذا في الهيكل للشيوخ والمعلمين في الهيكل لينال بركات الصلوات التكريسية.

أما نحن فيكفينا هذه الحادثة الهامة جداً، فهي بالنسبة لسؤالنا عن حياة المسيح منذ كان في هــذا السن – الاثنتي عشرة – حتى سن الثلاثين. إذ واضح جداً، ومن تقرير المسيح نفسه عن مبدأ عمله وحياته أنها كانت فيما لأبيه. فالذي جلس بين المعلمين يسمع ويسأل أي يحاور ويُعلم، كان له ولابد معرفة تؤهله لهذا الموقف وهو ابن اثنتي عشرة سنة. هذا يكشف لنا عن حياة بدأت جـــادة في دراسة التوراة والأنبياء والمزامير، ربما في السنين الأولى على يد الأسرة ثم مجمع القرية، ولكـــن بعـــد ذلك كان تعليم المسيح بالاجتهاد الشخصي مع تلقين الروح فللمسيح وعي مفتوح على الآب ينمو ويتدرج في النمو وبقدر ما يتسع للمعرفة تزيده المعرفة اتساعاً، ولم يكن للمسيح إلا التركيز علـــى الاستيعاب بقدر ما تتدفق المعرفة في قلبه المفتوح، فكان كمن يقرأ في كتاب. والمسيح لما كان يتكلم لم يكن يتكلم كمَنْ يأخذ من مستوى أعلى بل كمَن ينفتح وعيه ليتسلم ما هو لائق وعلى مستوى وعيه. ولا ينبغي أن ننسى أن المسيح “كلمة الله”، بمعنى أنه كان القوة الإلهية الواعية والناطقة، ونطقها فاعل. فالكلمة هي كلمة وفعل بآن واحد. فالجسد كان يرتفع جاهداً ليكون على مستوى ما للمسيح من وعي لا نهائي الذي كان يعبر عنه أنه ليس من نفسه كان يتكلم بل كما يسمع كان يتكلم. وكما يرى يفعل ! وعبر عنها لاهوتياً بقوله : «كل ما للآب هولي» (يو 15:16)، «ليس أحد يعرف الابن إلا الآب ولا أحد يعرف الآب إلا الابن» (مت 27:11). فمعرفة الآب والابن واحدة لأن الآب والابن هما واحد فصلة المسيح السرية بالآب هي سر معرفته الكلية الكاملة. 

بهذا نُدرك أن المسيح لم يتعلم: فتعجب اليهود قائلين: «كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟» (يو 15:7). والقصد من أنه لم يتعلم أي لم يسلك سلوك الربيين في الجلوس تحت أقدام المعلمين الكبار حتى ينقل ما عندهم من معرفة. فالمسيح لم يلتحق قط براب أو فريسي ليتعلم، بـــل كـانـــت معرفته من الآب وحده. فكانت السنين التي انقضت كلها قبل ظهوره محاولة هادئة لبلوغ هــذا المستوى في الوعي بأن كل ما للآب هو له، إن في المشيئة أو المعرفة أو العمل. فطابق الكلمة الأزلي الابن المتجسد تماما، حتى صار «أنا والآب واحد» (يو .30:10). وقد انطبعت التوراة على قلبـــه وفكره، والتاريخ والآباء والأنبياء والماضي السحيق أصبح . عنده صفحة مقروءة، حتى أكمل كل ما أعطاه الآب ليكمله : «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يو 4:17)، «تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني.» (يو 16:7)

وهكذا لا نعتقد أن السنين الطويلة التي قضاها المسيح في حياته بالناصرة بين الثانيــة عـشـرة والثلاثين، والتي حُجبت عنا تماماً، أنها انقضت دون حركة داخلية ودون امتداد بالمعارف التي أبداها وهو صبي. فلابد أن هذه السنين الطوال، والتي هي زهرة العمر في المعرفة والاستيعاب وانفتاح الوعي على الواقع المحيط وما فوق الواقع وما فوق الطبيعة؛ كانت له مدرسة كمدرسة الأنبياء، حيث المعلم الوحيد هو روح الله ليعطيه ما يؤهله أن يكون المعلم المتميز فوق كـــل علــــم ومعلــم لإسرائيل. فالمسيح لم يتعين أن يكون نبيا ليأخذ من الروح ما يكفيه بل هو الابن الوحيد المحبــوب، وعلمه لابد أن يبلغ علم الآب في كل شيء. فالذي جاء ليكمل الناموس حتماً يكون أعلى ممـن وضع الناموس: «قد سمعتم أنه قيل للقدماء … أما أنا فأقول لكم» (مت 21:5و22)، «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» (يو 8: 8)، وهنا أعظم من موسى وأعظم من الهيكل (مت 6:12)!! إذن، فنحن حقا وبكل يقين أمام الابن الوحيد الذي أخذ شكل العبد، فعلينا ألا نتوه في الشكل أو نظن فيـــه مظنة العبيد.

فبقدر ضخامة المهمة العظمى التي ألقاها الله أبوه عليه، لكي يكون نوراً للعالم، ومعطي الحيـــاة الأبدية، وفادياً ومخلصاً، ورافعاً خطية الإنسان، ومُبطلاً للموت؛ لابد أن يكون قد بلغ فيها جميعاً حد الألف والياء، الأول والآخر معاً، البداية والنهاية جميعاً! أي يكون ختام معارف الإنسان والسموات معاً، وأقصى ما بلغه الآباء والأنبياء وكل صاحب سلطان: «دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (مت 18:28)؛ ليصلح أن يكون دياناً للأحياء والأموات، وكاسر شوكة الموت، وساحق رأس الحية، ورافعاً الإنسان من تراب الأرض الذي منه أخذ ليحضره إلى حضرة الآب التي منها نزل. فلم يكن ميلاده العذري من العذراء من الروح القدس إلا توطئة للبلوغ بالإنسان إلى مستوى الطهارة الكلية والقداسة التي بما يرى الإنسان الله من جديد، والتي تليق بالشركة في الحياة الأبدية مع الآب والابن جميعاً. فميلاده العذري من الروح القدس بلا أب كان القاعدة الضخمة التي انطلق منها ليصنع خلقة جديدة للإنسان من لحمه ومن عظامه ليؤهله لشركة المجد مع الله.

وظهور جمهور جند السموات يسبحون لحظة ميلاده ويعطون المجد لله في السماء، والسلام على أرض اللعنة والشقاء، والسرور بين الناس الذين هدهم الحزن وسحقهم الحرمان؛ إنما كانوا ليكشفوا ويُعلنوا ويبتهجوا بسر هذا الميلاد السمائي الذي لهم فيه مدخل وبشارة، والذي به ضمنوا للإنسان شركة معهم – ملائكية – في خدمة الآب السماوي وبنشيدهم وهتافهم أُعلن انفتاح ملكــــوت السموات ليغشاه الإنسان، لا كعبد بعد ولا كضيف زائر، بل كوريث مع المسيح في كل ما الله: « أما قديسو العلي فيأخذون المملكة ويمتلكون المملكة إلى الأبد وإلى أبد الآبدين … والمملكــة والسلطان وعظمة المملكة تحت كل السماء تُعطى لشعب قديسي العلي. ملكوته ملكوت أبــــدي، وجميع السلاطين إياه يعبدون ويطيعون.» (دا 7: 27,18). فمنذ ميلاد المسيح، والمسيح يستجمع في ذاته كل ما يؤهل الإنسان في شخصه ليقف بالنهاية أمام أبيه بلا لوم في المحبة لمدح مجد نعمته التي أنعم بها لنا في المحبوب يسوع ويرث فيه كل ما للآب.

والآن على الإنسان وكل عالم ومتعلّم أن يقيس بكل قياس النعمة والروح والبصيرة المفتوحة ماذا كان يعوز المسيح لكي يتمم هذا ويبلغ بالإنسان الخاطئ إلى هذا القدر الفائق؟!

هكذا لما بلغ المسيح سن الثلاثين (وهي السن الرسمية التي يدخل فيها اللاوي للخدمة)، كان على أتم استعداد للقيام بهذه المهمة المستحيلة!!

فلما بلغ الإحساس بالرسالة في قلب المسيح أقصاه، وشعر بالدعوة وقد ضغطت على فكره وثقلت على قلبه، وفرض الصوت الداخلي نفسه؛ سار الهُوَيْنا يحدوه الفكر العميق أنه قد جاء ملء الزمان، وقد حطَّت الملائكة على كتفيه نير الجهاد المقدس. فبخطوات ثابتة اتجه نحو بيت عبرة، حيــث كـــان المعمدان يعمد !

 

زر الذهاب إلى الأعلى