تفسير مراثي إرميا أصحاح ٤ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الرابع
 عودة إلى عار الخطية
وتمتع بالرب المسيح حياتنا

لماذا العودة إلى الحديث عن عار الخطية؟

بعد أن دخل بنا إرميا النبي في المرثاة السابقة إلى أعماق المصلوب، وتلامسنا مع محبة غافر الخطايا العجيب، هل من ضرورة للعودة إلى الحديث عن عار الخطية؟

كنا نتوقع بعد المرثاة الثالثة أن لا يعود يتحدث النبي عن الخطية، لكن بحكمة إلهية جاءت المرثاة التي بين أيدينا تتحدث عن التغير الصارخ الذي يهز كل كياننا بسبب التهاون مع الخطية، وكأنه يليق بنا كمؤمنين أن نردد مع المرتل: “خطيتي أمامي في كل حين” (مز 51: 3)، ولكن بروح الرجاء المفرح في المخلص، فاتح أبواب السماء أمامنا!

يمكننا القول إن النبي تحدث في المرثاتين الأولى والثانية عن مرارة الخطية بوجه عام للمؤمنين وغير المؤمنين، أما هنا فيحذرنا النبي لئلا بسبب رجائنا في الرب مخلصنا نعود ونتهاون مع الخطية. وتأتي المرثاة الخامسة لتعلن عن حاجتنا الدائمة للمخلص الذي يشتاق أن ينطلق بنا دوما إلى بداية جديدة! يبقى باب الرجاء مفتوحًا لكل البشرية حتى النفس الأخير من حياة الإنسان. بمعنى آخر تبقى ذراعا الرب مبسوطتين لكل إنسانٍ، ترحبان به، لكي تحتضناه، وترفعاه إلى حضن الآب.

إذ يرى النبي ما حلّ بمدينته من خرابٍ شامل، مع تحذيراته المستمرة لهم كاد لا يصدق ما يراه بعينيه، فصار يعاني من مرارة شديدة في أعماقه. إنه يمثل ما حلّ بالطبيعة البشرية بعد عصيانها لخالقها، كما يمثل ما يحل حتى بالمؤمن إن استخف بالنعمة الإلهية ونعمة البنوة بالمعمودية. وكما يقول الرسول: “اثبتوا إذًا في الحرية التي قد حررنا المسيح بها، ولا ترتبكوا أيضًا بنير عبودية” (غل 5: 1). “فإنكم إنما دعيتم للحرية أيها الإخوة، غير أنه لا تصيروا الحرية فرصة للجسد، بل بالمحبة اخدموا بعضكم بعضًا” (غل 5: 13).

هذا الدمار الذي شمل كل الطبقات، إنما يشير إلى خطورة التساهل مع الخطية على النفس والجسد وكل الأحاسيس والعواطف والمواهب. يوصف هذا الدمار على النحو التالي:

  1. يصير الشبان المكرمين الذين كانوا كالذهب والإبريز أشبه بأباريق خزف هشة [2]. بمعنى أن يفقد المؤمن الفكر السماوي والحياة الشبه ملائكية، ليعيش في وسط التراب والوحل مُستعبدًا للزمنيات.
  2. لصقت ألسنة الرضع بحلق أفواههم بسبب العطش [4]، أي يفقد الإنسان بساطته حتى وهو رضيع قبل أن يحتك بالعالم، فيُحرم من مياه المعرفة الروحية الصادقة.
  3. يسأل الأطفال خبزًا، وليس من يكسره لهم [4]، إذ تصير الجماعة عاجزة عن تقديم كلمة الحياة ورفع القلوب إلى السماء، مع أن الكتاب المقدس في متناول أياديهم.
  4. هلك من الجوع الأغنياء الذين كانوا يأكلون المآكل الفاخرة في الشوارع [5].
  5. صار المكرسون أشد ظلامًا، هؤلاء الذين كانوا أكثر بياضًا من اللبن، وأجسامهم أشد حمرة من المرجان [7-8]. فعوض الاعتزاز بالبنوة لله، والسلوك تحت قيادة الروح القدس، بروح القوة كملوكٍ، يستعبدون نفوسهم للشرير وشهواته.
  6. طبخت الأمهات الحنائن أولادهن وأكلهن [10]. تفسد الخطية اتساع القلب الذي يحتضن حتى الأعداء، ويعيش بقلبٍ ضيقٍ، تسوده الأنانية والكراهية إلخ.
  7. تلطخت شوارع أورشليم مدينة اللهبالدم بسبب خطايا أنبيائها الكذبة [14]. يفقد الإنسان عمل الروح القدس فيه فيصير فاقد البصيرة، وعوض كونه هيكلًا لله يسكنه الثالوث القدوس، يصير ملهى للشيطان، ومسكنًا لكل ما هو دنس.
  8. أسر نبوخذنصر الملك صدقيا الذي حاول الهروب، فلحق به رجال الجيش الذين طاردوه كالنسور، وقتلوا أولاده أمام عينيه، كما فقأوا عينيه، وقُيد بسلاسل من النحاس إلى السبي [18-19-20]. يفقد الإنسان مركزه كملكٍ يتمتع بملك الملوك، ويصير أسيرًا لإبليس. يفقد أولاده الروحيين حيث يعثر الكثيرين، كما يفقد بصيرته الروحية، فيحسب الخلاص قصة من اختراع الإنسان، والأبدية وهمًا به يهدئ الإنسان مشاعره مما يحل به من متاعبٍ.

 

يمكن تقسيم هذه المرثاة إلى ثلاثة أقسام:

  1.  تغّير صارخ 1-12
  2.  سرّ نكبة أورشليم 13-20
  3.  عقاب أدوم 21-22

 تغّير صارخ 1-12

إذ حلّت الكارثة بأورشليم صار أمام فكر إرميا النبي صورة مرة وصارخة بين ما كانت عليه أورشليم قبل السبي، وما بلغت إليه خلال السبي.

كَيْفَ اكْدَرَّ الذَّهَبُ تَغَيَّرَ الإِبْرِيزُ الْجَيِّدُ؟

انْهَالَتْ حِجَارَةُ الْقُدْسِ فِي رَأْسِ كُلِّ شَارِعٍ [1].

يرى النبي شباب أورشليم مدينة الله المُكرم أشبه بقطعة ذهب لن تصدأ قط ولا تفقد جمالها مع الزمن. ولهذا فإن كثيرون من آباء الكنيسة يرون في الذهب، خاصة الذي استخدم في هيكل سليمان وأثاثاته وأوانيه، أنه يشير إلى طبيعة الهيكل الروحي السماوي.

إذ خُرّبت المدينة تمامًا تمرّرت نفس النبي، فقد صدأ الذهب أو فسد على غير طبيعته، مع أنه ذهب إبريز جيد. لقد ضاع هدف المدينة، وفقدت مركزها كمدينة الله بل وكيانها. عوض كونها تمثل أيقونة السماء في وسط العالم الشرير، صارت خرابًا وأُضحوكة أمام الأمم.

هوذا حجارة القدس التي لم يكن يُسمح لإنسان غريب الجنس أن يلمسها، ولا لكاهنٍ أو لاويٍ غير طاهر أن يقترب إليها، قد انهالت وتبعثرت في الشوارع، وصار الوثنيون يطأونها بأقدامهم، ويلقون عليها نفايات دنسة ونجسة.

أراد الله من الإنسان أن يكون حجرًا حيًا لبناء هيكل الرب السماوي(1 بط 2: 5)، لكن بالعصيان يفقد دوره، بل ويفسد هيكل الله (1 كو 3: 17).

هذا هو حال إنسان الله الذي يهابه الشيطان، ولا يقدر حتى أن يتطلع إليه من البهاء الذي تسكبه النعمة عليه، والفكر السماوي الذي يقوده، حين يتهاون ويتجاهل دوره ورسالته كسفير المسيح، إذ يصير أُضحوكة للشياطين وللأشرار!

“فِي رَأْسِ كُلِّ شَارِعٍ”: ربما يشير هنا إلى القادة والرعاة على وجه الخصوص، إذ هم رؤوس للرعية، ويتحتم على الرأس أن تنظر إلى الأمام من فوق، حتى تستطيع القدمان السير إلى الأمام في طريق مستقيم. أما إذا أعوجت هيئة الجسم المستقيمة، وانحنت الرأس نحو الأرض، فترتبك الرجلان في سيرها ويعجزان عن السير في طريق الاستقامة السماوي.

كيف يسمح ضمير الراعي الذي هو رأس أن يتمتع بكرامة الكهنوت من الآخرين، إن كان قد انشغل بالأمور الأرضية التي كان يلزمه أن يوبخ الآخرين عليها؟ هذا هو حقًا ما توعده الرب في غضب مجازاته العادلة بالنبي القائل: فيكون كما الشعب هكذا الكاهن (هو 4: 9). إذ يستوي الكهنة القائمون على الخدمة الروحية مع الشعب عندما تكون أعمالهم كأعمال الذين يسعون وراء كل ما هو جسدي. تأمل إرميا النبي في هذا، وأظهر في جزعه على خراب الهيكل حزن محبته العميق، فقال: “كيف أكدر الذهب، تغير الإبريز الجيد؟ انهالت حجارة القدس في رأس كل شارع” (مرا 4: 1).

ماذا يقصد بالذهب إلا الحياة السماوية وسمو القداسة؟

وماذا يقصد بالإبريز الجيد إلا الوقار الروحي الذي نكنه لهم؟

وماذا تعني حجارة القدس إلا أصحاب الرتب المقدسة؟

وماذا يقصد بكلمة رأس شوارع إلا ترف الحياة الزائد؟ يقول الحق الإلهي نفسه: “لأنه واسع الباب، ورحب الطريق الذي يؤدى إلى الهلاك” (مت 7: 13).

*   تشير الحجارة إلى أذهان الأقوياء، عندما قال بطرس للقديسين: “كحجارة حية، بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدسًا” (1 بط 5:2). ويعد الرب الكنيسة بذلك حين تأتي، قائلًا بالنبي: “هأنذا أبني بالإثمدحجارتك، وبالياقوت الأزرق أؤسسك، وأجعل شُرفكِ ياقوتًا، وأبوابك حجارة بهرمانية، وكل تخومك حجارة كريمة، وكل بنيكِ متعلمين من الرب” (إش 11:54-13). إذ يضع فيها حجارة بترتيبٍ، حيث يميز النفوس المقدسة فيها حسب اختلاف استحقاقاتها. “يضع أساساتها بياقوت أزرق”، حيث تحمل هذه الحجارة في ذاتها شبه لون السماء، فتتأسس قوة الكنيسة في النفوس التي تطلب السماويات…

لكن هذا الذهب قد انطمس بعد ذلك بظلمة عدم الإيمان. رثى النبي إرميا سواده، قائلًا: “كيف اكدر الذهب؟ تغير الإبريز الجيد؟” (مرا 1:4) فقد صار الذهب مكدرًا، فاعتم البهاء القديم للإيمان، والبراءة عينها بليل الشر، حيث حلٌ عدم الإيمان بهم.

 البابا غريغوريوس (الكبير)

*     يُجرب (يُختبر المُرشح للكهنوت) أيضًا إن كان بلا عيب في أشياء هذا العالم، لأنَّه مكتوب أن يُستقصى عن كل من يجلسونه كاهنًا إن كان بلا عيب.

الدسقوليَّة – باب 3

*     ينبغي أن يكون الكاهن ذا عقلٍ سامٍ ومداركٍ خارقةٍ، وأعين بلا عدد من كل جانب، فهو إنسان لا يحيا لأجل نفسه فقط، بل من أجل جموعٍ كثيرة.

*     تأمَّل من أي نوع ينبغي أن يكون عليه هذا الكاهن؟!

يلزم أن يكون مبجَّلًا، لكنَّه متحرِّر من الكبرياء!

ويكون مُرهبًا… لكنَّه حنون!

ويكون كفوًا للقيادة… لكنَّه اجتماعي!

عديم المحاباة… لكنَّه بشوش!

متواضعًا… لكنَّه ليس بخسيس!

قويًا… لكنَّه نبيل!

كل هذا حتى يستطيع أن يصد كل الصعوبات.

القديس يوحنا الذهبي الفم

بَنُو صِهْيَوْنَ الْكُرَمَاءُ الْمَوْزُونُونَ بِالذَّهَبِ النَّقِيِّ،

كَيْفَ حُسِبُوا أَبَارِيقَ خَزَفٍ عَمَلَ يَدَيْ فَخَّارِيٍّ؟ [2]

ما يحزن قلب النبي ليس كرامة مدينة الله، ومبنى الهيكل الذي فقد قدسيته، وإنما ما هو أخطر سكان المدينة، خاصة القادة، والعاملون في الهيكل من كهنة ولاويين وشيوخ إلخ. فقد كانوا في عينيّ الله يُحسبون كذهبٍ نقيٍ ثمينٍ، يعتز بهم كأبناء له، لهم كرامتهم حتى عند السمائيين، قد صاروا كقطع خزف ترابي، ليس من يهتم حتى بنظافتهم من التراب الذي لحق بهم، لأنه صار التراب من صميم كيانهم. فقدوا كل قيمة أمام السماء والأرض!

نُهب ذهب الهيكل، حتى أُزيلت كل أثاره التي على الجدران أو المباني وألقيت كما في مزبلة وضاع كل جمال!

يشير الذهب إلى السماء، فقد خلق الله الإنسان من التراب، لكنه وهبه نفسًايمكن أن تتشبه بالملائكة. لكن للأسف تحول من الذهب النقي (الإبريز) إلى الحياة الفاسدة كإبريقٍ خزفيٍ مكسورٍ بلا قيمة.

* إننا (بالفضائل) نصير متساوين مع الملائكة. يقدم لنا الملكوت، فنحسب متحدين مع المسيح. إننا نعلم أننا بدون الفضيلة نصير أدنى من الحيوانات العاقلة، لذا يليق بنا أن نتدرب أن نكون بشرًا، لا بل بالأحرى نكون ملائكة، لكي ننعم بالبركات الموعود بها خلال نعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح [1].

* يمكننا إن أردنا وبمعونة نعمة الله العاملة فينا أن ننافس بأرواحنا الأرواح السماوية، بل وقد نفوقها [2].

* علموا الذين “هم في خارج” أنكم في صحبة طغمة السيرافيم، محسوبين مع السمائيين، معدين في صفوف الملائكة، حيث تتحدثون مع الرب، وتكونون في صحبة السيد المسيح. فإن تهيأت نفوسكم هكذا، فلا حاجة إلى ما ننطق به مع من تخلفوا عن الحضور، لأنهم يرون ما نلناه، ويلمسون خسارتهم، فيسرعون إلى الحضور ليتمتعوا مثلنا.

إنهم يُحثون بجمال نفوسكم المتلألئة، فتلتهب قلوبهم بمظهرنا الصالح مهما كانوا أغبياء، لأنه إن كان جمال الجسد يغري ناظره، فكم بالحري يهز جمال النفس وتناسقها ناظرها، وتجذبه لتكون له نفس الغيرة؟! إذًا فلنزين إنساننا الداخلي، ولنفكر فيما يقال ههنا عندما نخرج… لأنه إن كان المصارع يصارع حسبما تدرب عليه في مدارس المصارعة، إلا أننا نحن في تعاملنا مع العالم لم نستخدم ما نسمعه ههنا! [3]

القديس يوحنا الذهبي الفم

بَنَاتُ آوَى أَيْضًا أَخْرَجَتْ أَطْبَاءَهَا،

أَرْضَعَتْ أَجْرَاءَهَا.

أَمَّا بِنْتُ شَعْبِي فَجَافِيَةٌ كَالنَّعَامِ فِي الْبَرِّيَّةِ [3].

يا لها من صورة بشعة بلغت إليها ابنة صهيون، فإن كانت بنات آوي التي لا يتوقع أحد أن تحمل أي نوع من الرعاية لصغارها، إذ تتمتع بالأمومة خلال الغريزة الطبيعية كغيرها من الحيوانات، تهتم بإرضاع صغارها فتخرج لهم أطباءهاأي ثدييها، غير أن ابنة صهيون لم تفعل هذا بالعقل البشري، إنما صارت كالنعامة التي تتجاهل صغارها (أي 39: 13-18).

النعامة حسب الشريعة الموسوية مملوءة نجاسة (لا 11: 16؛ تث 14: 15)، صوتها كالنحيب (مى 1: 8)، لا يدخل إليها الفرح السماوي، طبعها جاف لا تحب بيضها (مرا 4: 3). تدفن النعامة رأسها في الرمال متى رأت صيادًا يقترب إليها، وكان يُظن أنها تفعل ذلك، لأنها تحسب أنه بذلك لا يراها الصياد، لكن ظهر حديثًا أنها تفعل ذلك لأنها أجبن من أن ترى نفسها تقع ضحية للصيادين.

هكذا تفسد الخطية حتى العواطف الطبيعية، فبنات آوي ترضع صغارها، أما بنات صهيون للأسف لم يبالين بأطفالهن. كن يقدمن أطفالهن ذبائح ومحرقات للإله مولوك، كما بسبب خطاياهن عانى أطفالهن من المر في السبي البابلي.

لَصِقَ لِسَانُ الرَّاضِعِ بِحَنَكِهِ مِنَ الْعَطَشِ.

الأَطْفَالُ يَسْأَلُونَ خُبْزًا،

وَلَيْسَ مَنْ يَكْسِرُهُ لَهُمْ [4].

في المراحل الأخيرة للهجوم على أورشليم حدثت مجاعة مرة، عانى منها بالأكثر الأطفال (مرا 2: 19). هنا ظهر جفاف هذا الشعب، فقد تعاملوا مع أطفالهم الجائعين بجفاف لا نجده في الثعالب والنعام. منظر الأطفال الجائعين وهم يصرخون إلى أمهاتهم، بينما لم تبالِ الأمهات بهم بسبب الضيق هزَّ كيان النبي، وملأ نفسه مرارة.

فقدت ابنة صهيون الأمومة الروحية، فلم تعد تُرضع الرُضّع بلبن التعليم النقي، فحل الظمأ بالصغار، ولصقت ألسنتهم بحنكهم. وإن وُجد خبز الروحي لإطعام الأطفال لا تتحرك حتى لكي تكسره وتقدمه لهم.

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) هنا نبوة عن اليهودية التي كان يليق بها عند مجيء السيد أن تشهد له وتكرز، فتقدم للعالم المسيح خبز الحياة، لكن بسبب حسد القيادات اليهودية تحولت إلى نارٍ خفية مهلكة للنفوس.”الأرض يخرج منها الخبز، تنقلب في موضعها بالنار” (راجع أي 28: 5). كان ما يشغل اليهودية أن تعطي خبزًا، إذ اعتادت أن تعد كلمات الناموس أمام الناس. لم يعد أبناء الهلاك قادرون على تفسير هذا الناموس عينه، كما ينتحب إرميا النبي في مراثيه، قائلًا: “الأطفال يسألون خبزًا، وليس من يكسره لهم” (مرا 4:4). لكن هذه “الأرض تنقلب في موضعها بالنار“، إذ تهلك نفسها بجمرة الحسد، عندما ترى معجزات المؤمنين… ألم تكن ملتهبة بلهيب جمر حسدها، عندما رأت معجزات مخلصنا، فقال بعض رجالها: “ماذا نصنع، فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة” (يو 47:11)؟ أو “انظروا، إنكم لا تنفعون شيئًا. هوذا العالم قد ذهب وراءه” (يو 19:12).

 قيل بعاموس النبي: “هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب، أرسل جوعًا في الأرض، لا جوعًا للخبز ولا عطشا للماء، بل لاستماع كلمات الرب” (عا 8: 11).

ما هي تلك الأيام التي حدثت فيها المجاعة بسبب رفض ابنه صهيون أن تكسر الخبز وتعطي أطفالها، إلا تلك التي جاء فيها السيد المسيح، الخبز الحيّ، فرفضه رؤساء الكهنة والقادة، وحرموا الشعب من التعرف على شخصه.

* يمكن للإنسان أن يحسب شعب إسرائيل غنيًا، إذ لهم التبني والعبادة الإلهية والوعود والآباء. على أي الأحوال صاروا فقراء بسبب خطيتهم ضد الرب. “أما طالبو الرب فلا يعوزهم شيء” (مز 34: 10). لقد صاروا في عوزٍ إلى انتعاش بطريقة معينة، وعانوا من الجوع، لأنهم إذ سلّموا “خبز الحياة” للموت، حلّ عليهم الجوع للخبز [4].

القديس باسيليوس الكبير

*   (كلمة الله) طعام النفس، وحُليِّها، وضمانها، ففي عدم السماع لها مجاعة وحرمان [5].

القديس يوحنا الذهبي الفم

اَلَّذِينَ كَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَآكِلَ الْفَاخِرَةَ

قَدْ هَلَكُوا فِي الشَّوَارِعِ.

الَّذِينَ كَانُوا يَتَرَبُّونَ عَلَى الْقِرْمِزِ

احْتَضَنُوا الْمَزَابِلَ [5].

كان الأطفال يتربون على القرمز، أي يمارسون حياة الملوك في ترفٍ، لكن بسبب السبي صاروا كما في مزابل.

شتّان ما بين حال ابنة صهيون التي كانت تعيش كأسرة ملوكية في جناح القصر الملكي الروحي، تتمتع بكلمة الله اللذيذة واهبة الشبع والحياة، وما بلغت إليه من جوع برفضها للسيد المسيح خبز الحياة النازل من السماء، فهزلت روحيًا للغاية، وحلّ بها الهلاك في الشوارع، كأن لا بيت لها ولا مأوى روحي. عوض ارتدائها الثياب الثمينة التي من القرمز، تفرح بها الملائكة، إذ ترتدي ثوب القداسة الحقيقية، ارتمت في المزبلة لتحتضن الجحود.

*     تأمل قول يوحنا: “إلى خاصته جاء” (يو 1: 11)، ليس لأجل حاجة المسيح، لأنه مستحيل أن تكون الذات الإلهية محتاجة، لكنه جاء من أجل الإحسان إلى خاصته.

وقد جعل يوحنا ملامة هؤلاء اليهود أشد لذعًا عندما قال: “وخاصته لم تقبله“. مع أن المسيح هو الذي جاء إليهم لمنفعتهم إلا أنهم رفضوه، ولم يفعلوا به هذا الفعل فقط، لكنهم أخرجوه إلى خارج كرمه وقتلوه.

*     نال اليهود معرفة أكثر من السامريين، وتعرفوا دومًا على الأنبياء، وأكلوا معهم، فظهروا في هذا أنهم متأخرون عنهـم، لأن هؤلاء السامريين آمنوا بالمسيح بناء على شهادة امرأة، دون أن يبصروا منه معجزة واحدة، وخرجوا مسرعين يطلبون من المسيح أن يقيم عندهم، أما اليهود فشاهدوا بأعينهم عجائبه، وليس أنهم لم يستبقوه معهم بل طردوه بعيدًا، واستخدموا كل وسيلة لاستبعاده عن بلادهم، مع أنه قد جاء أصلًا لأجلهم [6].

*     كأن السيد المسيح يقول لليهود هنا: فإن كنتم لم تتبعوني فليس لأني لست راعيًا، لكن لأنكم لستم غنمي. قال السيد المسيح هذا لكي يريدوا أن يصيروا غنمًا له، ولكي ينهضهم ويجعل فيهم هذه الشهوة [7].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     نقول نحن المسيحيين إن اليهود، بالرغم من سابق تمتعهم بعطف الله، إذ كانوا محبوبين منه أكثر من غيرهم، إلا أن هذا التدبير والنعمة الإلهيين قد تحولا إلينا، عندما نقل يسوع السلطان العامل بين اليهود إلى مؤمني الأمم [8].

العلامة أوريجينوس

وَقَدْ صَارَ عِقَابُ بِنْتِ شَعْبِي

أَعْظَمَ مِنْ قِصَاصِ خَطِيَّةِ سَدُومَ،

الَّتِي انْقَلَبَتْ كَأَنَّهُ فِي لَحْظَةٍ،

وَلَمْ تُلْقَ عَلَيْهَا أَيَادٍ [6].

كانت سدوم المثل الخطير للشر عند العبرانيين، ودمار سدوم في فترة وجيزة يكشف عن كراهية الله للخطية، كيف لا يطيقها. ومع هذا فإن ما حلّ بسدوم يحسبه النبي أهون مما حلّ بأورشليم ويهوذا خلال السبي.

قدم النبي مقارنة خطيرة بين ابنة صهيون التي وُهبت لها الشريعة، ودخلت في ميثاق مع الله، فأرسل لها الأنبياء، وتسلمت الوعود الإلهية، وبين سدوم الوثنية التي احترقت بكبريت ونار من السماء، صار مصير الأولى أشر وأخطر!

يعتبر النبي أن تأديب يهوذا كان أكثر مرارة مما حلّ بسدوم التي عُرفت بالشذوذ الجنسي، فالأخيرة انقلبت في لحظة، أما شعب إسرائيل فذاق العذاب والعار بسبب السبي. أهل سدوم لم يكن لهم شريعة ولا كهنة ولا هيكل مقدس مثل شعب يهوذا (راجع 1 بط 4: 17).

*   لم يعودوا بعد شعب الله ولا أمة مقدسة، بل حكام سدوم وشعب عمورة. لقد تعدوا خطايا سدوم كما سبق فأخبرنا النبي:”ستتبرر سدوم أمام أعمالك” (راجع حز 48:16، مرا 6:4). لأن أهل سدوم قاوموا ملائكة، أما هذا الشعب فقاوم الرب الله ملك الملوك، وتجاسروا على قتل رب الملائكة. لم يعرفوا أن المسيح الذي قتلوه يعيش حتى اليوم [9].

البابا أثناسيوس الرسولي

كَانَ نُذُرُهَا أَنْقَى مِنَ الثَّلْجِ،

وَأَكْثَرَ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ.

وَأَجْسَامُهُمْ أَشَدَّ حُمْرَةً مِنَ الْمَرْجَانِ.

جَرَزُهُمْ كَالْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ [7].

جاءت كلمة “نذير” في تك 49: 26؛ تث 33: 16 وهو من تأهلت شخصيته حتى مظهره للتكريس لعمل ما لا يصلح له أحد غيره، مثل المكرّسين لخدمة الرب، أو الأمراء والنبلاء. هؤلاء كل من يتطلع إليهم يدرك امتيازهم وكرامتهم ودورهم في المجتمع. الآن ساء حالهم جدًا، حتى صاروا لا يصلحون إلا للقبور، كموتى عاجزين عن القيام بأي عمل.

يبكي النبي على ما كانت عليه ابنة صهيون، فقد كان نُذرها، أي النذيرون الذين كرسوا حياتهم للرب في طهارة ونقاوة كالثلج بلا لوم، يتسمون باللون الأبيض كاللبن، والأحمر كالمرجان. البياض يشير إلى الطهارة، واللون الأحمر يشير إلى عمل دم المسيح (رؤ 7: 14)، أما لونهم الأزرق فيشير إلى ما اتسموا به من مسحة شبه سماوية، كقول الرسول بولس: أجلسنا معه في السماويات.

صَارَتْ صُورَتُهُمْ أَشَدَّ ظَلاَمًا مِنَ السَّوَادِ.

لَمْ يُعْرَفُوا فِي الشَّوَارِعِ.

لَصِقَ جِلْدُهُمْ بِعَظْمِهِمْ.

صَارَ يَابِسًا كَالْخَشَبِ [8].

زالت عنهم الألوان ذات المعاني الروحية السامية، وصاروا يحملون لون الظلمة. تحول نورهم وبهاؤهم شبه السماوي إلى ظلمة قاتمة، وحياتهم المملوءة حيوية إلى موتٍ.

*     يا لها من قسوة مرعبة! يا لها من وحشية غريبة! أنت لم تخف الله، أنت لم تحترم الغير، ولا كنت تخجل من أصدقائك. لذلك تدمرت فيك كل الأشياء في وقتٍ واحدٍ!

جردت نفسك من كل صلاح في ذات الوقت. مرة أخرى، إني أحزن عليك يا أيها البائس! يا من أظهرت غيرتك على الملكوت، سقطت من الملكوت.

يا من تتنسم بوقار من أجل التعليم، لم تكن لك مخافة الرب أمام عينيك.

يا من كرزت بالقداسة الآن قد تدنست. يا من كنت في مجد في الفقر، صرت تسرق المال.

يا من تحت قيادتك أشرت إلى عقوبة الله تسقط بنفسك تحت التأديب.

كيف أنتحبك؟ كيف أحزن عليك؟ كوكب الصبح الذي يشرق مبكرًا يسقط ويرتطم بالأرض. أذني كل شخص يسمع ذلك تطنان!

كيف أن النذير (مرا 4: 7- 8) الذي أشرق في أكثر بهاء من الذهب يصير أكثر ظلمة من سخام (سناج)؟ كيف يصير ابن صهيون الحسن على الدوام كإناء فاسد؟

القديس باسيليوس الكبير

كَانَتْ قَتْلَى السَّيْفِ خَيْرًا مِنْ قَتْلَى الْجُوعِ.

لأَنَّ هَؤُلاَءِ يَذُوبُونَ مَطْعُونِينَ

لِعَدَمِ أَثْمَارِ الْحَقْلِ [9].

إذ رأى أجسام بني إسرائيل، خاصة الشباب والأطفال، قد تبددت وصارت كقطع الخزف والتراب مُلقاة في الشوارع، استحسن قتلى السّيف عن قتلى الجُوع.وسط هذا العار وهذه المرارة يشتهي الكل الموت فلا يجدونه، إذ قيل: “وُيختار الموت على الحياة”. وكما جاء في سفر المراثي: “كانت قتلى السيف خيرًا من قتلى الجوع” (مرا 4: 9)، وقال يونان النبي: “موتي خير من حياتي” (يونان 4: 8).

عانت بنت صهيون من سيف العدو الذي سباهم، كما عانت من الجماعة التي حلت بها بسبب دخول الأمم الشامتة إلى الحقول، يدوسونها بأقدامهم، فصارت أشبه ببرية جافة بلا ثمر. إذ يقارن النبي بين القتل بالسيف والموت جوعًا يجد في الأخير خطورة ومرارة أشد.

أَيَادِي النِّسَاءِ الْحَنَائِنِ طَبَخَتْ أَوْلاَدَهُنَّ.

صَارُوا طَعَامًا لَهُنَّ فِي سَحْقِ بِنْتِ شَعْبِي [10].

يبدو للنبي أن هذا الحصار يُعتبر أبشع حصار عرفه التاريخ. فقد دفعهم الجوع الشديد إلى ممارسة ما هو ليس بإنساني (2 مل 6: 25-29).

إذ رفضوا كلمة الله، طعام الروح، صاروا في مجاعة خطيرة، وتحوّلت أعماقهم إلى صورة وحشية، يمارسون ما لا تفعله الوحوش بالغريزة الطبيعية.

جاء في تهديدات الله لشعبه إن عبدوا الأوثان وعصوا الوصية الإلهية أن يسمح لهم بضربة القحط “بكسري لكم عصا الخبز، تخبز عشر نساء خبزكم في تنور، ويرددون خبزكم بالوزن، فتأكلون ولا تشبعون” (لا 26: 26). يكسر الله لهم عصا الخبز، أي يقطع عنهم خبز الحياة، الكلمة الإلهية، فتعيش نفوسهم في جوعٍ لا تجد عصا تتكئ عليها. أما علامة القحط فهو عوض أن يكون لكل سيدة تنور أي فرن خاص بها تضع فيه الخبز لتسويته، تستخدم كل عشر نساء تنورًا واحدًا. إذ ليس لديهن خبز يحتاج إلى تنور، أو ليس لديهن الوقود اللازم لإشعال أكثر من تنور. العلامة الثانية للقحط هي الحرص في الخبز، فيستخدمونه بالوزن لقلة كميته وانتزاع البركة عنهم. ويصل القحط مداه حين تمتد أيدي الوالدين لأكل لحوم أولادهم، كما حدث في أيام يهورام بن آخاب ملك إسرائيل إذ اتفقت امرأتان أن تطبخ كل منهما ولدها في يوم لتأكلاه معًا (2 مل 6: 24-30)، وأيضًا في أيام حصار ملك بابل لأورشليم، إذ قيل: “أيادي النساء الحنائن طبخت أولادهن، صاروا طعامًا لهن في سحق بنت شعبي” (مرا 4: 10)، وتكرر الأمر حين حاصر تيطس الروماني أورشليم.

اللواتي قدمن أطفالهن ذبائح للإله مولوك بلا شفقه عليهم، ذقن من مرارة الجوع حتى طبخن أطفالهن.

أَتَمَّ الرَّبُّ غَيْظَهُ.

سَكَبَ حُمُوَّ غَضَبِهِ،

وَأَشْعَلَ نَارًا فِي صِهْيَوْنَ،

فَأَكَلَتْ أُسُسَهَا [11].

بين الحين والآخر يود النبي أن يؤكد أن ما حلّ بأورشليم كان بسماحٍ من الله. فالنار عادة تحرق ما فوق سطح الأرض، أما أن تأكل أساسات المدينة، فهذا ما لم نسمع عنه من قبل. فهي ليست نارًا عادية، لكنها نار حموّ غضب الرب لتأديب صهيون العاصية، امتدت إلى الأساسات نفسها.

كثيرًا ما يشبه إرميا النبي الحكم الإلهي بنارٍ لا تنطفئ (4: 4؛ 17: 4، 27؛ 21: 12؛ 14؛ 43: 12؛ 49: 27). قيل عن هذه النار:

“حتى متى يا رب تختبئ كل الاختباء؟ حتى متى يتقد كالنار غضبك؟” (مز 89: 46)

“اختتنوا للرب، وانزعوا غُرل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أورشليم. لئلا يخرج كنارٍ غيظي فيحرق، وليس من يطفئ بسبب شر أعمالكم” (إر 4: 4).

“يا بيت داود هكذا قال الرب: اقضوا في الصباح عدلًا، وأنقذوا المغصوب من يد الظالم، لئلا يخرج كنار غضبي، فيحرق وليس من يطفئ من أجل شر أعمالكم” (إر 21: 12).

“فأجمعكم وأنفخ عليكم في نار غضبي، فتسبكون في وسطها” (حز 22: 21).

“فسكبت سخطي عليهم، أفنيتهم بنار غضبي، جلبت طريقهم على رؤوسهم، يقول السيد الرب” (حز 22: 31).

*   يشتعل غضب الله مثل النار بالنسبة للذين لم يختتنوا له، هؤلاء الذين لم ينزعوا عنهم غُرل قلوبهم. وليس من يطفئ بسبب شر أعمالكم”. طعام هذه النار هو الأعمال الشريرة التي نمارسها، فإن لم توجد أعمال شريرة لا تجد النار لها مأكلًا! [10]

العلامة أوريجينوس

لَمْ تُصَدِّقْ مُلُوكُ الأَرْضِ وَكُلُّ سُكَّانِ الْمَسْكُونَةِ،

أَنَّ الْعَدُوَّ وَالْمُبْغِضَ يَدْخُلاَنِ أَبْوَابَ أُورُشَلِيمَ [12].

لم يُصدق ملوك الأرض ما حلّ بأورشليم، إذ كان الكل يظن أنه ليس من أحدٍ يقدر أن يقتحم أسوارها، ولا من يمس شعبها بسوءٍ، لأنها قائمة على جبال ضخمة، ولأن الرب هو ملكها السماوي الساكن فيها.

يصور النبي أن سنحاريب نفسه والأمم المحيطة بيهوذا كانوا في أعماقهم يدركون من خلال الخبرات القديمة أن أورشليم مدينة الله لا يمكن اقتحامها، مادامت يد الرب تحوط حولها وتحصنها. لهذا كان انهيارها، واندفاع العدو من أبوابها، أمرًا مفاجئًا حتى لمن كانوا يعيرونها.

 سرّ نكبة أورشليم 13-20

مِنْ أَجْلِ خَطَايَا أَنْبِيَائِهَا،

وَآثَامِ كَهَنَتِهَا السَّافِكِينَ فِي وَسَطِهَا دَمَ الصِّدِّيقِينَ [13].

جاءت العبارات 4-13 تتطلع إلى خطايا الكهنة والأنبياء الكذبة الذين تسببوا في سفك دماء بريئة، وكان ذلك نبوة عما سيفعله رؤساء الكهنة وغيرهم من قادة اليهود في أحداث صلب السيد المسيح البار.

لقد انكسرت هذه الحصانة حتى التي كانت في أذهان الوثنيين من جهة أورشليم، وذلك بسبب أنبيائها الكذبة والكهنة سافكي الدماء.

نعت هؤلاء بأنهم سافكو دماء أو قتلة يحمل معنى واسعًا، فلا يقف عند سفك الدم جسمانيًا فحسب وبطريقة حرفية، إنما يشمل أيضًا الظلم الفاضح، وأيضًا إثارة الآخرين على سفك الدم دون اشتراك الشخص نفسه، أو التساهل والتهاون مع القتلة وسافكي الدماء.

للأسف الكهنة الذين عملهم الأول الصلاة عن البشرية لتتمتع بالمصالحة مع الله، صاروا عثرة وعقبة حتى أمام الوثنيين.

هذا ما كان يحذر منه القديس يوحنا الذهبي الفم، وهو أن ما يرتكبه المؤمن من خطايا وآثام أخطر بكثير مما لو صدر عن إنسانٍ غير مؤمن. لأن العثرة من المؤمن خطيرة، أما إن صدرت من كاهن أو أسقف أو راهب فتكون أكثر خطورة!

تَاهُوا كَعُمْيٍ فِي الشَّوَارِعِ،

وَتَلَطَّخُوا بِالدَّمِ،

حَتَّى لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَمَسَّ مَلاَبِسَهُمْ [14].

قامت القيادات الدينية بإثارة الشعب ضد المسيح، فكان القادة عميان يقودون عميان، حتى قيل: “أجاب جميع الشعب وقالوا دمه علينا وعلى أولادنا” (مت 27: 25).

يبرز النبي خطورة سلوك هؤلاء الأنبياء والكهنة. فعوض اشتياقهم أن يتطهر كل أبرص، ويُشفى من برصه، صاروا هم في عينيّ الله وأعين الناس دنسين بنوع من البرص الخطير، ألا وهو الظلم والقتل.

*   قام الحاكم وغسل يديه، ونظر كل أحد أنه بغير زلل صلبه أولاد الشمال بالإثم!

ولما غسل يديه صرخ الصالبون: “دمه علينا وعلى أولادنا”.

الآباء الجهلاء أكلوا الحصرم حيث اعترفوا أنها تضرس أسنانهم وأسنان أولادهم.

والآن أنظر إلى الحاكم الذي غسل يديه، أما أنت فاسبح كلك في المياه الإلهية… لأنه إن لم تعتقك المعمودية من الخطية يطالبك!

تقدم وأنظر نفسك واسبح في المياه المقدسة وانعتق!

ها هو سيدك، ينتظرك داخل المعمودية، فيعينك من الخطية بغفرانه.

صرخ الصالبون دمه علينا وعلى أولادنا.

*   نظر الناس المرذولون أنهم أذنبوا وغرقوا بالدم وحفظوه ليكون للأجيال التي بعدهم.

لم يكف أن يذنبوا فقط، بل جعلوه ذنبًا عامًا للأجيال الآتية.

الآباء الجهال أكلوا الحصرم حيث اعترفوا أنه يضرس أسنانهم وأولادهم…

إن لم تشفق على قتل نفسك، لا تقتل أنفس ذريتك لأنها ليست هي لك.

القديس مار يعقوب السروجي

«حِيدُوا! نَجِسٌ! يُنَادُونَ إِلَيْهِمْ.

«حِيدُوا! حِيدُوا لاَ تَمَسُّوا!

إِذْ هَرَبُوا تَاهُوا أَيْضًا.

قَالُوا بَيْنَ الأُمَمِ،

إِنَّهُمْ لاَ يَعُودُونَ يَسْكُنُونَ [15].

لقد نجس القادة العميان أنفسهم بالدم البريء عبر كل الأجيال من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن براخيا، مع دم الأطفال الأبرياء الذين قُدموا ذبائح للأوثان، حتى سفكوا دم السيد المسيح نفسه.

هنا صرخات الشعب عندما حل الدمار نحو الأنبياء الكذبة الذين خدعوهم بالكلام الناعم.

هؤلاء الذين كان يلزم أن يكونوا خميرة مقدسة لتقديس العالم صار العالم يرفض أنه يلمس ثيابهم، كما فقد كهنتهم وشيوخهم كرامتهم.

يرى البعض أن هذه صرخات الوثنيين نفسها، إذ وهم يمارسون الرجاسات، يحسبون ما حلّ بأورشليم نجاسة لا يحتملوها، فلا يريدون أحدًا من شعب أورشليم أو كهنتها أن يلمسهم لئلا يتنجسوا.

وَجْهُ الرَّبِّ قَسَمَهُمْ.

لاَ يَعُودُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ.

لَمْ يَرْفَعُوا وُجُوهَ الْكَهَنَةِ،

وَلَمْ يَتَرَأَّفُوا عَلَى الشُّيُوخِ [16].

يرى البعض أن كلمة “وجه الرب” (حسب الترجمة الحرفية) تحمل معنى ملامح الغضب، كما جاء في المزمور 34: 16 “وجه الرب ضد فاعلي الشر، ليقطع ذكرهم”. وأن كلمة “قسّمهم” تحمل معنى “شتتهم”، غير مميّز بين كاهن وشعب، وبين شيخٍ وشابٍ. هذا ما انعكس على معاملة الوثنيين لهم، إذ استخفّوا بالكل، دون مراعاة لقائدً ما، ولا ترفق بالشيخوخة!

حينما نخطئ في حق الله، يرتد إلينا تصرفنا، إذ بالكيل الذي نكيل به يُكال لنا، فمن يهين الله بتصرفاته، ترتد إليه هذه الإهانة حتى من الوثنيين والملحدين، بل ومن قوات الظلمة نفسها!

أَمَّا نَحْنُ فَقَدْ كَلَّتْ أَعْيُنُنَا مِنَ النَّظَرِ إِلَى عَوْنِنَا الْبَاطِلِ.

فِي بُرْجِنَا انْتَظَرْنَا أُمَّةً لاَ تُخَلِّصُ [17].

إذ تنحني أنفسنا فلا نتطلع إلى الساكن في السماء، بل نطلب عونًا من الأرض فنفشل. فقد تظاهر المصريون أنهم حلفاء لهم، لكنهم كانوا عاجزين عن مساندتهم، وغير راغبين في ذلك. قيل: “ولم يعد أيضًا ملك مصر يخرج من أرضه، لأن ملك بابل أخذ من نهر مصر إلى نهر الفرات كل ما كان لملك مصر” (2 مل 24: 7). “فإن مصر تعين باطلًا وعبثًا، لذاك دعوتُها رهب الجلوس” (إش 30: 7).

كان قادة يهوذا يتطلّعون إلى مصر والتحالف معها كمصدر رجاء للخلاص من الكلدانيين (إر 37: 3-10). وكان ذلك موضع خلاف بين إرميا والملك، بل ومع مشيري الملك ورجال الدولة ورجال الدين والشعب. الكل حسبوا هجومه على التحالف مع مصر ضد الكلدانيين، وليس التوبة، هو الرجاء في الخلاص من هجوم الكلدانيين. عندما حذّر إرميا النبي صدقيا من ذلك، أودعه في دار السجن (إر 37: 5-21).

لقد أصيبت مملكة يهوذا بنوعٍ من عمى البصيرة الروحية، وجنون الفكر.

كانوا يتطلعون من أبراج المراقبةيترقبون من يأتي ليخلصهم من حصار بابل، لكن ليس من عون قادم إليهم.

كانت أبراج المراقبة أي الأسفار المقدسة (العهد القديم) بين أيديهم، وكان يليق بهم أن يتعرفوا على السيد المسيح خلال النبوات والرموز، لكنه إذ جاء بغضوه، وخدعوا أنفسهم، إذ طلبوا المسيا حسب فكرهم البشري المادي. والآن ينتظرون مجيئهم فسيخدعهم عدو الخير، ويرسل لهم المسيا الكاذب.

نَصَبُوا فِخَاخًا لِخَطَوَاتِنَا حَتَّى لاَ نَمْشِيَ فِي سَاحَاتِنَا.

قَرُبَتْ نِهَايَتُنَا.

كَمَلَتْ أَيَّامُنَا لأَنَّ نِهَايَتَنَا قَدْ أَتَتْ [18].

إذ أقام الكلدانيون متاريس وروابي عالية أمكنهم أن يصوبوا الرماح على كل من يريد الهروب، كما استطاعوا أن يبلغوا فوق أسوار خارجية ليصوِّبوا رماحهم حتى على السائرين في شوارع أورشليم. لقد شعر الكل أن السير حتى داخل اأورشليم فيه مخاطر من الداخل بسبب الموتى الملقين في الشوارع، ومن الخارج يصوّب الكلدانيون الرماح ضدهم. شعروا أن الفخاخ منصوبة ضدهم من كل جانب، وأن نهايتهم قد اقتربت تمامًا.

صَارَ طَارِدُونَا أَخَفَّ مِنْ نُسُورِ السَّمَاءِ.

عَلَى الْجِبَالِ جَدُّوا فِي أَثَرِنَا.

فِي الْبَرِّيَّةِ كَمَنُوا لَنَا [19].

الحديث هنا يخص الخطر الذي يلحق بالكل، خاصة الملك صدقيا. ظن صدقيا أنه قادر على الهروب (إر 52: 6-9) لكن الكلدانيين لحقوا به، طاردوه بسرعة غير متوقعة، فكانوا كنسور السماء السريعة الحركة والقادرة أن تقتنص الفريسة مهما كانت المسافة بين النسر وفريسته.

إذا صار ثغر في سور أورشليم انقض عليهم البابليون أسرع من النسور، فلم يستطيعوا الهرب من أيديهم.

*   في الكتاب المقدس كلمة “نسر”، تشير أحيانًا إلى أرواح حقودة، مفسدة للنفوس؛ وتشير أحيانا إلى قوات العالم الحاضر. لكنها أحيانًا تشير إلى مفاهيم القديسين الحاذقة، أو إلى الرب المتجسد، تطير بسرعة فوق السفليات، وتطلب العلويات.

يشهد إرميا للأرواح الراقدة في ترقبٍ: “طاردونا أخف من نسور السماء” (مرا 4: 19)… يرمز أيضًا إلى القوة الأرضية، كما قيل بالنبي حزقيال: “نسر عظيم كبير الجناحين، طويل القوادم، واسع المناكب ذو تهاويل، جاء إلى لبنان، وأخذ فرع الأرز، قصف رأس خراعيبه” (حز 17: 3-4). فإنه بهذا النسر الذي بالحقيقة إلى من يشير إلا لنبوخذنصر ملك بابل…؟

يُشار بكلمة “نسر” إلى فهم القديسين الحاذق، أو طيران صعود المسيح. لهذا فإن النبي عينه (حزقيال) عند وصفه الأربعة الإنجيليين الذين رآهم، تحت مظهر خلائق حية، أعلن أنها ظهرت له في شكل وجه إنسانٍ وأسدٍ وثورٍ ونسرٍ، بالتأكيد أشار بالنسر المخلوق الرابع الحي إلى يوحنا، الذي في طيرانه ترك الأرض، وخلال الفهم الحاذق، اخترق أسرارًا داخلية برؤيته للكلمة…

لنتطلع إلى مبنى النسر نفسه، عش الرجاء في العلويات. يقول بولس: “سيرتنا نحن هي في السماوات” (في 3: 20). وأيضًا: “أقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات” (أف 2: 6)… فكما أن من يصعد جبًلا يتطلع إلى أسفل، فيرى الأمور السفلية صغيرة، هكذا كلما تقدم الإنسان إلى درجات عليا، مجاهدًا أن يثبت اهتمامه في العلويات، يجد بذات الجهد أن مجد الحياة الحاضرة كلا شيء، ويرتفع فوق أماكن الأرض.

البابا غريغوريوس (الكبير)

*  هذا القول ليس مني، ولكن رب كل البشرية هو الذي تكلم بهذا عندما صرف النبي الذي كان يصلى متشفعًا لهم قائلًا:

“وأنت فلا تُصلِّ لأجل هذا الشعب ولا ترفع لأجلهم دعاء، ولا صلاة، ولا تلح علي، لأني لا أسمعك.

أما ترى ماذا يعملون في مدن يهوذا وفي شوارع أورشليم؟

الأبناء يلتقطون حطبًا، والآباء يوقدون النار، والنساء يعجن العجين ليصنعن كعكًا لملكة السماوات، ولسكب سكائب لآلهة أخرى، لكي يغيظوني” (إر 16:7-18).

الأبناء يجمعون حطبًا، والآباء يوقدون النار، والنساء يعجن، لدرجة أنه لا أحد سيكون بريئًا من الخطية. إنهم يعملون بجهدٍ لأجل خطاياهم، وسوف يسمعون بعدل: “لأنك أنت رفضت المعرفة أرفضك أنا، حتى لا تكهن لي. ولأنك نسيت شريعة إلهك، أنسى أنا أيضًا بنيك” (هو 6:4).

إن طريقة العقاب تتلاءم دائمًا مع جسامة الخطايا، لذلك يجب على المذنبين أن يتحملوا عقابًا مساويًا لخطاياهم. فأي معاناة أعظم وأقسى يمكن أن توجه لأولئك الذين سقطوا في الخطية، من أن يُمنعوا من خدمة (الكهنوت) المقدسة، ويفقدوا الحق في التمتع بامتياز ذكر الله لهم، الذي من خلاله كانت لهم حياة كريمة، ولم يشعروا بأي عوز أو احتياج، بل كانت لهم كل بهجة.

هذا حدث لشعب إسرائيل. فقد احتقروا محبة الله للجنس البشري، وعارضوا واجب حفظ شريعة الله، ولكنهم بأكثر غضب تمسكوا بكسلهم، وانحرفوا إلى شهوات غير طبيعية، وكانوا غير راغبين في القيام بمهامٍ غير مهامهم، حسب ما كان يريد معطى الناموس. فكانت رغباتهم الخاصة هي ناموسهم، ولم يسترشدوا إلاّ برأيهم الخاص.

لقد حزن القديسون بحق على هؤلاء بسبب أفكارهم وتصورات قلبهم قائلين: “اسمعوا هذا القول الذي أنا أنادى به عليكم مرثاة يا بيت إسرائيل. سقطت عذراء إسرائيل لا تعود تقوم” (عا 1:5-2). وأيضًا: “ادعوا النادبات فيأتين، وأرسلوا إلى الحكيمات فيقبلن ويسرعن ويرفعن علينا مرثاة، لأن قطيع الرب سُحق” (إر 17:9-18).

رآهم النبي إرميا كما لو كانوا قد ابتُلوا، واقترب عقابهم، وأظهر لهم حزنه عليهم، قائلًا: “قربت نهايتنا. كملت أيامنا، لأن نهايتنا قد أتت. صار طاردونا أخف من نسور السماء” (مرا 18:4-19).

استولى هذا الرعب الكبير على كل شيءٍ، وعلى كل المسكونة التي هُزمت من الشيطان، وكما يقول النبي: “وسعت الهاوية نفسها، وفغرت فاها بلا حد” (إش 14:5). بالنسبة لليونانيين فإنهم بسبب غبائهم العظيم، يسقطون في الشرك (الإيمان بتعدد الآلهة) “وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات” (رو 23:1؛ عد 15:4-19؛ مز 20:106؛ إر 11:2)، كما لو كانوا يسرعون في رحلتهم مسابقين الريح، كذلك فإنهم كانوا يسرعون إلى هاوية الموت الداخلية [11].

القديس كيرلس الكبير

نَفَسُ أُنُوفِنَا مَسِيحُ الرَّبِّ أُخِذَ فِي حُفَرِهِمِ،

الَّذِي قُلْنَا عَنْهُ فِي ظِلِّهِ نَعِيشُ بَيْنَ الأُمَمِ [20].

كان صدقيا الملك يظن أن نسبه لداود الملك جسديًا حتمًا سينقذه من أيدي الكلدانيين. وكان أمل الشعب ينصب في الملك صدقيا، إذ كانوا يتطلعون إليه كمسيح الرب، يمثل نفس أنوفهم، فإنه حتى وإن انهارت المدينة، كان أملهم أن يبقوا عبيدًا لنبوخذ نصر، لكن تحت قيادة صدقيا، يدفع لهم الجزية، ويمارس قوانين بلده. أما وقد فقأوا عينيه، فلم يعد يصلح لقيادة البلد، وضاع كل أملٍ لهم أن يعيشوا تحت ظله.

“نفس أنوفهم” تعبير كنعاني، فيه مبالغة، يُستخدم لوصف الملوك.

“أخذ في حفرهم” تعبير كنعاني يشير إلى قبوله ملكًا يحميهم. ربما يعني أن الملك صدقيا الذي كان هو أملهم أن يعيشوا تحت حمايته وحكمه وسط الأمم، سقط أسيرًا وضاع كل رجائهم.

تحمل هذه الآية نبوة عن السيد المسيح الذي كان اليهود يرجون أن يقيموه ملكًا، يخلصهم من الاستعمار الروماني، ويعيد لإسرائيل الحرفي مجده؛ كان هذا هو نفس أنوفهم يتنفسون هذا الاشتياق كل صباحٍ ومساء، صلبوه فأخذ في حفرهم. أما بالنسبة لنا فقد جاء مسيحنا الذي هو حياتنا، في ظل صليبه نعيش بين الأمم، حتى نلتقي به على السحاب من كل الأمم والشعوب والألسنة.

*   يبدو أن القول “أذهب وأرجع إلى مكاني، حتى يجازوا ويطلبوا وجهي، في ضيقهم يبكرون إلي” (هو 5: 15)] يشير ما يناسب سرّ المسيح، والخلاص خلاله، مشيرًا إلى التحول نحو الله. فإن وجه الله الذي يطلبه يشير بالتأكيد إلى الابن نفسه، “الذي هو الصورة والبهاء وذات ختم طبيعة الآب” (عب 1: 3). هكذا وجه الله ا الآب لحقيقي هو الابن، حيث يعرف فيه. “من رأى الابن رأى الآب” (يو 14: 9). هكذا يدعوه المرتل عندما يصرخ إلى إله الجميع، قائلًا: ليشرق وجهك على عبدك” (مز 119: 135). حقا إنه كشخص من بين الذين تحولوا حسب الابن خلال الروح: “نور وجهك يا رب قد خُتم علينا” (مز 4: 6). أو كما يقول النبي: “نور وجهك، الرب المسيح” (مرا 4: 20) [12]

القديس كيرلس الكبير

*   الكنيسة وهي حاملة نعمة عظيمة بهذا المقدار تحضّ أولادها وأصدقاءها أن يقبلوا إلى الأسرار قائلة: “كلوا يا أصحابي، واشربوا واسكروا يا إخوتي” (1 بط 1: 2). إن ما نأكله وما نشربه قد أوضحه الروح القدس في موضوع آخر بواسطة النبي القائل: “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب، طوبى للرجل الذي يضع رجاءه فيه” (مز 34: 9). وفي هذا السرّ يوجد المسيح، لأنه جسد المسيح، لذلك فهو ليس طعامًا جسديًا بل روحي. لذلك يقول الرسول عن مثال هذا الطعام: “آباؤنا أكلوا طعامًا روحيًا، وشربوا شرابًا روحيًا” (1 كو 10: 3)، لأن جسد الله جسد روحي، جسد المسيح هو جسد الروح الإلهي، لأن الروح هو المسيح كما نقرأ: “الروح الذي أمامنا هو مسيح الرب” (مرا 4: 20). وفي رسالة بطرس نقرأ: “المسيح مات عنَّا”، وأخيرًا فهذا الطعام يشدد قلوبنا، وهذا الشراب “يفرح قلب الإنسان” (مز 104: 15)، كما يسجل النبي.

*     ولكي نعرف طبيعة الخير بالأكثر، فالحياة هي الخير، لأنها ثابتة على الدوام، تَهب الجميع وجودهم وكيانهم. ومصدر حياة الكل هو المسيح، الذي عنه يقول النبي: “في ظله نعيش” (مرا 4: 20). الآن “حياتنا مستترة في المسيح، ومتى أُظهِر المسيح حياتنا، فحينئذٍ نحن أيضًا نظهر معه في المجد” (كو 3: 3-4). لهذا يليق بنا ألاَّ نخشى الموت، فإنه راحة للجسد، وحرية للنفس… يجب ألاَّ نخاف من يقتل الجسد، ولكن النفس لا يقدر أحد أن يهلكها (مت 10: 28). لأننا لا نخشى من يخلع ملبسنا، ولا نخاف مِمَّنْ يستطيع أن يسلب ممتلكاتنا، لكنه لا يقدر أن يسلبنا أنفسنا. إننا إذن نفوس، إن كنا نرغب أن نكون عبرانيين مرافقين ليعقوب (47: 26-27)، مُتشبِّهين به. نحن نفوس، أما أعضاؤنا فهي لباسنا. يلزم أن يُحمى اللباس بحق فلا يُمزَّق ولا يُبلى (عب 1: 11)، لكن يليق بمن يستخدمه أن يحمي أولًا نفسه ويحرسها[13].

*   أية غرابة في ذلك ألا يُدعَى الآب والابن كلاهما روح… ويا ليتهم يقرأون أن الآب يُدعَى روحًا كما قال الرب في الإنجيل “الله روح” (يو 4: 24)، والمسيح يُدعَى روحًا كما يقال إرميا “الروح أمام وجوهنا هو المسيح الرب” (مرا 4: 20). وهكذا الآب روح والمسيح روح، لأن كل من هو ليس جسدًا مخلوقًا هو روح. وتسمية الآب روح والمسيح روح لا يَعْنِي أن الروح القدس ذاب فيهما، بل هو مُتمَايِز عن الآب والابن [14].

القديس أمبروسيوس

*   بمجيئه الآن حقق الناموس الذي له ظل الخيرات العتيدة (عب 1:10)، هكذا أيضًا خلال مجيئه المجيد سيتحقق ظل هذا المجيء ويبلغ إلى الكمال. وكما تحدث عنه النبي “روح ملامحنا مسيح الرب، الذي قلنا عنه: في ظله نعيش بين الأمم“[15].

*   نصيبًا الذي يظللنا من حرارة التجارب هو المسيح والروح القدس [16].

العلامة أوريجينوس

عقاب أدوم 21-22

اِطْرَبِي وَافْرَحِي يَا بِنْتَ أَدُومَ يَا سَاكِنَةَ عُوصٍ.

عَلَيْكِ أَيْضًا تَمُرُّ الْكَأْسُ.

تَسْكَرِينَ وَتَتَعَرِّينَ [21].

ضاع الرجاء الباطل سواء بالتحالف مع مصر، أو بهروب الملك الذي من نسل داود، وصاروا في واقع أليم.

هنا نبوة عن تهليل أدوم بسقوط أورشليم وخرابها، لكن فرحها قصير الأمد، فإنها ستشرب من كأس غضب الله عليها. لقد صاروا أضحوكة لأدوم الذي يمثل كل الأمم المحيطة بيهوذا والشامتة فيها. الاستهزاء الذي يوجهه سكان أدوم لأورشليم حيث يُنظر إلى أدوم على أنه العدو اللدود، لأن سكان أدوم فرحوا بما وصلت إليه أورشليم من بؤس وخراب ودمار لكل الطبقات [21-22].

كان “أدوم” الذي يعني “الدم” أو “الأرضي” يشير إلى إبليس سافك الدماء، الذي يضفي على الذين يستعبدهم روح العنف والانشغال بالأرضيات والاستهانة بالسماويات. فابنة أدوم هنا تشير إلى مملكة إبليس التي تقاوم ابنة صهيون الروحية.

جاء الوقت لمملكة إبليس أن تشمت وتفرح لانهيار أورشليم على يدي بابل. لكنها ستسكر وتتعرى من هذا الكأس، أي تتخبط في كل مشوراتها ضد شعب الله، وتنفضح مؤامراتها.

هكذا إذ تحالف قادة اليهود والشعب مع عدو الخير على صلب السيد المسيح وقتله، تحولت الخطة لانهيار إبليس، وفقد سلطانه على المؤمنين.

قَدْ تَمَّ إِثْمُكِ يَا بِنْتَ صِهْيَوْنَ.

لاَ يَعُودُ يَسْبِيكِ.

سَيُعَاقِبُ إِثْمَكِ يَا بِنْتَ أَدُومَ،

وَيُعْلِنُ خَطَايَاكِ [22].

إذ تحقق هدف التأديب، رجعت يهوذا إلى الرب، وانفضحت مملكة أدوم والدول الشامتة، وتعرَّت.

إذ سقطت ابنة صهيون تحت التأديب الإلهي خلال السبي البابلي، جاء الوقت لتحريرها، ومعاقبة بابل على عنفها، وإساءة التصرف مع كبريائها وتشامخها على الله نفسه.

إذ ظن الشيطان أنه قادر أن يتخلص من السيد المسيح مخلص العالم، بالصليب نفسه دين إبليس وانهارت مملكته، وصار مصيرها الهلاك الأبدي.

من وحي مرا 4

تحت ظلك اشتهيت الحياة!

*   اسمح لي يا مخلصي أن أنعم بروحين من روح إرميا النبي.

 فتتفجّر في داخلي ينابيع دموع مرّة،

 إذ أرى مدينتك المقدسة أورشليم،

 قد خُرِّبت وتدنَّست وفقدت بهاءها.

*   أسير مع النبي العجيب،

 فأتأمل أورشليمي الداخلية.

 لا لأبكي عليها فحسب،

 وإنما أشتهي أن أجلس عند ظل صليبك،

 وأتنسم الحياة الجديدة بك وفيك!

 خطيتي تفقدني الأحاسيس السماوية،

 وتفسد شوقي نحو الحياة الملائكية.

 وأحسب الشركة معك أمرًا مستحيلًا.

 تنحني نفسي نحو التراب،

 لألهو في وحل هذا العالم.

*   أصرخ إليك كرضيعٍ قد لصق لسانه بحنكه.

 أعماقي جفّت، إذ يقتلني العطش.

 لم تستطع كل مياه العالم أن ترويني.

 لأني تركتك أنت ينبوع المياه الحيّة.

*   في غباوتي كثيرًا ما تركتك، يا أيها الخبز النازل من السماء.

 قتلني الجوع المهلك.

 أقتنيك وأتناول جسدك واهب الحياة.

 ليعمل روحك القدوس فيّ.

 فأجد في إنجيلك خبزًا فريدًا.

 أنت هو شبعي الدائم،

 لماذا ستجدي طعامًا من آخر غيرك؟!

*   تتمرّر نفسي وأنا أرى الأمراء والنبلاء في شوارع أورشليم،

 عوض تمتعهم بالموائد الفاخرة يستجدون الخبز.

 لقد اقمتني يا ملك الملوك ملكًا،

 وقدمت لي الشركة في المائدة السماوية.

 لماذا أتجاهل سماواتك بمائدتها،

 وأنحدر إلى العالم ألتمس ما له؟!

*   لتترك نفسي الجولان في شوارع العالم وأزقّته،

 وأنطلق بروحك القدوس، يجلسني في السماويات،

 أتمتع بفيض نعمتك وغنى خيراتك الفائقة.

*   هوذا خطاياي تحرمني من التمتع ببهائك.

 ألتقي بك يا أيها النور الحقيقي.

 لتشرق في داخلي يا شمس البرّ.

*   هوذا العدو لا يتوقف عن إغرائي!

 ينصُب لي الشباك،

 ويخفي الفخاخ في طريقي.

 لترفعني، فلا تتعثّر قدميّ في فخاخ العالم.

 لتنطلق بي من مجدٍ إلى مجدٍ،

 فلا أسقط في عبودية إبليس.

 لأنعم بنيرك الحلو وحملك الخفيف،

 فأتحرر من نير الخطية وعبودية إبليس.

*   كيف يهدأ العدو وهو يراني قد تمتعت بالبنوة لأبيك؟

 يصوِّب سهامه إليَّ، لأسقط في ضيق أفقه،

 ويحرمني من اتساع حبك.

 يفقدني الحب والحنو،

 ويلقي فيَّ بذار البغضة والحسد.

 لأجلس تحت ظل صليبك،

 فينفتح قلبي لكل البشرية، حتى لمقاوميّ.

*   تلطَّخت شوارع أورشليم بالدم بسبب خطاياها.

 فقدت قدسيتها، وصارت دنسة حتى في أعين الغرباء.

 من يُقيم في أعماقي هيكلًا مقدسًا لك،

 سوى روحك القدوس الناري؟!

 ويقيم في داخلي فردوسًا مقدسًا،

 يدهش السمائيين والأرضيين!

*   أراد صدقيا الملك أن يهرب،

 طار جيش الكلدانيين كالنسور السريعة.

 التقطوه بأظافرهم، وقتلوا أولاده أمام عينيه.

 فقأوا عينيه، وقيّدوه بسلاسل نحاسية،

 ليقضي كل بقية حياته في دار السجن.

 من ينقذني من هذه النسور المهلكة،

 سوى صليبك، قوة الله للخلاص؟!

*    أختفي فيك يا ملجأي الإلهي،

 فلن تقدر كل قوات الظلمة أن تتسلل إليّ.

 لن تقدر قوة ما أن تهلك طاقاتي،

 ولا أن تفقدني بصيرتي، لأنها عطيتك لي!

 في ظلك أعيش لا بين الأمم المقدسة فحسب،

 بل وبين الطغمات السماوية.

 في ظلك أتمتع بأمجادٍ سماويةٍ أبديةٍ،

 أنعم بمجد أبناء الله الحيّ.

 لك المجد أيها المصلوب محب البشر!

فاصل

فاصل

تفسير مراثي إرميا 3 تفسير مراثي إرميا
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير مراثي إرميا 5
تفسير العهد القديم

 

زر الذهاب إلى الأعلى