تفسير سفر إرميا ٤٥ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الخامس والأربعون
حديث معزي مع باروخ
يأتي هذا الأصحاح بعد الأصحاح الرابع والأربعين حيث يقدم إرميا كلماته الأخيرة ضد الذين نزلوا إلى مصر، وقبل الأصحاح السادس والأربعين حيث يعلن نبواته ضد الأمم، إذ يريد الرب أن يعلن لهؤلاء الذين رفضوا نصيحة إرميا بالبقاء في يهوذا وأرغموه على النزول معهم إلى مصر، أن القضاء الذى نطق به إرميا لا بد أن يتم وذلك مثل الكلام الذى سبق فأملاه على باروخ وقُرئ على الملك يهوياقيم، لكن الملك يهوياقيم رفضه فتم كل الكلام بحذافيره ولم يسقط منه حرف واحد. ولا بد أن يقع القضاء على مصر التي هربوا إليها وذلك بيد نبوخذنصر كما تكلم إرميا، وأنهم لا ينجون من هذا القضاء وهم في مصر.
جاء بعد الأصحاح الرابع والأربعين المشتمل على التهديدات القاسية ضد اليهود في مصر، الذين كان من بينهم باروخ الذى حُمل إلى مصر قسرًا. وكأن هذه الرسالة تقدم استثناءً لباروخ مما قيل عن الذين في مصر[630].
جاءت هذه الرسالة موجهة إلى باروخ الذى أصيب بحالة إحباط لأسباب كثيرة منها:
أ. رد فعل الملك يهوياقيم الذي مزّق السفر وأحرقه بالنار، وطلب القاء القبض على إرميا وباروخ ليقتلهما (إر 36). ربما حسب باروخ هذا الأمر إهانة شخصية له، كما صار مستقبله مظلمًا، لا يعرف ماذا يفعل.
ب. إذ كان باروخ يكتب النبوات ضد شعب يهوذا، ربما شعر بفشل خدمته[631]، فكان ينتظر توبة الملك والرؤساء والشعب فيندم الله على الشر أو التأديب الذى أعلن عنه، وذلك حسب وعده الإلهي.
على أى الأحوال، كان باروخ في حاجة إلى مساندة إلهية لكي يخلص من حالة اليأس التي تسربت إلى نفسه.
مع قصر هذه الرسالة فإنها حديث إلهي مملوء بالرجاء الحي، موجه إلى كل مؤمن يعمل في كرم الرب لكي يمتليء رجاءًا، مهما بدت الظروف قاسية.
أنها رسالة إلهية تعلن عن عنايته التي لن تخيب، وحبه الشديد للعاملين لحسابه، ونظراته المملوءة حنانًا وترفقًا. فانه يهتم بنفسياتهم كما بكل احتياجاتهم.
- تاريخ الحديث[1].
- حالة احباط[2-3].
- رسالة رجاء[4-5].
- تاريخ الحديث:
من الناحية التاريخية يأتي هذا الأصحاح بعد (36: 8)، فالعبارة التالية تشير إلى الكلام الذى أملاه إرميا إلى باروخ وقُرئ على الملك يهوياقيم ومستشاريه ثم أُلقي في النار بكل احتقار.
“الكلمة التي تكلم بها إرميا النبي إلى باروخ بن نيريا عند كتابته هذا الكلام في سفر عن فم إرميا في السنة الرابعة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا قائلاً” [1].
- حالة إحباط:
“هكذا قال الرب إله إسرائيل لك يا باروخ.
قد قلت ويل لي لأن الرب قد زاد حزنا على ألمي.
قد غشي عليّ في تنهدي ولم أجد راحة” [2-3].
يبدو أن باروخ شعر بأن رفض الملك لكلمة الله إهانة موجهة إليه شخصيًا، أو موجهة إليه مع إرميا، لا إلى الرب الذى أمر بكتابة هذا الكلام على الدرج، وهذا أوجد عنده شعور بالخيبة والفشل، لذلك تنهد باروخ ولم يجد راحة. لقد كان مضغوطًا بالخوف ولم يقدر أن ينام، وتثقَّل بالحزن والألم فدخل في حالة احباط.
سبق أن رأينا إرميا النبي يتعرض لنفس المشاعر إلى حين. هذا هو الضعف البشري الذى يلاحق حتى الأنبياء أحيانًا، لكن الله لا يتركهم بلا عون!
- رسالة رجاء:
إذ استخدم الله باروخ أداة لإعلان مشورته الإلهية إلى الآخرين لا يمكن أن يهمله الرب عندما يدخل في حالة احباط، لذلك يوجه الرب إليه الرسالة الخاصة التالية:
“هكذا تقول له:
هكذا قال الرب:
هأنذا أهدم ما بنيته،
وأقتلع ما غرسته وكل هذه الأرض.
وأنت، فهل تطلب لنفسك أمورا عظيمة؟! لا تطلب.
لأنى هأنذا جالب شرًا على كل ذي جسد، يقول الرب،
وأعطيك نفسك غنيمة في كل المواضع التي تسير إليها” [5].
إن كان الحكم قد صدر على كل الدول في ذلك الحين، لكن جاء الأمر الإلهي مشددًا على شعبه، فقد بناه بنفسه وغرسه ككرمٍ خاص به، لكن بسبب العصيان قام الله نفسه بهدمه واقتلاعه.
يقدم الرب إلى باروخ كلمة تصلح شعارًا لكل واحدٍ منا، هذه الكلمة هي “وأنت، فهل تطلب لنفسك أمورًا عظيمة؟ لا تطلب“. فكم يميل القلب إلى طلب الأمور العظيمة.
كان باروخ رجلاً متعلمًا، أُعدَّ ليكون كاتبًا، وكان أخوه سرايا رئيس المحلة عند صدقيا الملك (51: 59)، لذلك ربما ترجى باروخ أن ينال منصبًا في القصر الملكي لخدمة شعبه، لكنه يرى كل شيء ينهار أمامه.
لننظر إلى مسيحنا الذي لم يكن له موضع في المنزل عند ولادته. ومع أن الماشية والقطعان فوق الجبال ملك له استعار الجحش والأتان ليركب عليهما. كما استعار من إنسانٍ علية لعشاء الفصح؛ بينما أقرضه آخر قبره الجديد. قيل عنه: “وأخر كثيرات كنعان يخدمنه من أموالهن” (لو 8: 3). كانت للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، أما هو فلم يكن له موضع يسند فيه رأسه (مت 8: 10). قيل عن الآخرين “فمضى كل واحدٍ إلى بيته، أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون” (يو 7: 53، 8: 1)، لأنه لم يكن له بيت هنا. وينطبق عليه تمامًا القول: “لماذا تكون كغريبٍ في الأرض وكمسافرٍ يميل ليبيت؟!” (14: 8). لم يكن له موضع بين العظماء أثناء وجوده بالجسد على الأرض، بل كان دائمًا غريبًا. كان مرفوضًا حتى من خاصته (يو 1: 11). ليتنا نحن أيضًا لا نطلب أمورًا عظيمة في هذا العالم؛ الأمور العظيمة المختصة بنا آتية عما قريب وهي الأمور الباقية والثابتة، لأن الأمور التي تُرى هي وقتية أما التي لا ترى فهي أبدية (2 كو 4: 18).
v إن امتدحك الله وأكرمك، فهل سيكون هناك من هو مبارك أكثر منك؟! لأن الفرق بين المجد الذي من الله والمجد الذي من الناس أعظم بكثير من الفرق بين المجد والعار هنا…
v مع أنه في استطاعتك أن تحيط نفسك بشهودٍ من السماء، إلا أنك تستعيض عنهم بمتفرجين أرضيين[632].
القديس يوحنا الذهبي الفم
نجد توبيخًا لباروخ لشعوره بالاكتئاب فيما يخص مستقبله. حقًا سيجيء القضاء، لكن هذا القضاء لا يمكن أن يمسه بأي سوء؛ فليأتِ السيف ولتأتِ المجاعة وليأتِ الوباء ويهلك الكثيرون أما باروخ فيحفظه الرب. وإن هاج الناس عليه لا يمكن أن يصيبه أذى أو سوء، لأن الرب سند له.
من وحي إرميا 45
ما أعذب تعزياتك لي وسط أتعاب الخدمة
v أحشائي تئن من أجل كل نفسٍ!
أعماقي تصرخ بسبب ضعفات كل إنسانٍ!
تسلل اليأس إليَّ،
صرت كمن هو في حالة إحباط،
من يستطيع أن ينقذني سواك؟!
v ما أعذب تعزياتك لي وسط أتعاب الخدمة!
حين يصير العالم كله مظلمًا في عينيْ،
إشراقات حبك تملأني رجاءً،
نعمتك تؤكد لي أنك إله المستحيلات!
v في ضعفي كثيرًا ما ظننت في خدمتك خسارة،
معك أفتقر لكي يغتني الكثيرون!
معك أحمل التعييرات لكي يُكرم الكل!
معك أموت لكي تحيا كل نفسٍ أبديًا!
v خدمتك صليب مجيد،
به تصير السموات مفتوحة،
وتتهلل نفسي مع كل نفس متهللة،
وأحسب إكليل الكل إكليلي!