تفسير سفر إرميا ٤٦ للقمص تادرس يعقوب


 

الأصحاحات 46-51

نبوات عن الأمم

في دراستنا لأسفار حزقيال (25-32) وإشعياء (31: 23) وعاموس (1-2)، وصفنيا (2: 4-15) تحدثنا عن النبوات ضد الأمم التي غالبًا ما كانت لتأديبهم. واضح أن هذه النبوات لم ينفرد بها نبي معين، لكنها تكاد تكون مشتركة بين الأنبياء، وتمثل جزءًا حيًا من الكلمة الإلهية التي تود أن تكشف لكل البشرية عن الله نفسه ومعاملاته معهم.

يمكننا في إيجاز هنا أن نوضح أسباب اهتمام النبوة بالأمم:

  1. الله هو إله البشرية كلها، حتى وإن انحرفت. فمهما بدى تأديبهم قاسيًا فإن غايته هو رجوعهم إلى الله ليتمتعوا بشخصه ومواعيده الإلهية. لهذا كثيرًا ما تُختم النبوات ضدهم بفتح باب الرجاء أمامهم ليختبروا الحب الإلهي. إن كان العهد القديم قد احتوى على نبوات ضد الأمم، لكنه لم يقف عند ذلك بل فتح الطريق أمامهم لإدراك سر العهد الجديد الذي قدم كلمة الله لحساب الأمم. هؤلاء الذي كانوا غرباء صاروا قريبين، أهل بيت الله، وكما يقول الرسول بولس: “أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح” (أف 2: 13). إن كانت حاجة إلى برهان على أن إله إسرائيل كان يُنظر إليه أنه إله الأرض كلها فهنا نجد البرهان[633]. هذا ما سنراه واضحًا في الأصحاحات التالية.
  2. ترمز الأمم الساقطون في عبادة الأصنام برجاساتها إلى الخطية نفسها، خاصة وأن بعضهم كانوا يقدمون أطفالهم ذبائح بشرية للأوثان بإجازتهم في النار. دمارهم يشير إلى التخلص من الخطايا ذاتها ومن مصادرها لكي يحيا الإنسان في بر السيد المسيح. يقول العلامة أوريجينوس: [في رأيي أن بعض أسماء الشعوب أو الملوك التي نقرأ عنها في الكتاب المقدس تخص بلا شك الملائكة الأشرار أو السلاطين المضادة، مثل فرعون ملك مصر ونبوخذنصر ملك بابل وأشور[634]].

يرى القديس جيروم في تفسيره للمزامير[635] أن الأمم المقاومة لله ولشعبه والتي خضعت للتأديب هي إحدى عشر أمة إشارة إلى النقص، إذ لم تبلغ اثنتي عشرة، رقم الكمال الذي يشير إلى ملكوت الله على الأرض.

  1. الله ضابط الكل وصانع التاريخ له السيطرة التامة على الأفراد كما على الأمم. لقد شعر الأنبياء في كل مراحل نشاطهم أنهم يشاركون في الأحداث التي يكون لها أكثر من مجرد معني محلي أو قومي، لهذا اهتموا اهتمامًا جادًا بسلوك الشعوب الأجنبية التي لا يمكن عزلها عن خطة الخلاص التي أعدها الله. وقد عبر ذلك الاهتمام عن نفسه أحيانًا بإدانة الشعوب المجاورة.

يوجد ثلاثة أسفار نبوية ركزت بالكامل على قوة أجنبية: سفر عوبديا على أدوم، ويونان وناحوم على نينوى[636]. 

في هذا الفصل يعلن إرميا النبي عن القضاء الإلهي على الشعوب الوثنية التالية:

  1. نبوات عن مصر في الجنوب ص 46.
  2. نبوات عن فلسطينفي الغرب47: 1-7.
  3. نبوات عن صور وصيدافي شمال غرب47: 4.
  4. نبوات عن موآبفي جنوب شرقص 48.
  5. نبوات عن عمونفي الشرق49: 1-6.
  6. نبوات عن أدومفي جنوب شرق49: 7-22.
  7. نبوات عن سوريافي الشمال49: 23-27.
  8. نبوات عن قيدارفي الشمال49: 28-33.
  9. نبوات عن حاصورفي الشمال49: 28-33.
  10. نبوات عن عيلامفي شمال شرق49: 34-39.
  11. نبوات عن بابلفي شمال شرقص 50، 51.

جاء ترتيب النبوات ليس حسب تواريخ حدوثها، وإنما حسب مواقع الأمم، مبتدأ من الغرب ومتجهًا نحو الشرق.

<<


 

الأصحاح السادس والأربعون

ارتعاب مصر الوثنية

يبدأ إرميا النبي بمصر في نبواته ضد الأمم الغريبة للأسباب التالية:

أ. كانت المنطقة كلها تعيش إلى فترةٍ طويلة من الزمن تحت النفوذ السياسي المصري.

ب. كانت المشكلة السياسية التي يُعاني منها إرميا النبي هي ميل الملك ورجاله مع القيادات الدينية خاصة الأنبياء الكذبة وأيضًا الشعب إلى الاتجاء إلى فرعون والتحالف معه ضد بابل حتى لا تسقط يهوذا تحت السبي البابلي كما سقطت إسرائيل تحت السبي الأشوري. أُتهم إرميا وكاتبه بالخيانة الوطنية لرفضهم الالتجاء إلى فرعون والاحتماء تحت ظل جيشه.

ج. لم ينسَ العبرانيون عبر الأجيال الظلم الذي سقطوا تحته بواسطة فرعون خاصة في أيام موسى النبي، وبقيت قصة الخروج حية في حياتهم تعبَّر عن عمل الله الخلاصي وإنقاذهم من عبودية إبليس وتحريرهم من الظلم.

د. من الجانب التأويلي يُنظر إلى مصر وبابل في العهد القديم كأعظم قوتين في العالم في ذلك الحين يمثلان الخطية. تمثل مصر حياة الرخاوة والترف ومحبة العالم، وذلك بسبب كثرة خيراتها. وتمثل بابل العصيان والكبرياء ضد الله وشعبه. لهذا بدأت الأمم هنا بمصر لتمثل حياة الرخاوة المفسدة للنفس وانتهت ببابل التي تمثل تمرد النفس وعجرفتها.

بدأ بمصر وختم بابل لأنه غالبًا ما يركز الإنسان فكره على البداية والنهاية فيعطيهما الأولوية والاهتمام في الدراسة والفحص.

هـ. بدأ بمصر لأنها وإن خضعت للتأديب القاسي لكنها تعود وتقبل عمل الله الخلاصي، فتسمع الوعد الإلهي: “مبارك شعبي مصر” (إش 19: 25)، فصارت تمثل كنيسة الأمم التي جاء إليها الرب راكبًا على سحابة سريعة (إش 1: 19)، أما بابل فتمثل مملكة ضد المسيح فنسمع في سفر الرؤيا الصرخة: “سقطت، سقطت بابل العظيمة، فصارت مسكنًا للشياطين ومحرسًا لكل روحٍ نجس…” (رؤ 18: 2).

و. في سنة 609 ق.م. إذ حشد فرعون نخو جيشه تقدم به لاحتلال أرض الفرات، وقتل يوشيا الملك الصالح في معركة مجدو لأنه حاول تقديم معونة عسكرية لملك أشور، وصار حزن شديد وسط الشعب، فكانوا يتساءلون: لماذا سمح الله بقتل الملك الصالح؟ لقد حان الوقت للانتقام للدم البريء من فرعون مصر.

ولعله لذات الأسباب السابقة احتلت النبوات ضد مصر مركز الصدارة في سفر حزقيال (أصحاحات 29-32).

  1. دعوة إلى معركة[1-4].
  2. ارتعاب مصر[5-6].
  3. كبرياء مصر[7-8].
  4. يوم للسيد الرب [9-10].
  5. سقوط مصر[11-12].
  6. قضاء مصر[13-17].
  7. سبي وخراب[18-26].
  8. تعمير مصر [26].
  9. إصلاح إسرائيل الجديد [27-28].
  10. دعوة إلى معركة:

“كلمة الرب التي صارت إلى إرميا النبي عن الأمم.

عن مصر عن جيش فرعون نخو ملك مصر الذي كان على نهر الفرات في كركميش الذي ضربه نبوخذرانصر ملك بابل في السنة الرابعة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا” [1-2].

بقي الجيش المصري مرابضًا في كركميش (في الطريق بين بابل ومصر) لمدة أربع سنوات (609-605 ق.م) خلالها كان فرعون مسيطرًا على سوريا ومصر، يقيم لهم ملوكًا يحركهم كما يشاء كدميات، أما القوة الرئيسية الأخرى أي البابلية فكانت منشغلة بأمورٍ أخرى، وأخيرًا هجم الجيش البابلي على المصريين في كركميش لاقتلاعهم تمامًا.

غلب فرعون نخو البابليين واستولى على كركميش في عام 605 ق.م، وقام بتحصينها، ثم عاد إلى بلده. لكن في تلك السنة أرسل نبوبلاصر ابنه نبوخذنصر بجيشٍ ضد فرعون حيث انتصر بالقرب من نهر الفرات ورد مدينة كركميش، وطارد المصريين حتى ديارهم، واخضع كل الولايات الثائرة.

جاءت النبوة هنا تخص انهيار جيش نخو في معركة كركميش على نهر الفرات، الأمر الذي لم يكن متوقعًا بسبب قوة الجيش المصري. فقد أوضح هنا كيف تهيأ الجيش للعمل بنفسيةٍ عاليةٍ جدًا وثقة ويقين أن النصرة تتم حتمًا.

معركة كركميش (2 أي 35: 20، إش 10: 9).

كلمة “كركميش” تعنى “قلعة كموش” إله موآب الرئيسي (2 مل 23: 13)[637].

تمت في السنة الرابعة من مُلك يهوياقيم وفي السنة الأولى لنبوخذنصر كملك بابل (25: 1). وهي احدى المعارك الحاسمة في التاريخ القديم، قضت على سلطان مصر الذي دام زمانًا طويلاً على المنطقة السورية الفلسطينية.

تصف النبوة ما كان عليه جيش مصر وذلك في شكل دعوى إلى المعركة موجهة من قادة الجيش المصري إلى رجالهم الأبطال:

” أعدوا المجن والترس، وتقدموا للحرب.

أسرجوا الخيل، واصعدوا أيها الفرسان وانتصبوا بالخوذ.

اصقلوا الرماح.

ألبسوا الدروع” [3-4].

طلب القادة أن يعد الكل المجن والترس، أي يحملوا العدة الحربية بكل أحجامها وأنواعها، وأن يستعد الفرسان وقادة المركبات. فقد عُرفت مصر كأفضل مصدر للأنواع الجيدة للخيول (1 مل 10: 28).

  1. ارتعاب مصر:

“لماذا أراهم مرتعبين ومدبرين إلى الوراء وقد تحطمت أبطالهم وفروا هاربين ولم يلتفتوا؟!

الخوف حواليهم يقول الرب.

الخفيف لا ينوص، والبطل لا ينجو.

في الشمال بجانب نهر الفرات عثروا وسقطوا” [5-6].

رأى إرميا بروح النبوة كيف انهار جيش فرعون عند هزيمتهم على يديْ نبوخذنصر، فقد كانت الضربة غير متوقعة وذلك بالنسبة للاستعدادات الضخمة التي كانت لجيش فرعون ولكبريائهم وتشامخهم كأعظم قوة عالمية في ذلك الحين.

هكذا عندما يتشامخ القلب جدًا، ويمتلئ كأس العجرفة تحل الهزيمة ويسقط الإنسان، فإنه “قبل الكسر الكبرياء، وقبل السقوط تشامخ الروح؛ تواضع الروح مع الودعاء خير من قسم الغنيمة مع المتكبرين” (أم 16: 18-19).

دخل الجيش إلى حالة رعب، ليس لهم الله أن يتقدموا إلى الأمام حيث نهر الفرات، وإنما في رعب يهربون إلى الوراء وقد تحطم الأبطال. عوض اليقين بالنصرة حل بهم الخوف من كل جانب. ارتبك الكل، فالخفيف أي السريع الحركة تعثر ولم يعد قادرًا على الهروب (لا ينوص)، والقوي لا ينجو.

إن كانوا يتشامخون بنهر النيل كمصدر حياتهم ورخائهم، صار نهر الفرات قبرًا لأبطالهم حيث تعثروا وسقطوا قتلى.

هذا هو عمل الخطية! إنها تبعث الخوف الداخلي في النفس فتحطمها. لا تستطيع أن تلتفت إلى الأمام ولا إلى ما هو حولها بل تنحدر دومًا إلى الخلف، وتفقد سرعتها في الحركة وقوتها، وأخيرًا تسقط كجثةٍ هامدةٍ بلا حياة.

  1. كبرياء مصر:

“من هذا الصاعد كالنيل كأنهار تتلاطم أمواجها؟

 تصعد مصر كالنيل وكأنهار تتلاطم المياه.

فيقول أصعد وأغطي الأرض.

أهلك المدينة والساكنين فيها” [7-8].

خطية فرعون هي الكبرياء، إذ كان بجيشه القوي يظن أنه قادر أن يفعل كل شيء. في تشامخه ظن أنه كنهر النيل الذي في فترة فيضانه تمتلئ قنواته كأنهار تجرى حوله لتغطي الأراضي بمياهها وطميها. لا يستطيع أحد أن يقف أمام هذا الفيضان أو يقاومه. في كبرياء يقول فرعون: “نهر لي وأنا عملته لنفسي” (حز 29: 3). يُقال إنه قصد به فرعون حفرع الذي افتخر بأمرين: أنه صانع بيديه ما هو فيه من قوة وأمان، وأن هذا النهر إنما لأجله هو قد وُجد. لقد أقام “الأنا” إلهًا، هي الصانعة للنهر، سر خصوبة مصر وعظمتها، ولأجل نفسها صنعت ذلك. يروى المؤرخ هيروديت عن هذا الملك أنه ملك في رخاء عظيم لمدة خمسة وعشرين عامًا، وقد ارتفع قلبه بسبب نجاحه قائلاً إن الله نفسه لا يقدر أن ينزعه من مملكته.

في سفر حزقيال (ص 29) يُشبه فرعون مصر بالتمساح الكبير الرابض في وسط أنهاره، يظن أنه خالق النهر لحساب نفسه، يجلس في النهر كما في عرشه ليدافع عن الأمم المحيطة به المتحالفة معه.

  1. يوم للسيد الرب:

“اصعدي أيتها الخيل وهيجي أيتها المركبات ولتخرج الأبطال.

كوش وفوط القابضان المجن،

واللوديون القابضون والمادّون القوس.

فهذا اليوم للسيد رب الجنود يوم نقمة للانتقام من مبغضيه،

فيأكل السيف ويشبع ويرتوي من دمهم.

لأن للسيد رب الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات” [9-10].

إذ يتطلع إرميا النبي إلى المعركة ويرى انهيار فرعون وجيشه مع القوات المرتزقة الذين استأجرهم، يدعو ذلك اليوم “يوم للسيد رب الجنود“. إنه ليس كيوم معركة هرمجدون “يوم الله القادر على كل شيء” (رؤ 16: 14)، إنما يشبهه. هو يوم نقمة حيث يسقط فرعون وجيشه مع القوات المرتزقة أو المتحالفة معه القادمة من كوش (أثيوبيا أو النوبة) وفوط (ليبيا) واللوديون (أفريقيون غالبًا كانوا يقطنون ليبيا).

  1. سقوط مصر:

“اصعدي إلى جلعاد وخذي بلسانًا يا عذراء بنت مصر.

باطلاً تكثرين العقاقير.

لا رفادة لكِ.

قد سمعت الأمم بخزيكِ،

وقد ملأ الأرض عويلكِ،

لأن بطلاً يصدم بطلاً فيسقطان كلاهما معًا” [11-12].

إذ سقط جيش فرعون لم يعد يرى النبي في الجيش أبطالاً، بل رآه كله أشبه بفتاة، أو ببنتٍ ضعيفة مجروحة، جراحاتها خطيرة لا يُرجى شفائها.

لقد عُرفت مصر القديمة بنبوغها وتقدمها في الطب، خاصة الطب النباتي. حاليًا تقوم دراسات مكثفة حول هذا الطب. لكن يرى النبي أن عقاقير مصر وخبراتها الطبية عجزت عن تقديم الشفاء لجيشها الجريح. صاروا في خزي وامتلأت الأرض من صراخاهم حيث يتعثر بطل في بطلٍ ويسقط الكل معًا.

أين العلاج؟ في جلعاد حيث تجد البلسان!

عليها أن تصعد إلى هناك فتنال الشفاء!

إنها في حاجة إلى روح الله القدوس الذي وحده يمسك بيد البنت الأممية ليصعد بها من وحل هذا العالم وفساده إلى كنيسة المسيح، جلعاد الحقيقية، هناك تجد السيد المسيح، البلسان الروحي واهب الشفاء.

إنها دعوة إلى الأمم التي يُرمز لها بمصر لتترك عقاقيرها الكثيرة وتلجأ إلى كنيسة المسيح، هناك تتحد مع المخلص الذي يضمد جراحات النفس ويشفيها[638].

  1. قضاء من بابل:

“الكلمة التي تكلم بها الرب إلى إرميا النبي في مجيء نبوخذرانصر ملك بابل ليضرب أرض مصر.

أخبروا في مصر وأسمعوا في مجدل وأسمعوا في نوف وفي تحفنحيس قولوا انتصب وتهيأ لأن السيف يأكل حواليك.

 لماذا انطرح مقتدروك؟!

لا يقفون لأن الرب قد طرحهم.

كثَّر العاثرين حتى يسقط الواحد على صاحبه، ويقولوا:

قوموا فنرجع إلى شعبنا وإلى أرض ميلادنا من وجه السيف الصارم.

قد نادوا هناك فرعون ملك مصر هالك.

قد فات الميعاد” [13-17].

يرى البعض أن الحديث هنا عن المعركة التي تمت بعد معركة كركميش بحوالي 15 أو 16 عامًا حيث جاء ملك مصر بجيشه العظيم لمحاربة نبوخذنصر أثناء حصاره أورشليم. اضطر نبوخذنصر إلى فك الحصار مؤقتًا حتى يحقق نصرته على جيش فرعون ويعود ثانية إلى محاصرة المدينة واقتحامها (37: 1-10). بعد عودته إلى بابل تحققت هذه النبوة إذ عاد ليقيم حربًا مع مصر ليهزمها تمامًا، فصارت بابل القوة العظمى الوحيدة في العالم في ذلك الحين (دا 2: 37-42؛ 7: 4).

كثيرا ما افتخر فرعون حفرع (Apries) Hophra بقوته في حماية حلفائه، لكن ظهر عجزه تمامًا في اللحظات الحاسمة. يُعتبر هذا وصمة عارٍ تلحق باسمه الذي يحمل تورية عن الجدية، فإن الفعل العبري hebir يعني “ليعبر” مشابهًا الاسم المصري لفرعون (whiher) Apries[639].

يكشف [16] عن انهيار الجنود المرتزقة أو المتحالفة مع فرعون فقد أخذوا درسًا قاسيًا من المعركة، وقرروا العودة إلى بلادهم، إذ قالوا: “قوموا فنرجع إلى شعبنا وإلى أرض ميلادنا من وجه السيف الصارم [16].

تُرجمت كلمة “هالك[17] هنا بـ “ضجيج“، ويمكن تفسيرها هكذا:

v     تعثر الجبابرة إذ سقط الواحد على الآخر، وصار الصراخ الموجه إلى الملك هو: “ضجيج!” [17].

v     لعله يُقصد بهذا أن وعود الملك بحماية الأمم الأخرى خلال سنوات ملكه السابقة لم تكن إلا ضجيجًا لا معنى له. فقد عجز فرعون عن تقديم أي عون حقيقي ليهوذا أو حتى لبلده، إذ قيل “فإن مصر تُعين باطلاً وعبثًا” (إش 30: 7).

v     أيضًا ربما صار هذا هو مفهوم المرتزقة، إذ أدركوا أن حسابات فرعون العسكرية خاطئة ولم تكن إلا ضجيجًا.

v     ربما قُصد به أن الملك لم يتعلم درسًا من معركة كركميش السابقة فحطم بلده بعدم حكمته.

  1. سبي وخراب:

أخيرًا يصور لنا الخراب الذي حَّل بمصر التي ظنت أنها قادرة على إنقاذ يهوذا من أيدي البابليين:

أ. ارتفاع اسم بابل أو ملكها نبوخذنصر:

“حيّ أنا يقول الملك رب الجنود اسمه كتابور بين الجبال وككرمل عند البحر يأتي” [18].

لقد ظن فرعون أنه سيحطم بابل، وينزل بملكها إلى الهاوية، فإذا بهزيمة مصر تجعل من بابل الإمبراطورية العظمى الوحيدة في العالم، فيصير اسمها مشهورًا جدًا كشهرة جبل تابور وسط جبال كنعان، وكشهرة الكرمل عند البحر. أكد الله الملك رب الجنود بقسمٍ أن هذا يتحقق فعلاً وليس تهديدًا.

يبدو أن إرميا النبي رأى في نبوخذنصر الذي غزا مصر بقوة جبلاً عاليًا يرتفع فوق السهل. إنه مثل جبل تابور الذي يرتفع حوالي 1800 قدمًا كجبلٍ منفردٍ في سهل يزرعيل في شمال إسرائيل، أو مثل جبل الكرمل عند البحر الذي تبلغ قمته حوالي 1700 قدمًا وينحدر سفحه الغربي بحدة نحو البحر المتوسط[640].

ب. صارت مصر بنتًا عاجزة عن التصرف:

“اصنعي لنفسك أهبة جلاء أيتها البنت الساكنة مصر،

لأن نوف تصير خربة وتحرق فلا ساكن” [19].

جاءت الضربة قاضية في هذه المرة، حيث حُطمت مصر كلها، خاصة المدن الكبرى. يصور مصر بفتاة مسبية لا تقدر على الدفاع عن نفسها أو الهروب من الذين أسروها، هذا عن جيشها العظيم وملكها فرعون المتشامخ، أما عن الأرض فصارت نوف وهي من المدن الكبرى كما رأينا خرابًا، أحرقتها النيران، لا يقطنها إنسان.

ج. صارت مصر كعجلة مسمنة لا تصلح إلا للذبح:

“مصر عجلة حسنة جدًا.

الهلاك من الشمال جاء جاء[20].

لماذا يشبه مصر بالعجلة الحسنة جدًا؟ لقد ظن فرعون بجيشه الذي من بين معبوداته الرئيسية عجل أبيس أنه قادر أن يخلص شعب يهوذا الذي في نظره يعجز الله رب الجنود عن إنقاذه. لم يدرك فرعون أنه قد حول بهذا الفكر مصر إلى عِجلة تحمل الصورة الحسنة جدًا، وذلك بسبب شهرتها في العالم كله، وقوة جيشها، وإمكانياتها من جهة الخيول والمركبات وكل العدة الحربية. لكنها عجلة سمينة عاجزة عن أي عمل، لا تصلح إلا لذبحها، يأتي الذين من الشمال (بابل) ليذبحوها.

لقد حوَّل العجل أبيس عابديه إلى عجلة حسنة جدًا تؤكل وتستهلك فلا يكون لها حياة!

د. حوَّلت حلفاءها والجنود المرتزقة إلى عجول سمينة:

أيضًا مستأجروها في وسطها كعجول صيرة،

لأنهم هم أيضًا يرتدون يهربون معًا.

لم يقفوا لأن يوم هلاكهم أتى عليهم وقت عقابهم[21].

لم تصر مصر الوثنية وحدها عجلة كمعبودها عجل أبيس، وإنما حولت مستأجريها أي القوات المرتزقة الأجيرة والتي حلت في وسطها وشاركتها عبادة العجل إلى عجول صيرة أي سمينة. جاءوا للدفاع عنها مع جيشها فصارت ذبائح سمينة للقتل.

هـ. صارت حركتها كحفيف الحية:

“صوتها يمشي كحية لأنهم يسيرون بجيش وقد جاءوا إليها بالفؤوس كمحتطبي حطب[22].

استخدم إرميا النبي تشبيه الحية الخارجة من الغابة لتُضرب بالفؤوس، لأنه كان للحية مكانة عالية بين الآلهة عند المصريين. إنها عاجزة ليس فقط عن حماية العابدين لها، بل وحتى عن حماية نفسها.

إذ تحرك الجيش المشاة مع الفرسان والمركبات وكانت الأصوات رهيبة ومرعبة… نظر إليه النبي فرآه أشبه بحية خارجة من وسط الغابة تزحف بصوت ضعيف للغاية يصعب سماعه، تسقط تحت ضربات لا فأس محتطبٍ واحدٍ بل عدة فؤوس لقاطعي الأخشاب!

إنها سخرية بهذا الجيش العظيم الذي بكل إمكانياته لا يزيد عن صوت تحرك حية عاجزة أمام فؤوس كثيرة.

و. صارت كشجرة تسقط تحت ضربات فؤوس كثيرة:

“يقطعون وعرها يقول الرب وإن يكن لا يحصى لأنهم قد كثروا أكثر من الجراد ولا عدد لهم[23]. إنها تعجز أن تقاوم أو حتى تشتكي المعتدين عليها. تنهار عليها الفؤوس غير المحصية لتسقط وتتحطم إلى قطع خشبية صغيرة لا تصلح إلا للنيران.

إن كانت الشجرة تستطيع أن تصرخ أمام ضاربيها بالفؤوس، يمكن لفرعون أن يرفع صوته مشتكيًا نبوخذنصر.

ز. صارت كفتاة بيعت لشعب معادٍ لها.

“قد أخزيت بنت مصر ودفعت ليد شعب الشمال” [24].

“قال رب الجنود إله إسرائيل:

هأنذا أعاقب أمون نو وفرعون ومصر وآلهتها وملوكها فرعون والمتوكلين عليه.

وأدفعهم ليد طالبي نفوسهم وليد نبوخذرانصر ملك بابل وليد عبيده” [25-26].

  1. تعمير مصر:

“ثم بعد ذلك تسكن كالأيام القديمة يقول الرب” [26].

لا يختم على مصر بالخراب بل بالتعمير، فالله وإن كان يؤدب لكنه يشتاق إلى تقديس كل بشر. لقد كشف بتأديباته عن جراحات النفس لا لتبقى في آلامها بل لتطلب يد الطبيب السماوي، فيضمد جراحاتها، ويقدم لها نفسه بلسمًا من جلعاد فتنعم بكمال الصحة. عندئذ يتحقق فيها الوعد الإلهي: “في ذلك اليوم يكون مذبح في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها، فيكون علامة وشهادة للرب في أرض مصر” (إش 19: 19-20). وقد تحقق ذلك منذ يوم البنطقستي حيث سمع المصريون الرسل يتكلمون بلغتهم (أع 2: 10)، وجاء القديس مرقس الرسول والإنجيلي يكرز بكلمة الإنجيل.

  1. إصلاح إسرائيل الجديد:

“وأنت فلا تخف يا عبدي يعقوب، ولا ترتعب يا إسرائيل،

لأني هأنذا أخلصك من بعيد ونسلك من أرض سبيهم فيرجع يعقوب ويطمئن ويستريح ولا مخيف.

 أما أنت يا عبدي يعقوب فلا تخف لأني أنا معك لأني أفني كل الأمم الذين بددتك إليهم.

 أما أنت فلا أفنيك بل أؤدبك بالحق ولا أبرئك تبرئة” [27-28].

التقينا بهذا النص قبلاً في (30: 10-11) يتبعه وعد مسياني (داود ملكهم إر 30: 9). هنا نلاحظ أن الوعد قد جاء مباشرة بعد تقديم وعد إلهي لمصر بتعميرها بعد الخراب، وكأن ما تناله مصر من وعود مرتبط بخلاص إسرائيل الجديد، وتمتع الأمم بالإيمان الحي.

للنص هنا تفسيران:

أولاً التفسير التاريخي: إذ تحقق ذلك بالعودة من السبي البابلي، واستراح إسرائيل إلى حد ما، إذ تحرروا من السبي. هنا يؤكد ان سر الراحة ليس مجرد تغيير المكان، أي خروج من أرض السبي إلى أرض الموعد، وإنما تغيير الوضع الداخلي، وهو عوض الارتباط بالعبادات الغريبة يعلن الله عن نفسه للمؤمنين ويؤكد معيته معهم: “أما أنت يا عبدي يعقوب فلا تخف لأني معك“.

ثانيًا: التفسير التأويلي، إسرائيل هنا هي كنيسة العهد الجديد، الشعب القادم من كل الأمم، يعقوب المجاهد الروحي الذي انعتق من سبي الخطية ودخل إلى التمتع بأورشليم العليا، ونال عربون السمويات.


 

من وحي إرميا 46

 حوِّل أممي الداخلية إلي مقادس لك!

v     في داخلي أمم كثيرة احتلت قلبي،

أفسدته بالكبرياء مع الفساد وكل نجاسة.

لتحطم تلك الأمم في أعماقي،

ولتقمها من جديد أممًا مقدسة!

فتتحول كل طاقاتي لمجد اسمك القدوس!

v     أقام فرعون عرشه في داخلي،

فتحول كياني كله إلى العجرفة والتشامخ،

صرُت كتمساح كبير في وسط النيل،

يظن أنه ملك النهر وصانعه!

هذه هي الأنا التي حطمت كل صلاح فيّ!

لتحطمها بصليبك،

عوض فرعون أملك أنت في أعماقي،

أقم عرشك فيَّ،

فأشاركك اتضاعك،

وأعيش معك أبديًا!

v     ضرب قادة فرعون العسكريون بالبوق،

فاجتمع المشاة مع الفرسان بلا عدد،

وجاءت القوات المرتزقة والمتحالفة بقوة،

أعدت كل أدوات الحرب وجميع المركبات.

ظن العالم كله أنه ليس من يقف أمام هذا الجبروت.

لكن إذ حلّ بهم الغضب الإلهي انهار الجيش أمام نبوخذنصر.

صار الجيش العابد العجل عجلاً مسمنًا يستحق الذبح،

هرب كحية لا يُسمع لها صوت تتحطم بفؤوس المحتطبين.

صاروا كفتاة مسبية دُفعت إلى شعبٍ غريبٍ في مذلة.

صاروا كشجرة تُضرب بالفؤوس ولا تستطيع أن تنطق ببنت شفةٍ.

v     نعم، هذا ما فعلته بي الخطية!

حولتني إلى حياة حيوانية،

كعجلٍ مسمنٍ لا يصلح إلا للذبح،

جعلت من نفسي التي على صورتك حية دنسة هاربة في ضعف.

صارت في ضعف كفتاة مسبية تذلها الخطية وتلهو بها الشياطين!

افقدتني حياتي فصرت كقطعة خشب تضرب بالفؤوس!

v     من لي غيرك يرد لي كرامتي؟!

تجدد طبيعتي الحيوانية الفاسدة فأنعم بشركة السمائيين!

عوض صورة الحية التي انطبعت في داخلي،

احمل صورتك أيها القدوس.

عوض بنوتي لإبليس، الحية القديمة، أتمتع بالبنوة للآب محب البشر!

لا يعود يصير صوتي كحفيف حية، بل صوت هتافٍ ملائكي،

صوت نصرة دائمة لا تنقطع!

تتحول أعماقي من فتاة مسبية يذلها الكثيرون،

إلى عروس عذراء للعريس السماوي الممجد!

لا تعد قطعة خشب تحطمها الفؤوس،

بل شركة مع الصليب واهب الحياة!

v     لتقتل في داخلي مصر الوثنية،

لتهرب إليها أيها القدوس،

لتأتِ محمولاً على سحابة خفيفة بيضاء،

ولتقم مذبحك في داخلي!

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى