المسيح في سفر التكوين

 

يتحدث العهد القديم بأكمله عن شخص ربنا يسوع المسيح بطريقة نبوية شفرية، فيستطيع الدارس المتأمل أن يكتشف المسيح بين كل سطور العهد القديم.

فلم تكن النبوات فقط تتحدث عن شخصه الإلهي، بل الأحداث والشخصيات والأسماء والتعبيرات أيضًا، ولا عجب، فنحن نعرف أن العهد القديم كان هدفه تهيئة الناس، وإعدادهم لإستقبال الله المتجسد في العهد الجديد.. لذلك نرى في العهد القديم الوعود والإشارات حتى لا يتوه الناس عن معرفة هذا الإله العظيم الذي سيتأنس في ملء الزمان.

سفر التكوين:

وسفر التكوين هو سفر البدايات: بداية الخليقة، بداية العلاقة مع الله، بداية الزواج، بداية السقوط، بداية الوعد بالخلاص، بداية الأنسال، بداية العائلات، بداية قصة شعب الله.. الخ.

ولابد لنا أن نرى المسيح واضحًا في كل تلك البدايات.

1- المسيح الخالق:

المسيح هو كلمة الله.. والله خلق العالم بالكلمة “الكل به وله قد خلق” (كو1: 16)، “لأنك خلقت كل الأشياء، وهي بإرادتك كائنة وخلقت” (رؤ4: 11).

قصة الخلق هذه دُونت بتفاصيلها في سفر التكوين.. وكان واضحًا جدًّا أن الله الآب خلق العالم بالابن الكلمة.
إذ قيل في كل قصة خلق جديدة: قال الله
+ “وقال الله: ليكن نور، فكان نور” (تك1: 3).
+ “وقال الله: ليكن جَلَد في وسط المياه” (تك1: 6).
+ “وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء” (تك1: 9)

واضح أن كل الخليقة تكوّنت بكلمة الله.. “بالإيمان نفهم أن العالمين أُتقنت بكلمة الله، حتى لم يتكون ما يُرى مما هو ظاهر” (عب11: 3)، والمسيح هو كلمة الآب، وتكلّم في سفر الأمثال عن نفسه قائلاً: “منذ الأزل مُسحت.. لما ثبّت السماوات كنت هناك أنا.. كنت عنده صانعًا..” (أم8: 22-31).

كان المسيح منذ الأزل كائنًا، وفي بدء الزمان خالقًا، وفي ملء الزمان مخلصًا، وفي المجيء الثاني سيكون دائنًا.

2- صورة الله:

المسيح “الذي هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة” (كو1: 15). وعندما خلق الله الإنسان أراد أن يخلقه على صورته ومثاله.
ما هي صورة الله؟.. إن الله الآب لا يُرى.. “الله لم يره أحد قط” (يو1: 18).
المسيح الابن هو فقط الذي يُرى “الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر” (يو1: 18).
لذلك قال المسيح أيام تجسده: “الذي رآني فقد رأى الآب” (يو14: 9). ففي أية صورة خلق الله الإنسان؟ إنه خلقه على صورة المسيح..
+ من جهة الروح: خلق الله روح الإنسان روحًا بسيطًا مقدسًا حكيمًا عاقلاً حرًا مريدًا.
+ ومن جهة الجسد: خلق الله جسد الإنسان على شكل الجسد الذي سوف يتجسد به في ملء الزمان. فالمسيح هو الأصل ونحن الصورة.

والآن نحن في جهادنا المسيحي نسعى أن نسترد مرة أخرى بهاء صورة المسيح فينا بعد أن تشوهت صورة آدم وورثناها مشوهة وفاسدة.. “ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح” (2كو3: 18)،

3- أول وعد:

كان السقوط في الجنة الأولى مأساة.. أفقدت الإنسان كل الامتيازات التي خصّه بها الله.. وصار الإنسان عريانًا مهانًا مخذولاً.. مطرودًا من وجه الله.. ولم يكن هناك بصيص أمل في استرداد المجد الأول والنعمة العظيمة التي تمتع بها آدم وحواء. وفي وسط هذا الظلام الحالك.. أشرق نور عظيم بوعد مقدس: أن نسل المرأة يسحق رأس الحية: “وأضع عداوة بينكِ وبين المرأة، وبين نسلِكِ ونسلها. هو يسحق رأسكِ، وأنتِ تسحقين عَقبه” (تك3: 15).

من هو هذا النسل القادر أن يسحق رأس الشيطان؟

ظنت حواء أنه أول وُلد لها، فسمته قايين “وقالت: اقتنيت رجلاً من عند الرب” (تك4: 1). فرحت حواء بأول قنية، حاسبة أنه سيخلصها وزوجها من سم الحية.. ولكن للأسف كان قد لُدغ هو أيضًا وصار أول مجرم على وجه الأرض.

عندما اكتشفت حواء مبكرًا أن قايين ليس هو المخلص، أسمت ابنها الثاني هابيل أي (بسيط، نجار، زائل) لأنها أدركت أنه ليس هو أيضًا المخلص.

وكان على البشرية أن تنتظر أجيالاً كثيرة ليأتي “مخلِّص هو المسيح الرب” (لو2: 11)، متجسدًا ليس من حواء الأولى التي أخطأت.. بل من حواء الثانية الحقيقية القديسة الطاهرة مريم العذراء.

وكان هدف الله خلال هذه الأجيال الطويلة أن يرتقي بالبشرية ويهيئها ويُعدها للإيمان بتجسده.. ومع ذلك لم يؤمن الكثيرون.. وللآن أيضًا كثيرون لا يستطيعون أن يصدقوا أن الله تجسد.

4 – أول ذبيحة:

“وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما” (تك3: 21). هذا الجلد الذي استخدمه الله في عمل أقمصة يستر بها عري آدم وحواء.. هو جلد حيوان ذبحه الله ليُعرّف الإنسان أن في ملء الزمان سيأتي الذبيح الأعظم ليموت عوضًا عن الإنسان..

وعرف آدم حينئذٍ أن طريقة التقدم إلى الله لابد أن يكون فيها ذبيحة دموية. وعرف كذلك أن هذه الذبيحة هي مجرد رمز وإشارة إلى المخلص الحقيقي ربنا يسوع المسيح.. ونتيجة هذه الذبيحة يصير للإنسان فداء وستر على خطيته كمثلما ستر الله عريهما بالجلد..

وهذا تحقق لنا بالحقيقة في شخص ربنا يسوع المسيح الذي تجسد ومات لأجل فدائنا “الذي فيه لنا الفداء بدمه، غفران الخطايا” (أف1: 7)، “وليس بدم تيوس وعجول، بل بدم نفسه، دخل مرة واحدة إلى الأقداس، فوجد فداءً أبديًا” (عب9: 12).

5- شجرة الحياة

شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله ، بحسب تفسير كنيستنا الأرثوذكسية – جسد الرب يسوع ودمه الطاهر. فمن يأكل من شجرة الحياة ويحيا إلى الأبد ” ( تك 22 : 3 ) ، ومن يأكل جسد الرب ويشرب دمه يحيا إلى الأبد . إن شجرة معرفة الخير والشر هي الطعام البائد ، أماشجرة الحياة فهي الطعام الباقي للحياة الأبدية .. “إعملوا لا للطعام البائد ، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم ابن الإنسان ، لأن هذا الله الأب ق ختمه ” ( يو 27:6 )

6- الابن الأول

حبلت حواء ، وولدت إنسانا . ظنت أنه هو النسل المزمع أن يسحق رأس الحية فقالت : ” اقتنيت رجلاً من عند الرب ” ( تك 1:4 ) .. فدعت اسمه (قایین) .. ولكنه لم يكن هو النسل الموعود به والمنتظر .. كان لابد لحواء أن تنتظر آلاف السنين حتى يأتي (قايين الحقيقی) الذي اقتنته البشرية من عند الآب. قايين الجديد الذي جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك” ( لو 10:19 ) ، وليس مثل قايين القديم الذي أهلك أخاه.
قايين الجديد ستلده حواء الجديدة القديسة في كل شيء .. وليست حواء القديمة التي سقطت في المخالفة وصارت أصل الموت وينبوع له.

7- أخنوخ البار

أخنوخ لم يمت ولكن الله نقله إلى السماء حياً “وسار أخنوخ مع الله ، ولم يوجد لأن الله أخذه ” ( تك 24,5 ). 

لقد كان سن أخنوخ حينما رُفع إلى السماء 365 سنة ( تك 23:5 )، وهذا الرقم هو عدد أيام السنة الكامل ، وكان الكتاب يقول لنا إن نوح عاش حياة كاملة وفي نهايتها أُصعد إلى السماء .. إنه رمز للمسيح الحي الذي عاش بيننا على الأرض حياة كاملة ثم بعد موته صعد إلى السماء بقوة لاهوته ويمجده الذاتي. قتل هابيل رمزاً لموت المسيح على الصليب ، وكذلك صعود أخنوخ حياً كان أيضا رمزاً لحياة المسيح وصعوده.

8- أبونا إبراهيم

دعا الله أبرام أن يخرج من أرضه وعشيرته ومن بيت أبيه .. لكي يعده ليأتي المسيح من نسله .. فأراد الله أن يبعده عن الجو الوثني ، والارتباط الأسرى الرديء . وكان الوعد الملازم لهذه الدعوة : “فأجعلك أمة عظيمة وأبارك وأعظم اسمك ، وتكون بركة . وأبارك مباركيك ، ولاعنك ألعنة . وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض” ( تك 2:12 ، 3 ).
البركة هنا هي مجيء السيد المسيح من نسله، وعندما خرج إبراهيم مطيعاً لصوت الله .. كان هناك شيئان يميزان حياته وسيرته : الخيمة والمذبح .
+ الخيمة : رمز لتجسد الله ، وسكناه في بيت خيمتنا الأرضي أي الجسد .
+ والمذبح : يرمز لذبيحة المسيح ، وسفك دمه الطاهر على الصليب عن خلاص جنسنا . 

9- ملكي صادق

وعند عودة أبينا إبراهيم من كسرة كدرلعومر والملوك الذين معه ، استقبله ملكي صادق كاهن الله العلي وبارکه ( تك 14 :17-20 ) . وملكي صادق هذا هو إنسان ، وشخصية حقيقية تاريخية ، ولكنه أيضاً يرمز للسيد المسيح في أوجه كثيرة .. كما شرح معلمنا بولس الرسول : “هو مُشبه بابن الله ” (عب 3:7) ۔
+ اسمه ( ملکی صادق ) أي ملك البر ، والمسيح هو ملك البر الحقيقي.
+ وظيفته ( ملك ساليم ) أي ملك السلام ، والمسيح هو ملك السلام الحقيقي.
+ كاهن الله العلى ، والسيد المسيح بتجسده صار كاهناً، بل ورئيس الكهنة الأعظم، ولذلك قدم له المجوس ضمن هداياهم اللبان ( البخور ) .. فهو الكاهن الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا .. وهو في نفس الوقت الإله الذي يقبل الذبيحة ، فهو الذبيحة والكاهن والإله معا ۔
+ بارك ملكي صادق إبراهيم ، وأعطاه إبراهيم عشراً من كل شيء .. علامة على أن کهنوت ملكي صادق .. أسمى وأعظم من كهنوت لاوي الذي “كان بعد في صلب أبيه حين استقبله ملكي صادق” ( عب 10:7 ) . وكهنوت ملكي صادق هو نفس نظام كهنوت السيد المسيح ” أقسم الرب ولن يندم ، أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق ( عب 21:7 ، مز110: 4)
+ ما قدمه ملكي صادق كان تقدمة ( خبز وخمر ) ( تك 18:14 ) ، وهي رمز لذبيحة الإفخارستيا .. التي قدم فيها السيد المسيح جسده ودمه الحقيقيين .. في صورة خبز وخمر لذلك فكهنوت المسيح على طقس ملكي صادق بحسب النبوة وبحسب التحقيق ، وكهنوت العهد الجديد قائم على الخبز والخمر وليس على الذبائح الدموية ، لأنه على نظام ملكي صادق وليس كنظام هارون.

+ “بلا أب ، بلا أم ، بلا نسب ” ( عب 3:7 ) من جهة الكهنوت .. أي أنه لم ينل الكهنوت بسبب وراثي كما في نظام كهنوت هارون من سبط لاوی .. كذلك جاء المسيح كاهناً.. دون أن يكون له أب كاهن ، أو أم من سبط الكهنوت ، أو أي نسب إلى سبط لاوي ، وكذلك أيضا الكهنوت المسيحي لا يكون بالوراثة بل بالاختيار.
+ ” لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة” ( عب 3:7 ) أي لم يعرف بداية تاريخه أو نهاية حياته ، بل كان شخصية غامضة ، ظهرت فجأة في قصة إبراهيم ، واختفى تماماً، ولم يذكر عنه شئ بعد ذلك إلا في النبوة بالمزمور ( 4 : 110 ) ، وكذلك السيد المسيح بالحقيقة ليس له بداءة أيام ، إذ هو أزلي ، ولا نهاية حياة إذ هو أبدی۔

+ “وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار” ( تك 1:18)
+ ظهور الرب لإبراهيم كان سبق إشارة واضحة لإمكانية تجسد الله وحلوله بين البشر ، وحتى أكله معهم ، كمثلما فعل مع إبراهيم .
+ غسل إبراهيم أرجل ضيوفه ، وأجلسهم تحت الشجرة “ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة ” ( تك 4:18 ) .. وهنا نتذكر غسل المسيح لأرجل تلاميذه ، أما الشجرة فهي رمز للصليب المجيد ، وجلوسهم تحتها إشارة إلى التمتع بفداء المسيح ، وصليبه المقدس.
+ الوليمة التي عملها أبونا إبراهيم لضيوفه ( الذين هم ابن الله وملاكان ) .. هي إشارة إلى تجسد الله ، واشتراكه مع البشر في حياتهم اليومية، ومباركته للأكل والشرب والحياة .
+ ذبح اسحق هو إشارة واضحة جداً الصليب المسيح ، وقد تغنت الكنيسة بها على مر الأجيال ، خصوصا في القسمة المستخدمة بقداس خميس العهد.
+ اسحق هو الابن الوحيد الحبيب لإبراهيم وكذلك السيد المسيح هو الابن الوحيد الحبيب لله الآب ، طلب الله أن يقدم اسحق محرقة على أحد الجبال بارض المريا، والسيد المسيح أُصعد ذبيحة محرقة على الصليب على جبل الجلجثة .
+ حمل اسحق حطب المحرقة .. كما حمل السيد المسيح خشبة الصليب .
+ سؤال اسحق لأبيه إبراهيم ” هوذا النار والحطب، ولكن أين الخروف للمحرقة ؟ ” ( تك 7:22 ) .. تشابه صلاة السيد المسيح بستان جثسيماني “قائلا : يا أبتاه ، إن شئت أن تجيز علي هذه الكأس . ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك ” ( لو 42:22 ).
الكبش الذي قُدم بدلاً عن اسحق يرمز إلى المسيح الذي مات نيابة عن كل البشر .. خاصة وأن الكبش كان ممسكاً في الغابة ( رمز الصليب ) بقرنيه.
+ موت الكبش يرمز إلى موت المسيح بالجسد ، ونجاة اسحق ترمز إلى قيامة السيد المسيح ، خاصة وقد تم ذلك بعد ثلاثة أيام أيضا وفي اليوم الثالث ” ( تك 4:22 ) .
+ الكبش يرمز لناسوت المسيح الذي مات بالصليب ، واسحق يرمز للاهوت المسيح الذي لا يموت بل هو حي إلى أبد الآبدين .
+ فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع يهوة يرأه . حتى إنه يقال اليوم : في جبل الرب يرى ” ( تك 14:22 ) .. لأنه رأى الرب وصليبه هناك. هذا اليوم هو الذي قال عنه السيد المسيح ” أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي فرأی وفرح” ( يو 56:8 ) إن أبانا إبراهيم لم ير الكبش فقط ، ولم ير نجاة ابنه الوحيد الحبيب من الموت فقط ولكنه رأى ما هو أبعد من هذا ، لقد رأي الابن الوحيد الكلمة مصلوباً عنا وقائماً بنا “الذي أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا” ( رو 25:4 ).

9- أبونا اسحق

وهناك موقف آخر في حياة أبينا اسحق .. يتجلى فيه ربنا يسوع بوضوح .. وهي قصة اختيار زوجة لاسحق:
+ إبراهيم الأب استدعى أليعازر الدمشقي كبير بيته المستولى على كل ما كان له، وأرسله ليخطب عروسة لابنه اسحق .. إنها رمز للآب السماوي الذي أرسل الروح القدس ، ليخطب الكنيسة عروسة للمسيح الابن .. ” لأنى خطبتكم لرجل واحد ، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح” ( 2 کو 2:11 ) ۔
+ استحلف إبراهيم أليعازر بأن وضع يده تحت فخذ إبراهيم .. وهي إشارة إلى القسم باسم نسل إبراهيم أي المسيح .. وهو نفس الأمر الذي عمله أبونا يعقوب مع ابنه يوسف ( راجع تك 29:47 ) ۔
+ وتنبأ إبراهيم لأليعازر بأن الله “يرسل ملاكه أمامك ، فتأخذ زوجة لابني من هناك ( تك 7:24 ) .. وهي تشبه النبوة التي قيلت عن يوحنا المعمدان السابق للمسيح “ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي ، الذي يُهيئ طريقك قدامك ” ( مر 2:1 ) .
كان اسحق قد خرج ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء .. إنها اللحظة التي يتقابل فيها المسيح مع الكنيسة على الصليب عند المساء ، وهو يتأمل الحقل المقدس ، الذي زرعه بدمه الطاهر ، لينبت منه الكرمة الحقيقية الكنيسة التي المسيح فيها أصل وجذر ورأس ، ونحن أغصان ، والآب هو الكرام .. ” أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرام ” ( يو 1:15 ) ، “أنا الكرمة وأنتم الأغصان ” ( يو 5:15 )
+ “سكن إسحاق عند بئر لحي رئي” ( تك 11:25 ) إن المسيح يسكن في المعمودية ، ليقابل كل نفس، ويطهرها .. فتدخل معه في شركة وعشرة وعضوية مقدسة.
إن الأب القديس اسحق هو رمز جميل لربنا يسوع المسيح .. الابن الوحيد .. المحبوب .. المطيع .. الذبيح .. والقائم من الأموات.

10- أبونا يعقوب

يُعتبر أبونا يعقوب رأس الكنيسة القديمة ، إذ هو أبو الأسباط ، والسيد المسيح هو رأس ورئيس الكنيسة الجديدة إذ هو أب الجميع.
وكما كان ليعقوب اثنا عشر ابناً هم رؤوس الآباء الأولين وأساس كنيسة العهد القديم كذلك للمسيح أيضاً اثنا عشر تلميذاً ورسولاً أسسوا كنيسته المقدسة وهم أصل الإيمان وجذر الآباء ” مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية ( أف 20:2 ).
الآن نتتبع أوجه الرمزية في حياة أبينا يعقوب التي تشير بوضوح إلى سيدنا وإلهنا يسوع المسيح :
1- بكر بين أخوة كثيرين : كان يعقوب توأماً لأخ أخر هو عيسو ، وكان عيسو الأخ الأكبر ومع ذلك صار يعقوب بكراً بدلا منه . عيسو هو رمز لأدم الذي نزل أولاً علی الأرض ” لذلك دعي اسمه أدوم ” ( تك 30:25 ) . ثم تعقبه في ملء الزمان مجيء المسيح على الأرض ، ومع ذلك صار المسيح ” بكراً بين إخوة كثيرين ” ( رو 29:8 ) بدلاً من آدم .
لقد فقد آدم بكوريته بسبب أكلة واحدة .. “لئلا يكون أحد زانياً أو مستبيحاً كعيسو ، الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريتة ” ( عب 16:12 ) ، وأيضا فقد آدم بكوريته بسبب أكلة واحدة ..” فأخذت من ثمرها وأكلت ، وأعطت رجلها أيضا معها فأكل ” ( تك 6:3).
واكتسب يعقوب البكورية لأنه ضبط شهوة الأكل ، وكان مترقباً و متلهفاً أن ينال هذه البكورية .. ليأخذ شرف أن يأتي المسيح من نسله .. وكذلك أخذ المسيح البكورية من آدم إذا بدأ خدمته بالصوم وضبط الجسد .. أما عيسو ” فأكل وشرب وقام ومضى . فاحتقر عيسو البكورية ” ( تك 34:25 )
قيل في يعقوب وعيسو “شعب يقوى على شعب” ( تك 23:25 ) ، أي أن شعب المسيح يقوى على شعب العالم ، وكبير يستعد لصغير ” ( تك 23:25 ) أي آدم ( الكبير سنا ) يستعبد للمسيح ( الذي جاء متأخرا في ملء الزمان ) ۔
2- ابن الله وابن الإنسان: مع أن يعقوب قد نال البركة من أبيه بخداع ومكر ، الأمر الذي عاقبه عليه الله فيما بعد ولكن الله وافق على هذه البركة بسبب أحقية يعقوب فيها إذا قد صار البكر ، وكذلك ليعطى لنا معنى وتفسيراً يشير إلى السيد المسيح
+ عندما قال يعقوب لأبيه : “أنا عيسو بكرك ” ( تك 19:27 ) .. يشير إلى السيد المسيح الذي أخذ مكان آدم أمام الآب السماوي ليحمل عنا عقاب خطايانا وليأخذ لنا فيه البركة.
+ عندما قال يعقوب لأبيه اسحق : “قد فعلت كما كلمتني” ( تك 19:27 ) ، وهذه ترمز إلى الطاعة التي أكملها الابن المسيح بدلاً عن آدم الذي تأخر في الطاعة بل قدم العصيان .
+ عندما قال اسحق لابنه الصوت صوت يعقوب ، ولكن اليدين يدا عيسو ( تك 22:27 ) ، كان الأب السماوي يقول : ” الصوت صوت ابني الحبيب الوحيد اللوغوس ، والجسد جسد آدم ” . إنه هنا يتكلم عن اتحاد اللاهوت ( الابن ) بالناسوت ( الطبيعة البشرية ) .
3- نعم ، ويكون مباركاً ( تك 33:27 ) : كلمات البركة التي نطق بها أبونا اسحق فيها إشارات مبدعة إلى السيد المسيح :
+ “رائحه ابنی کرائحة حقل قد باركة الرب ” ( تك 27:27 ) ، ما هذا الحقل إلا الكنيسة المقدسة التي فيها الكرمة الحقيقية : جذرها المسيح وأغصانها نحن ، والآب السماوي هو الكرام ” أنا الكرمه الحقيقية وأبي الكرام” ( يو 1:15 ) ، ” أنا الكرمة وأنتم الأغصان” ( يو 5:15).
+ “ومن دسم الأرض . وكثرة حنطة وخمر” ( تك 28:27 ) .. دسم الأرض هو الجسد الذي اتحد به الابن الوحيد .. لقد اتحذ بطبيعتنا الترابية ، فأعطى لنا كرامة وصار للأرض دسم وقيمة . أما الحنطة والخمر فهما سر الإفخارستيا المقدس .. الحنطة هي الجسد المقدس والخمر هو الدم الكريم .
+ ليستعبد لك شعوب ، وتسجد لك قبائل . كن سيداً لإخوتك ، وليسجد لك بنو أمك . ليكن لاعنوك ملعونين ، ومباركوك مباركين” ( تك 29:27 ) .. لقد أُستعبد يعقوب للابان خاله ، ولم يتمتع بهذه السيادة طوال عمره ، بل تحقق هذه النبوة بمجيء السيد المسيح من نسله ، فصارت كل الشعوب وكل الأمم وكل القبائل وكل الألسن تتعبد لاسمه القدوس.

4- سلم يعقوب : رأي يعقوب حلماً “وإذا سلم منصوب على الأرض ورأسها يمس السماء ، وهوذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها ” ( تك 12:28 ) إن هذا السلم يرمز إلى التجسد الإلهي حيث نزل إلينا الله ، ويرمز أيضا إلى الصليب المجيد .. إذ أنه منصوب على الأرض ورأسه يمس السماء ، ويرمز ثالثة إلى العذراء مريم الوسيلة التي نزل عليها إلينا ، والتي صارت صلة تصل السماء بالأرض .
إنه السلم النازل من السماء علامة اتضاع الله ونزوله إلينا ضد كبرياء بابل التي أرادت أن تبنی برجاً من الأرض إلى السماء للإرتقاع والتكبر على الله نفسه.

11- يوسف الصديق

كان يوسف شخصية رائعة ، فيها الكثير من الإشارات والرموز .. التي ترمز إلى شخص ربنا يسوع المسيح ، نستطيع أن نلمح بعض هذه الرموز في الأمور التالية :
1- الابن والعبد : بالرغم من أن يوسف كان الابن المحبوب لدي أبيه يعقوب “أما إسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنية ( تك 3:37 ) .. إلا أنه اشتغل كعبد عند إخوته “كان يرعى مع إخوته الغنم وهو غلام عن بني بلهة وبني زلفة امرأتي أبيه ( تك37: 2).

 فهو الابن المدلل المحبوب ، وفي نفس الوقت أطاع أن يكون عبداً وغلاماً عند إخوته بني الجاريتين ، وهو في هذا مشبه بأبن الله .. الذي هو من حيث اللاهوت مساو للآب في الجوهر ، وهو الابن الوحيد الذي في حضن أبيه ، ومن أجلنا صار عبداً ليرعى غنم أبيه “الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله . لكنه أخلى نفسه ، آخذا صورة عبد ، صائراً في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان ، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب ( في 6-8:2 ) ۔
2- صنع يعقوب قميصاً ملوناً لابنه الحبيب يوسف ، وهذا القميص هو رمز للكنيسة التي لبسها المسيح متحداً لها والألوان المتعددة في القميص ترمز إلى شعوب الأرض الذين يجتمعون في كنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية ، لها إيمان واحد كمثلما لهارب واحد ومعمودية واحدة

3- أحب يعقوب أبنه بينما أبغضه إخوته ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام ( تك 4:37 ) ، وهكذا مثلما أحب الآب الابن بينما أبغضه بني البشر وقاموا عليه وصلبوه بحقد وحسد وبغضة شديدة .

4- أرسل يعقوب يوسف أبنه قائلاً: ” اذهب انظر سلامة إخوتك وسلامة العنم ورد لي خبرا ” ( تك 14:37 ) ، وهذا إشارة إلى أن الآب السماوي قد أرسل ابنه الوحيد الحبيب .. ليفتقد سلامتنا ، ويعود إلى الآب السماوي بالصعود المقدس (ليرد له الخبر)

5- بينما سعی یوسف لمنفعة إخوته وافتقادهم .. تشاوروا هم ليقتلوه ” احتالوا له ليميتوه . فقال بعضهم لبعض : ” هوذا هذا صاحب الأحلام قادم . فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول : وحش رديء أكله . فترى ماذا تكون أحلامة ( تك 18:37 20 ) .. وهكذا أيضا بينما جاء المسيح إلينا متجسدا طالباً خلاصنا .. قابله البشر بالبغضة والتهكم والرفض والصلب.

6- “فكان لما جاء يوسف إلى إخوته أنهم خلعوا عن يوسف قميصه ، القميص الملون الذي عليه ، وأخذوه وطرحوه في البئر . وأما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء ( تك 23:37-24 ) .. خلعوا قميصه ونزل إلى البئر بدون قميص .. كمثلما مات المسيح ، فخلع الجسد ، ونزل إلى الجحيم بروحه بدون الجسد.

7- أشار يهوذا أخو يوسف على إخوته أن يبيعوه لقافلة التجار الإسماعيليين ، وباعوه بعشرين من الفضة ( ثمن العبد في عصر يوسف ) .. أما ربنا يسوع المسيح فقد باعه يهوذا أيضا لكهنة اليهود بثلاثين من الفضة وهو ( ثمن العبد في عصر المسيح ) ۔

8- “فأخذوا قميص يوسف وذبحوا تيسا من المعزی وغمسوا القميص في الدم ( تك 31:37 ) .. إشارة إلى صبغ الكنيسة بدم المسيح في سر المعمودية .

9- ” وأما يوسف فأنزل إلى مصر ” ( تك 1:39 ) .. إشارة إلى نزول السيد المسيح من بيت الأب السماوي إلى أرضنا ، وكما صار يوسف الابن عبداً في بيت فوطيفار .. هكذا صار المسيح الابن الكلمة عبداً في بيت آدم .

10- كما هرب يوسف من زوجة فوطيفار وترك ثيابه في يديها .. كذلك خرج المسيح من الموت تاركاً الأكفان في يد القبر . لقد كانت زوجة فوطيفار قبراً من الشهوات النتنة ، وانتصر يوسف عليها .. كمثلما انتصر المسيح على الموت ، وخرج منه ظافرا به في الصليب.

11- خرج يوسف من بيت فوطيفار ، ونزل إلى السجن قبل صعوده إلى العرش وهكذا أيضا خرج المسيح من بيت آدم ( الأرض ) ، ونزل إلى الجحيم من قبل الصليب قبل أن يقوم ويصعد إلى السماء يمجد الأب .

12- تقابل يوسف في السجن مع شخصية ( الساقي وخباز الملك ) ، كان أحدهما مذنبا والآخر بريئاً .. وكذلك على الصليب صلب مع المسيح لصان أحدهما هلك والآخر خلص .. وقد تنبأ يوسف للساقي بأنه سيعود إلى خدمة الملك ، أما للخباز فقد تنبأ له بهلاكه ، وكذلك عندما نزل المسيح إلى الجحيم .. أخرج البعض منه إلى الفردوس وهم الأبرار ، أما الأشرار فقد تركهم في الجحيم بسبب شرور وعدم إيمانهم ،

13- عندما أرسل فرعون ليأخذ يوسف من السجن .. ” فأسرعوا به من السجن . فحلق وأبدل ثياب ودخل على فرعون ” ( تك 14:41 ) .. لقد بدل ثيابه إشارة إلى الجسد الممجد الذي قام به رب المجد السيد المسيح من الأموات ، وإشارة أيضا إلى أنه نزع عنا عار الخطية ، وذل سجن الشيطان ، وفي حياتنا الروحية يرمز هذا إلى خلع الإنسان العتيق مع أعماله المظلمة وشهواته الرديئة .

14- كما شرح يوسف رموز الأحلام لكل من الساقي والخباز ثم أيضاً لفرعون .. هكذا کشف لنا السيد المسيح عن أسرار العهد القديم ورموزه “ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب ” ( لو 27 : 24 ) .

15- “وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف ، وألبسه ثياب بوص ، ووضع طوق ذهب في عنقه ” ( تك 42:41 ) .. بالمقارنة بما فعله به إخوته ، حينما خلعوا عنه القميص الملون وأهانوه ، وهذا يرمز إلى رفض اليهود الملك المسيح عليهم .. بينما قبله الأمم وصاروا مملكته بالحقيقة التي هي الكنيسة .

16- ودعا فرعون اسم يوسف صفنات فعنيح ” ( تك 45:41 ) ، وهذا الاسم معناه “مخلص العالم ” أو ” طعام الحياة” وربنا يسوع المسيح هو مخلص العالم الحقيقي ، وهو طعام الحياة .. وكما خلص يوسف العالم من المجاعة بتوفير القمح لهم كذلك خلصنا ربنا يسوع من الهلاك بأن أعطانا القمح الحقيقي الذي هو جسده ودمه .

17- تزوج يوسف من أسنات بنت فوطي فارع كاهن أون إشارة إلى اقتران كنيسة الأمم بالسيد المسيح .. وقد ترکت عبادة آبائها لتدخل في عبادة الله الحقيقي إله يوسف زوجها .. كمثلما ترك الأمم عباداتهم الوثنية ليرتبطوا بإله السماء ربنا يسوع المسيح نفسه . 1

8- جاء إخوة يوسف إليه في مصر وسجدوا له كمثلما آمن الآباء الرسل بالمسيح ، وسجدوا له بعد قيامته .

19 – بارك يعقوب ابني يوسف ونقل البكورية من منسي إلى أفرايم بعلامة الصليب .. كذلك انتقلت البكورية من آدم إلى المسيح بالصليب ، وصار السيد المسيح ” بكرا بين إخوة كثيرين ” ( رو 29 : 8 ) بدلا من آدم .


 

من كتاب المسيح في سفر التكوين – الأنبا رافائيل

زر الذهاب إلى الأعلى