تفسير سفر إرميا ١٣ للقمص أنطونيوس فكري

تفسير إرميا – الأصحاح الثالث عشر

 

الآيات 1-11:

– هكذا قال الرب لي اذهب واشتر لنفسك منطقة من كتان و ضعها على حقويك ولا تدخلها في الماء. فاشتريت المنطقة كقول الرب ووضعتها على حقوي. فصار كلام الرب إلى ثانية قائلا. خذ المنطقة التي اشتريتها التي هي على حقويك وقم انطلق إلى الفرات واطمرها هناك في شق صخر. فانطلقت و طمرتها عند الفرات كما امرني الرب. وكان بعد أيام كثيرة أن الرب قال لي قم انطلق إلى الفرات وخذ من هناك المنطقة التي امرتك أن تطمرها هناك. فانطلقت إلى الفرات وحفرت واخذت المنطقة من الموضع الذي طمرتها فيه وإذا بالمنطقة قد فسدت لا تصلح لشيء. فصار كلام الرب إلى قائلا. هكذا قال الرب هكذا افسد كبرياء يهوذا وكبرياء أورشليم العظيمة. هذا الشعب الشرير الذي يابى أن يسمع كلامي الذي يسلك في عناد قلبه ويسير وراء آلهة أخرى ليعبدها و يسجد لها يصير كهذه المنطقة التي لا تصلح لشيء. لأنه كما تلتصق المنطقة بحقوي الإنسان هكذا الصقت بنفسي كل بيت إسرائيل وكل بيت يهوذا يقول الرب ليكونوا لي شعبا واسما وفخرا ومجدا ولكنهم لم يسمعوا.

كان معتادًا أن الأنبياء يستخدمون الرموز حتى يفهم الشعب الذي لا يريد أن يفهم ومنطقة الكتان (1) يضعها النبي على حقويه تشير لشعب إسرائيل الذي دخل الله معهم في عهد وشركة مع نفسه. وهو في محبته يلصقنا به. فهم شعب قريب جدًا من الله وهم خاصته، وهم دائمًا في بيته ويغمرهم بإحساناته. وهي من كتان، فكان غريبًا على نبي أن يلبس شيئًا ناعمًا فالأنبياء كانوا يلبسون ملابس خشنة ويوحنا المعمدان كان يلبس منطقة من وبر الإبل. ولكن المعنى أن الله أعدَّ شعبه في طهارة ليكونوا في بياض الكتان ونعومته وكذلك ألصقهم به.

 ولا تدخِلها في الماء وإشارة لأنَ هذا الشعب لا يريد التطهير ولا التوبة. ثم في (4) ذهب ليطمرها عند الفرات في شق صخر = فكانت المنطقة هناك معرضة للماء يصعد عليها ويغمر المنطقة ثم ينحسر عنها فتجف ففسدت وتهرأت. ومما أتعب المفسرين هل ذهب إرميا فعلًا للفرات والمسافة بعيدة جدًا أم كان ما حدث مجرد رؤيا. والرأي الصحيح أنه ذهب فعلًا:

  1. فهو يقول مرتين فانطلقت إلى الفرات (7،5).
  2. هي طاعة لصوت الله فهو لا يحسب أي تنفيذ لأوامر الله أن فيه مشقة.
  3. هو يشعر خلال رحلته بما سيشعر به المسبيين.

 وفساد هذا الشعب الذي يشير إليه فساد المنطقة (10) راجع لوثنيته. هم لم يعبدوا الله ولم يسبحوه وهذا واجبهم في مقابل إحساناته عليهم. ومن لا يسبح الله من الصعب أن يعتبر نفسه شعبًا لله. وهم لم يسبحوا الله بل زادوا على هذا وثنيتهم فضلوا بعيدًا عنه. هم دفنوا أنفسهم في الأرض بملذاتها كما دفنت المنطقة واختلطوا بالأمم وتلوثوا فأصبحوا لا يصلحون لشيء. فالله بأحكامه سوف يبعدهم عنه ويزول عنهم كل سبب كانوا من أجله في كبرياء. فالكبرياء تفصلنا تمامًا عن الله. فإن لم تجعلنا نعمته نتضع فالله يحجب نعمته عنا لكي يحجب أسباب الكبرياء فنخلص. حتى لو كان الهيكل سببًا لكبريائهم سيزيله.

  1. فسادهم راجع لابتعادهم عن الله، وهذا مرموز لهُ بطول المسافة بين أورشليم ونهر الفرات. ونهر الفرات يشير للخيرات الزمنية، فهم سعوا وراء زيادة ممتلكاتهم ووراء ملذاتهم تاركين الله.
  2. وهم سيذهبون إلى بابل، والفرات يشير لبابل. فذهاب النبي إلى الفرات. هو إشارة لسبيهم إلى بابل. لهذه الأسباب نقول أن النبي ذهب فعلًا للفرات. وفي (11) يكونوا لي شعبا وإسما وفخرا ومجدا= هذه تساوي “ليرى الناس أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السموات”.

وبالنسبة لنا كمسيحيين فالمنطقة تشير للكنيسة التي تلتف حول المسيح الرأس، لذلك ففي التجلى إبيضت ثياب المسيح (مت2:17) إشارة لأنه بدمه سيبيض كنيسته أي يبررها (إش18:1) + (1يو7:1) + (رؤ14:7) . وهذا يتم بالمعمودية التي فيها يموت الإنسان العتيق ويقوم الجديد (رو2:6-8) . ومن يرفض الإيمان ثم المعمودية يفسد، فمن آمن واعتمد خلص (مر16:16) . وهذا معنى لا تدخلها في الماء فهذا يعنى من يرفض المعمودية. ودفن المنطقة في التراب يشير لمن يدفن وزنته في طين هذا العالم، ولا يستخدمها لحساب مجد الله (مت24:25-30) . وإخفاء المنطقة في الصخر يشير لأن الخاطئ يختفي من أمام وجه الله خوفًا من الله وهربًا منه، كما اختفى آدم بعد الخطية راجع (تك8:3) + (إش 10:2، 119، 20) + (رؤ16،15:6) . والعكس فمن يختبىء في الصخرة المسيح (1كو4:10) بأن لا يبتعد عن الله، يكون كمنطقة حول المسيح الرأس، وهذا يكون كموسى الذي إختبأ في نقرة الصخرة فرأى مجد الله ولمع وجهه، إشارة لحصولنا على الجسد الممجد بعد القيامة حين نرى الله.

 

الأبات 12-14:

– فتقول لهم هذه الكلمة هكذا قال الرب إله إسرائيل كل زق يمتلئ خمرا فيقولون لك أما نعرف معرفة أن كل زق يمتلئ خمرا. فتقول لهم هكذا قال الرب هانذا املا كل سكان هذه الأرض والملوك الجالسين لداود على كرسيه والكهنة والانبياء وكل سكان أورشليم سكرا. واحطمهم الواحد على اخيه الاباء والابناء معا يقول الرب لا اشفق ولا اتراف ولا ارحم من اهلاكهم.

الخمر ترمز للفرح. وأورشليم أصبحت كزق ممتلىء خمرًا. ولاحظ أن هناك نوعان من الفرح 1- فرح روحى وهذا عطية الروح القدس 2- أفراح عالمية يحصل عليها الإنسان من ملذات وشرور العالم. وهذا النوع الأخير هو الخمر الذي يملأ أورشليم، هذا السكر جعلهم يتطوحون مبتعدين عن الله، وعن حياة القداسة التي طلبها منهم الله، أي يكونون شعبا مقدسًا مكرسًا لله (لا11: 44). ولهذا غضب الله عليهم. لذلك صاروا آنية مملوءة من غضب الله، فهى معدة للخراب، بينما أن في الأصل كان الله قد أعدها كآنية مجد، تمتلىء مجدًا ورحمة وفرحًا مقدسًا من الله أي خمرًا روحيًا. لكنهم إختاروا الملذات الشهوانية الوثنية، لذلك فسيمتلئون من السكر= حين يسقيهم الله كأس خمر غضبه (رؤ14: 10) وسيكونون كمن يتخبط في سكره ولا يعرف طريقه، كمن في ظلام (وهذا معنى آية 16) لا يعرفون طريقهم وسط أهوال المصائب الآتية. والأصعب أنهم سيكونون بلا تعزية إلهية وبلا إرشاد إلهى. وسيكون مصدر ألامهم هو ما كانوا يفرحون به من قبل أي السكر فعقاب الخطية هو في الخطية نفسها. لا بل هم كالسكارى سيحطمون كل واحد أخاه = أحطمهم الواحد على أخيه (14). ولاحظ إجابتهم الهازئة في (12) أما نعرف معرفة = فمن يملأ نفسه من ملذات أي خمر العالم يصير هكذا هازئًا مستهترًا. وهذا مما يغضب الله، فيجعل هؤلاء كالسكارى يتخبطون في الظلام. وفى (14) نرى الله القدوس لا يقبل الخطية، فهو قطعًا لو تساهل مع الخطية وترك الخطاة ورحمهم لسادت الفوضى في العالم (أم25:19). ونلاحظ أنه في مثل المنطقة نرى أن من يبتعد عن الله يتعرض للفساد أي الهلاك، وفي مثل زق الخمر نرى أن من يبتعد عن الله يفقد أفراحه.

 

الآيات 15-21:

– اسمعوا واصغوا لا تتعظموا لأن الرب تكلم. اعطوا الرب الهكم مجدا قبل أن يجعل ظلاما وقبلما تعثر ارجلكم على جبال العتمة فتنتظرون نورا فيجعله ظل موت ويجعله ظلاما دامسا. وأن لم تسمعوا ذلك فان نفسي تبكي في اماكن مستترة من أجل الكبرياء وتبكي عيني بكاء وتذرف الدموع لأنه قد سبي قطيع الرب. قل للملك وللملكة اتضعا واجلسا لأنه قد هبط عن راسيكما تاج مجدكما. اغلقت مدن الجنوب وليس من يفتح سبيت يهوذا كلها سبيت بالتمام. ارفعوا اعينكم وانظروا المقبلين من الشمال أين القطيع الذي اعطي لك غنم مجدك. ماذا تقولين حين يعاقبك وقد علمتهم على نفسك قواد للرياسة اما تاخذك الاوجاع كامراة ماخض.

(15) لو سمعوا وتواضعوا لما هلكوا وياليتهم سمعوا. (16) أعطوا لله مجدًا= وليس لأوثانكم وإعترفوا بخطاياكم وإقبلوا التأديب وسبحوا الله على إحساناته واعملوا أعمالًا صالحة تمجد الله، والبديل ظلامًا دامسًا = لا ترون معهُ طريقًا للهرب (رؤ10،9:16) فالله نور ومن يفارقه الله لا يجد سوى ظلمة. وفي الظلمة تعثر الأرجل فيتعثرون ويقعون في مصائبهم وليس من يقيمهم أو يرشدهم للطريق . بل سيكون هناك جبال عتمةيتعثرون فيها = الجبال هم الشياطين في كبريائهم ، فالشياطين يظلوا يحاولون إسقاطنا في التجارب مستخدمين سلاحهم وهو ملذات العالم الخاطئة. وبعد أن تأتى الضربات يظهر وجه الشيطان الآخر إذ يتلذذ الشيطان بآلام البشر. وهم بلا نور وفي الظلام الدامس سيكون هناك حالة يأس كامل. وفي (17) لم يتواضعوا ويسمعوا فبكى النبي رقيق المشاعر على مصيرهم = سبى قطيع الرب. وفي (18) على الملك والملكة أن يكونا قدوة لشعبهم ويقدمون توبة. وهبط عن رأسيهما التاج = لأن القرار صدر ضدهما من الله، وقد يكون الملك والملكة هما يهوياقيم وزوجته. وفي (19) أغلقت مدن الجنوب = أي مصر من حيث إنتظروا المعونة فلم يجدوا = وليس من يفتح. وفي (20) إرفعوا أعينكم وأنظروا = أي هذه الضربات قريبة كأنه هو ينظرها والغزاة القادمون كالذئاب، وهم كالقطيع وسيلتهمونه. وكان الرؤساء عليهم أن يعتبروا أنفسهم رعاة للقطيع يحافظون عليهم. وهنا يسألهم الله أين القطيع الذي سلمته إليكم. وكان قطيعًا جميلًا = غنم مجدك . وفي (21) كانوا أولًا ينظرون للكلدانيين كقوة يريدون التحالف معهم ليقوموا بحمايتهم فهم إختاروا بأنفسهم وضع الكلدانيين كقادة للرياسة عليهم = وهاهم الكلدانيين أتوا ليعاقبوهم = فماذا يقولون عن أفكارهم السابقة وحكمتهم التي ثبت فشلها. أما تأخذك الأوجاع منهم. هكذا كل من يذهب للشيطان يبيع نفسه لهُ طالبًا لذة يأتي خرابه وأوجاعه من الشيطان ولاحظ قول الله أين القطيع. غنم مجدك = لقد ذهبوا إلى السبي وتركت أورشليم خرابًا. أغلقت مدن الجنوب = قد تفسر أنه حتى مدنهم الجنوبية قد وقعت في الأسر، وليس من يفك هذا الأسر. والمعنى شمولية السبي لكل يهوذا. وفي (17) أماكن مستترة فيبدو أن النبي كان يهرب من أمام وجه الملك حتى لا يقتله.

 

الآيات 22-27:

– وأن قلت في قلبك لماذا أصابتني هذه لأجل عظمة اثمك هتك ذيلاك وانكشف عنفا عقباك. هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطه فانتم أيضًا تقدرون أن تصنعوا خيرا أيها المتعلمون الشر. فابددهم كقش يعبر مع ريح البرية. هذه قرعتك النصيب المكيل لك من عندي يقول الرب لانك نسيتني واتكلت على الكذب. فانا أيضًا ارفع ذيليك على وجهك فيرى خزيك. فسقك وصهيلك ورذالة زناك على الاكام في الحقل قد رأيت مكرهاتك ويل لك يا أورشليم لا تطهرين حتى متى بعد.

أية 22 نبوة بالسبى فهتك ذيلاك أي عارية بلا سروال. وإنكشف عقباك أي بلا حذاء، وهكذا يسير المسبيين (إش 4:20) . عنفا = فمن يصنع هذا جيش بابل العنيف . وفي السبي سيتبعثرون كالقش (24) أمام الريح، فمن ينجو من نار أورشليم لن يهرب من الريح وسيذهب إلى السبي. وفي (26) بسبب خطيتهم يسمح لهم الله بأن يتعروا ويفتضحوا كزانية. فحين تمادوا في كبريائهم أخجلهم الله. وخطاياهم التي نجدها في (27) هيخطايا مخجلة لذلك فعقابهم المذكور في (26) هو عقاب مخجل.

وفي (25) هذه قرعتك = أي نصيبك وجزاؤكِ لأنك إتكلت على الكذب = أي على المعاهدات مع مصر وغيرها ونسيتنى. وعبدتِ الأوثان الباطلة وتركتِ عبادتى. ومع كل هذا فهم يحتجون على الله قائلين لماذا أصابتنى هذه (22) وهذه هي أقوال كل خاطئ لا يريد التوبة ويرفض تأديب الله الذي يرده به عن انحرافه. وفي (23)الكوشى = أي الحبشى وهو أسود اللون بالطبيعة. والنمر = لونهُ أرقط أي به بقع سوداء. وهذا يقال كمثل عن الخطية التي هي في لون السواد. ولكن هناك فرق بين الكوشى وبين النمر فالكوشى كله أسود وهذه هي الطبيعة التي يولد بها الإنسان بعد سقوط آدم فالخطية هي سواد الروح. وبالطبع لا يمكننا تغيير هذا اللون الذي هو بالطبيعة ولكن هذا عمل الفداء فقط. وهناك النمر الأرقط وهذا يشير لخطاياي الشخصية التي من التعود عليها أصبحت كأنها طبيعة ثانية وهذه أيضًا صعب التخلص منها. ولكن بالتوبة أستفيد من عمل النعمة والروح القدس يعين على التغيير. ولكن بالنسبة ليهوذا فهذا المثل يعنى أنهم وصلوا لحالة فيها هم أنفسهم رافضين التوبة. فالخطية أصبحت طبع لا يمكن إستئصاله كما لا يمكن تغيير لون الكوشى أو لون النمر. ولو سألت النمر هل تريد أن يتغير لونك ويصير لونًا واحدًا بلا بقع لوجد اللون الواحد باهتًا. وهكذا من تعوَّد الخطية يتصوَّر الحياة بدون خطية بلا طعم وباهتة.

هَلْ يُغَيِّرُ الْكُوشِيُّ جِلْدَهُ أَوِ النَّمِرُ رُقَطَهُ = لون الكوشى الأسود يشير للخطية الأصلية التي ورثناها من أبونا آدم. وعن هذه الخطية التي نولد بها قال داود النبى “بالخطية ولدتنى أمى”. أما رقط النمر السوداء فهى تشير للخطايا التي نرتكبها بسبب الطبيعة الساقطة التي ولدنا بها. والمسيح بفدائه حمل عنا كلاهما. وكانت ذبيحة الخطية رمزًا لحمل المسيح الخطية الأصلية عنا، وذبيحة الإثم كانت ترمز لحمل المسيح لخطايانا التي نرتكبها نتيجة لطبيعتنا الساقطة.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى