تفسير إنجيل متى 8 للقمص تادرس يعقوب ملطي
أعماله الملوكية (أ)
بعدما قدّم لشعبه دستوره السماوي، متّحدثًا معهم بسلطان، صار يحدّثهم بلغة الحب العملي، مقدّمًا تطهيرًا وشفاءً للمرضى وتعزية للمتضايقين، وتحريرًا من سلطان الشيّاطين:
1. تطهير الأبرص |
1-4. |
||
لماذا أمره بالذهاب إلى الكاهن؟ |
|
|
|
2. شفاء غلام قائد المائة |
5-13. |
||
3. شفاء حماة بطرس |
14-17. |
||
4. دعوته للكنيسة |
18-22. |
||
5. تهدئة الأمواج |
23-27. |
||
6. مجنونا كورة الجرجيسيّين |
28-34. |
لم تتم المعجزات استعراضًا لقوّة لاهوت السيّد، وإنما حملت أولًا وقبل كل شيء إعلانًا عن محبّة الله الفائقة نحو الإنسان، وقد اختار الإنجيليّون عيّنات من معجزات السيّد غير المحصاة ليقدّموا لنا فكر الله من نحونا. فالإنجيلي متّى يقدّم لنا بعد عرضه للموعظة على الجبل تطهير الأبرص اليهودي، وشفاء غلام قائد المائة الأممي، المعجزة الأولى تكشف عن رسالة السيّد نحو اليهود، ألا وهي تطهيرهم من كل دنس حلّ بهم، والثانية رسالته نحو الأمم الذين تعرّضوا للهلاك بسبب العبادة الوثنيّة.
+++
1. تطهير الأبرص
“ولما نزل من الجبل تبعته جموع كثيرة،
وإذا أبرص قد جاء وسجد له، قائلًا:
يا سيّد إن أردت تقدر أن تطهّرني” [1-2].
يقارن العلامة أوريجينوس بين التلاميذ الذين تقدّموا إلى السيّد على الجبل (مت 5: 1) ليسمعوا كلماته وبين الجماهير التي بقيت عند السفح ونزل السيّد إليهم، قائلًا: [إذ كان يسوع يُعلِّم على قمّة الجبل كان معه تلاميذه، هؤلاء الذين أُعطى لهم أن يعرفوا أسرار تعاليمه السماويّة، خلالها ينعم قلب العالم الجامد بمعرفة الخلاص وتنفتح عينا الأعمى اللتان أظلمتا بظلال الهموم الأرضيّة بواسطة نور الحق… الآن إذ ينزل من الجبل تتبعه جموع كثيرة. إنهم لم يستطيعوا بطريق ما أن يصعدوا على الجبل، إذ تثقّلوا بأحمال الخطايا، فإن لم يُنزع عنهم هذا العبء لن يستطيعوا أن يرتفعوا إلى أعالي الأسرار الإلهيّة… لقد نزل إليهم الرب، أي تنازل إلى ضعفاتهم وعجزهم مُظهرًا رحمته نحو ضعفهم وبؤسهم، فتبعته الجموع: البعض لأنهم أحبّوه والكثيرون لأجل تعاليمه، وآخرون من أجل أعماله الشفائيّة وحنوّه.] وبنفس المعنى يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لاحظ أن التلاميذ وحدهم قيل عنهم أنهم صعدوا ليسوع على الجبل، لكنّه إذ نزل يسوع من الجبل تبعته الجموع، وبالحق جموع كثيرة لأن الجبل هو قمّة الفضيلة وبرج الكنيسة، حيث لا تقدر الجموع أن تأتي إلى المسيح وتقترب منها، إذ كانوا مثقّلين بالخطيّة أو الاهتمامات الزمنيّة… لكنّه بحنوّه السامي نزل إلى من هم أسفل هؤلاء الذين بسبب الضعف البشري لم يقدروا أن يسمعوه على قمّة الجبل، عندئذ تبعته الجموع[385].]
يقول القديس جيروم: [بعد إلقاء عظته وتعليمه سنحت الفرصة لعمل معجزة بها يثبّت العظة التي سُمعت حالًا[386].]
بعد إلقاء الموعظة التقى به أبرص، إذ يقول الإنجيلي:
“وإذ أبرص قد جاء وسجد له، قائلًا:
يا سيّد إن أردت تقدر أن تطهّرني“ [2].
يرى القديس أمبروسيوس في تطهير هذا الأبرص صورة رمزيّة حيّة لتطهير كل إنسان قادم إلى كلمة الله الحي،ّ لينال منه تطهيرًا عن خطاياه. لهذا يقول: [في هذه الحادثة لم يعيّن البشير اسم المكان الذي تمّت فيه المعجزة، مشيرًا إلى أن الذي شفي لا ينتمي إلى مدينة معيّنة، وإنما لشعوب العالم أجمع.] يعود فيقول: [لم يُطهِّر الرب أبرصًا واحدًا، إنّما يُطهِّر الكل قائلًا: “أنتم الآن أنقياء بسبب الكلام الذي كلّمتكم به“ (يو 15: 3). فإن كان شفاء البرص يتم بواسطة كلمة الرب، فإن احتقار كلمة الرب هو البرص الذي يصيب الروح[387].]
ويقدّم لنا هذا الأبرص صورة حيّة للصلاة الحقيقيّة من جانبين:
أولًا: جاء للسيّد وسجد له قبل أن ينطق بكلمة تخص احتياجاته، وكأنه يقدّم العبادة لله والخضوع له أولًا. يطلب ما لله قبل أن يسأل ما لنفسه. بهذه الروح جعلت الكنيسة صلاة الشكر في مقدّمة كل الليتورجيّات والصلوات الجماعيّة والخاصة، مقدّمين ذبيحة الشكر لله قبل أن نسأله شيئًا لأنفسنا، معلنين حبّنا له!
ثانيًا: لم يطلب الأبرص شيئًا محدّدًا لكنّه يعرض آلامه على مخلّصه، تاركًا الأمر بين يديه، فلم يقل له “طهّرني”، وإنما إن أردت تقدر أن تطهّرني. يتكلّم في ثقة وإيمان بإمكانيّة السيّد وحبّه ورعايته وحكمته، تاركًا أمر تطهيره بين يديه. بنفس الروح أرسلت أختا لعازر له قائلتين: “الذي تحبّه مريض”.
يُعلّق العلامة أوريجينوس على كلمات الأبرص وبلسانه قائلًا: [إني أعرف أنك قادر أن تفعل كل شيء. وأنا لا أسألك سلطانك، ولا أطلب قدرتك، فإني أعرف أن البشر ضعفاء، لكنّني أطلب إرادتك. فإذا ما تمتّعت بإرادتك يتبعها السلطان الذي يحقّق هذه النعمة لي… لي الربح، ولك أنت التسبيح، وللمشاهدين معرفة متزايدة للحق خلال المعجزة… أنت الذي سبق فطهّرت بخادمك إليشع نعمان الأبرص الرئيس بسوريا، آمرًا إيّاه أن يغتسل في الأردن، الآن تقدر إن أردت أن تطهّرني[388].]
أمام هذا الإيمان “مدّ يسوع يده ولمسه، قائلًا: أريد فأطهر” [3]. إذ ترك الأبرص الأمر في يديّ ربّنا الذي يحبّه؛ وفي محبّة مدّ يده قائلًا له: “أريد فأطهر” معلنًا سلطانه على البرص وإرادته الطيّبة نحو خليقته. لكن نتساءل:لماذا مدّ السيّد يده ولمسه؟
أولًا: يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لم يقل فقط وإنما تبع القول العمل في الحال”[389].] حقًا إن السيّد هو كلمة الله صاحب السلطان الذي يقول فيكون، لكنّه ربط القول بلمس اليدّ كمثَل لنا، حتى تلتحم كلماتنا نحن أيضًا بعمل أيدينا، فلا نعيش كأصحاب كلام نظري، إنّما مع الكلمات نعمل بلا توقف. فنربط تسابيحنا وعبادتنا وقراءاتنا الإنجيليّة بأعمال المحبّة التقويّة، نحو الله والناس ونحو أنفسنا أيضًا. ليت صلواتنا تتزكّى بأعمال أيدينا بالروح القدس العامل فينا، فتصير مقبولة لدى الله! لهذا يقول الرسول: “طلبة البار تقتدر كثيرًا في فعلها” (يع5: 16). سرّ اقتدارها ليس في الكلمات الخارجة، إنّما في الحياة المقدّسة في الرب، الحاملة لثمر الروح القدس العملي!
ثانيًا: يقول القديس كيرلس الإسكندري: [لقد وهبه لمسة يده المقدّسة المعتنية به، وفي الحال تركه البرص وفارقه المرض[390].] ما أحوجنا إلى إدراك يدّ الله المترفّقة بنا، ورؤيتنا لرعايته الإلهيّة فيزداد إيماننا به وننال أكثر ممّا نطلب.
ثالثًا: بهذا التصرّف أوضح السيّد الفارق بينه وبين إليشع النبي، الذي لم يكن ممكنًا أن يلمس نعمان السرياني الأبرص، ولا خرج حتى للقائه، بل أرسل إليه يطلب منه أن يذهب إلى الأردن ويستحم فيه سبع مرّات. لقد خشيَ أن يتنجّس، أمّا السيّد فلمس الأبرص إذ لم يكن ممكنًا للبرص أن ينجِّسه بل يهرب البرص منه في الحال. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لكي يوضّح الرب أنه يشفي لا كعبد بل كسيّد مطلق، لذلك لمسه أيضًا، فإن يده لا تتدنّس من البرص، بل يُطهِّر الجسد الأبرص بيده المقدّسة[391].] ويقول العلامة أوريجينوس: [لقد لمسه لكي يظهر أن كل شيء طاهر للطاهرين (تي 1: 15)، وأن دنس إنسان لا يلصق بغيره، ولا النجاسة الخارجيّة تنجّس طهارة القلب.] مرّة أخرى يقول على لسان السيد: [إني لا احتقر الناموس لكنّني أشفي الجرح! إنّني لا أكسر الوصيّة لكنّني أزيل البرص وأطهِّره، إذ أمدّ يدي يهرب البرص، ولا يقترب دنسه من كمالي، ولا يقاوم سلطاني[392].]
رابعًا: في دراستنا لسفر حزقيال رأينا أن “اليد” تُشير إلى أقنوم الابن، ومدّها إنّما يُشير إلى ظهوره أو تجسّده، فمدّ يد السيّد ولمس الأبرص إنّما يُشير إلى ظهوره حسب الجسد في وسط اليهود، وتلامسهم معه جسديًا كما روحيًا حتى يطهَّروا من كل دنس قد تعلّق بهم.
إذ طهّر الأبرص، “قال له يسوع: انظر أن لا تقول لأحد، بل اذهب أرِ نفسك للكاهن، وقدّم القربان الذي أمر به موسى شهادة لهم” [4].
يقول القديس كيرلس الكبير: [لماذا أمره ألا يقول لأحد؟ حتى يتعلّم الذين ينالون من الله موهبة الشفاء ألا يطلبوا مديحًا ممن يشفونهم، ومجدًا من الآخرين، لئلا يسقطوا في الكبرياء الذي هو أشرّ الخطايا[393].]
لماذا أمره بالذهاب إلى الكاهن؟
أولًا: أراد السيّد تأكيد احترامه للشريعة التي هي من وضعه، فإنه ما جاء لينقضها بل ليكمّلها. لقد طالبه أن يؤكّد طهارته عن طريق الكهنة – كما في الشريعة – قبل أن يلتقي به أحد. في أكثر من موضع كشف السيّد موقفه من الكنيسة اليهوديّة، أنه ما جاء ليهدم بل ليبني، فإن هدَم إنّما يهدِم ما حملته القيادات الكنسيّة اليهوديّة من رياء وحب للظهور واهتمام بالزمنيّات وحرفيّة في الفهم وشكليّة في العبادة، لكنّه ما جاء ليثور على النظام في ذاته أو الطقس إن قدّم بروحه لا في حرفيّة قاتله. لقد جاء لكي يدخل بالرمز إلى كمال ما يرمز إليه. فإن كان مجيئه ينهي الكهنوت اللاوي لا يكون هذا بتدميره، وإنما بظهور كهنوت السيّد المسيح على طقس ملكي صادق.
ثانيًا: بإرساله للكهنة أراد شهادة عمليّة ملموسة بين يديّ الكهنة، ليدركوا أنه المسيّا المخلّص القادر على الإبراء من البرص. يقولالقديس كيرلس الكبير: [سمح للأبرص بذلك شهادة لهم… فقد عُرف اليهود في كل العصور بإعلانهم عن غيرتهم على الناموس، قائلين أن موسى كان خادمًا لإرادة السماء، وقد بذلوا كل طاقتهم للتقليل من شأن المسيح كمخلّص البشر، فقالوا صراحة: “نحن نعلم أن موسى كلّمه الله، وأما هذا فما نعلم من أين هو” (يو 9: 29). لهذا كان من اللازم أن يقنعهم بهذه العلامات، أن كرامة موسى أقل من مجد المسيح. كان موسى مجرّد خادم أمين في بيت الله، أمّا المسيح فابن في بيت أبيه (عب 3: 5-6). شفاء الأبرص كان شهادة واضحة أن المسيح قد غيّر شريعة موسى بطريقة لا توصف. فإنه إذ تذمَّرت مريم أخت موسى عليه ضُربت بالبرص، وقد حزن موسى عليها حزنًا شديدًا، لكنّه عجز عن إزالة هذا المرض عنها. لقد سقط أمام الله يطلب منه: “اللهمّ اشفها“ (عد 12: 13). لاحظ بعناية كيف وُجد هنا توسل مع صلاة وطلبة إلى السمو الإلهي، أمّا مخلّص البشريّة فبسلطان إلهي بحق يقول: أريد فأطهر. إذن شفاء الأبرص كان إنذارًا للكهنة، ليتعلّموا منه أن ظنّهم بأن موسى أعظم منه هو انحراف عن الحق. حقًا يليق بهم أن يكرموا موسى كخادم للناموس، معيّن للنعمة ومعروف للملائكة (غل 3: 19)، أمّا عمانوئيل فبالأكثر يُقدَّم له التسبيح والمجد بكونه ابن الآب الحق[394].]
ويقول القديس أمبروسيوس: [عندما يراه الكاهن (اليهودي) يتحقّق أنه لم ينل الشفاء حسب الناموس، لكن أبرأته نعمة الله التي تفوق الناموس[395].]
ثالثًا: بإرساله للكاهن أراد من اليهود أن يعيدوا النظر في طقس تطهير الأبرص (لا 14)، فيشهد لعمل السيّد المسيح الخلاصي، خاصة أمر العصفورين، حيث يذبح الواحد ويطير الآخر، إشارة إلى موت السيّد وقيامته، الأمر الذي أرجو الحديث عنه بأكثر تفصيل فيدراستنا لسفر اللاويين.
رابعًا: يرى القدّيسان جيروم وأمبروسيوس في هذا التصرّف توجيه السيّد لنا بالخضوع للكهنة في الرب.
خامسًا: يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في هذا التصرّف أن السيّد يعلّمنا تجنّب الكبرياء والافتخار[396]. إن كان رب المجد الذي يشفي بسلطانه الشخصي أراد أن يخفي أعماله العجيبة، فكم بالأكثر يليق بنا نحن الذين تحت الضعف أن نخفي ما ينعم به علينا السيّد، من عطايا ومواهب ونعم، حفظًا عليها من حرب محبّة مديح الناس، التي تقتل كل عطيّة صالحة. لنتمثل بوالديّ موسى النبي اللذين أخفيا الطفل جميل الصورة في بيتهما ثلاثة شهور فلم يقتله فرعون، مقدّمين لنا العظيم في الأنبياء. هكذا لنُخفِ كل فضيلة جميلة في بيتنا ولا نعرضها لفرعون الحقيقي، شيطان حب الظهور!
سادسًا: يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه قد دفعه نحو الكنيسة ليقدّم ذبيحة شكر لله، معلقًا على هذا التصرّف بقوله: [ليتنا نقدّم لله التشكّرات على الدوام، فنجعلها تسبق كلماتنا وأعمالنا[397].] [ليتنا لا نقدّم التشكّرات فقط من أجل البركات التي تحل بنا، وإنما من أجل البركات التي تحل بالآخرين[398].] ويكمّل حديثه عن أهمّية الشكر بقوله: [هذا هو الأمر الذي يحرّر الإنسان من الأرض، ويرفعنا إلى السماء، ويجعلنا ملائكة بدلًا من أن نكون بشرًا. فإن الملائكة يشكِّلون طغمة تقدّم التشكّرات لله من أجل الصالحات الموهوبة لنا، قائلين: “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة” (لو2: 14)[399].]
+++
2. شفاء غلام قائد المائة
“ولما دخل يسوع كفرناحوم جاء إليه قائد مائة يطلب إليه ويقول:
يا سيّد، غلامي مطروح في البيت مفلوجًا متعذّبًا جدًا” [5-6].
لقد جاء هذا القائد الروماني يمثّل كنيسة الأمم المعذّبة جدًا في شخص العبد (الغلام) بسبب العبادة الوثنيّة، وجهلها التام عن حياة الشركة مع الله. لقد جاءت إليه تصرخ أن عبدها مطروح في البيت، مصاب بالفالج، وهكذا تقدّمت بالإيمان إلى السيّد المسيح الذي لم يقم في وسطها كما أقام في الأمة اليهوديّة، إنّما سمعت عنه خلال كلمة الكرازة، فطلبت الشفاء من الفالج الذي أصابها كل هذا الزمان.
إن كان السيّد المسيح لم يولد جسديًا وسط الأمم، لكنّه يقول لهم “أنا آتي واشفيه” [7]. إنه لا يستنكف من دخوله بيتهم الذي تدنّس بالأوثان، فهو عالم أنه بحلوله فيه تتحطّم الوثنيّة وُيطرد الشرّ، ويتحقّق الشفاء الروحي للنفوس التي تتقبّله. إنه وعد يُقدّم لكل نفس تشعر بفالج الخطيّة ومرارتها، وتصرخ إلى مخلّصها في أدب ووقار، وطرح عليه أتعابها وآلامها، لتسمع صوته المحب “أنا آتي واشفيه”. نعم تعال أيها الرب يسوع، لتحل بالإيمان فينا، أنت سرّ شفائنا.
إذ وعده السيّد بالذهاب إلى بيته ليشفي عبده، في تواضعٍ مملوءٍ إيمانًا أجاب: “يا سيّد لست مستحقًا أن تدخل تحت سقفي، لكن قل كلمة فقط فيبرأ غلامي، لأني أنا أيضًا إنسان تحت السلطان. لي جند تحت يدي، أقول لهذا اذهب فيذهب، ولآخر اِئْتِ فيأتي، ولعبدي أفعل هذا فيفعل” [8-9]. لقد فاق الأممي اليهود أصحاب المواعيد، مظهرًا تواضعًا أمام الملك المسيّا، وإيمانًا بسلطانه الفائق.
* دعا (قائد المائة) نفسه غير مستحق لدخول السيّد بيته، فأظهر نفسه مستحقًا لدخوله لا في بيته بل في قلبه. فلو لم ينطق قائد المائة هذه الكلمات في إيمان وتواضع ما استطاع قلبه أن يحتمل دخول من يخاف من دخوله تحت سقف بيته.
لا يُسر ربّنا كثيرًا بدخوله منزل قائد المائة قدر ما يُسر بدخوله قلبه. رب التواضع – سواء بالكلام أو العمل – جلس في منزل فرّيسي متكبّر يُدعى سمعان، ومع ذلك لم يكن في قلبه لكي يسند فيه رأسه (لو9: 58)… لم يدخل منزل قائد المائة لكنّه امتلك قلبه، أمّا زكا فقد قبل الرب في منزله كما في قلبه أيضًا (لو 19: 8).
* لم يدخل (السيّد) منزل قائد المائة بالجسد؛ كان غائبًا عنه جسديًا، لكنّه كان حاضرًا فيه بجلاله، شافيًا غلامه… لقد كان الرب متجسّدًا بين اليهود وحدهم، فلم يُولد من عذراء ولا عاش بين شعوب الأمم… ومع هذا فقد تحقّق ما قيل عنه: “شعب لم أعرفه يتعبّد لي“ (مز 18: 43)، ولكن كيف يتعبّد له دون أن يعرفه؟ “من سماع الأذن يسمعون لي“ (مز 18: 44). لقد عرفه اليهود فصلبوه، وأما العالم كلّه فسمع عنه وآمن به[400].
القديس أغسطينوس
* هذا السقف سِرِّيًا هو الجسد الذي يغطّي النفس، وغلق الذهن عن معاينة السماء، لكن الله لم يستنكف من أن يسكن في جسم ولا من أن يدخل تحت سقف جسدنا!
الأب خريسولوجيوس أسقف رافينا
* حتى الآن يدخل تحت سقفنا خلال رؤساء الكنيسة القدّيسين والذين يُسر الله بهم… عندما تتناولون جسد الرب ودمه يدخل الرب نفسه تحت سقفكم، ففي تواضع ردّدوا: يا سيّد“لست مستحقًا…[401]“
العلامة أوريجينوس
* كن متسلّطًا على قلبك مثل ملك، لتجلس في عمق التواضع، تأمر الضحك أن يذهب فيذهب، وتدعو البكاء الحلو أن يأتي فيأتي، والجسد العبد العاصي أن يفعل هذا فيفعل[402].
القديس يوحنا الدرجي
“فلما سمع يسوع تعجّب، وقال للذين يتبعون:
الحق أقول لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا.
أقول لكم أن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتّكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوبفي ملكوت السماوات.
وأما بنو الملكوت فيُطرحون إلى الظلمة الخارجيّة.
هناك يكون البكاء وصرير الأسنان.
ثم قال يسوع لقائد المائة: اذهب وكما آمنت ليكن لك،
فبرأ غلامه في تلك الساعة” [10-13].
حقًا ليس شيء يفرِّح الله مثل إيماننا به، فقد تعجّب السيّد عندما رأى في قائد المائة هذا الإيمان في قلبه ومُعلنًا على لسانه. يقول العلامة أوريجينوس:[لاحظ أي أمر عظيم، هذا الذي يجعل يسوع ابن الله الوحيد يتعجّب! فإن الذهب والغنى والممالك والسلاطين في عينيه كالظل أو كزهرة تذبل، ليس شيء من هذه الأمور تجعل الله يُعجب بها أو ينظر إليها كأمر عظيم أو ثمين اللهم إلا الإيمان! بهذا يعجب الله ويكرمه، ويتطلّع إليه كأمر مقبول لديه[403].]
يقول القديس أغسطينوس: [من الذي عمل فيه هذا الإيمان إلا ذاك الذي تعجّب منه…؟! أمّا كونه قد تعجّب إنّما لكي نعجب نحن أيضًا مقدّمًا نفسه مثالًا نقتدي به[404].]
بهذا الإيمان الذي يُعجب منه السيّد ليجتذبنا إليه، انفتح حضن آبائنا إبراهيم واسحق ويعقوب ليستقبلوا المؤمنين من الأمم، بينما حُرم منه أولادهم حسب الجسد الذين رفضوا هذا الإيمان، فلم ينعموا بالنور الإلهي معهم بل يُطرحون خارجًا في الظلمة.
لقد طُرد أبناء الملكوت -أي اليهود- من حضن إبراهيم، إذ يقول القديس أغسطينوس: [اليهود هم الذين تقبّلوا الناموس الحاوي أمثال الأمور المقبلة، لكنها إذ تحقّقت رفضوها[405].] ويقول القديس جيروم: [يدعى اليهود أبناء الملكوت، لأن سبق فملك عليهم من بين الأمم[406].] ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لقد حسبهم كأبناء الملكوت هؤلاء الذين لأجلهم أُعد الملكوت، وبسبب رفضهم غضب[407].]
يُعلّق القديس أغسطينوس على حرمان أبناء الملكوت من الاتكاء مع آبائهم إبراهيم واسحق ويعقوب هكذا: [إن كان موسى قد قدّم لشعب إسرائيل إله إبراهيم واسحق ويعقوب وليس إله آخر، فإن هذا ما فعله المسيح. إنه لم يحاول أن يرد هذا الشعب عن إلههم، لذلك يُحذّرهم بأنهم سيذهبون إلى الظلمة الخارجيّة إذ يراهم يرتدّون عن إلههم، الذي دعا الأمم من كل العالم إلى ملكوته، ليتّكئوا مع إبراهيم وإسحق ويعقوب، وذلك ليس إلا لأنهم تمسكوا بإيمان إبراهيم[408].]
يقول القديس جيروم: [تُدعى الظلمة خارجيّة، لأن من يسحب من عند الرب يصير النور خلفه[409].]
أما عن البكاء وصرير الأسنان فيرى القديس جيروم أن هذا يُشير إلى قيامة الجسد، ليشترك مع النفس في الجزاء. [إن كان يوجد بكاء للعيون وصرير للأسنان أي للعظام، فبالحق ستكون قيامة للأجساد التي سقطت.]
+++
3. شفاء حماة بطرس
“ولما جاء يسوع إلى بيت بطرس رأى حماته مطروحة ومحمومة،
فلمس يدها فتركتها الحمى، فقامت وخدمتهم” [14-15].
أعلن السيّد اهتمامه ببيت خادمه أو تلميذه، فإن كان الخادم قد سلّم حياته في يديّ السيّد مشتهيًا أن تكون كل لحظة من لحظات عمره لحساب الخدمة، يعوِّضه الرب بالاهتمام بعائلته حتى في الأمور الزمنيّة.
إن كان في تطهير الأبرص اليهودي أعلن السيّد تطهيره لليهود القابلين الإيمان به، وبشفاء عبد قائد المائة أوضح شفاءه للأمم، فإنه بشفاء حماة بطرس أعلن اهتمامه بالنساء أيضًا إذ شفاها لتقوم فتخدمه. إنه يطلب خدمة كل إنسان.
ويُعلّق القديس أمبروسيوس على شفاء حماة بطرس التي أصابتها الحمى بقوله: [ربّما كانت حماة سمعان تصوّر جسدنا الذي أصابته حُمَّى الخطايا المختلفة ودفعته نحو الشهوات الكثيرة، فإن هذه الحَمى ليست بأقل من التي تصيب الجسد، إذ تحرق القلب…! لقد كانت (حماة سمعان) مطروحة ومسمّرة وأسيرة تتألّم بسبب حُمى الجسد، وكانت الضرورة تقتضي البحث عن طبيب، لكن من يستطيع أن يشفي جراحات الروح؟! أي طبيب يقدر أن يبرئ الآخرين وهو عاجز عن إبراء نفسه؟ من يقدر أن يهب الحياة للغير وهو عاجز عن الهروب بنفسه من الموت، لأن الجميع قد ماتوا في آدم، لأنه كما بإنسان واحد دخلت الخطيّة إلى العالم وبالخطيّة الموت هكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع؟ (رو 5: 12)[410].]
4. دعوته للكنيسة
قدّم لنا معلّمنا متّى البشير أمثلة للدعوة. المثال الأول هو أن السيّد إذ رأى الجموع الكثيرة تلتف حوله أمر بالذهاب إلى العبر، فتقدّم إليه كاتب يقول له: “يا معلّم أتبعك أينما تمضي”. فقال له يسوع: “للثعالب أوْجرة ولطيور السماء أوكار، أمّا ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه” [18-20].
ما هي هذه الجموع الكثيرة التي التفَّت حوله إلا الطغمات السمائيّة التي تتعبّد له وتخدمه… لكنّه أمر بالذهاب إلى العبر، وكأنه قد حمل سفينة طبيعتنا البشريّة وترك سمواته ليأتي إلى أرضنا، فنلتقي به بعد العداوة التي حلّت بيننا وبينه بسبب خطايانا. لقد جاء إلينا وحلّ بيننا، فتقدّم إليه الكاتب اليهودي ممثِّلًا الأمة اليهوديّة كلها يسأله أن يتبعه، ظانًا أنه مَلكًا أرضيًا. لقد التصق به اليهود أولًا بفكرهم المادي حاسبين أنه يخلّصهم من الاستعمار الروماني ويسيطر بهم على العالم. وبفكرهم المادي هذا وجدت الثعالب الماكرة لها أوْجرة في داخلهم، وطيور السماء المتشامخة في قلوبهم أوكارًا. سلكوا بخبث الثعالب وبكبرياء الطيور، فلم يكن ممكنًا أن يجد السيّد المسيح البسيط والمتواضع موضعًا في داخلهم يسند فيه رأسه. إن كان الآب هو رأس المسيح، فإن السيّد المسيح وهو يشتهي أن يستريح في كل قلب ليدخل بالآب فيه خلال الصليب لا يجد موضعًا للمصالحة مع الخبيث المتعالي.
ليهبنا الله قلوبًا متواضعة بسيطة فلا تجد الثعالب لها فينا أوْجرة ولا الطيور المتشامخة أوكارًا، إنّما يسند السيّد المسيح رأسه فيها، مقدّسا إيّاها هيكلًا مقدّسًا وسماءً ثانية، ومنزلًا له ولأبيه.
يقول القديس أغسطينوس: [لقد رفض رب المجد إنسانًا متكبّرا من تلمذته، هذا الذي أراد أن يتبعه… لقد قال له ما معناه: إن فيك خداعًا كالثعالب وكبرياء كطيور السماء، أمّا ابن الإنسان البسيط غير المخادع والمتواضع بلا كبرياء فليس له فيك أين يسند رأسه… إنه يسند رأسه ولا يرفعها، قاصدًا التواضع[411].]
يقول القديس جيروم: [إن هذا الكاتب قد رفضه (الرب) لأنه شهد المعجزات العظيمة وأراد أن يتبع المخلّص لينتفع من المعجزات. كان يتمنّى ما تمنّاه سيمون الساحر عندما أراد شراء الموهبة من بطرس، لهذا أدان المسيح إيمان هذا الكاتب وقال له: لماذا تريد أن تتبعني؟ هل من أجل الغنى والمكسب؟ إنّني فقير جدًا ليس لي مأوى أو حتى سقف يظلّلني![412]]
ويكتب القديس جيروم في إحدى رسائله موضّحًا كيف نقيم الموضع الذي فيه يسند السيّد رأسه، قائلًا: [ابن الإنسان ليس له أين يسند رأسه، فهل تخطط أنت لإقامة مبانٍ شاهقة وقاعات فسيحة؟! إن كنت تنظر أن ترث خيرات هذا العالم فإنك لا تستطيع أن تكون شريكًا مع المسيح في الميراث (رو8: 17)[413].]
المثال الثاني: “وقال له آخر من تلاميذه: “يا سيّد ائذن لي أن أمضي أولًا وأدفن أبي. فقال له يسوع: اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم“ [21-22].
إن كان الكاتب الأول قد تقدّم ليتبع السيّد وبسبب تمسكه بفكره المادي ورياء قلبه حُرم من التمتّع بالتلمذة له، فإن هذا الكاتب الآخر كان يمثّل الأمم الذين مات آباؤهم في عبادة الأوثان، وفي شعور بالعوز والاحتياج تقدّموا يطلبون التلمذة له. لقد قبلهم السيّد من أجل عطشهم وجوعهم للبرّ، سائلًا إيّاهم أن يتركوا الموتى أي يتركوا آباءهم الذين فقدوا حياتهم الروحيّة وعاشوا كأموات.
لعلّ هذا الكاتب كان مشتاقًا أن يتبع السيّد، وكأن العائق هو أباه الذي في سن الشيخوخة، فطلب السيّد منه أن يأذن له أن يبقى مع والده حتى يموت وعندئذ يكرِّس حياته له. طلب السيّد منه أن يترك الأموات حسب الروح أن يدفنوا من يموت حسب الجسد، أمّا هو فيتفرّغ للخدمة. وكأن السيّد أراد أن يميّز بين الأموات حسب الجسد والأموات حسب الروح. خدمة دفن الأموات حسب الجسد أمر سهل يمكن للجميع أن يقوموا به، أمّا ما هو أهم، فهو دفن الأموات حسب الروح مع السيّد المسيح ليقوموا معه، أي خدمة الكرازة بالمسيح المصلوب القائم من الأموات حتى ينعم الأموات بالروح بالقيامة الروحيّة. بمعنى آخر يسأله السيّد ألا يبكي على الميّت حسب الجسد، حتى وإن كان والده، إنّما يبكي على الميّت حسب الروح، وإن كان ليس قريبًا له حسب الدم أو الجنس!
* فلتبكِ بالأحرى على الذين يتركون الكنيسة بسبب جرائمهم وخطاياهم، الذين يسقطون تحت الدينونة بسبب أخطائهم[414].
القديس جيروم
* كان هناك ميّت يحتاج إلى دفن، ووجد أموات أيضًا يدفنون الميّت. واحد ميّت بالجسد والآخرون أموات بالروح.
* كيف يحدث موت للنفس؟ عندما لا يوجد إيمان! كيف يحدث موت للجسد؟ عندما لا توجد النفس! إذن فنفس النفس هو الإيمان. يقول المسيح: من آمن بي، وإن كان ميّتًا بالجسد، فإنه يحيا في الروح، حتى يقوم الجسد أيضًا ولا يموت بعد[415].
القديس أغسطينوس
* كما أن الجسد يموت بفقده النفس التي هي حياته، هكذا تموت النفس بفقدها الله الذي هو حياتها.
* يريدنا أن نموت لكي نعيش، فإنّنا نعيش لكي نموت!
القديس أغسطينوس[416]
+++
5. تهدئة الأمواج
“ولما دخل السفينة تبعه تلاميذه،
وإذا اضطراب عظيم قد حدث في البحر حتى غطّت الأمواج السفينة،
وكان هو نائمًا.
فتقدّم تلاميذه وأيقظوه، قائلين: يا سيّد نجّنا فإنّنا نهلك.
فقال لهم: ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان؟
ثم قام وانتهر الرياح والبحر فصار هدوء عظيم.
فتعجّب الناس، قائلين: أي إنسان هذا،
فإن الرياح والبحر جميعًا تطيعه“ [23-27].
دخل السيّد السفينة وتبعه تلاميذه، وفجأة حدث اضطراب عظيم، فقد عُرف بحر الجليل بالعواصف العنيفة المفاجئة، وهو بحيرة صغيرة طولها ثلاثة عشر ميلًا وأكبر أجزاء عرضها ثمانية أميال.
ما حدث إنّما يقدّم لنا صورة حيّة للكنيسة في جهادها في بحر هذا العالم، فإنها تُهاجَم بعواصف شديدة يثيرها الشيطان ضدّها، إذ لا يطيق المسيح الحالّ فيها رأسًا لها، فيظن حتى التلاميذ أحيانًا أنهم يهلكون. لكن يتجلّى مسيحها الحيّ ليعطيها سلامه. وما أقوله عن الكنيسة إنّما أكرّره بخصوص المؤمن كعضو في الكنيسة المقدّسة الذي ينعم بهذه العضويّة خلال مياه المعموديّة، فيتمتّع بسكنى السيّد المسيح فيه، ويصير ملكوتًا سماويًا وهيكلًا لله. هذا لا يعني توقُّف التجارب عن مهاجمته، بل بالعكس يزداد هجومها بالأكثر من أجل السيّد المسيح الساكن فيه. لكنها تعجز عن أن تهلكه مادام المؤمن في يدّ عريسه، في سهر روحي ويقظة بلا نوم.
يعلّل القديس يوحنا الذهبي الفم حدوث ذلك قائلًا:
[لقد نام لكي يعطي فرصة لظهور خوفهم، ولكي يجعل فهمهم لما يحدث أكثر وضوحًا… لكنه لم يفعل هذا في حضرة الجماهير حتى لا يُدانوا على قلّة إيمانهم، وإنما انفرد بهم وأصلح من شأنهم، وقبل أن يُهدئ عاصفة المياه أنهى أولًا عاصفة نفوسهم موبّخا إيّاهم: لماذا شككتم يا قليلي الإيمان؟ معلّمًا إيّاهم أيضًا أن الخوف سببه ليس اقتراب التجارب إنّما ضعف ذهنهم[417].]
هكذا يظهر السيّد المسيح معلّمًا مُحبًا وأبًا مترفّقا، يريد أن يكشف جراحاتهم ويظهر لهم ضعفهم دون أن يجرح مشاعرهم، إذ سحبّهم من وسط الجماهير ليعلّمهم عمليًا ما في قلوبهم وأذهانهم من ضعفات. إنه يقدّم لنا المثال الحق للأبوة الحانية التي لا تتساهل مع الخطيّة والخطأ، لكنها لا تشهِّر بالابن الخاطئ. تفضحه أمام نفسه لا أمام الآخرين، مرّة ومرّات، وأخيرًا إن احتاج الأمر يستخدم التأديب العلني كتوبيخه للكتبة والفرّيسيّين.
في أبوّته قدّم السيّد العلاج الأصيل مُظهرًا أن سرّ التعب الحقيقي ليست الرياح الخارجيّة والعواصف الظاهرة إنّما رياح النفس غير المستقرة وأمواجها الداخليّة بسبب عدم إيمانها، لهذا هدّأ نفوسهم في الداخل وعندئذ أسكت الخارج!
لقد نام السيّد في السفينة، الأمر الذي يحدث فينا حين نتعلّق بالخطايا ونتفاعل معها، ولا نترك ربّنا يسوع يعمل فينا ويقود سفينة حياتنا، لذلك يرى القديس جيروم أننا نوقظ السيّد بالتوبة عن خطايانا، إذ يقول: [إن كان بسبب خطايانا ينام فلنقل: “استيقظ لماذا تتغافى يا رب؟!“ (مز 44: 23). وإذ تلطم الأمواج سفينتنا فلنوقظه قائلين: “يا سيّد نجّنا فإنّنا نهلك“ (مت8: 25، لو8: 24)[418].]
ويرى القديس أغسطينوس[419]أن نوم السيّد المسيح إنّما هو تجاهلنا الإيمان له ونسياننا إياه، فيكون المسيح الذي يحلّ بالإيمان في قلوبنا (أف 3: 17) كمن هو نائم في قلوبنا. لهذا يلزمنا أن نوقظهk أي نستدعي إيماننا به. بالإيمان الحيّ نلتقي بعريسنا القادر وحده أن يهدّئ الأمواج الثائرة ضدّنا في الداخل كما في الخارج.
ويُعلّق أيضًا القديس أغسطينوس على هذه المعجزة سائلًا إيّانا أن نوقظ السيّد المسيح فينا بتذكُّرنا كلماته التي لها فاعليّتها فينا، إذ يقول:
[البحارة هم النفوس التي تعبر هذا العالم في السفينة التي هي رمز الكنيسة. في الحقيقة كل إنسان هو هيكل الله، وقلبه هو السفينة التي تبحر ولا تغرق إن كانت أفكاره صالحة.
لقد سمعتَ إهانة، فهي ريح! لقد غضبتَ، فهذه موجه! إذ تهب الرياح (الإهانات) وتعلو الأمواج (الغضب) تصبح السفينة في خطر، ويصير القلب في تهلكة يترنّح هنا وهناك.
عندما تسمع إهانة تشتاق إلى الانتقام، وتُسر بضرر الآخرين فتهلَك. لماذا يحدث هذا؟ لأن المسيح نائم فيك… إنك نسيت المسيح! أيقظه فيك، أي تذَكِّره. نبِّهه إلى اشتياقاتك بأنك تريد أن تنتقم… تذَكِّره، بتذكُّر كلماته، وبتذكُّر وصاياه…
ما قلته عن الغضب ينطبق على أية تجربة أخرى. فإنه إذ تهاجمك التجربة يكون ذلك ريحًا، وإذ تضطرب يكون أمواجًا. لتوقظ المسيح! دعه يتكلّم فيك… “أي إنسان هذا فإن الرياح والبحر جميعًا تطيعه”؟ [27] [420].]
ويرى القديس كيرلس الكبير أن إيقاظ المسيح إنّما يعني الصراخ إليه وسط الضيقات والآلام والاتّكال عليه، إذ يقول: [المسيح حال وسط مختاريه، وإذ يسمح لهم بحكمته المقدّسة أن يعانوا من الاضطهاد يبدو نائمًا. ولكن إذ تبلغ العاصفة عنفها، والذين في صحن السفينة لا يقدرون أن يحتملوا، يلزمهم أن يصرخوا: “قم لماذا تتغافى يا رب“ (مز 44: 23). فإنه يقوم وينزع كل خوف بلا تأخير. إنه ينتهر الذين يحزنوننا (أي عواصف الضيق، سواء كانت في الداخل أو الخارج، إن كانت حربًا من الشيطان أو تعبًا جسدانيًا أو مشاكل)، ويحوّل حزننا إلى فرح، ويكشف لنا سماءً مضيئة بلا اضطرابات، إذ لا يحوِّل وجهه عن الذين يتّكلون عليه.]
ويُعلّق القديس أغسطينوس أيضًا على خضوع الطبيعة له، قائلًا:
[لتمتثل بالرياح والبحر! أطع الخالق! لقد أصغى البحر للمسيح وأنت ألا تنصت له؟ سمع البحر وهدأت الرياح وأنت أفلا تهدأ؟ إنّني أقول وانصح بأن ما هذا إلا عدم هدوء وعدم رغبة في طاعة كلمة المسيح… لا تدع الأمواج تسيطر على قلبك فيضطرب. فإنّنا إن كنّا بشرًا لا نيأس متى هبّت الرياح وثارت عواصف أرواحنا، إذ نوقظ المسيح فنبحر في بحر هادئ ونصل إلى موطننا[421].]
وللعلامة أوريجينوس تعليق على هذا الحدث “تهدئة الأمواج” نقتطف منه الآتي:
[لم تثر العاصفة من ذاتها بل طاعة لسلطانه: “المُصعِد السحاب من خزائنه” (مز 135: 7)، “الذي وضع الرمل تُخومًا للبحر” (إر 5: 22)… فبأمره وكوصيّته ارتفعت العاصفة في البحر… لكن قدر ما تعظُم الأمواج الثائرة ضدّ القارب الصغير، يصعد خوف التلاميذ، فتزداد رغبتهم في الخلاص بأعاجيب المخلّص. لكن المخلّص كان نائمًا، يا له من أمر عظيم وعجيب!
هل الذي لا ينام ينام الآن؟! الذي يدبّر السماء والأرض، هل ينام…؟
نعم إنه ينام بجسده البشري، لكنّه ساهر بلاهوته… لقد أظهر أنه حملَ جسدًا بشريًّا حقيقيًا…
لقد نام في جسده، وبلاهوته جعل البحر يضطرب كما أعاد إليه هدوءه، نام في جسده لكي يوقظ تلاميذه ويجعلهم ساهرين.
هكذا نحن أيضًا إذ لا ننام في نفوسنا ولا في فهمنا ولا في الحكمة بل نكون ساهرين على الدوام، نمجِّد الرب ونطلب منه خلاصنا بشغف…
حقًا إن كثيرين يبحرون مع الرب في قارب الإيمان، في صحن سفينة الكنيسة المقدّسة، وسط حياة مملوءة بالعواصف، إنه نائم في هدوء مقدّس يرقب صبركم واحتمالكم، متطلّعا إلى توبة الخطاة ورجوعهم إليه.
إذن، تعالوا إليه بشغف في صلاة دائمة، قائلين مع النبي: “استيقظ لماذا تتغافى يا رب؟ انتبه، لا ترفض إلى الأبد… قم عونًا واِفدنا من أجل اسمك” (مز 44: 23، 26).
إذ يقوم يأمر الرياح، أي الأرواح الشيطانيّة الساكنة في الهواء والمثيرة لعواصف البحر، والتي تسبب الأمواج الشرّيرة القاتلة… وتثير اضطهادات ضدّ القدّيسين وتسقط عذابات على المؤمنين في المسيح، لكن الرب يأمر الكل، وينتهر كل الأشياء، فيلتزم كل شيء بما عليه يدبّر كل الأمور ويهب النفس والجسد سلامًا، ويرد للكنيسة سلامها ويُعيد للعالم الطمأنينة…
إنه يأمر البحر فلا يعصاه، ويحدّث الرياح والعواصف فتطيعه!
يأمر كل خليقته فلا تتعدّى ما يأمر به، إنّما جنس البشر وحدهم هؤلاء الذين نالوا كرامة الخلقة على مثاله ووُهِب لهم النطق والفهم، هؤلاء يقاومونه ولا يطيعونه. هم وحدهم يزدرون به! لذلك فإنهم يُدانون ويعاقَبون بعدله! بهذا صاروا أقل من الحيوانات العجماوات والأشياء الجامدة التي في العالم بلا إحساس ولا مشاعر!]
+++
6. مجنونا كورة الجرجسيّين
يذكر معلّمنا متّى البشير أن السيّد المسيح بعد عبوره إلى البرّ شفى مجنونين بكورة الجرجسيّين، بينما يذكر معلّمنا مرقس (5: 1) ومعلّمنا لوقا (8: 26) أنه شفى مجنونًا بكورة الجدريّين، فهل هما حدث واحد أم أكثر؟
إذ يكتب معلّمنا متّى لليهود ذكر “كورة الجرجسيّين” محدّدًا المدينة وهي “جرجسة”، التي تقع على الشاطئ الشرقي لبحر الجليل، وهي لا تزال خرائب تعرف باسم “كرسة” مقابل مجدلة على مسافة خمسة أميال من دخول الأردن إلى البحيرة. وهناك بين وادي سمك ووادي فيق حيث تقترب الهضاب إلى البحر ممّا يسهل لقطيع الخنازير أن يندفع مهرولًا إلى البحر. أمّا القدّيسان مرقس ولوقا فإذ هما يكتبان للأمم لم يهتمّا بالبلدة وإنما باسم المقاطعة كلها “كورة الجدريّين”.
ويبدو أن أحد المجنونين كان شخصيّة معروفة هناك، وأن جنونه كان شديدًا بطريقة واضحة فاهتم به القدّيسان لوقا ومرقس متجاهلين المجنون الآخر.
يروي لنا الإنجيلي متّى هذه المعجزة هكذا:
“ولما جاء إلى العبر إلى كورة الجرجسيّين استقبله مجنونان،
خارجان من القبور، هائجان جدًا،
حتى لم يكن أحد يقدر أن يجتاز من تلك الطريق.
وإذ هما قد صرخا قائلين: ما لنا ولك يا يسوع ابن الله،
أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذّبنا؟” [28-29]
بعد معجزة تهدئة الأمواج وإنقاذ السفينة التي هي الكنيسة قام السيّد بإنقاذ هذين المجنونين، وهما يشيران إلى عنف سطوة الشيطان على الإنسان، روحًا وجسدًا. كان المجنونان الخارجان من القبور يشيران إلى الروح والجسد، وقد خضعا لحالة من الموت بسبب الخطيّة، فقط ملك الشيطان على الروح، ففقدت شركتها مع الله، أي فقدت سرّ حياتها. وملك الشيطان على الجسد، ففقد سلامه مع الروح، وانحلّ بعيدًا عن غايته، فصارت دوافعه وأحاسيسه منصبّة نحو الذات، يطلب المتعة الوقتيّة. هذا هو فعل الخطيّة، أنها تدفن الروح والجسد كما في القبور، ويصير الإنسان كما في حالة هياج شديد لا يعرف السلام له موضع فيه، بل ولا يترك الآخرين يعبرون الطريق الملوكي. يتعثّر الآخرين، فلا ينعم بالحياة الحقيقية ويحرم الآخرين منها.
مجرّد عبور السيّد في الطريق فضح ضعف الخطيّة وأذل الشيطان الذي صرخ على لسان المجنونين: “مالنا لك يا يسوع ابن الله، أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذّبنا؟” هذا هو طريق خلاصنا من سلطان إبليس أن يعبّر بنا المسيّا المخلّص، الذي وحده يقيمنا من قبورنا ويحرّرنا من سلطان الخطيّة.
يقول القديس جيروم: [إذ رأت الشيّاطين المسيح على الأرض ظنّوا أنه جاء يحاكمهم! وجود المخلّص في ذاته هو عذاب للشيّاطين[422].]
“وكان بعيدًا منهم قطيع خنازير كثيرة ترعى،
فالشيّاطين طلبوا إليه قائلين:
إن كنت تخرجنا فأذَن لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير.
فقال لهم: امضوا. فخرجوا ومضوا إلى قطيع الخنازير،
وإذا قطيع الخنازير كلّه قد اندفع من على الجرف إلى البحر ومات في المياه.
أمّا الرعاة فهربوا ومضوا إلى المدينة،
وأخبروا عن كل شيء، وعن أمر المجنونين،
فإذا كل المدينة قد خرجت لملاقاة يسوع،
ولما أبصروه طلبوا أن ينصرف عن تخومهم” [30-34].
ربّما يتساءل البعض: لماذا سمح الله للشيّاطين أن تذهب إلى قطيع الخنازير؟ ما ذنب هذه الخليقة؟ وما ذنب أصحابها؟
أولًا: لم تحتمل الخنازير دخول الشيّاطين بل سقط القطيع كلّه مندفعًا إلى البحر ومات في الحال، وكأن السيّد أراد أن يوضّح عنف الشيّاطين، فما حدث للمجنونين كان أقل بكثير ممّا حدث للخنازير… معلنًا أن الله لم يسمح للشيّاطين أن تؤذي المجنونين إلا في حدود معيّنة.
يُعلن القديس يوحنا الذهبي الفم على ما حدث للخنازير عندما دخلتها الشيّاطين، قائلًا: [هكذا تفعل الشيّاطين عندما تسيطر! هذا مع أن الخنازير بالنسبة للشيّاطين ليست ذات أهمّية، أمّا نحن فبالنسبة لهم توجد بيننا وبينهم حرب بلا هوادة، ومعركة بلا حدود، وكراهيّة بلا نهاية. فإن كان بالنسبة للخنازير التي ليس بينهم وبينها شيء هكذا لم تحتمل الشيّاطين أن تتركها ولا واحدة منها، فكم بالأكثر تصنع بنا ونحن أعداء لهم… ماذا يصنعون بنا لو كنّا تحت سيطرتهم؟! أيِّ مضارٍ شديدة لا يحدقوننا بها!! لهذا سمح الرب لهم أن يدخلوا قطيع الخنازير حتى نتعلّم عن شرّهم بما فعلوه بأجساد الحيوانات غير العاقلة، ونعرف ما يحدث لمن تمتلكهم الشيّاطين… إنه يحدث لهم ما حدث مع الخنازير[423].]
ثانيًا: أعلن السيّد بتصرّفه هذا تقييمه للنفس البشريّة، فهو مستعد أن يترك قطيع الخنازير يهلك من أجل إنقاذ شخصين!
وكما يقول القديس جيروم: [ليخز ماني القائل بأن أرواح الناس والبهائم واحدة من نفس العنصر… إذ كيف يكون خلاص رجل واحد على حساب غرق ألفين من الخنازير![424]]
ثالثًا: أظهر الرب عنايته بخليقته فإنه لن تستطيع الأرواح الشرّيرة أن تدخل حتى في الخنازير بدون استئذانه. يقول القدّيس سيرينوس: [إن كان ليس لديهم سلطانًا أن يدخلوا الحيوانات النجسة العجم إلا بسماح من الله، فكم بالأحرى يعجزون عن الدخول في الإنسان المخلوق على صورة الله[425]!]
ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إننا نستطيع من أمر إخراج الشيّاطين أن نُدرك كِلا الأمرين: حنوّ الله، وشرّ الشيّاطين. شرّ الشيّاطين بإقلاقهم نفسي المجنونين، وحنوّ الله عندما صدّ عنهما الشيّاطين القاسية ومنعهم. فالشيطان الذي وجد له مسكنًا في المجنون، رغب أن يؤذيه بكل قوّته، لكن الله لم يسمح له أن يستخدم كل قوّته بكاملها… بل ألزمه بالفضيحة بقوّة بعودة الإنسان إلى حواسه، وظهور الشرّ بما حدث في أمر الخنازير[426].]
رابعًا: ربّما سمح الله بذلك تأديبًا لأصحاب الخنازير، إذ كانت تربيتها ممنوعة حسب الناموس.
أما ثمرة هذا العمل الإلهي هو إنقاذ المجنونين، ولكن للأسف لم يحتمل أهل الكورة الخسارة الماديّة، فطردوا رب المجد من كورتهم. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم [إن اللذين سقطا تحت سلطان الأرواح الشرّيرة أمكن خلاصهما منها بسهولة، أمّا الطامعون (أصحاب الخنازير) فلم يقدروا أن يحتملوا السيّد ولا أطاعوا وصيّته. الساقطون تحت سيطرة الأرواح الشرّيرة يستحقّون عطفنا ودموعنا، أمّا الساقطون تحت الطمع فهم أكثر منهم مرارة!]
وإن كان القديس جيروم[427]يرى في تصرّف أهل الكورة تواضعًا إذ حسبوا أرضهم ليست أهلًا لوجود السيّد عليها، ذلك كما طلب بطرس الرسول من السيّد أن يخرج من سفينته.
إنجيل معلمنا متى : 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16 – 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24 – 25 – 26 – 27 – 28
تفسير إنجيل معلمنا متى : مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16 – 17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24 – 25 – 26 – 27 – 28
|
القمص تادرس يعقوب ملطي تفاسير العهد الجديد |
تفسير الأصحاح التاسع
|