أميتوا أعضاءكم التي على الأرض
“أميتوا أعضاءكم التي على الأرض” (كو 3: 5)
كل فعل إماتة يقوم به الإنسان بإخلاص ، ينبثق منه حياة جديدة للإنسان خطوة بخطوة. ومجال التدرج في أفعال الإماتة يعتمد مباشرة على ماع يجنيه الإنسان منها إيجابياً. فبقدر ما يذوق الإنسان من طعم الحياة الأبدية وصفاتها ، التي تبدأ تسكن فيه ؛ بقدر ما يستزيد من أفعال الإماتة.
قدرة الإنسان على احتمال أعمال الإماتة سواء كانت إرادية أي يقوم بها من تلقاء ذاته ، إن كان صوماً أو سهراً أو خدمة أعمال حقيرة أو بدلاً من أي نوع ؛ أو كانت أعمالاً غير إرادية كاحتمال كلمة إهانة أو قبول ظلم أو تجني أو خسارة، كل هذه تعتمد اعتماداً مباشراً على مدى استقامة وارتباط الإنسان بالهدف الإلهي الذي يسعى إليه ، وحرارة المحبة نحو الله.
أعمال الإماتة تكشف للإنسان مدى صحة نفسه وصدق غايته ومقدار حبه واستقامة مقصده ، فهي في الحقيقة منهج سليم لإخضاع الجسد للروح بدوافع وأغراض سليمة حيث يكون العمل من الله لله. وفي اللحظة التي يتحرر فيها الروح ويخضع الجسد تكون الإماتة قد أدت دورها.
لذلك فالإماتة تستمر بقدر ما يحتاجها الإنسان وليس بقدر ما يشتهيها في ذاتها ، فهي ليست غرضاً ولكنها وسيلة.
الإماتة لها غاية وهدف داخل الإنسان أكثر من كونها مجرد أعمال قمع وضبط. غاية الإماتة صلب الذات ودفنها لتموت عن العالم وتحيا فيما لله ، فالذات هي التي تجعل الحواس تنمو وتنشط وتتسلط حتى تصير الحواس قوة خطرة داخل الشخصية تجذبها نحو الفناء. فإذا ترك الإنسان الذات تعبث بالغرائز والحواس وتتمادى في إثارتها ؛ فإنه يأتي وقت لا يستطيع فيه الإنسان أن يتحكم فيها أو يضبطها فتصير كجروح لا تشفى تستنفد كل قيمة الإنسان.
والإماتة فوق كونها لجاماً للذات يقودها لأعلى ؛ فهي أي أيضا قوة لا يستهان بها لإخماد جموح الحواس والغرائز الفائق عن الحد الذي ينذر دائماً بالخطر . فقوة الغريزة لا يوازيها لدى الإنسان إلا قوة الإماتة، أما قوة النعمة فلا يمكن أن تتخلى أبداً عن المجاهد.
وأعمال الإماتة يحسها كل إنسان مسافر على طريق الله أنها أشهى من الحياة نفسها. فالألم من أجل الله موهبة ، وهو قانون المحبة ، وهو بحد ذاته قوة دافقة على الطريق . وكل فعل إماتة صادق يحمل في صميمه درجة صعود ، مهما كان ، حتى ولو خدمة صغيرة لمسكين أو كأس ماء بارد لعطشان.
بقدر ما تُدخل أعمال الإماتة النفس إلى أعماق الأحزان والتعب والألم ؛ بقدر ما تطير أخيراً فوق لتدخلها في صفوف الأرواح المبررة المكللة بالمجد والبهاء.
لكي تنجح أعمال الإماتة لابد أن يكون في اعتبار الإنسان أن الله لا يكافئ عنها بالأرضيات كتعويض لعزاء الإنسان ، أو ينصره مثلا على خصمه ، أو يظهر حنانه وعطفه وحبه له على مستوى الجسديات ليشفيه من مرضه . وإنما الله يظهر نفسه بكل طريقه في حياة الإنسان الداخلية أي في إنساناً الجديد بالعزاء والفرح والنصرة ، فبقدر ما يفنى الخارج بأعماله ؛ بقدر ما يتجدد الداخل ويحيا.
والإماتة لا تلغي الغرائز ، ولن تلغي جنوحها ناحية الشر والباطل ، أو تبطل إلحاحها الزائد عن الحد الذي يسوق الإنسان لمسايرة العالم . ولكن بالإماتة يصبح الإنسان قادرا أن يوجه الغريزة لخدمة الحق والقداسة والرحمة والمحبة الطاهرة بعد أن كانت الغريزة توجه لخدمة الجسد والعالم وأوهام كلها باطلة.
كذلك فالإماتة تفك رُبط الإنسان المُقيدة وتُحرر شخصيته من عبودية الغرائز والأمزجة المتحيزة فيبدو العالم كله وحدة صديقة منسجمة داخل قلب الإنسان. لذلك فالإماتة هنا تبدو مصدر حرية رائعة للإنسان تتسبب في إعادة الانسجام المفقود بينه وبين الخليقة كلها ، وتهبه انفتاحاً وتقبلاً لكل ما فيها كسيد وخادم لها.
على أن الإنسان في أعمال إماتته هذه لابد أن يواجه نكسات وتجارب صعبة ، هنا لا يسعف الإنسان إلا الصبر الكامل دون أي محاولة لتغيير الوضع. وفي وسط الظلمة الحالكة سيشرق وجه الله بتعزيات فائقة تنسي الإنسان حالا كل معاناة.
من كتاب الإنجيل في واقع حياتنا للأب متى المسكين