الروح القدس الخميرة المقدسة
العظة الرابعة والعشرون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
[حالة المسيحيين تُشبه التجارة وتشبه التخمر ، كما أن التجار يجمعون الأرباح الأرضية ، هكذا أيضا المسيحيون يجمعون أفكارهم المشتتة في العالم ، وكما أن الخميرة تجعل من العجين كله خميرة ، هكذا خميرة الخطيئة تتغلغل كل جنس آدم ، غير أن المسيح يبث خميرة صلاحٍ سماوية في النفوس الأمينة]
[أ] التجارة العظمى الحقَّة
1 – إن المسيحيين يشبهون تُجاراً يتَّجرون لأجل مكاسب عظيمة جداً، فكما أن هؤلاء يجمعون الأرباح الأرضية من الأرض ، هكذا أولئك ، بواسطة سائر الفضائل وبقوة الروح القدس يجمعون من كل الأرض أفكار قلوبهم المشتتة في هذا الدهر، وتلكم هي التجارة العظمى الحقَّة. لأن هذا العالم يُعادي العالم الفوقاني ، وهذا الدهر يقاوم الدهر الفوقاني، فالمسيحي الذَّي أنكر العالم ينبغي له – وفقاً للكتب المقدسة – أن ينصرف بذهنه عن هذا الدهر الذي قد مكث الذهن منحصراً فيه ومنخدعاً به منذ تعدي آدم ، وينتقل إلى دهر آخر ويكون بفكره في عالم اللاهوتية الفوقاني ، كما قيل : “وأما موطننا نحن فهو في السماوات»(في 3 :20) .
۲ – أما هذا فلا سبيل إلى تحقيقه بأي حال إلا إذا آمنت النفس من كل قلبها بالرب ، جاحدة هذا الدهر ، وإذ ذاك فقوة الروح الإلهي لها القدرة أن تجمع إلى محبة الرب ذلك القلب المشتت في كل الأرض ، وتنقل الفكر إلى العالم الأبدي. لأنه منذ مخالفة آدم وأفكار النفس تشتت في هذا الدهر بعيداً عن محبة الله ، واختلطت بأفکار مانية وأرضية.
[ب] خميرة الروح القدس الصالحة
لكن كما أنه لما خالف آدم قبل في ذاته خميرة شر الأهواء ، هكذا بالمشاركة صار للمولودين منه. ولكل جنس آدم نصيب في تلك الخميرة . وتبعا لذلك نمت أهواء الخطيئة في البشر نمواً متزايداً هذا مقداره ، حى إنهم أتوا إلى زنى وعهارة وعبادة أوثان وقتل وأمور أخرى شائنة ، وتخمرت البشرية بالخطيئة وتفاقم الشر في البشر إلى درجة توهموا فيها أن لا إله ، بل عبدوا الحجارة التي لا حياة فيها ، وما استطاعوا – حتى بمجرد الفكر – أن يدركوا الله . إلى هذا المقدار خمَّرت خميرة شر الأهواء جنس آدم القديم .
3 – على ذات المنوال قد سر الله إبان إقامته على الأرض أن يتألم من أجل الجميع[1] ، ويشتريهم بدمه الخاص[2]، ويبث خميرة صلاح سماوية في النفوس الأمينة الرازحة تحت الخطيئة . وهكذا بعد ذلك سُر أن يُكمل في تلك النفوس ، على قدر نموها وتقدمها ، كل بر الوصايا وكل الفضائل ، إلى أن تتخمر لتصير كياناً واحداً في الصلاح ، بل وتصير مع الرب « روحاً واحداً» كقول بولس ( 1 کو 17:6) ، حتى إنه لا يمكن لشر أو لخبث أن يدخل – ولا حتى من جهة الفكر – إلى النفس التي قد تخمرت بكامل كيانها بالروح الإلهي ، كما قيل : « المحبه لا تفكر في[3] السوء» ، وبقية القول ( 1 کو 13 : 5 ) . فبدون الخميرة السماوية ، التي هي قوة الروح الإلهي ، لا تقدر النفس أن تختمر بصلاح الرب وأن تبلغ الحياة ؛ تماماً كما أن جنس آدم لم يكن ليجنح إلى مثل هذا السوء والشر إلا حين انسلت إلى داخله خميرة الشر، التي هي الخطيئة ، لكونها قوة للشيطان روحة وعقلية .
4 – فكما أنه إن كان أحد يعجن دقيقاً ولا يضع خميرة ، فمهما يبدو له أنه يعتني به ويُحرګه ويعمل فيه ، فإن العجين يلبث غير مختمر وغير نافع للأكل ، أما حين توضع الخميرة فإنها تجتذب إليها كل دقيق العجين وتحوله بكامله إلى عجين مختمر ، مثلما شبه الرب الملكوت قائلاً : « يشبه ملكوت السماوات خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع » ( مت ۱۳ : ۳۳ ؛ لو ۱۳ : ۲۱ ) ؛ أو كما أنه إن كانت هناك لحوم وكان أحد يوليها كل عنايته ، لكنه لا يُملحها بالملح الذي يقتل الدود ويزيل الرائحة النتنة فإن هذه اللحوم تخمُّ وتفسد وتصير بلا نفع للناس ؛ على نفس المنوال افترض معي أن كل البشرية هي لحم وعجين غير مختمر ، وتفهم أن الملح والخميرة هما من دهر آخر ، وهما طبيعة الروح القدس الإلهية . فما لم تمتزج الخميرة السماوية التي للروح القدس والملك الصالح المقدس الذي للاهوتية ، اللذين من ذلك الدهر ومن ذلك الوطن ، بطبيعة البشر الذليلة ، ويوضعان فيها ، فلن تتغير النفس عن نتن الشر ولن تتخمر تاركة عنها ثقل الشر وخموله.
[ج] من دون الروح القدس لا تنتفع النفس شيئاً
5- لأن كل ما تظن النفس أنها تعمله . ذاتها وتهتم به وتوليه عنايتها ، إن هي عولت على قوتها الذاتية فحسب وتوهمت أنها تستطيع النجاح الكامل من ذاتها بدون أن تتمم معيتها في العمل[4] مع الروح القدس، فإنها تضل كثيراً. لأن النفس التي تحسب أنها من ذاتها وبذاتها فقط ، بمعزل عن الروح القدس ، تبلغ الطهارة الكاملة ، مثل هذه النفس لا تنفع للمواضع السماوية ولا تصلح للملكوت . ذلك أن الإنسان الذي تعتمل فيه الأهواء ، ما لم يأتي إلى الله وينكر العالم ويؤمن في رجاء وصبر أن يقبل صلاحاً مغايراً لطبيعته الخاصة ، الذي هو قوة الروح القدس ، وما لم يقطر[5] الرب ، من فوق ، حياة اللاهوتية في نفس ذلك الإنسان ، فلن يشعر مثل هذا بالحياة الحقيقية ، ولن يستفيق من السكر بالماديات ، ولن تشرق إنارة الروح القدس في نفسه المظلمة وتضيء فيها نهاراً مقدساً، ولن يستيقظ من نوم الجهالة العميق الثقيل ، فيعرف الله هكذا بالحقيقة ، بقدرة الله وبفعل نعمته.
6- لأنه مالم يؤهل الإنسان هكذا بواسطة الإيمان لنيل النعمة ، فإنه يلبث غير نافع للملكوت ولا صالح له . ولكن حينما يقبل نعمة الروح القدس ، ولا يحيد في شيء ، ولا يزدري بالنعمة بتراخيه واقترافه الشرور ، ولا يُحزن الروح[6] مجاهداً هكذا زماناً، يمكنه أن ينال الحياة الأبدية . لأنه كما أن الإنسان يستشعر أعمال الشر النابع من الأهواء ، أعني الغضب والشهوات والحسد والثقل والأفكار الشريرة وباقي الأمور الرديئة ، هكذا يجب أن يستشعر نعمة الله وقدرته في ما يخص الفضائل ، أعني المحبة واللطف والصلاح والفرح والخفة والتهليل الإلهي ، لكي يستطيع أن يشابه ويمتزج بالطبيعة الصالحة الإلهية وبفعل النعمة الصالح المقدس . ومع تقدمه ونموه ، وعلى مدى الأوقات والأزمنة ، تُختبر نیته ، فإن وُجدت دائما متحدة بالنعمة ومرضية لها، تغدو بكليتها ، شيئاً فشيئاً، « في الروح »[7] . وهكذا أخيراً، إذ تصير مقدسة وطاهرة بفعل الروح القدس ، تُعين مستحقة للملكوت . فالمجد والسجود للآب فائق النقاوة والابن والروح القدس إلى الدهور، آمين .
- انظر : 2 کو 5: 14 ، 15 ؛ 1تي 2 :6.
- انظر : 1کو 6: 20 ؛ 7: 23 ،2 بط 2: 1 ؛ رؤ 5 :9 .
- الفعل ” تفكر في” أكثر مناسبة إلى السياق من ” تظن “ الوارد في الترجمة البيروتية ، وكذا يتطابق ومعنى الفعل الوارد في النص اليوناني لهذه الآية .
- الكلمة اليونانية συν + ‘εργoς ) συνεργια) العمل مع، وهي تبرز التوافق والانسجام في العمل بين الله والإنسان (انظر مثلاً 1كو 9:3 ” نحن عاملاً مع συνεργoι الله)
- = يقطر ، بمعنى يُنزل قطرات ، وقد استخدم أنبا مقار نفس هذا الفعل في ذات المعنى والسياق في العظة 5: 6( بداية الفقرة )
- انظر : أف 4 : 30
- رؤ 10:1.
- من كتاب العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
- لقراءة العظات كاملة في مقالات منفصلة إضغط هنا – العظات الخمسون للقديس أنبا مقار