الطبيعة الوحيدة المونوفيزيس في مقابل الطبيعة الواحدة الميافيزيس

مقدمة:

كنيسة الإسكندرية القبطية الأرثوذكسية (وهي إحدى الكنائس الرسولية الشرقية الأرثوذكسية) ومعها شقيقاتها الكنائس السريانية والأرمنية و الإثيوبية والأريترية وكنيسة مالانكارا الهندية الأرثوذكسية، تتهم زوراً وتذم وتوصم منذ زمن طويل بأنها تعتنق هرطقة أوطاخي الخاصة بطبيعة السيد المسيح والمعروفة بالأوطاخية أو ما يعرف بالمونوفيزيتية.

الأصل اللغوي لكل من التعبيرين

“مونوفيزيس Monophysis وميافيزيس Miaphysis”:

 إن كلمة  Mono هي في اللغة اليونانيه صفة، وتعني وحيد، بمفرده، وحده، منفرد بنفسه، فقط، بدون مرافقة أو مصاحبة، فرد، متفرد الوجود.

 أما كلمة Mia  في اللغة اليونانية لها عدة معاني أهمها: واحد عملياً (أو فعلياً ) بالاتحاد، واحد في مقابل العديد، واحد في مقابل الانقسام إلى أجزاء، الواحد نفسه، وفي الأمور الأخلاقية في مقابل الخلافات أو الشقاقات تعني الاتحاد الأكثر قرباً .

: وكلمة physis في اللغة اليونانية تعني طبيعة أو ميزات طبيعية.

 

 المونوفيزايت Monophysite

وتستخدم كصفة في اللغة الإنجليزية، والتعبير “موني فيزيس” هو تعبير مركب يعني “طبيعة وحيدة ” وليس “طبيعة واحدة” والتي يطلق عليها “الميافيزيس” (mia physis)، ونلاحظ فيما كتبه Walter F.Adeney الطريقة التي فهم بها المعنى اللغوي لهذه التعبيرات، فقد قال:

يؤكد المونوفيزيتيون Monophysites أن هناك طبيعة واحدة فقط في المسيح أي أن الطبيعة الإنسانية اختلطت بالطبيعة اللاهوتية. وعملياً هذا يعني وجود الطبيعة اللاهوتية فقط، وذلك لإنغمار الطبيعة الإنسانية المحدودة جداً في الطبيعة اللاهوتية غير المحدودة”.

وهذا المفهوم لازال منتشراً في الغرب. وهكذا نجد إنه حتى في قاموس Oxford Dictionary of the Christian Church طبعة 1958م يصف ال Monophysittism

بأنها “العقيدة التي تنادي بوجود طبيعة واحدة فقط – وهي الطبيعة اللاهوتية – في شخص السيد المسيح المتجسد وذلك عكس التعليم الأرثوذكسي الذي يقول بطبيعة مزدوجة (ثنائية) – لاهوتية وإنسانية – بعد التجسد”، وهذا يعني وجود كل من الطبيعتين في اتحاد بغير اختلاط.

 يقول القديس كيرلس الكبير (عمود الدين):

طبيعة الكلمة لم تتحول إلى طبيعة الجسد ولاطبيعة الجسد تحولت إلى طبيعة الكلمة ولكن كلا منهما ظلت كما هي في ذاتيتها بحسب طبيعة كل منهما في حالة اتحاد فائق الوصف والتفسير وقد ظهر لنا من هذا طبيعة الابن الواحدة، ولكن – كما قلت – متجسدة.

الحقيقة إذن إنه لا يمكن قبول استخدام هذا التعبير كلقب مناسب للإشارة للكنائس الشرقية، التي رفضت الاعتراف بسلطة خلقيدونية، بدون دلیل واضح وقوي على أن هذه الكنائس تؤمن بذلك” (أي بطبيعة واحده في المسيح).

 

الميافيزيتيزم Miaphystitism التي يؤمن بها الغير خلقيدونيين”:

التعبير Mia يعني “واحد” ولكن ليس “واحد متفرد” أو ببساطة “العدد واحد”، كما يعتقد بعض الدارسين”، فهناك فرقاً طفيفاً بين مونو Mono وميا Mia. فبينما تعني Mono طبيعة واحدة لاهوتية، تشير Mia إلى طبيعة واحدة مركبة ومتحدة، كما شرحها و عبر عنها القديس كيرلس الكبير . فقد نادي القديس كيرلس بأن العلاقة بين اللاهوت والناسوت في المسيح – كما يصيغها أيضا Meyendorff – ليست هي عملية تعاون بين الطبيعتين على بسيط الحال ولا هي أيضا تداخل (أي اختلاط) ولكنها اتحاد، الكلمة المتجسد هو واحد، ولا يمكن أن يوجد هناك ازدواج في شخصية الفادي الواحد الله المتأنس” أي الله الذي صار إنساناً “الكلمة صار جسداً” (يو 14:1 )]

 

كيف بدأ ذلك الجدل حول التعبيرين؟

 كان أوطاخي رئيسا لدير أيوب بالقسطنطينية. وفي معارضته الغيورة للنساطرة انزلق هو نفسه إلى الهرطقة حيث نادى بامتزاج الطبيعتين في السيد المسيح. لقد أنكر أن ناسوت السيد المسيح يشبهنا مدعياً أن ناسوته ذاب في لاهوته كمثل ذوبان نقطة الخل في المحيط. أو بمعنى آخر قال إن الطبيعتين اختلطتا وأصبحتا طبيعة واحدة. وقد أدين أوطاخي من قبل يوسابيوس أسقف دوريلايم على هرطقته هذه.

في عام 448م عُقد مجمع مكاني بمدينة القسطنطينية رأسه فلافيان أسقف القسطنطينية. في هذا المجمع أكد أوطاخي على أن الجسد الذي أخذه السيد المسيح من السيدة العذراء مريم ليس مساوياً في الجوهر أو مماثلاً لطبيعتناً. وكان مترددا في توضيح مفهومه وقد قدم اعترافاً كتابياً لإيمانه، رفض أن يقرأه بنفسه. وقد طلب المجمع المكاني من أوطاخي أن يحرم كل من لا يقول “بطبيعتين من بعد الاتحاد”. ولكنه رفض ذلك وقال: “إذا فعلت ذلك فالويل لي لأني سأكون قد أدنت أبائي (مثل القديس كيرلس الكبير)”. وقد حرمه المجمع ورفع هو أمره إلى الإمبراطور.

 طلب الإمبراطور أن يُعقد مجمع في عام 449م في أفسس وقد حضره حوالي 150 أسقف، وعقدت أول جلساته في 18 أغسطس. رأسه القديس ديسقوروس بحضور يوليوس أسقف بونيولي ممثلاً لكنيسة روما و جوفينال أسقف أورشليم ودومنس أسقف أنطاكية وفلافيان أسقف القسطنطينية. ومع اعتراف الإيمان (المخادع) الذي كتبه أوطاخي استشعر القديس ديسقوروس أن فلافيان بطريرك القسطنطينية ويوسابيوس أسقف دوريلايم قد انضما إلى التيار النسطوري الذي كان واضحا في الشرق وذلك عندما طلبوا في مجمع القسطنطينية الذي عقد في عام 448م من أوطاخي أن يقول بحرمان كل من لا يقول بطبيعتين من بعد الاتحاد”. فالحقيقة أن القديس ديسقوروس حاول أن يحارب النسطورية برفضه تعبير “الطبيعتين بعد الاتحاد”. وأن الأسقف يوسابيوس كان يحث البطريرك فلافيان أن يحارب الأوطاخية بالتأكيد على تعبير (طبيعتين من بعد الاتحاد). فمن ثم حدث سوء الفهم بين الجانبين والذي تطور فيما بعد إلي ما يعرف بالنزاع الخلقيدوني.

و بعد مراجعة أعمال مجمع أفسس الأول في 431 م والمجمع المكاني في القسطنطينية الذي عقد عام 448 م وبعد قراءة الاعتراف الخطي لأوطاخي بالإيمان الأرثوذكسي والذي قدمه إلى ذلك المجمع (مجمع أفسس الثاني 449م) – مخادعاً – حرم المجمع كل من فلافيان بطريرك القسطنطينية ويوسابيوس أسقف دوريلايم وبرا أوطاخي ورده إلى رتبته الكهنوتية.

 

إدانة البابا ديسقوروس في مجمع خلقيدونية في 451م:

عُقد مجمع خلقيدونيه في 451م. هذا المجمع الذي يعتقد أنه أدان أوطاخي، لم يتعرض إلى أوطاخي ولكن إلى البابا ديسقوروس بطريرك الإسكندرية، علماً بأن أوطاخي نفسه لم يحضر المجمع. لقد أعلن البابا ديسقوروس بقوة في مجمع خلقيدونية إنه “إذا كان أوطاخي يؤمن بعقيدة غير عقيدة الكنيسة فإن ذلك لا يستوجب حرمه فقط بل أن يحرق بالنار. وأن اهتمامي هو بالإيمان الرسولي الكاثوليكي (الجامع) وليس بأي شخص كان”.

لكن وقد لعبت الظروف السياسية دوراً رئيسياً في هذا المجمع، فإن القديس ديسقوروس الذي رفض الأوطاخية كما رفض النسطورية، دين في هذا المجمع كأوطيخي.

كان القديس حاضرا في الجلسة الأولى، وإذ رأى الممثلون الرومانيون إيمانه الأرثوذكسي، وشاهدوه يجتذب الكثير من الأساقفة لجانبه، مُنع بالقوة من الحضور ودین.

 يقول الأستاذ اليوناني رومانیدس: لقد حُسب ديسقوروس أرثوذكسياً تماما في إيمانه في نظر بعض الآباء القادة في مجمع خلقيدونية مثل أولئك الذين مثلوا أناتوليوس بطريرك القسطنطينية”.

يقول الأب ميثوديوس مطران أكسيوم:

المعلومات التي لدينا لا تصور دیسقوروس كهرطوقي، فمن المعلومات التي بين أيدينا واضح انه كان إنساناً صالحاً، بل والأسقف لاون نفسه حاول أن يجذبه إلى جانبه… هكذا في خطاب بعث به الإمبراطور ثيئودسيوس إلى ديسقوروس دعاه فيه إنسانا تشع فيه نعمة الله، وديعاً، أرثوذكسي الإيمان. في أثناء المجمع أعلن ديسقوروس إيمانه مرات عديدة، ولم يكن لأنه هرطوقي وإنما لأنه رفض رئيس الأساقفة لاون في الشركة، ولأنه امتنع عن حضور المجمع رغم دعوته ثلاث مرات. الأدلة كافية لكي نتطلع إلى أسباب أخرى لإدانة ديسقوروس. فإن روما كانت في ضجر بسبب حيوية كنيسة الإسكندرية غير الطبيعية وبطريركها النشيط هذا ما يظهر من تقارير أحد ممثلي لاون”.

يقول R.V Sellers في كتابه “مجمع خلقيدونية” 

في خلقيدونية كان أناتوليوس أسقف القسطنطينية مستعدا أن يعترف بأن (الأسقف) الإسكندري قد ملأ العالم بالعاصفة والزوابع، وفي نفس الوقت لم يعزل المتهم لخطأ في العقيدة وإنما لأنه تجاسر وحرم أسقف روما، ولأنه إذ دعي ثلاث مرات للمجمع تغيب عمداً عن اجتماعاته.

 فبمجرد انعقاد المجمع طلب وفد روما أن يطرد البابا ديسقوروس بناء على أوامر أسقف روما الذي يطلقون عليه رأس (رئیس) جميع الكنائس. وعندما سأل مندوبو الإمبراطور عن التهمة التي تبرر هذا الطلب. أعلن أحد الأعضاء أنه تجرأ على عقد مجمع بدون موافقة الكرسي الرسولي، الأمر الذي لم يحدث من قبل ويجب ألا يحدث مستقبلا؟! ولكن الحقيقة مجمع القسطنطينية الذي عقد في 381 م عقد ليس فقط بدون موافقة أسقف روما بل وأيضا في عدم حضوره. وأن مجمع 553م عُقد ضد إرادته.

إنه من الواضح أن مندوبي روما قصدوا بالكلمات “رأس كل الكنائس” أن يؤكدوا ادعاء روما بأن لها سيادة مسكونية على الكنيسة.

و اطلق ليو (لاون) بابا روما تعبير “مجمع لصوص” على مجمع أفسس الثاني 449م الذي رأسه القديس ديسقوروس لأن هذا المجمع تجاهل سلطة روما، سارقا ادعائها بالسيادة فلذلك هو لا يتعدى أن يكون في رأيه سوى اجتماعا للصوص وليس مجمعاً كنسياً!.

 أدان مجمع 451م الخلقيدوني مجمع 449م بدون مراجعة أو فحص للأمور، واضعاً كل المسئولية عن قراراته بصفة خاصة على البابا ديسقوروس.

و بعد ذلك فقط بمائة و أربعة أعوام برئت واستسيغت قرارات ذلك المجمع المسمى بمجمع اللصوص دوناً عن قرارات مجمع خلقيدونية. فإن مجمع القسطنطينية الذي عقد في 553م حرم ثيئودور الموبسويستي وثيئودوريت أسقف قورش و إيباس أسقف الرها، وأدان فصولهم الثلاثة.

 

الفرق بين التقليد الأنطاكي والتقليد الإسكندري:

 البابا ديسقوروس إذن لم يكن هرطوقياً. فإن أغلبية الأساقفة الذين حضروا مجمع خلقيدونية، كما أشار الدارسون، اعتقدوا أن صيغة الإيمان التقليدية (طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة) استلمتها الكنيسة من القديس أثناسيوس وثبتها القديس كيرلس ومجمع أفسس 431م. هذا الإيمان مختلف تماماً عن عقيدة أوطاخي الذي يقول بطبيعة واحدة متفرده.

 إن العقيدة اللاهوتية لكنيسة الإسكندرية، كما يؤكد الدارسون، لم تكن بأي شكل من الأشكال docetic أي “خيالية” (الذين يؤمنون بأن جسد السيد المسيح كان مجرد خیالاً) ولا أبولينارية (الذين يؤمنون أن السيد المسيح لم تكن له نفس إنسانية عاقلة بل اللاهوت حل محل النفس الإنسانية في المسيح) كما هو واضح. ويبدو أن المشكلة الأساسية للصيغة الكريستولوجية (أي الخاصة بطبيعة السيد المسيح) كانت هي التفاوت والاختلاف في التفسير بين اللاهوت الإسكندري واللاهوت الأنطاكي.

 في مجمع خلقيدونية رفض البابا ديسقوروس أن يوافق على تعبير في طبيعتين” أو “وجود طبيعتين” من بعد الاتحاد ولكنه تمسك بالتعبير “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة” أو “من طبيعتين”. فالملاحظ أن التقليدين المتضاربين لم يجدا مفهوماً لاهوتياً يتفقا عليه فيما بينهما.

كانت نقطة الخلاف بين القديس ديسقوروس وبين مجمع خلقيدونية هي هذه: هل كان مجمع خلقيدونية محقاً في تجاهل التقليد اللاهوتي الذي أسسه آباء الإسكندرية مثل القديس كيرلس مستنداً على مجمع أفسس 431م من ناحية، ومن الناحية الأخرى تقديس التعبير الأنطاكي طبيعتين من بعد الاتحاد” فقط بناء على تعليمات البابا ليو (ما يعرف بطومس لاون)”.

اعتبرت كنيسة الإسكندرية صيغة القديس كيرلس (طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة) هي محور الإيمان المسيحي”، حيث تمت الموافقة على هذه الصيغة من قبل مجمع أفسس 431م. وأن هذه الصيغة لم تبطل أو تلغي في الصلح الذي تم في 433م (عودة الاتحاد Reunion) ولم تدن في مجمع خلقيدونية. بل على العكس استمرت هي الصيغة الأرثوذكسية المقبولة.

في الحقيقة إن تعبير “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة” دافع عنه جميع قادة الكنائس الغير خلقيدونية. ومن الواضح أيضا أنهم في دفاعهم هذا لم يتجاهلوا ناسوت السيد المسيح. فمثلا أكد البابا ديسقوروس أن السيد المسيح هو طبيعة واحدة متجسدة الله الكلمة ولكنه أكد في نفس الوقت أنه مركب من اللاهوت والناسوت معا. وعلى ذلك فانه في السيد المسيح الواحد استمرت الطبيعتان في الوجود بدون اختلاط أو امتزاج من جانب وبدون انفصال أو انقسام من الجانب الآخر. بمعنى آخر أن الطبيعة الواحدة المتجسدة لله الكلمة هي نفسها في الحقيقة نتاج اتحاد الطبيعتين و الذي لا يمكن حقيقة تجزئتهما أو أختزالهما في المسيح الواحد. لذلك فقضية استبعاد أو تجاهل إحدى الطبيعتين لم يشر إليها من جهة البابا ديسقوروس.

 

رؤية معاصرة للموقف

 أراد الجانب غير الخلقيدوني نبذ النسطورية بالتأكيد على عقيدة الطبيعة الواحدة لكلمة الله المتجسد من طبيعتين، بدون اختلاط أو امتزاج أو تغيير. وأن تعبیر الطبيعة الواحدة هو التفسير الحقيقي للاتحاد الطبيعي الذي علم به القديس كيرلس في رسالته الثالثة إلى نسطور والتي وافق عليها كل من مجمع أفسس ومجمع خلقيدونية.

 أما الجانب الخلقيدوني فقد أراد أن ينبذ الأوطاخيه بالتأكيد على عقيدة وتعبير الطبيعتين غير المنفصلتين وغير المتجزأتين من أجل التأكيد على استمرار وجود الطبيعتين، و أن إحدى الطبيعتين لم تختف من جراء الاتحاد ولتثبيت عدم إبطال التمايز في الصفات للطبيعتين نتيجة للاتحاد.

 من الممكن أن يكون كل من الجانبين مكملاً للجانب الآخر في تعبيره عن الحقيقة الواحدة. لأن هؤلاء الذين ينادون بطبيعة واحدة متجسدة، من طبيعتين، قد أضافوا “بدون تغيير أو اختلاط”. وذلك لدحض بدعة أوطاخي. و أولئك الذين يقولون بالطبيعتين قد أضافوا “بدون انفصال أو تجزئة”، وذلك لدحض بدعة نسطور. فان كلا الجانبين أوضحا حقيقة واحدة وهي أن السيد المسيح هو كائن واحد إلهي إنساني بمعنى أنهم أوضحوا أن هناك كائنا واحداً من جوهرين اتحدا في المسيح الواحد.

 ويمكن القول إن هؤلاء الذين استخدموا تعبير “طبيعة واحدة متجسدة” قصدوا أن يعبروا عن حالة الوجود و أولئك الذين استخدموا تعبير “الطبيعتين” قصدوا أن يعبروا عن حقيقة استمرار وجود الطبيعتين.

و بمعنى آخر، البعض تحدثوا عن حالة الوجود والبعض الآخر عن حقيقة هذا الوجود ولأن كلا من الطرفين استخدم نفس كلمة الطبيعة فمن هنا حدث الخلاف. فان هؤلاء الذين قصدوا “حالة الوجود” استخدموا تعبير طبيعة واحدة، وأولئك الذين قصدوا حقيقة الوجود” استخدموا تعبير طبيعتين.

 والدليل على ذلك هو أن كلا الطرفين قبلا معا أنه لا يمكن التمييز بين الطبيعتين إلا في الفكر فقط ، وهذا يعني أنه لا يوجد تمييز فعلي بين الطبيعتين في الحقيقة، ولكن في التأمل والتخيل. ولكن هذا لا يعني إلغاء حقيقة وجودهما، بل استبعاد حالة وجودهما في غير الاتحاد. أي أن الوحدة هي أصدق تعبير عن الاتحاد الطبيعي.

 

تعبیر (مونوفيزايت monophysite) تسمية حديثة للدارسين المعاصرين

 اقتبس VC.Samuel في كتابه ,Council of Chalcedon Re-examined من کتاب ,WHC Frend,The Rise of the Monophysite Movement,Cambridge,1972 “أن تعبير مونوفيزايت هو تعبير حديث، وإنه يستخدمه من أجل الملاءمة”.

 منذ مجمع خلقيدونية 451م، حاول الجانب الخلقيدوني أن يقول إن رفض اللاخلقيدونيين لمجمع خلقيدونية ولطومس لاون ولعبارة “في طبيعتين” كان نتيجة لاتباعهم البدعة المونوفيزيتية، واعتبر الغرب أن دفاعهم – أي اللاخلقيدونيين – عن عبارة “طبيعة واحدة متجسدة” هو أساس كاف لوصفهم بالمونوفيزيتية!”.

 إن الأوطاخية أو المونوفيزيتية هي رؤية مشوهة للكريستولوجي الإسكندري. ويجب في نفس الوقت أن نؤكد أن لا القديس كيرلس الإسكندري ولا أي لاهوتي آخر من المعروفين وآباء الكنيسة الغير خلقيدونية بما فيهم القديس ديسقوروس الإسكندري، قد اتهم قط بالمونوفيزيتية.

ورغم أن اللاهوتيين اللاخلقيدونيين في القرن السادس لم يعرفوا إن لفظ “مونوفيزايت monophysite” يطلق عليهم، إلا أن القديس ساويرس سبق فتنبأ بإحتمال إطلاق هذه التسمية على الكنيسة اللاخلقيدونية، وكانت نبؤته هذه هي أنه قدم مرة ومرات فقرتين من كتابات القديس كيرلس الإسكندري واحدة منهما هي الآتية:

إذا كنا في تأكيدنا على إن طبيعة الكلمة واحدة، اكتفينا بذلك فقط ولم نضف كلمة “متجسدة”، كأننا نرى التدبير كشيء غير هام، لكان عندهم أساس لكي يثيروا السؤال عن كمال الناسوت أو عن كيف حفظ كمال الناسوت وحفظ الدليل على جوهرنا؟ ولكن طالما أننا نعترف بلفظ “متجسدة”، فليتركوا هذا الجدال الذي يثيروه ضدنا”؟؟؟.

 إذاً عبارة “طبيعة واحدة  ميافيزيس” لا تستخدم في وصف السيد المسيح بدون كلمة “متجسده “، لذا “واحدة one” في العبارة ليست واحدة بسيطة simple، بل هي واحدة تتضمن كمال وملء اللاهوت والناسوت، فيسوع المسيح ليس طبيعة بسيطة single natural” بل هو طبيعة مركبة composite ” هذة الفكرة شرحها القديس كيرلس بألفاظ لا لبس فيها، واستشهد القديس ساويرس بهذا الشرح مرات ومرات:

إن كلمة “واحد” لا تستخدم فقط في وصف هؤلاء الذين هم بسطاء “simple” بالطبيعة، بل تستخدم أيضا في وصف هؤلاء الذين أتوا للوجود في تركيب (اتحاد عناصر in composition)، والإنسان مثال حسن لذلك.

 فكلمة واحدة في عبارة “طبيعة واحدة متجسدة الله الكلمة من الخطأ ترجمتها إلى “mono مونو” الموجودة في المونوفيزيتية (monophysitism) .

كتب القديس كيرلس إلى سكسينسوس في الرسالة 46 ، الفقرة 6،7 يقول:

• وأيضا، فأولئك الذين يعرجون المستقيم (ميخا ۹:۳)، جهلوا أنه في الحقيقة توجد طبيعة متجسدة للكلمة. لأنه إن كان هناك ابن واحد، الذي هو بالطبيعة وبالحق الكلمة الذي من الله الآب والمولود منه ولادة تفوق العقل، والذي بحسب اتخاذه جسداً ليس بدون نفس، بل محيا بنفس عاقلة، صار إنسانا من امراة، فليس لهذا السبب يقسم إلى شخصين وابنين بل ظل واحدا، ومع ذلك ليس بدون جسد ولا خارجاً عن جسده، بل له جسده الخاص بحسب اتحاد لا يقبل انفصالاً. فالذي يقول هذا فهو بأي حال أو بأية طريقة لا يعني امتزاجاً أو اختلاطا أو أي شيء آخر من مثل هذا، ولن ينتج هذا عن ضرورة منطقية بأية حال. لأنه حتى وإن كنا نحن نقول إن ابن الله الوحيد الجنس هو واحد، متجسد ومتأنس، فهو ليس ممتزجا بسبب هذا كما يبدو لهم. فطبيعة الكلمة لم تتحول إلى طبيعة الجسد. ولا طبيعة الجسد تحولت إلى طبيعة الكلمة، بل كل منهما ظلت كما هي في ذاتيتها بحسب طبيعة كل منهما، وتعتبران متحدتان بطريقة تفوق الفهم والشرح، وقد ظهر لنا من هذا طبيعة الابن الواحد، ولكن – كما قلت – متجسدة.

• لأنه ليس في حالة ما هو بسيط بالطبيعة يكون فقط تعبير “الواحد” مستعملا استعمالاً حقيقيا، بل أيضا من جهة ما قد جمع بحسب التركيب، مثلما أن الإنسان هو كائن واحد، وهو من نفس وجسده

• لأن النفس والجسد، هما من نوعين مختلفين ولا يتساويان أحدهما مع الأخر في الجوهر، ولكن حينما يتحدان يؤلفان طبيعة وأحدة للإنسان، على الرغم أنه من جهة اعتبارات التركيب فان الاختلاف موجود بحسب طبيعة تلك الأشياء التي أتت معا إلى الوحدة. وتبعا لذلك فانهم يتكلمون باطلا أولئك الذين يقولون: إن كانت هناك طبيعة واحدة متجسدة للكلمة، فانه من كل جهة ومن كل طريقة سيتبع ذلك أن اختلاطاً و امتزاجاً يكونان قد حدثا كما لو كان ثمة تصغير وسلب لطبيعة الإنسان. لأنها، من جهة لم تصغر، ومن الجهة الأخرى لم سلب كما يقولون. لأن القول بإنة قد صار جسدا هو كاف كأكمل بيان عن كونه صار إنساناً. لأنه لو كان هناك صمت عن هذا من جهتنا، لكان هناك مجال لافترائهم. ولكن حيث أن القول بإنة قد صار جسداً، قد تم الإدلاء به كما هو لازم، فهل يكون هناك مجال للتصغير أو السلب ؟

 

جهود الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بعد خلقيدونية

خلال فترة حبرية قداسة البابا شنوده الثالث لتقارب الأفكار و إزالة الفجوة

 حوارات مع الكنائس الخلقيدونية

  • في 1964م أثناء حبرية البابا كيرلس السادس بدأ الحوار بين الكنائس الخلقيدونية الأرثوذكسية والكنائس الغير خلقيدونية الأرثوذكسية في آرهس بالدنمارك. تبع ذلك لقاءات في برستول في 1967م وجنيف في ۱۹۷۰م وأديس ابابا في ۱۹۷۱م. كانت هذه سلسلة مشاورات غير رسمية ولكنها ساعدت كخطوات تجاه التفاهم المشترك.
  • اللقاء الرسمي الذي اتخذت فيه خطوات ملموسة كان في ۱۹۸۰م في تشامبيزيه في جنيف. واللقاء الرسمي الثاني عقد في دير القديس الأنبا بيشوي بوادي النطرون في مصر في يونيه ۱۹۸۹م، وكانت حصيلة هذا اللقاء الأخير ذات أبعاد تاريخية. ففيه استطاعت الأسرتان الأرثوذكسيتان أن توافقا على صيغة كريستولوجية منهية بذلك الجدل حول طبيعة السيد المسيح الذي استمر ما يقرب من خمسة عشر قرناً. فيه قبل الجانبان الخلقيدوني والغير خلقيدوني التعبير اللاهوتي لكل منهما معترفين بأرثوذكسيتهما. وقد اتفق الجانبان على:
    إن كلمة الله نفسه الذي صار إنساناً كاملاً من خلال التجسد، هو نفسه مساو للأب بحسب لاهوته ومساو لنا بحسب ناسوته بدون خطية. كذلك أيضا فان اتحاد الطبائع في السيد المسيح هو اتحاد طبيعي – أقنومي – حقيقي وتام بدون اختلاط أو امتزاج أو تغيير أو انفصال، وعليه لا يمكن التمييز بين الطبيعتين إلا في الفكر فقط، كذلك أيضا أن العذراء مريم هي والدة الإله. مع إدانة تعاليم كل من نسطور وأوطاخي وكذلك النسطورية الخفية التي لثيئودوريت أسقف قورش
  • في سبتمبر من ۱۹۹۰م وقعت الأسرتان الأرثوذكسيتان اتفاقا کریستولوجيا وطرحت بعض التوصيات إلى الكنائس الأرثوذكسية المختلفة برفع الحروم (أناثيما) وعداوة الماضي، بعد مراجعة نتائج الحوارات. فإذا قبلت الكنائس الأرثوذكسية الأخرى كلا الاتفاقين سيكون حينئذ من السهل جدا إعادة الشركة بين الكنائس علی جميع المستويات للدرجة التي يمكن فيها الاشتراك في مائدة واحدة للإفخارستيا.
  • في نوفمبر ۱۹۹۳م، عقدت اللجنة المشتركة للحوار إجتماعها الرابع في المركز الأرثوذكسي بالبطريركية المسكونية في شامبيزي، جنيف بسويسرا، وتم فيه تقديم عدة أوراق لبحث موضوع رفع الحرومات الكنسية لكل من الطرفين بحيثياته. وأنتهوا إلى عدة اقتراحات لرفع هذه الحرومات.

 

مع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية

  •  في مايو ۱۹۷۸م زار قداسة البابا شنوده الثالث بابا الإسكندرية البابا بولس السادس بابا روما ووقعا بيانا مشتركا جاء فيه:
    نحن نعترف أن ربنا والهنا ومخلصنا وملكنا كلنا يسوع المسيح إله تام من جهة لاهوته و إنسان تام من جهة ناسوته. الذي فيه اتحد لاهوته بناسوته اتحاداً حقيقياً بدون امتزاج ولا اختلاط ولا تغيير ولا انفصال ولا تجزئة.
  • في ۱۲ فبراير ۱۹۸۸م بدير القديس الأنبا بيشوي، وقعتا الكنيسة القبطية مع الكنيسة الكاثوليكية بيانا متفق عليه بخصوص الكريستولوجي قالتا فيه:
    نؤمن أن ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح الكلمة المتجسد كامل في لاهوته وكامل في ناسوته، جعل لاهوته واحداً مع ناسوته بدون اختلاط أو امتزاج أو تشويش، وأن لاهوته لم ينفصل عن ناسوته ولا لحظة واحدة أو طرفة عين. وفي نفس الوقت نحرم عقيدة كل من نسطور وأوطاخي.
  • في يناير 2004 م عُقدت اللجنة الدولية المشتركة للحوار اللاهوتي بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية لقائها الأول في القاهرة، وتم النظر في الكثير من الدراسات والأنشطة التي تمت خلال الثلاثين عاما الماضية، و أيضا دراسة جدول أعمال الحوار في اللقاء التالي.
  • في يناير ۲۰۰5م عُقد اللقاء الثاني في روما، إيطاليا وكانت الموضوعات الرئيسية التي نوقشت فيه هي: • فهم سر الشركة، العناصر المكونة له . الشركة الخاصة والدولية، معنى كنائس شقيقة وكنائس عائلة • الشركة الكاملة ودرجات الشركة، الهدف المسكوني المشترك.
  • في يناير ۲۰۰6م عقد الممثلون المفوضون من الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية اجتماعهم الثاني في إتشمیادزین بأرمينيا كأعضاء في اللجنة المشتركة للحوار اللاهوتي بين الكنيستين. في أثناء هذه الجلسة قدمت أوراق من الأعضاء الكاثوليك والأرثوذكس الشرقيين في ثلاثة مواضيع: • الأساقفة في الخلافة الرسولية • الرئاسة والمجمعية • المجامع المحلية والمسكونية (مفهومها الكنسي). كما أن اللقاء التالي سيتضمن ورقة واحدة عن كل جانب بعنوان “الإرسالية، وخدمة الشهادة، ومشكلة الإستلال”.

 

مع كنائس الإصلاح في هولندا

  •  في 13 سبتمبر 1994م وقعت الكنائس الشرقية اتفاقاً کریستولوجيا مع كنائس الإصلاح في هولندا. نقتبس هنا بعض ما جاء فيه: تعترف أن ربنا يسوع المسيح ابن الله الوحيد، كامل في لاهوته وكامل في ناسوته. يتكون من نفس عاقلة وجسد، كذلك مولود من الآب قبل كل الدهور بحسب لاهوته، هو نفسه في ملء الزمان من أجلنا ومن أجل خلاصنا ولد من العذراء مريم بحسب ناسوته. له نفس الجوهر ذاته مع الأب من حيث لاهوته ومساوياً لنا في الجوهر بحسب ناسوته، لان اتحاداً حدث بين الطبيعتين، لهذا فنحن نعترف بمسيح واحد ابن واحد رب واحد. وبناء على هذا المعنى للاتحاد غير المختلط نحن نعترف أن القديسة العذراء هي والدة الإله، لأن الله الكلمة تجسد وصار إنساناً ومنذ اللحظة الأولى للحمل وحد بنفسه الهيكل الذي أخذه منها لحتى إننا نقول إن الجسد وجد في الاتحاد ولم يكن له وجود قبل الاتحاد.
  •  كذلك وافق الطرفان على رفض التعليم الذي يقول بفصل أو تقسيم طبيعة السيد المسيح الناسوتية والتي تشمل النفس والجسد عن طبيعته اللاهوتيه، أو يقلل من مستوى الاتحاد الذي تم بين الطبيعتين إلى مجرد اتصال.
  •  ووافق الجانبان على رفض التعليم الذي يقول باختلاط الطبيعة البشرية في السيد المسيح مع طبيعته اللاهوتية مما يترتب على ذلك أن تُبتلع الطبيعة الناسونية في الطبيعة اللاهوتية وتختفي من الوجود.

 

 مع الكنيسة الأنجليكانية

في اللقاء الذي تم بين الأنجليكان والكنائس الأرثوذكسية الشرقية في إتشيميازين بأرمينيا في 9 نوفمبر ۲۰۰۲م. نصت الكنائس الأرثوذكسية الشرقية في اتفاقها الكريستولوجي مع الكنيسة الأنجليكانية على ما يلي:

  •  إن الجانبين وافقا على رفض التعليم الذي يقول بفصل الطبيعة الإنسانية، كل من نفس وجسد المسيح من طبيعته اللاهوتية، أو ينقص الاتحاد الذي تم بين اللاهوت والناسوت إلى مجرد مستوى الاتصال ويحد الوحدة إلى وحدة أشخاص، وبالتالي ينكر أن شخص السيد المسيح هو شخص واحد مفرد لله الكلمة، “يسوع المسيح هو هو أمسا واليوم وإلى الأبد” (عب ۱۳: ۸).
  •  كذلك وافق الطرفان على رفض التعليم الذي يقول باختلاط الطبيعتين الناسوتية واللاهوتية في المسيح وبالتالي يترتب عليه أن تُبتلع الطبيعة الناسوتية في الطبيعة اللاهوتية وتختفي من الوجود. لذلك فاننا نرفض هرطقة كل من نسطور وأوطاخي

المراجع:

  • كتاب نظرة شاملة لعلم الباترولوجي للعلامة القمص تادرس يعقوب ملطي

زر الذهاب إلى الأعلى