صعد ليُجلسنا معه في السماويات

 

ًأربعون يوماً بعد القيامة أمضاها المسيح بين تلاميذه « الذين أراهم نفسه حيا ببراهين كثيرة بعد ما تألم وهو يظهر لهم ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله». ( أع 1:3) . هذه الفترة الزمنية المحددة التي عاشها المسيح على الأرض بجسده الذي عبر به الموت والقبر حياً، تُعتبر أعظم وأثمن موهبة وهبها المسيح لطبيعتنا البشرية.

فبإمكانية القيامة من الأموات و الحياة مرة أخرى بجسد مُنزَّه عن الآلام والموت و الفساد لم تكن من طبيعة الإنسان أصلاً، فالإنسان معروف أنه أصبح مائتاً بطبيعته بعد أن أخرجته الخطيئة من جنة الحياة مع الله ، وهو وإن أقُيم من الموت أحياناً بأمر الله، فهو إنما كان يقوم ليموت أيضا کلعازر ، ولكن أن يقوم الإنسان ليحيا إلى الأبد مع الله بجسد لا يفنى ولا يتدنس، فهذه عطية المسيح الفائقة الوصف والكرامة التي منحها لنا لما قام بالجسد الذي أخذه منا.

إذن فكل من آمن بقيامة المسيح من الأموات يكون قد آمن تلقائياً بقيامته هو نفسه، فالإيمان بالقيامة هو قيامة بحد ذاته، لأن كل ما للمسيح قد وهبه المسيح لكل من آمن به.

ما هو الصعود ؟

هو إعلان منظور لدخول المسيح الأقداس العليا ليتسلم من الآب سلطانه و وحده وملكوته كما سبق الله وأنبأ بذلك على فم دانيال في رؤياه : « كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن الإنسان أتی وجاء إلى قديم الأيام فقربوه قدامه ، فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد كل الشعوب والأمم والألسنة ، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض » ( دا 7 : 13و 14 ) . هذا ما حققه المسيح في نفسه وأعلنه بفمه بعد أن أكمله بصعوده وجلوسه عن يمين الآب : « فتقدم يسوع وكلمهم قائلا : دُفع إلىَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر».

صعد ليجلسنا معه في السماويات

غاية الصعود هي « الجلوس » عن يمين الآب ، حيث الجلوس يعني التساوي، النيابة الدائمة والحاضرة مع الآب في كل شيء . فالمسيح بجلوسه عن يمين الآب يكون قد استلم بالفعل كل ما للآب من ملك وسلطان وقدرة ومجد وقضاء الدينونة على كل الخليقة مما في السماء وعلی الأرض «لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض». ولكن هذا الصعود والجلوس عن يمين الآب هو مثل الموت والقيامة ، لا ينسب للمسيح كأن المسيح مات لنفسه كمستحق لهذا الموت ، أو قام لنفسه كأن القيامة لم تكن فيه ، كذلك فالمسيح لم يصعد لنفسه كأنه لم يكن في حضن الآب لحظة ما أو انفصل عن السماوات وقتا ما . بل إن المسيح كما مات ببشريته أي بالجسد ودُفن من أجل خطايانا وقام وظهر ببشريته أي بالجسد من أجل تبريرنا، هكذا صعد ببشريته ليُجلسنا ويُمجدنا معه في السماوات : « أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات».

صعد لأنه غلب ، وغلب لذلك اعطي أن يدين

وهكذا أصبحت قيامته وصعوده بمجد الله وجلوسه عن يمين الآب لا تُحسب له اختلاساً، فالذي « صعد » هو الذي « نزل أولاً» ، فإن كان نزوله و تنازله لم يُحسب نقصاً في لاهوته ، فإن صعوده وجلوسه عن يمين الآب بمساواة لا يُحسب له اختلاساً. وإن كان ليس نقصاً لمن تنازل وتجسد وأخذ صورة عبد واتضع وأطاع حتى الموت وقهر الخطيئة بصليبه و دانها في الجسد و أباد حكم الموت وأذل من له سلطان الموت ، فليس زيادة أو اختلاس بعد ذلك أن يجلس عن يمين الآب ويأخذ منه كل قضاء الدينونة وكل سلطان فوق كل خليقة كقول الرسول : « إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وقوة وسيادة وكل اسم يُسمى ليس في هذا الدهر فقط بل وفي المستقبل أيضا وأخضع كل شيء تحت قدميه»

كذلك فإن كان صعود المسيح فوق جميع السماوات وترأسه فوق جميع الرئاسات بسيادة مُطلقة هو نتيجة حتمية مباشرة لانتصاره علی الخطية والموت وكل الرئاسات التي عملت في ذلك الموت، يكون بالتالي جلوسه عن يمين الآب هو التعبير الحتمي الذي يشرح بدء الدينونة والقضاء ، أو بمعنى أوضح يُحدد بدء مُلك المسيح أو ملكوته على كل خليقة ورئاسة في السماء والأرض .

فإن كان ملكوت المسيح لم يُستعلن بعد على مستوى العالم كله ؛ إلا أنه مُستعلن سراً في كنيسته الآن بصورة قوية وفعالة ومنظورة . فالكنيسة الآن هي ملكوت المسيح المخبأة في وسط العالم بشبة الخميرة الصغيرة المخبأة في الثلاثة الأكيال دقيق التي تجوز زمان تخميرها سراً.

شركة في الموت قبل شركة في الملك :

ولكن لكي تدخل الكنيسة في سر صعود الرب وجلوسه عن يمين الآب ، أو بالحري لكي تدخل في شركة سلطان المسيح الفائق فوق كل رئاسة وسلطان وسيادة في السماء وعلى الأرض لإعلان وتنفيذ ملكوت المسيح في العالم ، لابد أن تكون قد جازت شركة مسبقة معه في آلامه وموته وقيامته. ولكن شركة الآلام والموت و القيامة ليست جماعية بل هي فردية ، لا تجوزها الكنيسة معاً كجماعة ولكن يجوزها كل فرد بمفرده ، لأن من أخص خصائص الألم والموت أن يكون فردياً: « دست المعصرة وحدي». الكنيسة تجمع لنفسها خبرات الألم وموت أولادها ، وتضيفها لحسابها ككل! وكل من لم يتجرأ ويدخل شريكاً في آلام المسيح وموته أو جزع من نير الصليب وتقرب منه لا يجوز على سلطان ملكوت المسيح ولا يُستأمن على سر الشركة في قوة كلمته وقضائه وإعلان ملکوته.

 من جهة هذا يصرخ بولس الرسول مراراً وتكراراً مشجعاً ليسكب روح الجرأة والقدوم ، لندخل في سر شركة الصليب أي سر شركة الموت، سر شركة الاستعداد لسفك الدم طواعية مع المسيح، واضعين دائماً حكم الموت في أنفسنا لكي نعيش قيامتنا الأولى معه فلا يكون العالم حياً بعد في كياننا ، حتى نستطيع أن نحكم عليه من موقع جلوسنا مع المسيح في السماء ولا تكون أهواؤنا لها سلطان فينا لئلا تبطل سلطان المسيح من قلبنا و فمنا.

الجسد المكسور على الصليب صعد ، فصار الطريق الوحيد إلى السماء

القديس بولس يصور لنا صعود المسيح إلى أعلى السموات و كأنه يفتتح طريقاً جديداً إلى الأقداس العليا في السموات باعتباره کاهناً أعظم علی بیت الله (السماء) ، ولكنه يؤسس هذا الطريق لا بكلمة ولا بسلطان وقوة ولكن بجسده الذي حمل عليه كل خطايا البشرية فرداً فرداً مبتدئ بآدم حتى آخر إنسان على الأرض . وإذ مات وتبرأ من كل خطايا البشرية تبرأنا فيه فصار جسده مهيئاً أن يصعد بلا مانع إلى أعلى السموات ويجلس بكل كرامة ومجد الابن ( متجسداً) ، فصار جسده ( الذي هو جسدنا ) الصاعد هو هو الطريق الوحيد الذي إذ نتحد به ، نعبر فيه إلى أعلى السموات – إلى الآب – إلى الأقداس العليا : « فإذ لنا ، أيها الإخوة ، ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع طريقاً كرسه لنا حديثاً حياً بالحجاب أي جسده و کاهن عظيم على بيت الله ، لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير ومغتسلة أجسادنا بماء نقي ( المعمودية الطاهرة ) ولنتمسك بإقرار الرجاء هذا راسخاً لأن الذي وعد هو أمين » . ( عب ۱۹:۱۰-۲۳ )

كان الطريق والباب نحو الله الآب قد أُغلق في وجه الإنسان ، لأن الخطية فصلت قلب الإنسان عن قلب الله، الإنسان تلهى بنفسه كغاية وجوده وارتاح لذاته كأصل وسبب كل شيء ،  فأُعميت بصيرته القلبية والذهنية عن رؤية خالقه الأصل والغاية لوجوده الحقيقي، وكانت الخطية هي السبب في هذا العمى والبعد عن الخالق.

المسيح رفع الخطيئة من الوسط ، رفعها من على الإنسان ووضعها علی جسده ودانها في نفسه وقضى عليها بالموت في جسده ، فألغى كل سلطانها، وهكذا انفتح الطريق المغلق ، فتحه بجسده الذي انكسر على الصليب بالخطيئة ثم قام به مُبرأ وصعد به ممجداً، فصار هو الطريق والباب الوحيد المؤدي إلى الآب . ليس لدى الإنسان طريق آخر قط إلى السماء غير جسد المسيح ، لأنه من خلاله تسقط كل خطيني وتنفتح بصيرتي.

لذلك ، إن كان يوم صعود الرب وجلوسه عن يمين الآب هو بدء واستعلان قدرة المسيح الفائقة وسلطانه وملكوته في الكنيسة، فما ذلك إلا لأنه سبق فاستودع الكنيسة سر جسده الذي أصبح هو الطريق والباب الوحيد المؤدي إلى السماء الذي من خلاله تستمد الكنيسة شركتها في بر المسيح أولا ثم شرکتها في ملك المسيح وسلطانه ثانياً. [1]

صلاة

نتوسل إليك أن يكون يوم صعودك ؛ يوم حي فعَّال في حياتنا ، لكي لا نُحسب مربوطين على هذه الأرض ولا بتراب هذه الأرض ، ميتين و أولاد ميتين نطلب ما يطلبه الميتون ، ولكن نطلب ما يطلبه القائمون الذين عيونهم مرفوعة دائماً إلى السماء ، نطلب ما فوق ، نطلب النصيب الذي لا يتدنس ولا يضمحل المحفوظ لنا والمكتوب اسمنا عليه.

فاجعل ، یا ربي ، من إنجيل صعود هذا المساء إنجيل حياتنا. نضع أيدينا على محراث السماء كفلاحي كتابك كفلاحي السماء وليس الأرض ، ناظرين إلى فوق في خط مستقيم غير ملتوياً ربي . لا تجعل لنا قلباً ملتوياً ولا ضميراً ملتوياً ولا رؤيتين ، ولا نرى سواك يا ربي . نعيش في هذا العالم ، نرى كل يوم وجوه مئات وألوف ولكن لا نرى أحداً قط إلا وجهك ، لأننا وضعنا يدنا على المحراث ، ولن تنطبع صورة إنسان قط على قلبنا ، لأننا نرى ما فوق ، شبكية عيوننا لا ينطبع عليها مناظر الطبيعة الأرضية ، لا ينطبع عليها وجوه أولاد التراب المائتين ولكن ينطبع عليها فقط صورة السمائيين.

فاليوم یا ربي ، يوم تأمین خلاصنا وآخر مرحلة في مراحل عبورنا من الموت إلى الحياة . هكذا أنت خلاصنا يا ربي بأن جعلتنا شركاء في ملكوتك ، لا ساعين إليك ولا مُترجين الوصول إليك، ولكن شركاء فيك وجالسين مع الحاكمين، لا مع الضيوف ولا مع الخارجين ، ولكن جالسين مع الذين يملكون ، يملكون على العالم ويحكمون على الملائكة .


  1. من كتاب القيامة والصعود ، مقالة الصعود ص 368

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى