الإفراز والتمييز

 

يقول القديس الأنبا أنطونيوس عندما سأله من جماعة من الآباء: عن أى الفضائل أكمل وأقدر على حفظ الإنسان من جميع مصائد العدو، حقًا إن كل الفضائل نافعة ويحتاج إليها كل الذين يطلبون الله، ويريدون التقرب إليه، إلا أننا رأينا كثيرين أهلكوا أجسادهم بكثرة الصوم والسهر والإنفراد فى البرارى والزهد، حتى أنهم كانوا يكتفون بحاجة يوم واحد، ويتصدقون بكل ما يمتلكون، ومع ذلك رأيناهم وقد حادوا عن المسلك القويم، وسقطوا وعدموا جميع هذه الفضائل، وسبب ذلك أنهم لم يستعملوا الإفراز. 

فما هو الإفراز ؟ 

الإفراز هو الذى يُعلّم الإنسان كيف يسير فى الطريق المستقيم الملوكى.. وكيف يحيد عن الطريق الوعرة. والإفراز يُعلّم الإنسان كيف لا يُسرَق من الضربة اليمينية بالإمساك الجائر (التطرف فى النسك) وكيف لا يُسرَق من الضربة الشمالية بالتهاون والإسترخاء. 

 

إن الإفراز هو عين النفس وسراجها كما أن “سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ” (لو 34:11). وبخصوص الإفراز حذر الرب قائلاً: إحذر “لِئَلاَّ يَكُونَ النُّورُ الَّذِى فِيكَ ظُلْمَةً” (لو 35:11)، فبالإفراز يفحص الإنسان سلوكه وأقواله وأعماله، وبالإفراز يفهم الإنسان الأمور ويميز بين الغُث والثمين. والرب يسمى الإفراز رُبانًا ومدبرًا لسفينة حياتنا. ويقول القديس  يوحنا الدرجى “إن الذين ليس لهم مدبر يسقطون مثل ورق الشجر”، والكتاب يقول: “لا تُعْمَلُ شَيْئا عَنْ غَيْرِ مَشُوْرَةٍ فَلا تَنَدُّمِ عَلَىَ عَمَلِكَ” (سى 24:32).    

وهل من ضرورة للإفراز ؟ من السابق نستطيع أن نعى الآن أهمية دراسة موضوع الإفراز والتمييز، فأصبح إحتياجنا فى هذا الزمن للتمييز ضرورى، مع إنتشار الميديا، ومرورنا بأزمة ثقافية: هى السطحية، وغياب العمق، والإستنارة، حتى لا نتحرك مع أى ريح تعليم غير سليم. 

 

مفهوم الإفراز ودرجاته 

التمييز والإفراز عطية للروح القدس وأى محاولة لحصر الإفراز والتمييز لمستوى المعرفة العقلية فقط سيقود لمزيد من العجرفة، إنه ليس ثراءًا معلوماتيًا بل إختبار للروح القدس (خبرة معاشة). عرَّف القديس يوحنا الدرجى الإفراز والتمييز تعريفًا عامًا: بأنه “المعرفة الثابتة لمشيئة الله فى كل ظرف وفى كل آن ومكان، تتوفر فقط لأنقياء القلوب والأجساد والأفواه” وقسمه لثلاث مستويات روحية كالآتى: 

 

  • عند المبتدئين : هو المعرفة الحقيقية للذات أو النفس، فإذا كانت التوبة هى تجديد 
    ذهن فهى تحتاج لإفراز معرفة النفس. ودور المرشد هو مساعدة النفس الدخول لأعماقها لتبصر نفسها بالروح القدس بعيد عن سطحيتها. 
  • عند المتقدمين : هو حس روحى داخلى لا يُخطئ التمييز بين ما هو صالح فى طبيعته وما هو غير ذلك. 
  • عند الكاملين : (فى المسيرة مع الله وليس المعلومة): هى معرفة ناتجة عن إستنارة إلهية، تستطيع أن تُضىء بمصباحها ما هو مُظلم عند الآخرين، فليس كل منا مؤهل لإرشاد الآخرين، بل وحدهم من يملكون الإستنارة الإلهية. ونجد الأنبا أنطونيوس بعد مسيرة مع الله 35 سنة فى صلاة كثيرة وتهذيب للنفس استقبل من الروح القدس روح التمييز. 

 

الإفراز والإستنارة 

نسمع كثيرًا عن الإستنارة، وعن شخص مستنير، ونتساءل فى كل مرة عن ماهية الإستنارة (Enlightment) وهى إصطلاح يُعبر عن العين الداخلية القادرة على إستقبال حقائق الله التى يكشفها الروح القدس للإنسان بالإستعانة بالآباء والكتاب المقدس والتقليد. كما تعنى كلمة الإستنارة أيضًا الفرح والمجد وتحول الشخص و يقول القديس بولس: “مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِى الْقِدِّيسِينَ” (أف 18:1) فإن الذهن المقصود هنا هو قدرة الوعى الداخلى على النظر إلى الأمور التى يستعلنها الروح فيفرزها عندما يميز الغُث من الثمين كتابيًا وآبائيًا ويكشف مقدار الحكمة فيها، ويستوعبها ويفهمها ويستذكرها. وفى حديثه يطلب القديس بولس من الله أن يهبنا روح الحكمة والإفراز، ثم يعطينا قدرة داخلية لإستيعاب وفهم ما يعمله الروح القدس داخلنا “الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ” (رو 14:8). 

ولكن ما هى عيون الذهن؟ بالعين العادية يرى الإنسان الأمور العادية، ولكنه يستحيل على هذه العين أن ترى ما هو فائق عن الطبيعة، العين الخارجية ترى صورة الأشياء والعين الداخلية ترى حقيقة جوهر الأشياء، لذلك يقول السيد المسيح لتلاميذه: “طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا تُبْصِرُ” (مت 16:13) وعندما كان سائرًا مع تلميذى عمواس، إحتاج الأمر  
أن يفتح ذهنهم ليفهموا الكتب: “فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا” (لو 31:24). 

لماذا نحتاج الإفراز والتمييز ؟ 

  • لمعرفة سلامة الإرشاد : ما يسمعه الإنسان يؤثر عليه، لذلك وجب علينا التمييز لمن أسمع ولمن أستجيب، إنه من الخطورة أن نسمع وننفذ بدون إفراز فيمكن أن أسمع لإرشاد لا يناسب، فالحكمة فى إختيار الإرشاد هام جدًا فيجب أخذ فرصه للتفكير وتسليط روح الله حتى يُنير الجيد من الردئ. ويجب أيضًا التفكير فى شخص من يُرشد، هل عن خبره وإختبار أم مجرد كلام نظرى؟ هل صوت الله واضح أم لا؟ ويقول القديس يوحنا ذهبى الفم : “بلا مُدبر لا تكون السلامة. فمن الطاعة التواضع، ومن التواضع الشفاء من الآلام، فقد كُتِبَ أنه بتواضعنا ذكرنا الرب وخلصنا من أعدائنا”. 
  • لتمييز حرب الشيطان وأفكاره : فالشيطان يغوى الناس بما هو غير حقيقى لأنه كذاب، كإرشاد الحية لحواء قبلاً. 

– لفهم آيات الكتاب المقدس : من الجيد فهم آيات الكتاب المقدس حتى لا يتم تطبيقها بشكل خاطئ على أنفسنا. 

 

كيفية إقتناء الإفراز والتمييز 

  • الروح القدس : هو المصدر لإقتناء روح التمييز ويجعلنا نميز بين الرغبة النهمة فى المعلومة والإشتياق للإفراز والتمييز، فلازالت المعلومة مُغرية كما كانت شجرة معرفة الخير والشر. 
  • عمق القراءات الروحية : لإقتناء الإفراز يجب علينا أن نوسع ونُعمِّق من قراءاتنا فى تقليد آباء الكنيسة الأرثوذكسية الأوائل “إِنْ لَمْ تَعْرِفِى أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَاخْرُجِى عَلَى آثَارِ الْغَنَمِ، وَارْعَىْ جِدَاءَكِ عِنْدَ مَسَاكِنِ الرُّعَاةِ” (نش 8:1). 

– روح الإتضاع : لا تسكن المعرفة والحكمة الإلهية فى قلب مُتكبر معتمد على ذاته، وليس على الله ويشعر دائمًا بأفضليته عن غيره..فهذا ضد التواضع. 

– الحواس المدربة : “وَأَمَّا الطَّعَامُ الْقَوِىُّ فَلِلْبَالِغِينَ، الَّذِينَ بِسَبَبِ التَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَهُمُ الْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ” (عب 14:5) ففى الحياة مع الله نقتنى الحواس المدربة على التمييز بين الخير والشر وإفراز الإيمان السليم عن المدسوس “الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ” (رو 14:8). 

  • قراءة الكتاب المقدس : بروح الإتضاع والتلمذة الأرثوذكسية، وكما علمتنا الكنيسة “لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِى حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ” (عب 12:4) فكلمة الله هى سر الإستنارة الروحية والعقلية. 

الإفراز فى التداريب الروحية 

تداريب الحياة الروحية التى يكلف بها أب الإعتراف ليست قيود ونواميس، إنما هى ثبات الروح فى الله، بحب وحرية، التدريب الروحى لا يجوز أن يكون جافًا وحرفيًا بلا فهم، والتداريب ليست قيودًا وسلاسل.. والذى يسلك فى حياة روحية سليمة، بطريقة حكيمة، يعرف كيف يفعل الشىء من أجل الله، ويعمل عكسه تمامًا من أجل الله أيضًا. 
فلكل مجال ما يناسبه، ومعلمنا بولس يقول عن تدريباته بالنسبة إلى الشىء وعكسه: “أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضًا أَنْ أَسْتَفْضِلَ. فِى كُلِّ شَىْءٍ وَفِى جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ، وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ” (فى 12:4). إن أولاد الله يأخذون روح الحياة، ولا يأخذون نصوصًا وحروفًا، يعرفون متى يفعلون الشىء، ومتى يفعلون عكسه بضمير مستريح، مثلما قال الكتاب: “فرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ” (رو 15:12). 

إذن لكل شىء تحت السموات وقت كما قال الكتاب “لِكُلِّ شَىْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ” (جا 1:3) كل شىء فى مناسبته، يكون خيرًا حسبما يليق بحكمة، والحكيم يعمل الشىء المناسب فى الوقت المناسب، دون أن تغيير نفسه بحالة معينة تستمر معه مدى الحياة. 

أخيرًا: علينا أن نصلى إلى الله بإلحاح لكى يهبنا روح الإفراز، والإستنارة الروحية بروح الإتضاع، التى بها يتسع أفقنًا الروحى، لنستطيع أن نميّز بين الجيد والردىء، وبين الغُث والثمين، وندرك أبعاد الحب الإلهى.. “أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ مَا هُوَ الْعَرْضُ وَالطُّولُ وَالْعُمْقُ وَالْعُلْوُ، وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، لِكَىْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ” (أف 18:3-19). 

زر الذهاب إلى الأعلى