عيد الصعود
فلنفرح، یا آبائي، بهذا العيد، الذي به أجلسنا معه في السماويات، وأعد لنا المكان السعيد، الذي سبق فتكلم عنه الذي هو معه عن يمين العظمة في الأعالي.
لقد صرنا في المسيح مُصالحين مع الآب إلى الأبد، محفوظين برضی ورحمة القدير؛ وليس كما كان آدم الأول في مجرد فردوس وشجر مثمر ، يفتقده الله من حين إلى حين؛ ولكن صرنا في فادينا الحبيب الدوام. أما إن كنا الآن مُتغربين عن وطننا السماوي، متألمين يسيراً فذاك لكي يتزکی إيماننا ونوجد أهلاً لهذا النصيب الفاخر.
فنحن الآن بالإيمان نعيش بالرجاء الذي سكبه المسيح فينا، وبالحب الذي يُحول الألم إلى لذة، وغير الموجود يجعله أمامنا موجوداً بالرؤيا القلبية التي بالنور الخفي ترى النور غير المنظور، متوقعين بالصبر والشكر لحظة اللقيا التي نحظى فيها بوجه الحبيب ، فلا يعود يُنزع منا.
كانت مسرة المسيح قبل أن ينطلق إلى الآب، والتي أعلنها في صلاته الوداعية هي أن نكون نحن حيث يكون هو على الدوام لنرى مجده ونوجد فيه. وهذا هو عين ما رآه اسطفانوس الشهيد، فما أن رآه وتحقق منه، سهُل عليه أن يخلع خيمته الأرضية بسرعة ، ناظراً بيقين الإيمان والعيان معاً المكان الذي أعده المسيح له ، والبناء العجيب الذي في السماء غير المصنوع بيد، الأبدي ، جسد المسيح الذي يملأ الكل.
لأجل هذا يدعونا القديس بولس الرسول بإلحاح سري لا يفهمه إلا الواصلون بالروح لسر الوجود الإلهي : « إن كنت قد قمتم مع المسيح ؛ فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس»، والذي معناه أن القيامة وحدها لا تكفي؛ فبعد القيامة أمجاد الوجود في الحضرة الإلهية حيث جلس المسيح بنا عن يمين الآب ، ولكن هذا رهن طلب الذين أحبوا المسيح ولم يطيقوا أن يبقوا بدونه أبدا . فحيث المسيح يوجد الآن يكون لنا حق الوجود. وطلبنا هذا هو من صميم طلب المسيح نفسه ومسرته التي سبق وأن ألح على الآب أن يمنحها لنا كلما طلبناها، لأنها صارت من حقنا بسبب بشريتنا التي اتحد بها بوفاق وحب وعهد أن لا يخلعها أبداً ولا يهجرها إطلاقا ولا ينساها لحظة واحدة ولا طرفة عين.
أما أن نطلب ما فوق حيث المسيح جالس ؛ فهو أن نطلب الوجود الدائم في حضرة الله، الذي صار لنا حقاً أبدياً في المسيح، نطلبه الآن بدموع وإلحاح. فإذا ما أخذناه لا يعود يُتزع منا لأنه نصيبنا المحفوظ لنا في السموات ، الذي لا يتدنس قط بسبب قصورنا بعد، ولا يضمحل بسبب اضمحلال كياننا الجسدي.
الوجود في حضرة الله ، بإحساس الاتحاد بالمسيح الذي أكمله فينا ولنا مجاناً، هو سر السعادة التي وفرها المسيح لنا في وسط أحزان العالم ، وهو كفيل بأن يعطى الإنسان سلاماً قلبياً يفوق العقل بكل اضطراباته وعجزه.
ولكن ، هذه الحضرة ليست مسرة نلهو فيها ؛ بل هي عينها الصلاة ، الصلاة في ملء حرارتها ، والتي فيها يهدأ الجسد وترتاح النفس وتبتهج الروح.
وإن كان ينبغي أن نئن كثيراً في أنفسنا من أجل ثقل الجسد ، ونشتاق في أنفسنا أن نلبس فوقه الذي من السماء ، ولكن هذا غير ممكن ، فلابد من خلع الفاسد أولاً حتى نستطيع أن نلبس المسيح ونوجد فيه بلا مانع . لذلك سوف تظل صلواتنا ممزوجة بالدموع، وفرحتنا بالوجود في الحضرة الإلهية يشوبها أنين الحسرة من أجل عدم قدرتنا الآن على لبس السماوي، ولكن لنا ثقة أنه كما لبسنا الترابي سنلبس السمائي أيضاً، ولن نوجد أبداً عراة من نعمة الله ، لأن الذي خلقنا هو نفسه أعاد خلقتنا وهيأها للتجديد في ملء القداسة وبر الله.
الرسول بولس يلح : « اطلبوا ما فوق » ، ولكن هل يمكن إنسان يطلب ما هنا، ويسعى وراء تراب الأرض، ويشتهي ما في يد الناس ؛ ثم بعد ذلك يستطيع أن يرى ما فوق أو يطلبه؟؟ فإما أن نسعى إلى أن نستقر علی الأرض ليكون لنا فيه فرحنا وسرورنا ؛ وإما أن نرفض ما هنا لنتفرغ لطلب ما هو فوق لمجد الله.
الذي يسعى وراء كرامة على الأرض يطلبها في قلبه ويشتهيها في نفسه، لا يمكن أن يتبقى له قوة إيمان بما فوق يمكنه أن يشد نفسه إليها ويطلبها … الذي يطلب ما على الأرض ، لا يمكن أن يقوى على طلب ما هو فوق . الذي لم يتفرغ بالحق لطلب ما هو فوق، هو محروم من مجد الصعود ، وضيَّع على نفسه ثمرة الصليب و القيامة . لأن المسيح احتمل الأحزان والآلام والصليب من أجل السرور الموضوع أمامه ، سرور المصالحة في آخر مراحلها عندما قدم البشرية التي فيه للآب مفدية مُبرأة مُطهرة مغسولة بالدم ، وأجلسها معه عن يمين الآب!
فكما تكللت آلام الصليب بالقيامة، هكذا تكللت القيامة بالصعود والجلوس عن يمين الآب. لذلك ففي الصعود سر الاحتمال العظيم لكل ألم حتى الموت! وفي الجلوس في السمويات مع المسيح نهاية كل رجاء وكل فرح ، بل وغاية كل الخليقة العتيقة والجديدة.
من الملابسات ذات المعنى وذات الفعل في إنجيل عيد الصعود قوله: وفيما هو يباركهم ، انفرد عنهم ، وأُصعد إلى السماء » . لا يمكن أن ندخل حالة الصعود بالروح ، يا إخوة ، أو نتذوقها إلا إذا كنا في الحالة عينها ، أي : “وفيما نحن نبارك”، لابد أن نكون على مستوى الصلاة والبركة على كل إنسان ، على كل مُضطهد، على كل مسيء أو شاتم أو مُعير أو مُخرج كل كلمة شريرة علينا ، لابد أن يكون قلبنا في حالة صفح کلي وسلام صادق وحنو ومودة لكل إنسان، حتى نستطيع أن ننفك من قيود جاذبية الأرض والتراب وننطلق في إحساس الصعود ونتذوقه و نعيشه بالروح والحق.
ثم لابد أيضا أن نكون في حالة : « وانفرد عنهم » حتى يمكن أن نمارس حالة إصعاد يتممها فينا المسيح فوق العالم .
صلاة
أيها الرب المقام لتحمل على كتفيك عار الإنسان ، لكي لا يُحسب بعد ابناً للتراب والموت ، بل ابنا للسماء والله والملكوت .
اليوم یا ربي إذ نُعيَّد لصعودك إلى السماء ، نراك يا رب وقد أخذت أسماءنا مكتوبة كلها في قلبك ، ومع أسمائنا أرواحنا لتصعد بها اليوم العام الماضي كالذي تم منذ ألفي سنة و كالسنين الآتية ، تصعد بنا لتقدمنا إلى الله أبيك في شركة ملكوتك، لكي لا نعود حسب بعد مُدانين تحت ثقل ضمير الخطايا، مديونين بأعمال ميتة لا نستطيع أن نعطى عنها جواباً في يوم الدينونة ، إذ نذكرها الآن أمامك بوعد يملأنا خزي الوجوه ونصرخ بأنات موجعة متوسلين أن لا تجعل لنا دينونة مع العالم.
نعم يا رب ، صعودك إلى السموات أعطانا صك أنه يُمكن أن تُرفع من على كتفنا ؛ ومن على ضمائرنا ثقل حكم الموت والدينونة ، لا ببراءة لأننا أخذناها على الصليب ، ولا بخلقة جديدة التي أخذناها بالمعمودية بالقيامة من الأموات ، ولكن بنوال حق أن نكون معك في ملكوتك : “أمين هو الله الذي دعاكم إلى شركة ابنه يسوع المسيح” ، “أمين هو الله الذي دعاكم إلى شركة ابنه يسوع المسيح» . نعم يا رب ، فلتكن أمين إلى الأبد ، ولتجعل شركتنا مع يسوع المسيح شركة صادقة لا ميتة، لا بكلام نقوله ولكن بحياة نحياها بضمير غير لائم ، لا بضمير مُشتك أو محتج ولكن بضمير يحس بالغفران والتطهير والسلام من جراء فعل غسل دمك بالرش الداخلي كل يوم بفعل كلمتك و سرك الإلهي.
من كتاب القيامة والصعود ص 376