الغربة عن العالم، وحلول الله في الإنسان
العظة التاسعة والأربعون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
[لا يكفي الإنسان أن يترك عنه تنعم هذا العالم ما لم ينل غبطة العالم الاخر]
[أ] فرح الروح القدس مقابل فرح العالم
1 – إن كان أحد يخرج من بين ذويه ويهجر هذا العالم ويترك عنه تنعم العالم والممتلكات والأب والأم من أجل الرب ، ويصلب نفسه ويصير غريباً ومسكيناً ومعوزاً، ولكنه عوض راحة العالم لا يجد راحة إلهية في ذاته ، وعوض التنعم الزائل لا يشعر بتنعم الروح القدس في نفسه، وعوض الثياب التي تبلى لا يكتسي بثياب نور اللاهوت في الإنسان الباطن ، وعوض هذه الشركة الجسدانية الزائلة لا يعرف، عن يقين ، شركة ( العريس ) السماوي في نفسه ، وعوض فرح العالم الظاهر لا يكون له فرح الروح القدس في الداخل ، ولا ينال تعزية النعمة السماوية والشبع الإلهي في نفسه حين يظهر له مجد الرب بحسب المكتوب[1] ، وفي كلمة : إن كان لا يقتني الآن في نفسه ، عوض هذا التمتع الزائل تمتعاً مُشتهى لا يشوبه فساد، فهذا قد صار ملحاً بلا طعم ؛ هذا أولى بالشفقة أكثر من جميع الناس، فإنه حُرم مما هنا وما نعم بالعطايا الإلهية ، فلم يعرف الأسرار الإلهية في إنسانه الباطن بفعل الروح القدس.
۲ – لأنه من أجل هذا قد تغرب الإنسان عن العالم ، لكي تنتقل نفسه بفكرها إلى عالم آخر ودهر آخر بحسب الرسول : « فإن موطننا نحن هو في السماوات » ( في 3 : 20) ، وأيضا : « إن كئا نسلك على الأرض ، لسنا حسب الجسد نُحارب» ( ۲ کو 3:10 – حسب ا النص ) . فينبغي إذا لمن يهجر هذا العالم أن يؤمن بثبات أنه لا بد له أن ينتقل بفكره منذ الآن إلى دهر آخر بالروح القدس ، وهناك يستوطن ويتنعم ويتمتع بالخبرات الروحية ويولد إنسانه الباطن من الروح ، كما قال الرب: « الذي يؤمن بي قد انتقل من الموت إلى الحياة » ( قا : يو 5 : 24) . فثمة موت آخر بخلاف الموت الظاهر ، وحياة أخرى بخلاف الظاهرة ، لأن الكتاب يقول إن « المُتنعمة قد ماتت وهي حية » ( 1تي 5: 6 ) ، و « دعوا الموتى يدفنون موتاهم » ( مت 8 : 22 ؛ لو 9: 60 – حسب النص ) ، « لأنه ليس الأموات سیُسبحونك یا رب ، بل نحن الأحياء سنباركك » ( مز 113 : 25 ، 26 س ) .
3 – فكما أن الشمس حينما تشرق على الأرض تكون بكليتها في الأرض ، لكن عند غروبها تُلملم كل أشعتها ذاهبة إلى مقرها ؛ هكذا أيضا النفس التي لم تولد ثانية من فوق من الروح القدس ، فكلها تكون في الأرض بأفكارها ، وبذهنها تمتد على الأرض حى أقصائها ؛ لكن إن هي حُسبت أهلاً لنيل ولادة الروح السماوية وشركته ، فإنها تجمع كل أفكارها وتأخذها معها وتدخل إلى الرب ، إلى المسكن الذي من السماء غير المصنوع بید ، وتغدو جميع أفكارها سماوية نقية مقدسة مرتفعة إلى أجواء إلهية . لأن النفس متى أُنقذت من الظلمة ومن رئيس الشر ومن روح العالم ، فإنها تجد أفكارها نقية وإلهية ، لأن الله سُر أن يجعل الإنسان « شريك الطبيعة الإلهية»[2].
[ب] الله يتخذ الإنسان مسكناً له
4 – فإن كنت تعتزل كل أمور الحياة وتواظب على صلاتك ، أفلن تعتبر بالحري هذا العناء مملوءاً راحة ، وتحب هذا الضيق والتعب اليسير مُفعماً فرحاً وارتياحاً عظيماً جداً؟ لأنه إن كان جسدك ونفسك كلاهما يفنيان كل ساعة مدى عمرك كله في سبيل مثل هذه الخيرات ، فماذا عساه يكون هذا إزاءها ؟ فيا لشفقة الله التي لا يُنطق بها ! إنه يهب ذاته مجاناً للمؤمنين به ليرثوه هو الإله في أمد قصير ، فيسكن الله في جسد الإنسان ، ويكون الإنسان مسكناً صالحاً للرب! فكما أن الله خلق السماء والأرض مسكناً للإنسان ، هكذا أيضا خلق جسد الإنسان ونفسه بيتاً خاصاً له ليسكن ويستريح في الجسد كما في بيته الخاص ، وتكون له النفس المحبوبة عروساً جميلة مخلوقة على صورته ، فإن الرسول يقول : « لأني خطبتكم لرجل واحد ، لأقدم عذراء عفيقة للمسيح » ( 2 کو 11 : 2 ) ، وأيضاً: « بيته نحن » ( عب 3 : 6 ) . فكما أن الرجل يكنز في بيته باجتهاد جميع الخيرات ، هكذا الرب أيضاً في بيته – أي في النفس والجسد – يخزن ويكنز الغنى السماوي الذي للروح القدس . فلا الحكماء بحكمتهم ولا الفهماء بفهمهم استطاعوا أن يدركوا رقة النفس أو يتكلموا عنها كما هي ، بل فقط الذين بالروح القدس يُستعلن لهم إدراكها وتنكشف لهم معرفتها التامة . لكن تأمل ههنا وميّز وافهم كيف ذلك ، وانصت ! هو إله ، وهي ليست إلهاً ؛ هو رب ، وهي عبدة ؛ هو خالق ، وهي خليقة ؛ هو صانع ، وهي مصنوعة ؛ فليس من شيء مشترك بين طبيعته وطبيعتها . لكن من أجل محبته وشفقته التي لا تُحد والتي لا يُنطق بها والتي لا تُعقل ، سر أن يسكن في صنع يديه وخليقته العاقلة وصنيعه الكريم الأثير ، كما يقول الكتاب : « لكي نكون باكورة من خلائقه » ( یع ۱۸:۱ ) ، لأجل حكمته والشركة معه ، لكي نكون مسكنه الخاص وعروسه الخاصة الكريمة التقنية!
5- فإذ قد وُضعت لنا مثل هذه الخيرات ووُعدنا بمثل هذه المواعيد وصارت للرب من نحونا مثل هذه المسرة ، فلا نهملن ، يا أولادي ، ولا نتباطأ عن السعي الحثيث صوب الحياة الأبدية ، وعن تسليم ذواتنا بالتمام لمرضاة الرب . فلنتضرع إذا إلى الرب لكي يعتقنا بقوة لاهوته من سجن ظلمة « أهواء الهوان»[3] ، ويُنصف صورته الخاصة وجبلته ويجعلها تشرق فينا ، ويُصيّر النفس صحيحة نقية ، وهكذا نؤهَّل لشركة الروح القدس، ممجدين الآب والابن والروح القدس ، إلى الدهور ، آمین .
- مز 16 :15 س : « أما أنا فبالبر أظهر لوجهك ، أشبع حينما يظهر مجدك » ، وقد وردت الآية في البيروتية عن العبرية هكذا : « أما أنا فبالبر أنظر وجهك ، أشبع إذا استيقظت بشبهك »
- انظر : ۲ يط 4:1 .
- رو 1: 26.
- من كتاب العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
- لقراءة العظات كاملة في مقالات منفصلة إضغط هنا – العظات الخمسون للقديس أنبا مقار