العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

استنارة عيون القلب

‏العظة الرابعة عشرة من العظات الخمسون

[في أن الذين يُسلمون أفكارهم وعقلهم لله ، إنما يفعلون هذا على رجاء استنارة عيون قلوبهم ، وأن الله يؤهل أمثال هؤلاء لاسراره في قداسة وطهارة عظيمتين جداً ، ويمنحهم من نعمته . وما الذي ينبغي لنا أن نعمله إن كنا نريد نيل الخيرات السماوية . وفي أن الرسل والأنبياء يشبهون باشعة الشمس النافذة عبر طاقة . تعلم العظة كذلك عما هي أرض الشيطان ، وما هي أرض الملائكة ، وأن كلتيهما لا تُلمسان ولا تُريان ] 

[أ] الصلاة على رجاء استنارة عيون

1- إن جميع الأعمال المنظورة في العالم إنما تتم على رجاء ، لأجل الاشتراك في ثمر أتعابها ، وإن كان أحد لن ينال بكل يقين ثمر أتعابه فلن ينتفع شيئاً. فإن الفلاح أيضا يبذر على رجاء الثمار ويحتمل الأتعاب لأجل هذا الانتظار ، والحراث – كما قيل – « يحرث على رجاء » ( 1کو9: 10 ) ، والذي يتخذ امرأة يتخذها على رجاء أن يكون له ورثة ، والتاجر يُسلم نفسه للبحر ويتهدده الموت لأجل الربح ؛ هكذا أيضا في ملكوت السماوات : فإن الإنسان يُسلم ذاته على رجاء أن تستنير عيون قلبه[1] ، مُعرضاً عن أمور هذه الحياة ، ومتوافراً على الصلوات والطلبات ، ومنتظراً الرب متى يجيء ويُظهر له ذاته[انظر يو14: 21] ويطهره من الخطيئة الساكنة فيه[انظر رو7: 17 ، 20].

2 – غير أنه لا يتكل على أتعابه وسيرته إلى أن يحظى بما يترجاه – إلى أن يأتي الرب ويسكن فيه بكل حسّ الروح القدس وفعله . وعندما يتذوق حلاوة الرب ، ويتلذ بثمر الروح[انظرغل5: 22، 23] ، ويرفع عنه برقع الظلمة[2] ، ويُشرق عليه نور المسيح ويعمل فيه بفرح لا يُنطق به ، حينئذ يكون له اليقين الكامل ، حائزاً الرب معه في ودٍ شدید ، مثله مثل ذاك التاجر الذي يفرح إذا ما ربح . إلا أنه ما ينفك قائماً في صف الجهاد خشية اللصوص وأرواح الشر ، لئلا إذا ما تراخي يضيع ثمر تعبه ، وذلك إلى أن يُقبل في ملكوت السماوات ، في أورشليم العليا[انظر غل3: 27]

3 – فلنبتهل إذاً نحن أيضا إلى الله گیما يخلع عنَّا الإنسان العتيق ويُلبسنا منذ الآن الإنسان السماوي – المسيح[انظر 1كو15: 49] ، حتَّی إذا ما صرنا في بهجة الروح واقتدنا هكذا بواسطته ، نكون في سكينة عظيمة . فالرب ، إذ يريد أن يملأنا بمذاقة الملكوت ، يقول : « بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً» ( يو15: 5 ) ، وهو يعرف أنه سينير كثيرين بواسطة رسله . فالرسل رغم کونهم خلائق ، إلا أنهم كانوا يُهذبون العبيد نظراءهم بالكلمة السماوية، وكانوا يُعيدون إلى الحياة الأذهان التي كانت قد ماتت وفسدت ، ويقيمونها ثانية بواسطة سلوكهم الحسن وتعليمهم . لأن الخلائق يُنمي أحدها الآخر ويحييه ، كما تفعل السحب – وما هي إلا مخلوقات – ببذار الحنطة والشعير ، وكذا المطر والشمس يحييان ما يؤمران به . وكما أن النور ينفذ عبر گوة ، بينما تنشر الشمس أشعتها على كل المسكونة ؛ هكذا الأنبياء كانوا أنواراً لبيتهم الخاص وحده – بيت إسرائيل ، أما الرسل فكانوا شموساً تنير بأشعتها كل أرجاء العالم . 

[ب] المسيحيون يحيون بالروح القدس 

4 – فهناك “أرض” تسكن فيها الدواب ، وهناك  “أرض” في الهواء حيث تسلك الطيور وتعيش ، فإذا ما أرادت أن تحط على الأرض وتمشي عليها فسوف يوجد لها الصيادون الذين يقتنصونها ؛ وهناك كذلك “أرض” الأسماك ، أي ماء البحر . ففي الموضع الذي يولد فيه كل كائن ، إن أرضاً أو هواء ، فهناك يكون مُقامه وغذاؤه وراحته . هكذا هناك “أرض” ووطن للشيطان ، حيث تعيش قوات الظلمة وأرواح الشر وتجول وتستريح ؛ وهناك كذلك “أرض” اللاهوت المنيرة ، حيث تمشي جيوش[3] الملائكة والأرواح القديسة وتستريح . ولا سبيل إلى لمس تلك الأرض المظلمة ولا إلى رؤيتها بهاتين العينين ، وكذا أرض اللاهوت النورانية لا تُلمس ولا تُرى بالعينين الجسديتين ، إنما كل منهما – الأرض الشيطانية التي للظلمة ، والأرض المنيرة التي للاهوت – تظهر للروحانيين بواسطة عين القلب .

5- كما أن أسطورة يرددها الذين من خارج[4] مفادها أن ثمة جبالاً نارية حيث النار متقدة هناك ، وفيها حيوانات أشبه بالخراف ، فالذين  يصطادوها يصنعون عجلات حديدة ويلقون صنارات ويطرحوها في النار ، إذ إن النار هي مأكل لتلك الحيوانات ومشرب وراحة ونمو وحياة ، فالنار لها هي عوض كل شيء ، فإذا ما أخرجتها إلى وسط آخر تهلك ، وحين تتسخ فروها لا تغسلها في الماء بل في النار فتصير أكثر نقاوة وأشد بياضاً؛ هكذا المسيحيون أيضا : فإنهم يقتنون تلك النار السماوية مأكلاً ، فتصبح هي راحة لهم ، وتطهر قلوبهم وتغسلها وتقدسها ، وتدفعهم إلى النمو ، وتغدو لهم وسطاً يتنسمون فيه وحياة ؛ أما إذا خرجوا من هناك فإنهم يهلكون بفعل الأرواح الشريرة مثلما تموت تلك الحيوانات إذا ما خرجت من النار ، والسمك إذا ما خرج من المياه . فكما أن الحيوانات ذوات الأربع التي تُلقى في البحر تختنق ، وكما أن الطيور التي تتمشى على الأرض تُقتنص من الصيادين ؛ هكذا النفس التي لا تثبت في تلك الأرض تختنق وتهلك . فما لم تقتني النفس تلك النار الإلهية طعاماً وشراباً وثياباً وتطهيراً للقلب وتقديساً للنفس ، فإنها تُمسك من الأرواح الشريرة وتهلك . أما نحن فلنفحص باجتهاد ما إن كنا قد زرعنا في تلك الأرض غير المنظورة وغرسنا في الكرمة السماوية . والمجد لرأفاته ، آمین. 


    1. ورد تعبير ” استنارة عيون القلب” في أف1: 18 ( القلب وليس الذهن ، طبقا لأقدم المخطوطات ، وهكذا وردت في الترجمة القبطية؛ راجع أيضا لحن ختام العظة الذي يقال في أسبوع الفصح )
    2. هذا التعبير  برقع الظلمة نجده في خطاب أنبا مقار الأخير لأولاده : ( اكشفوا عن وجوهكم برفع الظلمة الذي يمنعكم عن أن تبصروا حلاوة محبة الإخوة …. ) ، بل والأكثر من هذا أنه وقف على أنبا مقار دون غيره ، فبالبحث في مجموعة TLG نجده قد ورد في العظات الخمسين هذه أربع مرات ( العظات 14 : 2 ، 28: 4 ، 3:42، ؛ 46 : 4 ) ، وفي باقي العظات المنسوبة له اثنتي عشرة مرة ، وخارجاً عن كتاباته لم يرد عند أي من الكتاب الذين كتبوا باليونانية ، مسيحيين كانوا أم وثنيين. 
    3.  وردت هذه الكلمة παρεμβολὴ في الكتاب المقدس بمعنى ” جيش ” ( عب11: 34 ) وكذلك استخدمت لوصف مكان تجمع القديسين ( معسكرهم ) في رؤ 9:20 ؛ وهي ذاتها التي أُطلقت على المكان الذي كان يعسكر فيه بنو إسرائيل بخيامهم والمعروف لدينا ب ” المحلة ” ( انظر : عب 11:13 ، 11 ).
    4.   أي غير المؤمنين – انظر : 1کو 5 :12 ؛ 1تي 3 :7 

زر الذهاب إلى الأعلى