تأملات في سفر ميخا 6 – أ. بولين تادري

عتاب الله لشعبه:

“اسمعوا ما قاله الرب:قُم خاصم لدى الجبال ولتسمع التلال صوتك اسمعي خصومة الرب أيتها الجبال ويا أُسس الأرض الدائمة فإن للرب خُصومة مع شعبه وهو يُحاكم إسرائيل. يا شعبي، ماذا صنعت بك وبماذا أضجرتك؟ اشهد على إني أصعدتك من أرض مصر، وفككتك من بيت العبودية وأرسلت أمامك موسى وهارون ومريم يا شعبي اذكر بماذا تآمر بالاق ملك موآب وبماذا أجابه بلعام بن بعور، مِن شِطيم إلى الجلجال لكي تعرف إجادة الرب” (مى 6: 1- 5).

إن الرب في هذه الآيات، وهو يُعاتب الشعب، فهو يُشهِد بينه وبينهم الطبيعة (الجبال والتلال)، بل يُشهد الشعب ذاته غلى نفسه، “اشهد أنت على”، واضطر في النهاية أن يُذكٍر الشعب بكل الحسنات التي صنعها معه الرب.

 

أنا أرى في تدرج هذا الحوار، أن الرب وكأنه يترجى شعبه لكي يفيق منْ غفوته ويرجع إلى أحضانه، وهلم نبحث هذه المواقف بالتفصيل:

شهادة الطبيعة: أليست هذه الجبال والتلال التي كانت تُبنى عليها الهياكل، أماكن عبادة الله؟، ولكن الشعب بدًلها بأن جعل عليها معابد للأصنام المصنوعة بالأيدي. وكأن الرب يقول اشهدي أيتها الجبال والتلال على جحود شعبي وضلالهم.

وربما يقصد بالجبال والتلال مظاهر الطبيعة المختلفة، التي كانت من المُفترض أن تساعد شعبه على معرفة الله، كما قال: “السموات تُحدث بمجد الله والفلك يُخبر بعمل يديه” (مز 19:1). فاشهدي أيتها الطبيعة على شعب لم يتعرف منك على الخالق المُبدع.

شهادة الشعب على نفسه: “اشهد على”، لو حاول الإنسان أن يتذكر في حياته عن ” كم صنع الرب بك ورحمك” (مر5: 19). في مواقف كثيرة، لأدرك أن الرب صالح وأمين وصادق، لذلك تجد داود يُرنم قائلًا: “احمدوا الرب لأنه صالح. لأن إلى الأبد رحمته. ليقُل إسرائيل: إن إلى الأبد رحمته. ليقُل بيت هارون: إن إلى الأبد رحمته ليقُل مُتقو الرب: إن إلى الأبد رحمته” (مز 118: 1- 4).

شهادة أعمال الرب مع شعبه: إذا لم يستطع الإنسان أن يتذكر إحسانات الرب معه، فالله يُفكٍره بها، إما عن طريق أناس شاهدين على عمل الله معه، أو عن طريق قصص أولاد الله في الكتاب المقدس، أو…..

هنا الله يُذكره بنفسه: فهو الذي أخرجهم من أرض مصر وعبودية فرعون، إذ قد سمع لأنينهم عندما صرخوا إليه (خر 1- 15).

“أرسلت أمامك موسى وهارون ومريم”. أي أعطيتك أنبياء يقودونك في الطريق، ولم أتركك وحدك. موسى النبي وهارون الكاهن هما رمزًا للسيد المسيح الكاهن والنبي الذي سيفدى شعبه من خطاياهم ويفتح طريق أورشليم السمائية أمام كل المؤمنين باسمه. أما مريم النبية أخت موسى وهارون، فهي ترمز لكنيسة العهد الجديد التي يتحصن بها المؤمنين إلى أن يصلوا إلى ملكوت السموات.

يقول الرب لقد أحسنت إليك وحفظتك، حينما تآمر عليك بالاق ملك موآب، واستدعى عليك بلعام النبي لكي يلعنك حتى يتمكن من النصرة عليك، ولكن أنا الذي جعلت بلعام بن بعور ينطق عليك بالبركة بدلًا من اللعنة (يمكنك قراءة القصة كاملة في (عد 22- 24).

وأنا الذي كنت معك من شطيم (آخر مكان لهم في البرية) والجلجال (أول مكان لهم في أرض الميعاد). وكأنه يُريد أن يقول لهم، كُنت أمينًا معكم طوال ترحالكم في البرية، وحتى وصلتم بأمان إلى أرض الميعاد، الأرض التي تفيض لبنًا وعسلًا. إن أمانة الرب هذه الآن أيضًا كما كانت في القديم، بل أكثر جدًا من القديم: “لأننا ورثة الله ووارثون مع المسيح ” (رو 8: 17).

 

الإنسان ما زال يُخطئ في فهم كيف يُرضى الله:

“بِم أتقدم إلى الرب وأنحني للإله العلي؟ هل أتقدم بمحرقات، بعجول أبناء سنة؟ هل يُسر الرب بألوف الكباش بربوات أنهار زيت؟ هل أُعطى بِكرى عن معصيتي، ثمرة جسدي عن خطية نفسي؟ قد أُخبرك أيها الإنسان ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرب. إلا أنْ تصنع الحق وتُحب الرحمة وتسلك مُتواضعًا مع إلهك (مى 6: 6- 8).

لقد تردد سؤال في قلب الإنسان بعد أن كشف الله له في عتاب رقيق عن مجالات تقصيره. فتساءل الإنسان: بم أتقدم إلى الرب وانحنى للإله العلى؟ فحسنًا عمل الابن الضال حينما راجع نفسه وأدرك أنه أخطأ في حق أبيه وفكر في الرجوع عن خطأه والعودة إلى أحضان أبيه (لو 15: 11- 32). وكما يقول الرب بفم النبي: “ارجعوا إلى فأرجع إليكم” (مل 3:7). وكما قال بطرس الرسول: “لأنكم كنتم كخراف ضالة. لكنكم رجعتم الآن إلى راعى نفوسكم وأسقفها” (1 بط 2: 25). ولكن الحقيقة أن الشعب فكر في تقديم ذبائح كثيرة بالألوف، وربوات أنهار زيت كتقدمة. بل فكر الإنسان أن يُقدم بكره فداء عن نفسه، مع أن الله يكره تقدمة الذبائح البشرية. لقد احتار الإنسان ماذا يُقدم للرب عن خطاياه الكثيرة؟ مع إنهم كانوا يعرفون كلمات صموئيل النبي التي قالها لشاول الملك:”هل مسرة الرب بالمحرقات والذبائح. كما باستماع صوت الرب؟ هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة. والإصغاء أفضل من شحم الكباش” (1صم 15- 22). بل: ” طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار. وفى طريق الخطاة لم يقف. وفى مجلس المستهزئين لم يجلس. بل في ناموس الرب مسرته” (مز 1- 1، 2). ولذلك رد عليهم ميخا قائلا: ” قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح. وماذا يطلبه منك الرب. إلا أن تصنع الرحمة. وتسلك متواضعًا مع الهك”. كما قال السيد المسيح بوضوح: ” تعلموا منى لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت 11: 29).

 

ما يطلبه الرب منا:

-“وأنت فأرجع إلى إلهك. احفظ الرحمة والحق. وانتظر إلهك دائمًا” (هو 12: 6).

-“وهكذا قال رب الجنود:إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس والسابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجًا وفرحًا وأعيادًا طيبة. فأحبوا الحق والسلام” (زك 8: 19). أي الالتزام بالصلوات والأصوام التي تُرتبها الكنيسة تكون مصدر فرح لنا.

-” أخيرًا أيها الإخوة. كُل ما هو حق. كُل ما هو جليل. كُل ما هو عادل. كُل ما هو طاهر. كُل ما هو مُسر. كُل ما صيته حسن. إن كانت فضيلة وإن كان مدح. ففي هذه افتكروا” (فى 4: 8).

-” فارق خطاياك بالبر. وآثامك بالرحمة للمساكين. لعله يُطال اطمئنانك” (دا 4: 27).

-” لأنه هكذا قال العلى المرتفع. ساكن الأبد. القدوس اسمه: في الموضع المرتفع المقدس أسكن. ومع المنسحق والمتواضع الروح. لأُحيى روح المتواضعين. ولأحيى قلب المنسحقين” (أش 57: 15).

 

قرار الرب حيال شعبه:

” صوت الرب يُنادى للمدينة، والحكمة ترى اسمك (اسمعوا للقضيب ومَن رَسَمه أفي بيت الشرير بعد كنوز شر وإيفة ناقصة ملعونة؟ هل أتزكى مع موازين الشر ومع كِيس مَعَايير الغش؟ فإن أغنيائها ملآنون ظُلمًا، وسكانها يتكلمون بالكذب، ولسانهم في فمهم غاش. فأنا قد جعلت جُروحك عديمة الشفاء، مُخربًا مِن أجل خطاياك. أنت تأكل ولا تشبع، وجوعك في جوفك وتُعزل ولا تُنجى، والذي تُنجيه أدفعه إلى السيف أنت تَزرع ولا تَحصد. أنت تَدوس زيتونًا ولا تَدهن بزيت، وَسُلافة ولا تَشرب خمرًا. وتُحفظ فرائض: عمري وجميع أعمال بيت: آخاب، وتسلكون بمشوراتهم، لكي أُسلمك للخراب، وسكانها للصفير، فتحملون عار شعبي” (مى 6: 9- 16).

يبدو أنه بعد هذا العتاب الذي جاء في أول الأصحاح، وبعد أن أعلن الرب عن رغبته في طلب الرحمة والحق والاتضاع. يبدو أن الشعب لم يفعل كما أراد الرب منه، لذلك أكمل النبي أصحاحه بسرد خطايا الشعب صراحة وعقابهم.

يقول النبي“هوذا صوت الرب يُنادى للمدينة”. فحينما يُعاتب الرب في رقة وفى صوت هادئ، ولا تسمع النفس، فإن الرب يضطر إلى أن يُنادى على الملأ. فسيأتي وقت تُعلن فيه خطايانا على الملأ أمام الكل، لو لم نفحص أنفسنا الآن ونُقر بخطايان.

-“الحكمة ترى اسمك”. صوت الرب يُنادى مَنْ عنده حكمة ويطلب الرب، لأنه: “بدء الحكمة مخافة الرب. ومعرفة القدوس فهم” (أم 9: 10).

-“اسمعوا للقضيب ومنْ رسمه”. القضيب هو الرب يسوع المسيح، فهكذا تنبأ يعقوب أب الآباء عن الرب يسوع الذي سوف يأتي من نسل يهوذا، قائلًا: “لا يزول قضيب من يهوذا ومُشترع بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع الشعوب” (تك 49: 10). وهكذا تنبأ بلعام بن بعور قائلًا: ” أراه ولكن ليس الآن. أُبصره ولكن ليس قريبًا. يبرز كوكب من يعقوب. ويقوم قضيب من إسرائيل. فيُحطم طرفي موآب. ويهلك كل بنى الوغى” (عد 24- 17). ويقول أشعياء النبي أيضًا: ” ويخرج قضيب من جزع يسى. ويثبت غصن من أصُوله. ويحل عليه روح الرب. روح الحكمة والفهم. روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب” (أش 11: -1).

أى أن مَنْ سيُدين الجميع في النهاية هو الرب يسوع ذاته الذي سوف يجمع الخراف عن يمينه ويدخل بهم ملكوت السموات، ويجمع الجداء عن يساره حيث يذهبون إلى الجحيم والنار الأبدية. (مت 13: 24- 30، 36- 43).

 

أما عن خطايا الشعب فكانت:

-” في بيت الشرير كنوز شر”. أي أن الشرير جَمع ثروته من طريق شرير.

-” إيفة ناقصة ملعونة”. أي كانوا يُكيلون بمكيال ناقص ويبيعونه للفقراء.

-” موازين الشر وكيس معايير الشر”. أي مجموعة أوزان مغشوشة.

أغنياؤهم ظالمين وكذابين وغشاشين.

 

أما عن العقاب فكان:

-“جروحه تكون عديمة الشفاء”، لأنه قد قسى قلبه.

“الخراب سوف يحل عليه”، بسبب إصراره على الخطية.

“يأكل ولا يشبع”، أي لا يشعر بالخير الذي بين يديه.

“جوعك في جوفك”. أي أن النكبات تأتى من داخلك، وليس من أعداء خارجين، فالشرير تخرج من داخله الشرور: الكذب، الحسد، الغيرة، الظلم……

-“يُحاول أن ينجو بنفسه” من شر أعماله، ولكن الرب يُسيج حوله حيث لا يجد نجاة، بل يدفعه إلى السيف لعله يرتدع ويتوب.

يُسيج الرب حولهم في الإثم فيتبعون أعمال آخاب الملك الشرير. كما يقول بولس الرسول: ” وكما لم يستحسنوا أن يُبقوا الله في معرفتهم. أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق….. وكما لم يستحسنوا أن يُبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق مملوئين من كل إثم وزنًا وشر وطمع وخُبث مشحونين حسدًا وقتلًا وخِصامًا ومكرًا وسوءًا نمامين مُفترين، مبغضين لله ثالبين مُتعظمين مُدعين مبتدعين شرورًا، غير طائعين للوالدين بلا فهم ولا عهد ولا حُنُو ولا رِضى ولا رحمة. الذين إذ عَرفوا حُكم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستجوبون الموت، لا يفعلونها فقط، بل أيضاَ يُسرون بالذين يَعملون ” (رو 1: 28- 32).

وكما قال المرنم: “قال الجاهل في قلبه: (ليس إله). فسدوا ورجوا بأفعالهم. ليس منْ يعمل صلاحًا. الرب من السماء أشرف على بنى البشر. لينظر: هل مِنْ فاهم طالب الله؟” (مز 14: 1، 2).

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى