تفسير سفر الملوك الأول 5 للقمص تادرس يعقوب ملطي
الإعداد لبناء الهيكل
كان أمام سليمان الحكيم عمل غاية في الأهميَّة وهو بناء هيكل الرب. الأمر الذي اشتهاه والده ولم يُسمح له به، بل نال وعدًا إلهيًا أن يتمِّمه ابنه الخارج من صلبه. اتَّسم سليمان بالحكمة مع الغنى فتهيَّأ للعمل. وكان والده قد أعد له الكثير من الذهب والفضَّة كما هيأ المناخ السياسي للقيام بهذه المهمَّة. بقي أن يُحضر سليمان الخشب والحجارة والأيدي الفنيَّة العاملة، الأمر الذي استلزم أن يدخل في معاهدة مع حيرام ملك صور لتحقيقه.
كان سليمان رمزًا للسيِّد المسيح الذي قيل عنه: “هوذا الرجل الغصن اسمه، ومن مكانه ينبت، ويبني هيكل الرب، فهو يبني هيكل الرب، وهو يحمل الجلال ويجلس ويتسلَّط على كرسيه، ويكون كاهنًا على كرسيه” (زك 6: 12-13).
1. تهنئة من ملك صور |
[1]. |
|
2. حوار مع حيرام |
[2 –6]. |
|
3. معاهدة مع حيرام |
[7 –9]. |
|
4. سير العمل |
[10 –18]. |
|
من وحي 1 ملوك 5 |
1. تهنئة من ملك صور:
“وأرسل حيرام ملك صور عبيده إلى سليمان،
لأنَّه سمع أنَّهم مسحوه ملكًا مكان أبيه،
لأن حيرام كان محبًا لداود كل الأيام” [1].
يخبرنا المؤرِّخ يوسيفوس أن الرسائل المتبادلة بين حيرام وسليمان كانت محفوظة في أرشيف بمدينة صور حتى أيامه.
كانت صور مدينة لها شهرتها التجاريَّة، ملاصقة للبحر، على حدود إسرائيل. يبدو أن سكَّانها كتجَّار كانوا يميلون إلى السلم، فلم يدخلوا في عداوة مع إسرائيل. أمَّا ملكها حيرام فكان معجبًا بشخصيَّة داود النبي الملك، وكان محبًا له على الدوام. يرى البعض أنَّه قد تأثَّر به فعبد الله الحيّ ورذل الأوثان.
إذ مات داود بعث بإرساليَّة من الأمراء وكبار رجال الدولة لتعزية سليمان، وتهنئته على تولِّيه العرش، وتجديد العهد معه. لقد أراد أن يعيش في سلم وحب مع ملك إسرائيل.
يرى البعض أن حيرام المذكور هنا هو ابن حيرام صديق داود النبي (2 صم 5: 11)، والذي أرسل إليه خشب الأرز ونجَّارين وبنَّائين وبنى له بيتًا، غالبًا في بداية مُلك داود.
يقدِّم لنا سليمان العظيم في مملكته كيف يتعامل بكل حب وتقدير وحكمة مع من هو أقل منه. فلم يستغل مركزه في حواره مع ملك صور، ولا استخف به، بل حاوره بكل وقار كنِدٍّ لنِدٍّ، وبروح التواضع طلب مساندته كمن هو محتاج إليه وإلى خبرة شعبه.
2. حوار مع حيرام:
“فأرسل سليمان إلى حيرام يقول:
أنت تعلم داود أبي أنَّه لم يستطع أن يبني بيتًا لاسم الرب إلهه
بسبب الحروب التي أحاطت به،
حتى جعلهم الرب تحت بطن قدميه” [2-3].
بقوله أنَّه يعلم بأن والده داود لم يقدر أن يبني الهيكل واضح أن داود كان مشغولًا بهذا الأمر لفترة طويلة، وأنه ناقش الأمر مقدَّمًا مع حيرام. هذا يتَّفق مع ما ورد في (1 أي 12: 4).
واضح أن حيرام كان صديقًا حميمًا لداود الذي لم يخفِ عنه أنَّه كان يشتهي أن يبني بيتًا للرب إلهه. وأن داود قد أخبره بأن الله لم يسمح له بذلك، لأنَّه كان رجل حرب. مع أنَّه كان يحارب بسماحٍ من الرب ولحساب شعبه، لكنَّه لم يكن يصلح لبناء بيت الرب. فإن مثل هذا العمل يحتاج إلى تفرُّغٍ كاملٍ، فلم يكن لدى داود الوقت ولا تركيز الفكر للبناء، بينما لم تكن دولته قد استقرت بعد.
“والآن فقد أراحني الرب إلهي من كل الجهات فلا يوجد خصم ولا حادثة شر” [4].
الكلمة العبريَّة المترجمة “خصم” هي saataan” أي “شيطان”. وكأن الله قد أراحه من العدو الخارجي وأيضًا الداخلي حتى يتفرغ للبناء.
حقًا جاء سليمان، رجل السلام، يتفرغ بوقته وإمكانياته وقدراته وحكمته لهذا العمل. ونحن أيضًا لا نكف عن أن نصلي بلا انقطاع لكي يهبنا الله السلام كفرصة لتكريس طاقاتنا لبناء بيت الرب في كل قلب. إن الصراع خاصة داخل الكنيسة يحرمنا من التفرغ للبناء الإيجابي.
“وهانذا قائل على بناء بيت لاسم الرب إلهي،
كما كلم الرب داود أبي قائلًا:
إن ابنك الذي أجعله مكانك على كرسيك هو يبني البيت لاسمي” [5].
يرى العلامة أوريجينوس أن سليمان الذي معناه “سلام” رمز للسيِّد المسيح. فقد بنى الهيكل بعد أن انتهت الحروب وحلت فترة سلام. تحققت النبوة عن إنشاء الهيكل بالمسيح الذي يقول: “مع مبغضي السلام كنت صاحب سلام” (مز 120:7). يقيم هيكله بالحجارة الحيَّة التي تقام عليه بكونه أساس الهيكل. لكل أحد منا له موضعه في الهيكل كبناء حي(44).
* استخدم أثمن مواد البناء، استورد أغلبها، مثل الأرز من لبنان [6]؛ والحجارة المنحوتة المربعة الكبيرة لتأسيس البيت، نحتها بناءو سليمان وبناءو حيرام والجبليون (15-18)، وخشب الزيتون (6: 20-22)، وخشب السرو (6: 34)، وذهب خالص (6: 22)، والنحاس (7: 13-47).
* أرسل له حيرام ملك صور مواد للبناء ورجالًا للعمل (5: 16؛ 9: 11)، وقدم له سليمان 20 مدينة (9: 11).
* كان العاملون في البناء 30000 عاملًا، 150000 عاملين في الحجارة، 3300 رئيسًا للعمال.
* غشى البيت كله بالذهب (6: 22).
* جميع حيطان البيت رسمها نقشًا بنقرٍ كروبيم ونخيل وبراعم زهور من داخل ومن خارج (6: 29).
* بالنسبة للآنيَّة النحاسيَّة “ترك سليمان وزن جميع الآنيَّة لأنَّها كثيرة جدًا جدًا؛ لم يتحقق وزن النحاس” (7: 47).
* استمر العمل في البناء مدة سبع سنوات بغير توقف (6: 37-38).
أراد سليمان بلا شك أن يقدِّم أثمن ما لديه، وأجمل فن لمجد الله. غير أن الله أكَّد له أن ما يشغله هو بناء الهيكل الداخلي في النفس، بالطاعة للوصيَّة (6: 11-12). إنَّه يريد لا أن يسكن في بيوت من صنع البشر بل أولًا أن يسكن في البشر أنفسهم فيقبل ما يقدِّمونه له (8: 27؛ 1 كو 6: 19-20).
“والآن فأمر أن يقطعوا لي أرزًا من لبنان،
ويكون عبيدي مع عبيدك،
وأجرة عبيدك أعطيك إياها حسب كل ما تقول،
لأنك تعلم أنَّه ليس بيننا أحد يعرف قطع الخشب مثل الصيدونيين” [6].
كان لشجر الأرز أهميَّة خاصة لجمال خشبه ومرارته الشديدة التي تمنع الحشرات والديدان من أن تفسده بسرعة.
الكلمة العبريَّة التي تترجم هنا “أرز” يبدو أنَّها تستخدم ليس فقط عن أشجار الأرز، بل وعن كل الأشجار التي يُستخدم خشبها للبناء مثل العرعر.
يتحدث الكتاب المقدَّس عن أرز لبنان بصفة خاصة بكونه زرع الرب (مز 109: 16) لاستخدامه في بناء هيكله.
لقد طلب سليمان من حيرام الانتفاع بمهارة شعبه وخبرتهم في قطع أشجار الأرز ونقلها بحرًا، فهم كأصحاب أسطول بحري تمتعوا بهذه الخبرة.
كان لشعب إسرائيل خبرته فيما يخص العبادة والحياة المقدَّسة في الرب، أمَّا الصيدونيون فأصحاب خبرة في الخشب والنقل البحري. لم يتجاهل سليمان هذه الخبرة، بل بحكمة عرف كيف يوجهها لتعمل في تناسق مع خبرة شعبه الروحيَّة. فإن القائد الناجح يعرف كيف يوجه كل الطاقات والمواهب، ليس فقط الروحيَّة بل والأمور الزمنيَّة، ليعمل الكل معًا في تناسق ولحساب ملكوت الله.
“وأجرة عبيدك أعطيك إياها حسب ما تقول“، فإنَّه لا يُبني هيكل الرب بروح الظلم. لا يقبل أن يُبني ما هو للرب بغير فكر الرب المهتم بالأجراء المحتاجين. كم يتعثّر كثيرون حينما يستغل بعض قادة الكنيسة الآخرين، حتى وإن كان للعمل لحساب الكنيسة.
يحل اسم الرب على الهيكل ويسكن فيه، وكأن “اسم” الرب هنا يعني “الإعلان عن طبيعته بطريقة منظورة تعبر عن حضرته الإلهيَّة”.
“الصيدونيون” يعني بهم الفينيقيين بوجه عام، حيث أن صيدا كانت أقوى من صور، والمنطقة التي بها أرز في لبنان كانت تابعة لصيدا. كان سكَّان صيدا مهرة في البناء والفنون.
يبدو أنَّه كان للصيدونيين ملكهم، تحت رئاسة صور.
لعل استخدام الصيدونيين، أبناء الغرباء، في تهيئة الخشب والحجارة لبناء الهيكل كان رمزًا لقيام قادة كنسيين من الأمميين لبناء بيت الرب الروحي الأبدي.
كان العمل أكبر من أن يقوم به العمال الفينيقيّون وحدهم، لذلك كانت هناك حاجة إلى تقسيم العمل بين الفينيقيين والإسرائيليين. يقول المؤرِّخ يوسيفوس اليهودي: [أنتم تعرفون أنَّه لا يوجد بيننا من له مهارة في قطع الخشب مثل الصيدونيين(45)]. قطع الأشجار وتهيئة الأخشاب لاستخدامها في البناء يحتاج إلى خبرات خاصة لم يكن الإسرائيليون قد عرفوها أو تدربوا عليها. من هذه الخبرات:
* اختيار الوقت المناسب للقطع، حيث كان يُفضل القطع في الخريف أو الشتاء، حيث لا يكون الساق به نسبة عاليَّة من الرطوبة كما في الربيع والصيف.
* لا تُقطع الأشجار دفعة واحدة، بل يقطع حول الساق وتترك قليلًا حتى تجف، بعد ذلك تقطع بالكامل.
* تترك ثلاثة سنوات قبل استخدامها في الأرضيات والأبواب والنوافذ. هكذا كان يليق بهم وهم يعدّون الخشب لبناء هيكل الرب، مع أهميَّة العمل العظيم، إىَّ يتسرعوا، فإنَّه غالبًا إذ نمارسه بعجلة لا ينفع شيئًا.
يشهد المؤرِّخون القدامى عن مهارة الصيدونيين. يقول هوميروس: [بإن الكؤوس الكبيرة التي كان اليونانيين يشربون بها الخمر هي من صناعة صيدا. كما يقول بأن نساء صيدا كن يصنعن الثياب المطرزة الجميلة التي كانت السيِّدات اليونانيات يفتخرن بها]. وقال هيرودوت Herodotus: [إن أهل صور وصيدا كانوا الأولين في علم سير السفن]. ويقول سترابو: [إن الصيدونيين امتازوا بالرياضيات والفلك والفلسفة والصنائع].
3. معاهدة مع حيرام:
“فلما سمع حيرام كلام سليمان فرح جدًا وقال:
مبارك اليوم الرب الذي أعطي داود ابنًا حكيمًا على هذا الشعب الكثير” [7]
فرح حيرام كرجل متدين باقتراح سليمان أنَّه يساهم في هذا العمل بطريق أو آخر. فرح أن يرى لصديقه الحميم داود مثل هذا الابن الصالح الحكيم (ملا 2: 15)، فبالحب لم يدخل الحسد أو الغيرة إلى قلبه، وإنما على العكس فرح بنجاح أخيه.
كان من صالح حيرام وجود علاقات طيبة مع إسرائيل لأجل السلام ومن أجل التجارة، إذ كان الفينيقيون تجارًا.
واضح من سلوك حيرام أنَّه يتعبد لله الحقيقي. يرى البعض أن تمجيد حيرام لله إله إسرائيل لا يعني عدم عبادته للأوثان، وإنما هو اعتراف بأنه إله حقيقي مثل سائر آلهته. في (2 أي 2: 11) اعترف حيرام بأن يهوه هو خالق السماء والأرض، لكن هذا لا يعني دخوله في علاقات شخصيَّة معه. فقد كان من عادة الوثنيين أنَّهم يؤمنون بأن لكل بلدٍ إلهه، وأنه يليق أن يحترم كل شخص إله البلاد الأخرى.
“وأرسل حيرام إلى سليمان قائلًا:
قد سمعت ما أرسلت به إليّ.
أنا أفعل كل مسرتك في خشب الأرز وخشب السرو” [8].
غابات لبنان بالقرب من البحر كانت في أيام سليمان تبع الفينيقيين، غير أن البعض يرون بأن أشجار الأرز المذكورة هنا كانت في أرض إسرائيل، وكان سليمان في حاجة إلى الأيدي العاملة ذات الخبرة.
“عبيدي ينزلون ذلك من لبنان إلى البحر،
وأنا أجعله أرماثا في البحر إلى الموضع الذي تعرفني عنه،
وانفضه هناك،
وأنت تحمله،
وأنت تعمل مرضاتي بإعطائك طعامًا لبيتي” [9].
لا يقوم رجال حيرام فقط بقطع الأشجار بطريقة فنيَّة، وإنما بخبرتهم يلقون به على المياه ويبعثون به إلى يافا Joppa مقابل أورشليم على بعد حوالي 25 ميلًا.
4. سير العمل:
“فكان حيرام يعطي سليمان خشب أرز وخشب سرو حسب كل مسرته.
وأعطي سليمان حيرام عشرين ألف كر حنطة طعامًا لبيته وعشرين كر زيت رض،
هكذا كان سليمان يعطي حيرام سنة فسنة” [10-11].
كان الإسرائيليون محتاجين إلى مهارة الصيدونيين، وكان الصيدونيون محتاجين إلى غلال الإسرائيليين وزيتهم (حز 27: 17، 2 أي 2: 3). لا يوجد إنسان مكتفٍ بذاته، إذ كل شخص محتاج إلى أخيه. وكل دولة في حاجة إلى الدول الأخرى.
زيت الرض يُستخرج من الزيتون بالرض ليكون نقيًّا خالصًا من الشوائب لا كالزيت الذي يُستخرج بالطحن، لأن ذلك لا يخلو من الأدران.
هنا نجد تنفيذ الاتفاقيَّة المبرمة بين الملكين سليمان وحيرام، كل منهما قام بدوره على خير وجه.
* سلم حيرام الملك سليمان الخشب مقايضة. غالبًا ما كانت الأشجار ملك سليمان، لكن مرتبات الأيدي الفنيَّة العاملة كانت أكثر تكلفة من ثمن الأشجار.
* بعث سليمان قمحًا وزيتًا إلى حيرام حسب وعده له [11] لبيت الملك، أمَّا العمال فكانوا يأكلون في مواقع العمل.
“والرب أعطي سليمان حكمة كما كلمه،
وكان صلح بين حيرام وسليمان وقطعا كلاهما عهدًا” [12].
أعطى الرب سليمان حكمة ونعمة ليُقيم صداقة مع حيرام، فأحب حيرام سليمان، فتشجع الاثنان على حفظ علاقات الود المتبادلة ألاَّ يفسدها شيء. هكذا ارتبط الاثنان معًا خلال التصرفات العادلة وعدم الاستغلال مع إبراز جوانب الصداقة والحب خلال تدخل الله الذي وهب سليمان الحكمة.
يقول يوسيفوس المؤرَّخ إن الاتفاقيَّة بين سليمان وحيرام وُجدت في أرشيف كل من إسرائيل وصور. لم يذكر شيء عما إذا كان هذا الاتفاق قد تُرجم. فإن الرأي السائد أن الكنعانيين والصوريين وأيضًا سكَّان قرطاجنة كانوا يجيدون اللسان العبراني أو على الأقل لغة مشتقة من العبريَّة.
أظهر سليمان حكمته ليس فقط في معاملاته مع الخارج بل وفي استخدام طاقات شعبه للعمل.
“وسخر الملك سليمان من جميع إسرائيل، وكانت السخرة ثلاثين ألف رجل.
فأرسلهم إلى لبنان عشرة آلاف في الشهر بالنوبة،
يكونون شهرًا في لبنان وشهرين في بيوتهم،
وكان أدونيرام على التسخير” [13-14].
يميز بين الجزية التي يلتزم بها الكنعانيون كعبيد (5: 15؛ 9: 20) وبين التزام العمال الإسرائيليين بالعمل، فإن الإسرائيليين يعملون 4 أشهر فقط في السنة. يعملون شهرًا ويعودون إلى منازلهم لمدة شهرين.
مع أن قلب سليمان كان ملتهبًا بالغيرة لسرعة بناء الهيكل، لكنَّه حرص في البداية ألا يثقل على العمال حتى لا يفقدوا سلامهم الداخلي وراحتهم الجسديَّة. يرى البعض أن سليمان كان حريصًا على وحدة الأسرة والحفاظ على سلامتها، لهذا لم يكن يسمح للعامل أن يغيب عن أسرته أكثر من شهرين. بعد الشهر يلتزم العامل بالعودة إلى بيته ليعيش لمدة شهرين مع أسرته، فلا تشعر الزوجة والأولاد بالفراغ.
قام سليمان بتشغيل ثلاثين ألفًا من الإسرائيليين، بحيث يعمل كل شخص منهم لمدة شهر يليها شهران في راحة. لم يُحسب هذا تسخيرًا، ولا عبوديَّة. فقد كان ما يشغل قلب سليمان هو أن يعيش شعبه بروح الحريَّة فخرج منهم رجال قتال وأمراء، وقادة مدنيون وعسكريون.
عندما عاد سيزوستريس ملك مصر من حروبه بنى معابد كثيرة في كل مدن مصر، لم يستخدم في بنائها مصريًا واحدًا، بل قام بالبناء أسرى الحرب. وقد نقش على كل هيكل: “لم يعمل أحد من المواطنين في هذه المباني”. يبدو أن سليمان وضع نقشًا مشابهًا على منشآته.
تحققت نبوة ناثان النبي (2 صم 7: 13) بقيام سليمان ببناء الهيكل.
بدأ البناء بالتعاون بين المملكتين: إسرائيل وفينيقيَّة، وقد حافظت المملكتان على العهد أو الاتفاقيَّة التي أُبرِمت بينهما.
يرى بعض الدارسين أن الإرهاق الشديد في الإنشاءات التي حققها سليمان من الجانب المادي والقوة العُماليَّة (استخدام السخرة) أدى إلى وجود اتجاه مضاد لدى بعض الأسباط ضد سبط يهوذا وربَّما ضد الهيكل نفسه، مما شجع يربعام فيما بعد على إقامة معبدين في بيت إيل ودان.
اضطر سليمان إلى استخدام نظام السخرة لبناء الهيكل، أمَّا مسيحنا فيدعو العبيد للتمتع بالحريَّة ليقيم منهم هيكله السماوي. يقول العلامة أوريجينوس:
* إن كنت منتميًا للكنيسة لا يشغلني مدى صغر شأني، فملاكي يتطلع معاينًا وجه الآب في كمال الحريَّة. في حين إن كنت خارجها، لن يجرؤ على ذلك(46).
* أمَّا الرسول فيقول عن أورشليم السماوية “هي أمنا جميعًا، هي حرة” (غلا 4: 26). لذلك أبوك هو الله الذي أنجب روحك، والذي يقول: “ربيت بنين ونشَّأتهم” (إش 1: 2). أمَّا بولس فيقول أيضًا: “أفلا نخضع بالأولي جدًا لأبي الأرواح فنحيا؟! (عب 12: 9)(47).
العلامة أوريجينوس
“وكان لسليمان سبعون ألفا يحملون أحمالًا وثمانون ألفًا يقطعون في الجبل” [15].
خصص سليمان لرجاله العمل السهل كقطع الأخشاب وذلك بمعاونة الفنيين من صور وصيدا. أمَّا حمل الأحمال وقطع الحجارة في الجبل فترك ذلك للأسرى من الأمم الأخرى (1 مل 9: 20، 2 أي 8: 7-9). يقدر عدد أسرى الحرب في أيام داود ب 153600. لم نسمع أن هؤلاء ُسمح لهم بالراحة شهرين بعد العمل لمدة شهر كالإسرائيليين، لأن هؤلاء كانوا عبيدًا.
يرى بعض الآباء مثل القديس جيروم في العاملين في بناء الهيكل صورة رمزية للعمل في كنيسة الله الحيَّة.
* 70000 يحملون الحجارة، يشيرون إلى كل رجال العهد القديم وقد اتَّسموا بالفكر السماوي. رقم 7 يشير للزمن (أسبوع)، 10 يشير إلى الكمال الزمني، 1000 للفكر الروحي أو السماوي.
* 80000 يقطعون في الجبل، يشيرون إلى كل رجال العهد الجديد وقد اتَّسموا بالفكر السماوي. رقم 8 يشير إلى ما وراء الزمن (ما بعد الأسبوع)، 10 يشير إلى الكمال الزمني، 1000 للفكر الروحي أو السماوي.
* 3000 الوكلاء على العمل، يشيرون إلى كل المؤمنين بعمل الثالوث القدوس في حياتهم (3) ، 1000 للفكر الروحي أو السماوي.
فهيكل الرب الحقيقي يمتد في العهدين كثمرة عمل الثالوث القدوس في حياة المؤمنين.
* البناءون الذين كانوا يقطعون الحجارة ويعدون أساسات البناء، الذين يحملون الحجارة من الأرض لبناء هيكل الرب يحصون برقم 7 في الأنبياء والآباء (البطاركة) فإنَّهم إذ يبدون أنَّهم يسحبون الجنس البشرى من الأرض كانوا يعدون هيكل الرب. الآخرون الثمانيَّة آلاف يرمزون للكرازة الرسوليَّة والأناجيل، هؤلاء الذين مع الرب المخلص وسليمان نفسه يحملون حمل الأمم الثقيل. هذا بالتأكيد هو علو السرّ، لكن استمع إلى أسرار أعمق. فإن النظار على العمل والهيكل كانوا ثلاثة آلاف. فإنَّهم لا يستطيع النظار المسئولون على العمل ما لم يعلنوا التثليث(48).
القديس جيروم
“ما عدا رؤساء الوكلاء لسليمان الذين على العمل ثلاثة آلاف وثلاث مائة المتسلَّطين على الشعب العاملين العمل.
وأمر الملك أن يقلعوا حجارة كبيرة،
حجارة كريمة، لتأسيس البيت حجارة مربعة” [17].
الحجارة الكبيرة: من حيث أبعادها، فهي ضخمة الحجم.
الحجارة الثمينة: من حيث تكلفتها من جهة العمل والوقت الطويل اللازم لقطعها من الصخور.
الحجارة المنحوتة: وهي حجارة مربعة قاموا بتهيئتها لتكون ناعمة. كان الإسرائيليون مع الصوريين يعملون معًا في تهيئة الحجارة.
“فنحتها بناؤو سليمان وبناؤو حيرام والجبليون،
وهيأوا الأخشاب والحجارة لبناء البيت” [18].
جاء في حزقيال (27: 9) أن الجبليين كانوا ذوي خبرة في بناء السفن، وبالتالي كانت لهم خبرة في البناء بوجه عام.
الجبليون هم أهل جبيل، وهي على شط البحر على بعد نحو 25 ميلًا من بيروت على طريق طرابلس (يش 13: 5؛ حز 27: 9).
حين كان داود وسليمان يسلكان بروح التقوى كانت معاشرتهما لأهل صور نافعة للغاية، لكن إذ انحرف سليمان عن التقوى تحولت هذه المعاشرة للضرر، وقد بلغت القمة في أيام أخآب الذي اتخذ إيزابل بنت أثبعل ملك صور زوجة (16: 31).
من وحي 1 ملوك 5
لأُسَخِّر كل الطاقات لبناء بيتك!
* ضع في قلبي أن ابني لك بيتًا مع سليمان الحكيم.
نجح سليمان في تشغيل عمال حيرام ملك صور لحساب بيتك.
هل لي أن أكرس طاقاتي وطاقات كل من ألتقي بهم،
فيعمل العالم كله لبناء هيكلك الحق!
فرح قلب كل إنسان ببنيان ملكوتك،
كما فرح قلب حيرام بمشاركته سليمان في بناء هيكلك.
* سخر سليمان ثلاثين ألفًا من إسرائيل للعمل،
عمل الإسرائيليون مع بني صور وأيضًا مع المسبيين.
كل منهم كان له دوره في بناء هيكلك.
متى أرى العالم كله خادمًا لحساب ملكوتك؟
متى تتكرس كل الطاقات بروحك القدوس؟
- سفر الملوك الأول – أصحاح 5
- تفاسير أخرى لسفر الملوك الأول – أصحاح 5
تفسير ملوك الأول 4 | تفسير ملوك الأول القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير ملوك الأول 6 |
تفسير العهد القديم |