تفسير سفر الملوك الأول 8 للقمص تادرس يعقوب ملطي

تدشين الهيكل

يكشف هذا الأصحاح عن شوق الله نحو الإنسان. هذا الذي لا تسعه السموات والأرض يجد مسرَّته في سكناه وسط شعبه. يميل بأذنيه ليسمع طلباتهم، ويباركهم، ويحوِّل حياتهم إلى عيدٍ دائمٍ.

كان قلب سليمان الملك ملتهبًا بالفرح بتلك اللحظات التي طالما كان يترقَّبها، بل وكان والده داود النبي يشتهيها. لم يفرح وحده، بل أشرك معه الشيوخ ورؤساء الأسباط وأيضًا الكهنة واللاويين وكل الشعب. إنَّه عمل يمس حياة كل مؤمن، أيّا كان دوره!

 

1. دعوة القيادات والشعب

 

[1 –2].

2. دور الكهنة

 

[3 –9].

3. مجد الرب في بيته

 

[10 –11].

4. تدشين الهيكل

 

[12 –66]:

 أ. تذكُّر وعود الله

 

[12 –21].

 ب. التسبيح لله

 

[22 –27].

 ج. الصلاة والطلبة

 

[28 –40].

 د. الإعلان عن الحب لكل بشر

 

[41 –43].

 هـ. طلب النصرة

 

[44 –53].

 و. مباركة الشعب

 

[54 –60].

 ز. دعوة لطاعة الوصيَّة

 

[61].

 ح. تقديم ذبائح حب

 

[62 –64].

 ط. عيد وفرح

 

[65 –66].

من وحي 1 ملوك 8    

1. دعوة القيادات والشعب:

“حينئذ جمع سليمان شيوخ إسرائيل وكل رؤوس الأسباط رؤساء الآباء من بني إسرائيل إلى الملك سليمان في أورشليم لإصعاد تابوت عهد الرب من مدينة داود هي صهيون” [1].

يرى رئيس الأساقفة Usher بأن سليمان أجّل تدشين الهيكل حوالي سنة بعد الانتهاء من المباني. لأن هذه السنة كانت اليوبيل التاسع، وكانت بدء اليوبيل الألفي الرابع للخليقة أي في عام 3001 للخليقة، فكان التوقيت مناسبًا لتدشين الهيكل. إن كان الله قد خلق العالم كلُّه ليكون قصرًا للإنسان يعيش كملكٍ صاحب سلطان، فإنَّه في بدء اليوبيل الرابع للخليقة يقدِّم الإنسان هذا المبنى كعملٍ رمزي لشوق المؤمنين أن يسكن ملك الملوك في قصره ويحكم! قدَّم الله العالم كلُّه قصرًا لنا، ونحن في ضعفنا نقدِّم القليل جدًا ممَّا وهبنا كقصرٍ لذاك الذي لا يحدِّه مكان! يود أن يقيم منَّا ملوكًا ونحن نصر أن يبقى ملك الملوك الذي يحرِّكنا بروحه الملوكي.

“فاجتمع إلى الملك سليمان جميع رجال إسرائيل في العيد في شهر إيثانيم، هو الشهر السابع” [2].

كما رأس داود النبي الاحتفال بإحضار تابوت العهد إلى أورشليم هكذا رأس ابنه سليمان تدشين بيت الرب. هذا الاحتفال ما كان يمكن أن يتحقَّق بافتتاحه بمفرده أو مع رجال دولته، إنَّما كان لا بُد من مشاركة كل القيادات الدينيَّة والمدنيَّة، وحضور الكهنة وكل الشعب. فهو احتفال بإعلان سُكنى الله وسط الشعب كله!

ارتباط سليمان بالشعب حقيقة مفرحة يعتز بها، فدعا نفسه “الجامعة” (جا 1: 1؛ 12: 9) وسيِّد الجماعات (جا 12: 11).

شهر إيثانيم هو شهر تشري، يقابل جزء من شهر أكتوبر وآخر من نوفمبر.

مع ما اتَّسم به الهيكل من جمال، فإنَّه بدون تابوت العهد يكون كجسدٍ بلا روح، أو كمسكنٍ بلا ساكنٍ، أو كمنارة دون سراجٍ. كل ما بذله داود الملك وابنه سليمان في الإعداد وتنفيذ بناء الهيكل يفقد قيمته إن لم يسكن الرب فيه ويُعلن مجده في داخله.

2. دور الكهنة:

“وجاء جميع شيوخ إسرائيل وحمل الكهنة التابوت.

واصعدوا تابوت الرب وخيمة الاجتماع مع جميع آنية القدس التي في الخيمة،

فأصعدها الكهنة واللآويُّون” [3-4].

احضروا مع تابوت العهد خيمة الاجتماع هذه التي يحتمل أن تكون بعينها التي أقامها موسى النبي في صهيون مؤقَّتًا إلى حين بناء الهيكل. فالهيكل بما يحمله من قدسيَّة هو امتداد للخيمة بكل قدسيَّتها. الله الذي ملأ الخيمة بمجده هو أمس واليوم وإلى الأبد، يملأ كنيسته في كل العصور بمجده الإلهي.

“والملك سليمان وكل جماعة إسرائيل المجتمعين إليه معه أمام التابوت

كانوا يذبحون من الغنم والبقر ما لا يُحصى ولا يُعد من الكثرة” [5].

كان تقديم الذبائح عملًا له جانبان، جانب المصالحة مع الله بالدم مع تقديم التوبة، وجانب الشكر مع الفرح بعمل الله الخلاصي. هكذا تقديم الملك وكل الشعب ذبائح هو إعلان عن شوق حقيقي للمصالحة مع فرح صادق وتهليل بالشركة مع الله.

“وأدخل الكهنة تابوت عهد الرب إلى مكانه في محراب البيت في قدس الأقداس،

 إلى تحت جناحيّ الكروبين.

لأن الكروبين بسطا أجنحتهما على موضع التابوت،

وظلَّل الكروبان التابوت وغطيه من فوق.

وجذبوا العصي فتراءت رؤوس العصي من القدس أمام المحراب، ولم تُرَ خارجًا، وهي هناك إلى هذا اليوم” [6-8].

لم ينسَ سليمان خبرة أبيه الأولى المُرَّة حيث حميَ غضب الرب على عُزَّة لأنَّه مدَّ يده إلى تابوت الله وأمسكه (2 صم 6: 6). لقد تعلَّم ألاَّ يحمل التابوت أحد غير الكهنة.

“لم يكن في التابوت إلاَّ لوحا الحجر اللذان وضعهما موسى هناك في حوريب حين عاهد الرب بني إسرائيل عند خروجهم من أرض مصر” [9].

لم يوجد داخل التابوت سوى لوحا الشريعة، أمَّا إناء المَنْ وعصا هرون فكانا بجوار التابوت. أراد الله أن يربط بين حضرته الإلهيَّة وكلمته. فمن يلتقي بالله إنَّما يتمتَّع بكلمته التي فيه، ولا تنفصل عنه، بل هو واحد معه.

*     يليق بعروس المسيح أن تكون مثل تابوت العهد مغشَّاة بالذهب من الداخل والخارج (خر 25: 11). يليق بها أن تكون حارسة لشريعة الرب. كما أن التابوت لا يحوي شيئا سوى لوحي العهد هكذا يليق بك ألاَّ يوجد فيك أي تفكير لشيء في الخارج. فإن الرب يسر أن يجلس في ذهنك، كما جلس مرة على عرش الرحمة وعلى الشاروبيم (خر 25: 22)(65).

القديس جيروم

3. مجد الرب في بيته:

“وكان لما خرج الكهنة من القدس أن السحاب ملأ بيت الرب” [10].

تكشف هذه العبارة أن السِفر كُتب قبل الخراب الأول للهيكل.

ظهور السحاب يملأ الهيكل كان علامة على رضا الله على ما فعله الملك والشعب معًا. هذا ما كان يحدث في أيَّام موسى النبي (خر 16: 10؛ 40: 38؛ عد 9: 18 إلخ).

لماذا يستخدم الله ظهور السحاب علامة على رضائه؟

يشير السحاب إلى النفوس المقدَّسة التي تصير خفيفة كالسحاب مرتفعة كما إلى السماء. ظهور السحاب تأكيد أن مجد الله مُعلن في قدِّيسيه الذين يرتفعون بقلوبهم إلى السماء فيصيرون كسحابة حاملة له.

“ولم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب السحاب

 لأن مجد الرب ملأ بيت الرب” [11].

بلاشك كان مبنى الهيكل غاية في الفخامة والجمال، وكانت أثاثاته ثمينة جدًا ورائعة، لكن سرّ مجد الهيكل هو سُكنى الله فيه. الله نفسه هو الذي يعطي كنيسته بهاءها ومجدها الداخلي. لم يكن مجد هيكل سليمان في الحجارة الضخمة ولا الذهب والفضَّة بل في سُكنى الرب نفسه.

وضع الكهنة تابوت العهد في قدس الأقداس، ثم خرجوا قبل بدء الخدمة، إذ لم يكن يُسمح لأحدٍ أن يدخل قدس الأقداس إلاَّ رئيس الكهنة.

بيت الرب والأيقونة السماويَّة:

*     لا توجد صورة مثل الإنسان الذي يفني طالما لا توجد صورته في مدينة الرب، أي في أورشليم العلويَّة (مز 73: 20). لأن الرب صوَّرنا بحسب صورته ومثاله، كما يعلِّمنا قائلًا: “هأنذا يا أورشليم قد نقشتُ أسوارك” (إش 49: 16)، فإن سلكنا حسنًا، تستمر تلك الأيقونة السماويَّة فينا، وإن سلك أحد سلوكًا ردَّيًا، تفني تلك الصورة فيه (أو تتشوَّه). أي أيقونة ذاك الذي انحدر من السماء، وتبقى في هذا الإنسان صورة الإنسان الأرضي (فقط). علي هذا الأساس يقول الرسول أيضًا: “وكما لبسنا صورة الترابي، فلنلبس أيضًا صورة الآخر السماوي” (1 كو 15: 49). لهذا تستمر صور الصالحين تشرق في مدينة الله. لكن إن انحرف أحد إلى الخطايا المميتة ولم يتُب، تحطَّمت أيقونته فيه أو بالأحرى انطرح، كما انطرح آدم وطُرد من الفردوس (تك 3: 21-24). لكن من يسلك بأسلوبٍ مقدَّس مكرَّم، يدخل مدينة الله (رؤ 3: 12). ويأتي بصورته الشخصيَّة فيشرق في مدينة الله هذه. “في مدينتك يا رب تفني صورهم إلى لا شيء!” (مز 73: 20 LXX). لأن الذين كسوا أنفسهم بأعمال الظلمة، لا يمكنهم أن يشرقوا في النور(66).

القديس أمبروسيوس

4. تدشين الهيكل:

أ. تذكُّر وعود الله:

أعلن الرب عن سُكناه في بيته وحلول مجده فيه عند بدء طقس التدشين ليكشف عن حبه الفائق. أنَّه يُبادر بالحب، ويشتاق أن يسكب مجده على مؤمنيه. أمَّا المؤمنون فيلزمهم أن يتجاوبوا مع حبُّه بالحب، وذلك بتذكُّرهم لوعوده الإلهيَّة، ودخولهم في حوار حب معه، واتِّساع قلبهم لاخوتهم، وثقتهم في التمتُّع بروح النصرة والغلبة، وحفظهم للوصيَّة الإلهيَّة بفرح، وتقديم ذبائح الحب المقبولة لديه مع ممارستهم للحياة المفرحة كظل للحياة السماويَّة. هذا باختصار ما ندعوه بتدشين بيت الرب. أنَّه مزيج بين الحب المتبادل مع الله والناس، مع صلوات وتسابيح، وطاعة وعطاء، وفرح لا ينقطع!

إن كانت الكنيسة تمارس طقسًا خاصًا بالتدشين، فإن تدشين الكنيسة بالصلوات والتسابيح هو نقطة بداية لا نهاية. يبقى الكهنة مع الشعب يمارسون الحب مع الصلاة والفرح بروح الطاعة، فيختبروا التدشين كعمل الروح القدس الدائم في حياة كنيسته.

بيت الرب ليس مكانًا مجرَّدًا لممارسة العبادة بل هو لقاء حيّ مع الله محب البشر، فيه يتمتَّع المؤمنون بالحب المتبادل مع الله ومع بعضهم البعض، ويشاركون السمائيِّين وفرحهم المستمر.

عند تدشين خيمة الاجتماع ملأ مجد الرب القدس، ولم يستطع موسى أن يدخل (خر 40: 34-35)، تكرَّر الأمر عند تدشين الهيكل.

حاول البعض أن يخلط بين سحابة المجد الإلهي في الهيكل وسحابة الدخان الصاعدة من مذبح المحرقة حيث قُدمت ذبائح كثيرة. لكن النص واضح أن السحابة هنا داخل البيت ليست سحابة دخان بل سحابة مجد إلهي.

مجد الرب الذي يظهر كنارٍ آكلة (خر 24: 17؛ تث 9: 3) فلا يقدر أحد أن يقف يُعلن عن ذاته هنا بسحابة مجيدة لم تغطِّ قدس الأقداس وحده، بل كل الهيكل، والدار حتى يتمتَّع كل الشعب بهذا المجد، ويدرك الكل مسرَّة الله بحلوله في وسطهم، وقبوله السُكنى في البيت الذي أُقيم له.

“حينئذ تكلَّم سليمان

قال الرب أنَّه يسكن في الضباب” [12].

عندما دخل التلاميذ السحابة النيِّرة خافوا (لو 9: 34)، هكذا خاف الكهنة عندما ملأ مجد الرب البيت بالسحاب. لذلك وقف سليمان يشجِّعهم، يقدِّم لكل الشعب عظة هي في جوهرها تسبحة شكر لله الذي وهبه ما اشتهاه أبوه داود. كأنَّه بهذه التسبحة يفي دينًا كان على أبيه داود.

كانت السحابة أشبه بصوت إلهي خلاله يقول الرب: “بالحقيقة أنا قادم لأسكن في بيتي، وأحل في وسطكم”. وجاءت تسبحة سليمان أشبه باستجابة لهذا الصوت الإلهي، وكأنَّه يقول: [نعم تعال أيها الرب، فإنك سبق فوعدتنا بذلك؛ تعال، فإن البيت هو بيتك، وهو من فضل خيراتك ونعمك علينا. بنيناه لك، لك وحدك. لن يستخدمه آخر غيرك].

“أنِّي قد بنيت لك بيت سكنى مكانًا لسكناك إلى الأبد.

وحول الملك وجهه وبارك كل جمهور إسرائيل وكل جمهور إسرائيل واقف” [13-14].

لم يذكر الكتاب المقدَّس البركة التي بارك بها الملك الشعب، ربَّما كانت مشابهة لتلك التي يبارك بها رئيس الكهنة الشعب.

“وكلم الرب موسى قائلًا: كلِّم هرون وبنيه قائلًا: هكذا تباركون بني إسرائيل قائلين لهم: يباركك الرب ويحرسك. يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا، فيجعلون اسمي على بني إسرائيل، وأنا أباركهم” (عد 6: 22-27).

يبدو أن سليمان هنا يقوم كما بدور رئيس الكهنة (فيما عدا تقديم الذبائح)، أو بدور موسى النبي في قيادته للشعب ليعبدوا الرب، كما باركهم (خر 39: 43). فعل كأبيه إذ قيل عنه عند إصعاده وجميع بيت إسرائيل تابوت الرب مدينة داود: “ولما انتهى داود من اصعاد المحرقات وذبائح السلامة بارك الشعب باسم رب الجنود” (2 صم 6: 18).

إنَّه يسكن في الضباب“، ماذا يعني الضباب هنا إلاَّ عجز الخليقة عن رؤية الله كما هو. كلٌ يراه قدر ما تستطيع عيناه أن تنظرا.

“وقال مبارك الرب إله إسرائيل الذي تكلَّم بفمه إلى داود أبي وأكمل بيده قائلًا:

منذ يوم أخرجت شعبي إسرائيل من مصر لم اختر مدينة من جميع أسباط إسرائيل لبناء بيت ليكون اسمي هناك.

بل إنَّما اخترت داود ليكون على شعبي إسرائيل.

وكان في قلب داود أبي أن يبني بيتًا لاسم الرب إله إسرائيل.

فقال الرب لداود أبي من أجل أنَّه كان في قلبك أن تبني بيتًا لاسمي قد أحسنت بكونه في قلبك.

إلا أنَّك أنت لا تبني البيت بل ابنك الخارج من صلبك هو يبني البيت لاسمي.

وأقام الرب كلامه الذي تكلَّم به،

وقد قمت أنا مكان داود أبي،

وجلست على كرسي إسرائيل كما تكلَّم الرب.

وبنيت البيت لاسم الرب إله إسرائيل.

وجعلت هناك مكانًا للتابوت الذي فيه عهد الرب الذي قطعه مع آبائنا عند إخراجه إيَّاهم من أرض مصر” [15-21].

لم يشر سليمان إلى عظمة البيت وفخامة مبناه، وكنوزه الثمينة، لكنَّه أشار إلى أمرين هما سرّ قوَّة البيت وقدسيَّته ومجده. الأمر الأول هو الوعد الإلهي لداود، والأمر الثاني هو وجود مكان خاص بتابوت العهد الذي ينظر إليه كمركز وكوكب البيت كله، بكونه يمثِّل العرش الإلهي. وكأن سرّ القوَّة هو الوعد الإلهي والحضرة الإلهيَّة.

هكذا سرّ قوَّة الكنيسة الوصيَّة الإلهيَّة أو الوعد الإلهي، وأيضًا العهد الذي به نلنا المصالحة مع الآب وتمتُّعنا بالخلاص لننعم بشركة المجد السماوي.

ب. التسبيح لله:

“ووقف سليمان أمام مذبح الرب تجاه كل جماعة إسرائيل،

وبسط يديه إلى السماء” [22].

كان وجه سليمان نحو قدس الأقداس عندما أحضر الكهنة تابوت العهد، وعندما خرجوا وملأ السحاب البيت. وبدأ حديثه وهو متَّجه نحو قدس الأقداس. الآن إذ بدأ يبارك الشعب حوَّل وجهه نحوهم [14]، فإنَّه لا يبارك أحد آخر وهو يعطيه القفا، بل يعطيه الوجه. اعتادت الكنيسة في كل مرة يبارك الكاهن شخصًا أو الشعب أن يعطيه أو يعطيهم وجهه، حتى إن كان واقفًا أمام الهيكل.

حمل تدشين الهيكل مفاهيم حيَّة لبيت الرب:

*     بيت الذبيحة: قدم سليمان والشعب ذبائح كثيرة لأنَّه بدون سفك دم لن تحصل مغفرة. لقد عرَّف القدِّيس أغناطيوس النوراني الكنيسة بأنَّها “موضع الذبيحة”(67). ففي الكنيسة نلتقي بالسيِّد المسيح الذبيحة الحقيقيَّة، ونتَّحد به فتصير حياتنا ذبيحة حب فائقة.

*     بيت الصلاة: قدم سليمان صلاته للتدشين.

*     بيت الفرح: كان التدشين عيدًا مفرحًا للجميع. والكنيسة هي حياة في الرب واهب الفرح الدائم.

*     بيت التسبيح: حيث بارك سليمان الرب وسبحه. يقول القدِّيس أغناطيوس النوراني[اهتمُّوا في أن تجتمعوا بكثافة أكثر لتقديم الشكر والمجد لله، فعندما تجتمعون مرارًا معًا في الاجتماع الأفخارستي تضمحل قوى الشيطان وتنحل قوَّته أمام إيمانكم وتآلفه(68)].

*     بيت الحب: بالحب طلب سليمان لا من أجل الشعب فحسب، بل ومن أجل الأجنبي أيضًا.

يُقصد بمذبح الرب هنا مذبح المحرقة لا مذبح البخور، حيث قدم سليمان صلاته أمام كل جمهور الشعب.

“وقال أيها الرب إله إسرائيل ليس إله مثلك في السماء من فوق ولا على الأرض من اسفل،

حافظ العهد والرحمة لعبيدك السائرين أمامك بكل قلوبهم” [23].

حافظ العهد والرحمة“. تعلَّم سليمان ذلك من أبيه الذي يعلن في تسبحته لله: “برج خلاص لملكه والصانع رحمة لمسيحه لداود ونسله إلى الأبد” (2 صم 22: 51). لقد أدرك داود أن الله صانع رحمة بتحقيقه للوعود الإلهيَّة التي قدَّمها له ولحساب نسله إلى الأبد. لقد تمتَّع داود بنفس الفكر الذي عاشه موسى النبي القائل: “فاعلم أن الرب إلهك هو الله الإله الأمين الحافظ العهد والإحسان للذين يحبُّونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل” (تث 7: 9). الله أمين في وعوده، لذا يليق بخاصته أن تكون أمينة له، لا بوضع أشعارٍ مملوءة بلاغة كاذبة، بل بحفظ وصاياه بأمانة. يمجدونه لا بكلمات بل بأعمال منيرة. أمين في تحقيق عهده “إلى ألف جيلٍ“، فهو ينبوع الحب الأمين عبر الأجيال.

“الذي قد حفظت لعبدك داود أبي ما كلِّمته به،

فتكلَّمت بفمك وأكملت بيدك كهذا اليوم” [24].

بعد تقديم الشكر لله الحافظ عهد والذي حقَّق وعوده الإلهيَّة، سأله سليمان الآتي:

*     ديمومة كرسي إسرائيل بحفظهم وصاياه[25].

*     استمرار الحضرة الإلهيَّة وسط شعبه[29].

*     إدانة الأشرار وتبرير البار[31-32].

*     الخلاص من الأعداء بغفران الخطايا[33].

*     الخلاص من الكوارث[35-40].

*     مساندة الأجنبي التقي[41-43].

*     النصرة في المعارك القادمة[44-45].

*     تحرير من السبيّ بالغفران الجماعي[46-50].

*     استمرار إقامة العهد الإلهي مع الشعب [51-53].

“والآن أيها الرب إله إسرائيل احفظ لعبدك داود أبي ما كلَّمته به قائلًا:

لا يعدم لك أمامي رجل يجلس على كرسي إسرائيل.

إن كان بنوك إنَّما يحفظون طرقهم حتى يسيروا أمامي كما سرتَ أنت أمامي.

والآن يا إله إسرائيل فليتحقَّق كلامك الذي كلَّمت به عبدك داود أبي.

لأنَّه هل يسكن الله حقًا على الأرض؟

هوذا السماوات وسماء السماوات لا تسعك،

فكم بالأقل هذا البيت الذي بنيت؟” [25-27].

قدَّم سليمان صلاة طويلة، وربَّما ما ورد هنا مختصر أو مقتطفات من صلاته. فإنَّه إذ ينفتح القلب على الله لا يجد الفم صعوبة في الحديث مع الله محبوبه.

*     إنَّه يسكن على الأرض، ملتحفًا بالجسد، ومسكنه مع البشر يتأثَّر بالارتباط والانسجام اللذين يحدثا بين الأبرار، واللذين يبنيا ويقيما هيكلًا جديدًا. فالمؤمنون هم الأرض، والأرض أيضًا تقارن بعظمة الرب. لهذا لم يتردَّد الطوباوي بطرس في القول: “كونوا أنتم أيضًا مبنيِّين كحجارة حيَّة، بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدَّسًا، لتقديم ذبائح روحيَّة مقبولة عند الله بيسوع المسيح” (1 بط 2: 5).

وبالنسبة للجسد الذي يختتن، فإنَّه يقدِّسه كموضع مقدَّس لنفسه على الأرض. لقد قال: “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيَّام أقيمه. فقال اليهود: في ست وأربعين سنة بُنى هذا الهيكل، أفأنت في ثلاثة أيَّام تقيمه؟ وأمَّا هو فكان يقول عن هيكل جسده” (يو 2: 19-21)(69).

القديس إكليمنضس الإسكندري

ج. الصلاة والطلبة:

“فالتفت إلى صلاة عبدك والى تضرعه أيها الرب إلهي،

واسمع الصراخ والصلاة التي يصلِّيها عبدك أمامك اليوم”  [28].

إنَّه الحب هو الذي يجعل الله يتنازل ليقبل السُكنى في بيت كهذا. مهما قدَّم سليمان وشعبه لله فإنَّه لا يوجد ما يليق تقديمه لذاك الخالق القدير غير المحدود. من أجل حبُّه يقبل عطايانا التي ننالها من يديه لنقدِّمها هبة كأنَّها منَّا.

“لتكون عيناك مفتوحتين على هذا البيت ليلًا ونهارًا،

على الموضع الذي قلت إن اسمي يكون فيه.

لتسمع الصلاة التي يصليها عبدك في هذا الموضع” [29].

بقوله “إن اسمي يكون فيه” يعني حضرة الرب في بيته وسط شعبه، حيث يقدِّم لهم قوَّته قوَّة لهم، مجده مجدًا داخليًا لنفوسهم، ينير أعينهم فيدركوا أسراره الإلهيَّة ويتفهَّموا خطَّته من نحوهم. يهبهم نموًا مستمرًا وغفرانًا لخطاياهم، وتقديسًا لكل كيانهم الروحي والجسدي والعقلي والعاطفي، وخلاصًا مفرحًا. هذا هو سُكنى اسم الرب في بيته!

“واسمع تضرُّع عبدك وشعبك إسرائيل الذين يصلُّون في هذا الموضع،

واسمع أنت في موضع سُكناك في السماء،

وإذا سمعت فاغفر” [30].

إنَّها صلاة عبد محتاج إلى خالقه وسيِّده، لكنَّها تمثِّل صرخة قلب داخليَّة، ملتهبة بالإيمان والحب.

الهيكل وتابوت العهد وما يحويانهما كلَّها رموز لكلمة الله الذي تجسَّد، فصار جسده هيكلًا مقدَّسًا، خلاله نصلِّي، فهو الوسيط الذي به نلتقي مع الآب. يحملنا رب المجد يسوع إلى حضن أبيه حيث نسمعه يغفر لنا بدم المخلص، ويبرِّرنا بقيامته.

“إذا أخطأ أحد إلى صاحبه ووضع عليه حلفًا ليحلفه وجاء الحلف أمام مذبحك في هذا البيت،

فاسمع أنت في السماء، واعمل واقضِ بين عبيدك.

إذ تحكم على المذنب، فتجعل طريقه على رأسه،

وتبرِّر البار، إذ تعطيه حسب برّه” [31-32].

يبدأ بالشخص المُصاب بضررٍ، وقد راوده الشك في شخصٍ ما أنَّه هو المتسبِّب في أذيَّته. يأتي به إلى بيت الرب ويحلف المشكوك في أمره، فإن حلف كذبًا يدينه الرب، وإن كان صدقًا يبرِّره الرب.

“إذا انكسر شعبك إسرائيل أمام العدو،

لأنَّهم أخطأوا إليك، ثم رجعوا إليك واعترفوا باسمك،

وصلُّوا وتضرَّعوا إليك نحو هذا البيت.

فاسمع أنت من السماء، واغفر خطيَّة شعبك إسرائيل،

وأرجعهم إلى الأرض التي أعطيتها لآبائهم” [33-34].

بعد تقديم العيِّنات السابقة من الصارخين إلى الرب، متَّجهين نحو هيكله يقدِّم طلبة عامة من أجل الكل. كان الهيكل رمزًا للسيِّد المسيح، الذي يبسط يديه ليحتضن الكل، يشتاق أن يُعطي بسخاء كل سائليه.

لقد سبق الرب فحذَّرهم منذرًا إيَّاهم أنَّه يسمح لهم بالهزيمة وبالسبيّ إن أصرُّوا على شرورهم. “وأجعل وجهي ضدَّكم فتنهزمون أمام أعدائكم، ويتسلَّط عليكم مبغضوكم، وتهربون وليس من يطردكم” (لا 26: 18)؛ “يجعلك الرب منهزمًا أمام أعدائك، في طريق واحدة تخرج عليهم، وفي سبع طرق تهرب أمامهم، وتكون قلقًا في جميع ممالك الأرض، وتكون جثَّتك طعامًا لجميع طيور السماء ووحوش الأرض، وليس من يزعجها” (تث 28: 25-26).

قبل دخولهم أرض الموعد وتمتُّعهم بالنصرة على الأمم القاطنة في كنعان أكَّد لهم أنَّهم إن خالفوا وصيَّته يفقدون نصرتهم وكرامتهم وتصير جثثهم مأكلًا لطيور السماء ووحوش البريَّة، سواء على مستوى الشعب ككل أو على مستوى الفرد. وكما قال أخيّا النبي لامرأة يربعام: “من مات ليربعام في المدينة تأكله الكلاب، ومن مات في الحقل تأكله طيور السماء، لأن الرب تكلَّم” (1 مل 14: 11). وجاء في المزمور: “اللهم إن الأمم قد دخلوا ميراثك، نجَّسوا هيكل قدسك، جعلوا أورشليم أكوامًا، ودفعوا جثث عبيدك طعامًا لطيور السماء، لحم أتقيائك لوحوش الأرض” (مز 79: 2). ويقول الرب على لسان إرميا النبي: “لذلك ها أيَّام تأتي يقول الرب… تصير جثث هذا الشعب أكلًا لطيور السماء ولوحوش الأرض ولا مزعج” (إر 7: 32-33). الترجمة الحرفيَّة لعبارة “قلقًا في جميع ممالك الأرض” هي “تحرِّكها جميع ممالك الأرض من هنا وهناك، إلى أعلى وإلى أسفل”، أي تصير أشبه بكره تلعب بها كل ممالك الأرض. وكما قيل: “وأدفعهم للقلق في كل ممالك الأرض” (إر 15: 4)، “وأسلمهم للقلق والشرّ في جميع ممالك الأرض عارًا ومثلًا وهزأة ولعنة في جميع المواضع التي أطردهم إليها” (إر 24: 9؛ راجع إر 29: 18).

يسمح الله بالهزيمة أمام الأمم لكي يدركوا هزيمتهم الداخليَّة أمام الخطيَّة، ويسمح بالسبيّ المُرّ لكي يطلبوا تحرُّرهم من سبيّ إبليس والاستعباد للشهوات والخطايا.

“إذا أغلقت السماء ولم يكن مطر لأنَّهم أخطأوا إليك،

ثم صلوا في هذا الموضع،

واعترفوا باسمك،

ورجعوا عن خطيَّتهم لأنَّك ضايقتهم.

فاسمع أنت من السماء، واغفر خطيَّة عبيدك وشعبك إسرائيل.

فتعلِّمهم الطريق الصالح الذي يسلكون فيه.

وأعط مطرًا على أرضك التي أعطيتها لشعبك ميراثًا.

إذا صار في الأرض جوع، إذا صار وبَأ إذا صار لفح أو يرقان أو جراد جردم،

أو إذا حاصره عدوه في أرض مدنه في كل ضربة وكل مرض” [35-37].

يورد هنا مجموعة من الكوارث تحل بالشعب كثمرة لعصيانهم للرب.

الجوع: نقص شديد في الغلال، خاصة القمح، بسبب الجفاف.

الوبأ: انتشار أمراض خطيرة معدية.

لفح: إصابة المزروعات لسبب أو آخر، فلا تنضج السنابل قط بل تحمل أشبه بتراب أسود عِوض البذور أو الغلال. سقوط الزهور أو البراعم الصغيرة من الأغصان.

جراد: أحد الضربات التي تصيب أحيانًا مساحات شاسعة من الأراضي حيث تهجم موجات ضخمة من الجراد تأكل كل ما هو أخضر، فلا تترك أوراق الشجر أو العشب على الأرض.

جردم: الجراد في مراحل نموه الأولى. الجراد يأتي مهاجمًا الحقول من بلاد بعيدة، أمَّا الجردم فيظهر من نفس البلد.

عدو يهاجم المدن الحصينة والحصون.

كل ضربةٍ تحل بالإنسان أو الحيوان أو النباتات كالبرص.

كل مرضٍ يُفقد الإنسان قدرته وطاقته للعمل والحياة.

“فكل صلاة وكل تضرُّع تكون من أي إنسان كان من كل شعبك إسرائيل،

الذين يعرفون كل واحدٍ ضربة قلبه،

فيبسط يديه نحو هذا البيت” [38].

إذ يتحدَّث عن الصلاة وقت الضيق، حيث يتَّجه الإنسان بوجه نحو الهيكل كما نحو الله نفسه، أو نحو الحضرة الإلهيَّة، لا يلم الظروف أو الأشخاص بل ينظر إلى “ضربة قلبه” [38]، ملقيًا اللوم على نفسه. إن الضيق الحقيقي ليس في الظروف المحيطة بنا، بل هو ضيق القلب المضروب بجفاف الحب أو عدم اتِّساعه بالمحبَّة للغير. هذه هي الضربة الحقيقيَّة التي من أجلها نصرخ إلى الله.

“فاسمع أنت من السماء مكان سكناك،

واغفر واعمل وأعط كل إنسان حسب كل طرقه،

كما تعرف قلبه،

 لأنَّك أنت وحدك قد عرفت قلوب كل بني البشر” [39].

بقوله: “اغفر واعمل وأعط” يقدِّم سليمان الحكيم مفهومًا روحيًا صادقًا لنظرتنا إلى بيت الرب. فهو ليس بالموضع الذي فيه نطلب احتياجاتنا الزمنيَّة فحسب، وإنَّما هو بيت الغفران، وبيت العمل الإلهي، وبيت العطاء السماوي. نلتقي مع الله في بيته لنطلب أولًا المصالحة معه، وندخل معه في علاقة اتِّحاد وحب، عندئذ نتمتَّع بعمله الإلهي في حياتنا الداخليَّة، وننعم بعطاياه التي تشبع كل احتياجاتنا الروحيَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة والماديَّة. بالغفران نتمتَّع بمواهب العطايا، وبالعمل الإلهي نتقبَّل فينا إمكانيَّاته، وبالعطاء ننال خيراته. وكأن الملك يطلب هنا أن يتمتَّع المؤمنون بالله ذاته وقدراته وعطاياه!

“لكي يخافوك كل الأيَّام التي يحيون فيها على وجه الأرض التي أعطيت لآبائنا” [40].

د. الإعلان عن الحب لكل بشر:

“وكذلك الأجنبي الذي ليس من شعبك إسرائيل هو وجاء من أرض بعيدة من أجل اسمك.

لأنَّهم يسمعون باسمك العظيم وبيدك القويَّة وذراعك الممدودة،

فمتى جاء وصلَّى في هذا البيت” [42].

اليد القويَّة والذراع الممدودة يشيران إلى رعاية الله الفائقة لشعبه.

لقد سمع عن أعمال الله العجيبة مع شعبه بلعام الذي في أرض موآب (عد 22).

“فاسمع أنت من السماء مكان سُكناك،

وافعل حسب كل ما يدعو به إليك الأجنبي،

لكي يعلم كل شعوب الأرض اسمك،

فيخافوك كشعبك إسرائيل،

ولكي يعلموا أنَّه قد دعي اسمك على هذا البيت الذي بنيت” [43].

في صلاة التدشين يتطلَّع سليمان الحكيم إلى الله بكونه ليس إله إسرائيل وحده، بل إله كل الشعوب. يسأل الله أن يستجيب لصلاة الكل، حتى تعرف كل شعوب الأرض اسمه وتخشاه.

“وكذلك الأجنبي الذي ليس هو من شعبك إسرائيل وقد جاء من أرض بعيدة من أجل اسمك العظيم ويدك القويَّة وذراعك الممدودة، فمتى جاءوا وصلُّوا في هذا البيت، فاسمع أنت من السماء مكان سكناك وافعل حسب كل ما يدعوك به الأجنبي لكي يعلم كل شعوب الأرض اسمك، فيخافونك كشعبك إسرائيل، ولكي يعلموا أن اسمك قد دُعي على هذا البيت الذي بنيت” (2 أي 6: 32-33).

لقد سمح موسى للغرباء الذين يعيشون بين الإسرائيليِّين أن يقدِّموا ذبائح في الهيكل (عد 15: 14 إلخ.). وقيل أن اسم الرب العظيم وذراعه قد سمع عنهما في الأمم المحيطة (خر 15: 14؛ 18: 1؛ يش 5: 1).

يتحدَّث هنا عن وثنيِّين جاءوا إلى بيت الرب ليصيروا دخلاء في الإيمان الحقيقي.

هـ. طلب النصرة:

“إذا خر ج شعبك لمحاربة عدوُّه في الطريق الذي ترسلهم فيه،

وصلُّوا إلى الرب نحو المدينة التي اخترتها والبيت الذي بنيته لاسمك.

فاسمع من السماء صلاتهم وتضرُّعهم واقضي قضائهم.

إذا أخطأوا إليك، لأنَّه ليس إنسان لا يخطئ.

وغضبت عليهم،

ودفعتهم أمام العدو وسباهم سابوهم إلى أرض العدو بعيدة أو قريبة” [44-46].

لا يُفهم من قوله “ليس إنسان لا يخطئ” أنَّه تبرير لنا، لكنَّه يستعرض الضعف البشري ليستدر مراحم الله. وفي نفس الوقت يفتح باب الرجاء أمام الخطاة، إن الجميع دون استثناء في حاجة إلى عمل المخلِّص.

*     تستخدم الحكمة بالأكثر في الطريق لتعين أفضل من صحبة أقوى الرجال في مدينة، وهي أيضًا تغفر بحق للذين يفشلون في تحقيق واجبهم، لأنَّه لا يوجد إنسان واحد بلا عثرة(70).

القدِّيس غريغوريوس العجائبي

*     ماذا يقول الإناء المختار؟ “لأن الله أغلق على الجميع معًا في العصيان لكي يرحم الجميع” (رو 11: 32) وفي موضع آخر:” إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله” (رو 3: 21)

يعترض بصراحة أيضًا المبشِّر الذي هو المتحدِّث باسم الحكمة الإلهيَّة ويقول: “لأنَّه لا إنسان صديق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئ” (جا 7: 20).

و”إذا أخطأ شعبك إليك، لأنَّه ليس إنسان لا يخطئ” (1 مل 8: 46).

و”من يقول أنِّي زكَّيت قلبي تطهَّرت من خطيَّتي؟!” (أم 20: 9). و”ليس أحد طاهرًا من خطيَّة ولو كانت حياته على الأرض يومًا واحدا”. يصمِّم داود على نفس الأمر: “بالآثام حبل بي وبالخطايا ولدتني أمِّي” (مز 51: 5). وفي مزمور آخر يقول: “في عينيك لا يتبرَّر قدَّامك حيّ” (مز 143: 2)…، إذ يقال “في عينيك” يعنى أولئك الذين يبدون قدِّيسين للبشر، فإنَّهم في عيني الله في كمال معرفته ليسوا قدِّيسين بالمرة. “لأن الإنسان ينظر إلى العينين وأمَّا الرب فإنَّه ينظر إلى القلب” (1 صم 16: 7)(71).

القديس جيروم

“فإذا ردُّوا إلى قلوبهم في الأرض التي يسبون إليها،

ورجعوا وتضرَّعوا إليك في أرض سبيهم قائلين:

قد أخطأنا وعوَّجنا وأذنبنا.

ورجعوا إليك من كل قلوبهم ومن كل أنفسهم في أرض أعدائهم الذين سبوهم،

وصلُّوا إليك نحو أرضهم التي أُعطيت لآبائهم نحو المدينة التي اخترت والبيت الذي بنيت لاسمك” [47-48].

يصلِّي سليمان الحكيم هنا بروح النبوَّة، فيرى ما سيحل بشعبه وبهيكل الرب خلال السبي البابلي على يد نبوخذنصَّر عام 5/586 ق.م. يقول: “ورجعوا إليك من كل قلوبهم” مؤكِّدًا الاهتمام بالصلاة والتوبة من القلب.

*     الله لا يطلب الكلمات بل قلوبكم(72).

*     إنَّنا بالقلب نسأل، وبالقلب نطلب، ولصوت القلب ينفتح الباب(73).

*     لا يتم الصراخ لله بصوت جسدي، بل بالقلب. كثيرون شفاهم صامتة لكنَّهم يصرخون بالقلب، وكثيرون يقدِّمون ضجيجًا بشفاههم، أمَّا قلوبهم فصارت عاجزة عن تقديم أي شيء. لذلك إن صرخت إلى الله، أصرخ إليه من الداخل حيث هناك يسمعك(74).

القديس أغسطينوس

“فاسمع في السماء مكان سُكناك صلاتهم وتضرُّعهم واقض قضاءهم.

واغفر لشعبك ما أخطأوا به إليك، وجميع ذنوبهم التي أذنبوا بها إليك،

وأعطهم رحمة أمام الذين سبوهم، فيرحموهم” [49-50].

الله الذي بحبُّه يُحرِّك الكل لبنيان نفوسنا، هو الذي يسمح بالتأديب حتى بالسبي، وهو الذي يحرِّك قلوب الذين يُسْبون سواء ليمارسوا عنفهم لكن في حدود يضعها، أو يمارسوا الرحمة، فيعطي شعبه نعمة في أعينهم. يترنَّم المرتِّل قائلًا: “وذكر لهم عهده وندم حسب كثرة رحمته، وأعطاهم نعمة قدَّام كل الذين سبوهم” (مز 106: 45-46).

لم يُصلِّ من أجل خلاصهم من السبيّ بالعودة إلى أرضهم، إنَّما بإعطائهم نعمة في أعين الذين سبوهم، فيتركونهم يعبدون الرب ويشهدون له وسط السبيّ كشعبٍ مؤمنٍ حقيقيٍ.

“لأن هم شعبك وميراثك الذين أخرجت من مصر من وسط كور الحديد.

لتكون عيناك مفتوحتين نحو تضرُّع عبدك وتضرُّع شعبك إسرائيل،

فتصغي إليهم في كل ما يدعونك” [51-52].

يفترض سليمان الحكيم أنَّه هو وشعبه رجال صلاة، في كل أمورهم يركِّزون أنظارهم على بيت الرب، ويفتحون أفواههم للحديث معه، وقلوبهم للصراخ إليه.

يقدِّم هنا حالات معينة على وجه الخصوص:

*     القضاء بين الشعب، لتبرير البار ومعاقبة المذنب، أي الاستجابة لصلاة الشخص العضو في الجماعة المقدَّسة.

*     عند الهزيمة أمام العدوّ، أي في حالة كارثة جماعيَّة.

*     إن حدث جفاف أو وبأ، أي في حالة كارثة خاصة بالطبيعة.

*     إن جاء أجنبي يطلب من الله، واثقًا فيه، لا في الآلهة الوثنيَّة.

وكأنَّه يقدِّم أربع عيِّنات لاستجابة الله لصلوات الفرد كما الجماعة، والطبيعة كما الأجانب عن الشعب، وهو يفترض أن ما يحل بالفرد أو بالجماعة إنَّما هو ثمرة الخطيَّة. لذلك يربط الصلاة بالتوبة والرجوع إلى الله عمليًا.

“لأنَّك أنت أفرزتهم لك ميراثًا من جميع شعوب الأرض كما تكلَّمت عن يد موسى عبدك،

عند إخراجك آباءنا من مصر يا سيِّدي الرب” [53].

و. مباركة الشعب:

“وكان لمَّا انتهى سليمان من الصلاة إلى الرب بكل هذه الصلاة والتضرُّع،

أنَّه نهض من أمام مذبح الرب من الجثو على ركبتيه،

ويداه مبسوطتان نحو السماء” [54].

قدَّم لنا سليمان صورة حيَّة للصلاة، فإنَّه صلَّى أمام مذبح الرب جاثيًا على ركبتيه في خشوع، وباسطًا يديه نحو السماء، ليحمل مع الورع صورة الصليب، مفتاح السماء.

اعتاد بولس الرسول أن يصلِّي راكعًا، إذ يقول: “بسبب هذا أحني ركبتيَّ لدى ربنا يسوع المسيح” (أف 3: 14).

يبسط الله يديه ليُعلن احتضانه لكل البشر، ولكي يتقبَّل صلواتهم، معلنًا اشتياقه أن يهب المؤمن كل احتياجاته. ويبسط المؤمن يديه في الصلاة ليُعلن اتِّساع قلبه، وشوقه أن يصعد قلبه بالحب إلى السماء. بسط اليدين أيضًا يحمل إشارة يقين المؤمن أنَّه ينال من الله عطايا سماويَّة يستقبلها بذراعيه ليحملها إلى قلبه.

“ووقف وبارك كل جماعة إسرائيل بصوت عال قائلًا:

مبارك الرب الذي أعطى راحة لشعبه إسرائيل حسب كل ما تكلَّم به،

ولم تسقط كلمة واحدة من كل كلامه الصالح الذي تكلَّم به عن يد موسى عبده.

ليكن الرب إلهنا معنا كما كان مع آبائنا فلا يتركنا ولا يرفضنا.

ليميل بقلوبنا إليه لكي نسير في جميع طرقه،

ونحفظ وصاياه وفرائضه وأحكامه التي أوصى بها آباءنا.

وليكن كلامي هذا الذي تضرعت به أمام الرب قريبًا من الرب إلهنا نهارًا وليلًا، ليقضي قضاء عبده وقضاء شعبه إسرائيل أمر كل يوم في يومه.

ليعلم كل شعوب الأرض أن الرب هو الله وليس آخر” [55-60].

كما ختم سليمان عظته في سفر الجامعة ليقدِّم ملِّخصًا مقتضبًا لها، هكذا يختم صلاته هنا ليقدِّم للشعب ملِّخصًا لها:

*     يعطي مجدًا لله من أجل أعماله مع شعبه [56].

*     يشير إلى وعود الله الصادقة لموسى النبي وداود الملك، وكيف تحقَّقت كل كلماته [56].

*     يفتح باب الرجاء أمام الشعب، فكما كان الرب مع آبائنا يكون معنا وهو لا يرفضنا [57].

*     يؤكِّد حاجتنا إلى الله نفسه ليميل قلوبنا إليه، فنحفظ وصيَّته [58].

*     الله يسمع الصلوات [59].

*     يتمجَّد الله في شعبه وسط كل الشعوب [60].

كثيرًا ما يكرِّر سليمان مؤكِّدًا الحاجة إلى الحضرة الإلهيَّة، والتمتُّع بقوَّة نعمته، وقبول الله للصلاة، وتمجيد الله وسط الشعوب.

ز. دعوة لطاعة الوصيَّة:

“فليكن قلبكم كاملًا لدى الرب إلهنا،

 إذ تسيرون في فرائضه وتحفظون وصاياه كهذا اليوم” [61].

جاءت الكلمة العبريَّة المترجمة هنا “كاملًا shaaleem تعني صحيحًا أو سالمًا، ليس فيه انقسام، بل بكليَّته مكرَّس للرب، أي يكون صادقًا ومخلصًا في حبُّه للرب.

ح. تقديم ذبائح حب:

“ثم أن الملك وجميع إسرائيل معه ذبحوا ذبائح أمام الرب” [62].

اتَّسمت فترة حكم سليمان بالسلام وعدم الدخول في معارك ممَّا كان له أثره على حالة الشعب الاقتصاديَّة. اتَّسم عصره بالخير والغنى، لهذا كان لا بُد للشعب أن يقدِّم مع ذبيحة التسبيح والفرح ممَّا وهبه الله من غنى وأغنام كذبائح.

“وذبح سليمان ذبائح السلامة التي ذبحها للرب من البقر اثنين وعشرين ألفًا،

ومن الغنم مائة ألف وعشرين ألفًا.

فدشَّن الملك وجميع بني إسرائيل بيت الرب” [63].

يخطئ البعض حين يظنُّون استحالة تقديم 22 ألفًا من البقر ومائة ألفًا وعشرين ألفًا من الغنم كذبائح، للأسباب التالية:

*     بقوله “ذبح سليمان” لا يعني أنَّه ذبح هذه الآلاف بنفسه، وإنَّما قدَّم هذه الأعداد لكي تُذبح. هذا ويمكن القول بأن الشعب اشترك في تقديم هذه الذبائح للكهنة واللاويِّين وحسبها الرب عطيَّة من يد سليمان كممثِّل لكل الشعب.

*     يرى البعض أنَّه كان يمكن للشعب أن يقوم بالذبح لكن عمل الكاهن هو رشّ الدم ووضع الحمل على المذبح ليُحرق.

*     وردَّ في يوسيفوس(75) أنَّه في عهد بيرون طلب Cestius من الكهنة أن يحصوا عدد الحملان التي قدِّمت للفصح فوجدوا أنَّها 250000 حملًا في ثلاثة ساعات بعد الظهر، وأن يُرشّ دماؤها على المذبح.

*     ويرى آخرون أن عدد الكهنة واللاويِّين كانوا كافيًا لتقديم الذبائح. ففي أيَّام داود النبي كان عدد اللاويِّين من سن الثلاثين ما فوق 38000 شخصًا، وربَّما كان عدد الكهنة ألفين أو ثلاثة آلاف.

*     لم تقدَّم هذه الذبائح في يومٍ واحدٍ، بل خلال فترة العيدين (الأسبوعين)، عيد تدشين الهيكل وعيد المظال.

“في ذلك اليوم قدس الملك وسط الدار التي أمام بيت الرب،

لأنَّه قرب هناك المحرقات والتقدمات وشحم ذبائح السلام،

لأن مذبح النحاس الذي أمام الرب كان صغيرًا عن أن يسع المحرقات والتقدمات وشحم ذبائح السلامة” [63].

ط. عيد وفرح:

“وعيد سليمان العيد في ذلك الوقت وجميع إسرائيل معه جمهور كبير من مدخل حماة إلى وادي مصر أمام الرب إلهنا سبعة أيَّام وسبعة أيَّام أربعة عشر يومًا.

وفي اليوم الثامن صرف الشعب.

فباركوا الملك، وذهبوا إلى خيامهم فرحين وطيِّبي القلوب،

لأجل كل الخير الذي عمل الرب لداود عبده ولإسرائيل شعبه” [65-66].

من حماة شمالًا غالبًا إنطاكيَّة سوريا إلى وادي مصر جنوبًا؛ أي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.

مارس سليمان وكل القيادات مع الشعب الاحتفال بتدشين الهيكل لمدَّة سبعة أيَّام، تلاها سبعة أيَّام أخرى حيث احتفلوا بعيد المظال، وفي اليوم الثامن بارك الشعب وصرفهم وهم متهلِّلون بالفرح.

ليس فقط وجد الشعب فرحه الفائق وشعبه في بيت الرب، بل حملوا هذا الفرح معهم إلى بيوتهم ليمارسوه كل أيَّام حياتهم.

باركوا الملك” أي صلُّوا من أجله لكي يهبه الرب بركته ويحل بسلامه عليه. هكذا بارك سليمان كل الجماعة [55]، وباركت الجماعة سليمان، إنَّه حب متبادل بين القائد والشعب في الرب.

من وحي 1 ملوك 8

روحك القدُّوس يدشِّن هيكلك

 

*     يوم تدشين هيكلك يوم عيد سماوي.

تفرح أنت بشعبك، وشعبك يفرح بك.

 تهلَّل سليمان والشيوخ والشعب مع الكهنة.

قدَّموا ذبائح بلا عدد.

ملأ المجد بيتك، فلم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة.

*     روحك القدوس يدشِّن هيكلك.

تفرح أنت بي وتقدِّسني.

وافرح بك وأكرِّس حياتي لك.

تتهلَّل إرادتي كملك،

وعقلي كشيوخ الشعب،

وأحاسيسي ككهنة العليّ،

وكل طاقاتي كشعب الرب.

تشترك كل طاقات نفسي وجسدي لتقديم محرقات حب.

*     وعدتني أن تحل فيَّ مع أبيك القدُّوس.

فلا يملأ السحاب نفسي،

بل يملأ روحك القدُّوس كل كياني.

لأصلِّي مع سليمان قائلًا:

لتكن عيناك مفتوحتين على هذا البيت ليلًا ونهارًا.

 لتسمع الصلاة التي يصلِّيها عبدك في هذا الموضع.

اسمع أنت في موضع سُكناك في السماء.

وإذا سمعت فاغفر.

*     هب لي قلبًا كاملًا لديك.

فأسير في وصاياك واحفظها وهي تحفظني.

ليكن كل عمري عيد مضاعف لتدشين قلبي.

لأذهب إلى خيمتي متهلِّلًا مترقِّبًا يوم لقائك وجهًا لوجه.

فاصل

فاصل

تفسير ملوك الأول 7 تفسير ملوك الأول 
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير ملوك الأول 9
تفسير العهد القديم

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى