كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي - القمص متى المسكين
الدخول في عمق التقليد الرسولي
واكتشاف سر صراع الهراطقة ضد الثالوث
لم ينخدع الآباء أبداً بالمراوغات اللفظية التي كان يعرضها الهراطقة ثمناً للمهادنة، لأن الروح القدس كان يلهم فكرهم وضميرهم ولأن حساسية الإيمان والحـق كـانـت عـنـدهم في أشد توهجها ، فكل هرطقة لم يكن قيامها في الحقيقة إلا محاولة جادة لهدم العلاقة الجوهرية بين المسيح والله الآب، فإذا لم تفلح المحاولة من هذا الإتجاه انـقـلـبــت لمحاولة هدم العلاقة الجوهرية بين المسيح وبني البشر. لأنه معروف لدى الشيطان أن خلاص الإنسان لن يتم إلا إذا كان للمسيح هاتان العلاقتان الجوهريتان كاملتين معاً في شخصه . لأننا لا يمكن أن نخلص إلا بألوهيته الكاملة، ولا يمكن أن تفتدى إلا بتجسده الكامل، ولا يمكن أن نتحد به إلا إذا كان هو الإله وهو الإنسان معاً في وحدة شخصية كاملة.
فكافة الهرطقات التي قامت و رفعت قرنها على الكنيسة فيما يختص بطبيعة المسيح كان لسان حالها يسأل : هل المسيحية ديانة فداء وخلاص وإتحاد بالله حقيقي؟ أم هي ديانة فلسفة فكرية وتأملات وحقيقة نسبية نستطيع أن نقدم أفضل منها مما عندنا ؟
وانطلقت كلمة الحق من فم الكنيسة وحطمت كل ما هو ليس حقاً وابتلعت كل ما هو شبه حق، ولم يبق من كافة المناظرات والمحاورات والبراهين والإحتجاجات إلا ما يثبت فعلاً أن المسيحية ديانة إلهية بالحق تمثل أعلى إلهام يمكن أن يبلغه الإنسان منذ أن كان وإلى الأبد… وأن المسيح هو أبن الله الذي أتى في الجسد ليفدي ويخلص ما قد هلك ويجمع المدعوين إلى ملكوت أبيه.
لم تكن الهرطقات إلا محاولة بشرية يائسة مدفوعة بروح الضلال لكي تطمس معالم الإنجيل كله وتنفي حقيقة المسيح الذي تم فيه إتحاد الله غير المحدود بالإنسان المحدود، حتى بواسطته وبالإيمان به يتحد كل إنسان بالله . وهكذا يفتدى الإنسان من الموت الأبدي إلى حياة أبدية و ينال الغفران الكلي والخلاص الذي بلا ذهب ولا فضة!!
وقد كان القديس أثناسيوس الرسولي واعياً كل الوعي حذراً كل الحذر في نقاشه وحواره مع آريوس لهذه الحقيقة الأولى والعظمى، فكان دائماً يشير إليها في بداية ونهاية كل حديث أن كل جوهر المسيحية وكل حقيقة الفداء وكل ما يجعل للمسيحية قوة الخلاص الكامل يذهب كله هباءً ويصير بلا قوة ولا معنى إذا كان المسيح الذي نترجى أنه يوحد الإنسان بالله في إتحاد حقيقي لم يكن هو نفسه الله و بنفس جوهرا الله ! لأن القديس أثناسيوس كان يرى أن الفرقة الأبدية التي حدثت في علاقة الإنسان بالله ستبقى كما هي صدعاً لا يمكن علاجه إذا كان المسيح الذي يتوسط بين الإثنين هو مجرد مخلوق وجد من العدم وكان في زمن ما غير موجود ، كما يتصوره آريوس !!
فالمسيحية يبلورها ويجمعها القديس أثناسيوس حول مركز واحد دقيق يقوم عليه كل عمل في الخليقة من فداء وتقديس وخلاص، وهي «إتحاد الله بالإنسان» أولاً في شخص المسيح وثانياً بواسطة المسيح !! في حين أن آريوس وكل هرطقة على وجه العموم إن قليلاً أو كثيراً تحاول عكس ذلك تماماً إذ تجعل كل غايتها وهمها وعبادتها ( الباطلة) تنصب على إدراك الفرق الشاسع الذي يفصل الله غير المحدود عن الإنسان المحدود، حتى في المسيح نفسه !! فبدل أن تقرب الإنسان إلى الله تحاول جاهدة لإبعاده عنه !!
إن روح العالم كان يشدد أيدي الهراطقة لكي يطفىء سراج المسيح الذي هو فرح البشرية وهجة خلاصها وطريقها المنير إلى ملكوت الله !! ولكن هيهات فالمسيح هو النور الحقيقي، والنور الحقيقي لا يُطفأ ولا يُخفى تحت مكيال.
لقد تمشى القديس أثناسيوس الرسولي وآباء المجامع في نور الإستعلان الإلهي مسوقين بروح الله حسب التقليد الرسولي فلم يخطئوا الطريق أبداً، حتى أوصلوا إيمان الكنيسة إلى إشراق الحق الكامل في المسيح يسوع حسب الكتب ـ كما نص قانون الإيمان النيقاوي.
لقد انفتح أمام الآباء بسبب كشف هذه الحقائق الإلهية التي تختص بالفداء والغفران والخلاص والتقديس والإتحاد بالله المجال للشرح والتفسير والوعظ في أصالة روحية وإلهام مستمد من الأصول الأولى للحق كما قررتها المجامع … لأن النصوص الإيمانية العقائدية التي قررتها المجامع فيما يختص بالثالوث و بالمسيح و بالروح القدس لم تقررها كبنود مجردة للإيمان وإنما قررتها كينابيع تستقي منها الكنيسة كل تعاليمها فيا يختص بالتجسد والفداء والخلاص الذي أكمله المسيح، وفيما يختص بالميلاد والخلقة الجديدة والتقديس والإلهام والشركة مع الله
ومن هذه الينابيع التي حفرها الروح القدس بيد الرسل والآباء القديسين وقررتها المجامع وحددت معالمها امتلأت الكنيسة من التعاليم الآبائية المحيية حتى اليوم، وإن كنا نترجى المزيد لأن الآباء الأول استنزفوا كل وقتهم ومقدرتهم في الدفاع عن الإيمان، وقد بقي أن نستمتع نحن به في إيجابية الفرح والنصرة بعيداً عن ظل المحاورات والجدل الكئيب.
وبانتهاء عصر المجامع يكون التقليد التعليمي والتفسيري المؤيد بالنصوص الـعـقـائـديـة القانونية ، قد بلغ أقصى غايته في إرساء قواعده الثابتة حتى يبني عليها المعلمون المؤيدون بالروح القدس تعاليمهم بكل أمان.
وللقديس فنسنت قول مأثور شامل لهذا المعنى :
التقليد حارس للأسفار المقدسة :
[ وقد يقال إن كانت نفس الكلمات والمشاعر والمواعيد التي في الأسفار المقدسة قد استعارها وتمسك بها الشيطان ( في حواره مع المسيح) وتلاميذ الشيطان الذين كان منهم أيضاً رسل كذبة وأنبياء كذبة ومعلمون كذبة، وكانوا جميعاً و بدون استثناء هراطقة مبتدعين فبماذا نعرف أصحاب الإيمان الكنسي وماذا يعمل أولاد الكنيسة الأم الحقيقية؟ كيف يميزون الحق من الباطل؟
نعم عليهم أن يشرحوا الأسفار المقدسة القانونية بمقتضى التقليد الذي تعيش به الكنيسة الجامعة و يلتزموا حدود قواعد التعليم في الكنيسة الجامعة تابعين ما هو عام في الكنيسة كلها وما هو قديم ومسلّم به.]
وحدة التقليد والأسفار المقدسة :
[لقد جرت الكنيسة الجامعة ولا زالت على إثبات الإيمان وتحقيقه بواسطة :
أولاً : سلطان الأسفار المقدسة القانونية .
ثانياً : بالتقليد الذي تسلمته الكنيسة الجامعة .
وهذا ليس لأن الأسفار في حد ذاتها غير كافية للرد على كل سؤال، ولكن لأن بمجرد التعرض لشرح الكلمات الإلهية الواردة فيها يحدث أن الإنسان بسبب اقتناعه الشخصي يتعرض للوقوع في آراء خاطئة مختلفة، لذلك أصبح من المحتم أن يكون شرح الأسفار المقدسة ملتزماً بحدود الإيمان الواحد العام للكنيسة، وبالأخص في الأمور المعتبرة أساس التعليم العام .
كذلك فإنه ينبغي أن يعتبر جداً مقدار الموافقة العامة في كل حين مع العمومية، والقدم على أن يكون هذان الإتجاهان على درجة المساواة !! لئلا نقع في إحدى هوتين: إما نتمزق ونخرج عن الوحدة الكاملة وندخل في الإنقسام، وإما نسقط من الديانة الأصلية القديمة وندخل في هرطقة البدع الحديثة.]
كتب القمص متى المسكين | |||
كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي | |||
المكتبة المسيحية |