اليهودية في أيام يوليوس قيصر

٤٨-٤٤ ق.م

بعد موت بومبي وجد قيصر نفسه في مواجهة عدو آخر وهو بطليمـوس الثاني عشر والي مصر، الذي كان في موقع يهيئ له فرصة الغلبة، وهنا يـبرز أنتيباتر(أبو هيرودس الكبير) مرَّة أخرى ببعد نظره الشديد، ففي الحال أرسل إلى قيـصر إمـدادات عسكرية وتموينية، كما أرسل رسالة سريعة إلى اليهود المقيمين في ليبتوبـوليس بمصر لمناصرة قيصر بكل قوتهم. وبهذه المعونة تمكن قيصر من الانتصار أخـيراً، ولم يتأخر في إبداء رضاه وتشكراته لليهود.

وقد حاول أنتيجونيس بن أرسطوبولس الوحيد الباقي أن يعكِّر العلاقة بين قيصر وأنتيباتر، فذهب بنفسه إلى قيصر وقدَّم دعاوي وشكاوي ودموعـاً إلى قيصر لينصفه من أنتيباتر الذي تسبب في قتل أبيه أرسطوبولس وقتـل أخيـه اسكندر، كما وشى أيضاً بهركانوس ولكن لم يسمع له قيصر. وقام قيصر بتدعيم سلطة هركانوس كرئيس كهنة وكحاكم عام على اليهودية وجعل لقبه متوارثاً لبيته. وفي نفس الوقت جعل أنتيباتر عميلاً لروما على اليهودية. وهـذا الإجراء السياسي دقيق في الواقع وغاية في الحذق والمهارة، لأن بعد نظر قيصر جعله يدرك أن عدم استتباب الأمن في اليهودية عائد لكون الشعب ذا قـدرة للتعبير عن مشاعره مباشرة ضد روما المعروف بالحكم الديمقراطي، فعمل على فصل الشعب وجعله تحت سلطة حاكم مفرد، ثم فصل الشعب وحاكمه عـن الاتصال المباشر بروما بواسطة عميل يتبع روما ويخضع له بالولاء الكامل، وفي نفس الوقت يمت بصلة مباشرة للمنطقة. وبهذا ألغى مناوءة الشعب ومنـاوءة فرقة الصدوقيين المترأسين على الكهنوت تجاه روما.
وبهذا الإجراء أيضاً أخذ هركانوس حرية كبيرة في إدارة شئون البلاد بدون تحمَّل أي هم أو مسئولية ما، لا من جهة الاتصال بروما ولا من جهة الخوف من ثورات الشعب.

ولكي يستطيع أنتيباتر أن يباشر سلطانه على اليهودية بمقتضى الأوامر الرومانية منحه قيصر حق “الرعوية الرومانية ” هو وأولاده من بعده، حتى يكفُل له حق الحماية الرومانية تجاه أي عداء أو اعتداء من جهة اليهود.

وقد أبرز هذا الإجراء الخاص في عين اليهود الاعتقاد والافتخار بأنهم شعب يحسب حسابه مما جعلهم أكثر تحفزاً . وابتدأوا يـستغلون موقـف أنتيبـاتر للمطالبة بحقوق أكثر .

وقد استجاب قيصر لكثير من المطالب، فخفَّض الجزية ومـنحهم حريـة كاملة للعبادة، مع إعطائهم حق تطبيق ناموسهم وعوائدهم حـسب تقاليـد جنسهم. وعلى هذا الأساس بدأت المحاكم اليهودية تمارس وظيفتها المـستقلة.
كما أعفى الشعب من التجند في الجيش الروماني . وقام الجيش الوطني بحمايـة البلاد بدلاً من الاعتم اد على الكتائب الرومانية التي سحبت من البلاد . كمـا منحهم قيصر كل إقليم الجليل مرة أخرى وبعض مدن الساحل وأهمها يافـا، فابتدأت التجارة اليهودية تنشط من جديد، وكان لها أكبر الأثـر في انتعـاش اقتصاديات البلاد.

ومن أهم الامتيازات التي منحها قيصر لليهود هي إعادة بناء سور أُورشليم الذي كان قد هدمه بومبي .

وفوق كل هذا لم ينس قيصر المعونة التي قدَّمها له اليهود في مـصر أثنـاء حربه مع بومبي وبطليموس الثاني عشر، لذلك عمل علـى استرضـاء يهـود الشتات والإحسان إليهم، فأعطى يهـود مـصر حريـة العبـادة وبعـض الامتيازات، كما منحهم في روما أيضاً حرية ممارسة طقوسهم الدينيـة الأمر الذي كان ممنوعاً على أي جماعة أخرى أجنبية عن الرعوية الرومانية.

كما أعطى قيصر تعليمات لكافة الحكومات التابعة والمتحالفة مع روما لمنح اليهود هذه الامتيازات في حدود دوائرهم الخاصة.

كما أمَّن قيصر اليهود ضد أي أعتداء أو ظلم من قبل البلاد المعادية لليهود في الخارج في روما نفسها، أو في الداخل مثل صور وصـيدا وأشـقلون.
فجعل لهم حق الشكوى في أي مكان على أن ترفـع لـرئيس كهنتـهم أو حاكمهم الخاص .

وقد جعل قيصر هذه الأوامر تعلّق على الكبيتول في روما وفي كافة الهياكل الحكومية في البلاد.

فكانت هذه الإجراءات الأخيرة ذات قيمة عظمى من جهة ربط اليهـود المشتتين في كافة البلاد والأُمم بعضهم ببعض، كما جعلت صلتهم المركزيـة برئيس الكهنة والحاكم المركزي في اليهودية ذات أهمية بالغة القيمة في تمركزهم في أُورشليم وخضوعهم لسلطاتهم الخاصة التي أصبحت قادرة على حمايتـهم ومساعدتهم.

كما زادت هذه الإجراءات من قوة السلطات المركزية الكهنوتية والمدنيـة ومن تأثيرها على كافة اليهود المشتتين.

وقد أعفى قيصر كافة اليهود من الجزية المفروضة (التي كانت تقدَّم علـى هيئة قمح ) في كل سنة سابعة التي كان مفروضاً على اليهود أن لا يباشروا فيها الزراعة (أي كل سبع سنوات).

من هذا لا نتعجب أن يبكي اليهود الذين في كافة أنحاء العالم على قيـصر يوم وفاته.

وبالرغم من أن الحاكم كان يذكر اسمه أنه هركانوس، إلاَّ أن أنتيباتر كان هو الشخصية الحقيقية المدبرة، والتي كانت مرموقة جداً من الرومان كـأقوى شخصية شرقية ذات ثقافة يونانية. وكان قيصر يقدر أنتيباتر تقـديراً يفـوق الوصف كشخص يستحق الإعجاب بسبب كفاءته الشخصية وحكمته وبعد نظره، بالإضافة إلى أمانته ومحبته لخير البلاد التي يحكمها.

ولقد تضافرت شخصية قيصر مع شخصية أنتيباتر – وهما أجنبيـان عـن اليهود – لخير اليهود .

ولكن تعامى اليهود عن كل هذه الظروف المواتيـة وعـن كـل هـذه الامتيازات، ولم يكن يشغل بالهم إلاَّ الحقد المستمر على الرومان وعلى أنتيباتر معاً. على الرومان لأنهم يحكمون بلادهم ويطالبونهم بالجزية، وعلى أنتيباتر لأنه أدومي – نصف يهودي . وتزعَّم كلٌّ من الصدوقيين والفريسيين معاً إثارة هذا الحقد وتنميته في الشعب معتبرين أن هذا الحقد هو الوسيلة المقدسة التي ينبغي أن يمارسوها كجزء لا يتجزأ من أمانتهم الله !

وكان لأنتيباتر ابنان مخلصان حكيمان أيضاً، الأول فاسائيل وهذا جعلـه حاكماً محلياً على أُ ورشليم، والثاني هيرودس وقد جعله حاكماً على الجليـل سنة ٤٨قظم وكان عمر هيرودس لمَّا بدأ أعماله في الجليل حوالي ٢٥ سـنة، وبدأ بالضرب على أيدي اللصوص، وقبض على زعيم لهم يُـدعى حزقيـاس الذي كان قد أفسد الأمن في الجليل كلها، وأراح سوريا كلها وإقليم الجليـل من هذ ا العاتي. مما نال إعجاب والي سوريا وكان سبباً في توطيد أواصـر الود والاحترام بينهما .
(هذه الحقائق التاريخية تكشف لنا الجو المضطرب السائد أيام المسيح الذي على أساسه ضرب المثل بأن إنساناً كان نازلاً من أُورشليم إلى أريحا فوقع بين اللصوص …).

ولكن هذا الإجراء لم يرضِ الفريسيين إذاعتبروه صادراً من أدومي غريب عن البلاد ينبغي إذلاله، لأن ليس لأحد الحكم بالإعدام إلاَّ لمجلس الـسنهدريم وحده، فهو تحد لسلطانهم ومناقضة للناموس . لذلك انتهزوا هذه الفرصة للإنهاء على هيرودس، بأن قدَّموا شكوى لهركانوس طالبوه فيها بتقـديم هـيرودس ليعطي جواباً عن خطئه أمام السنهدريم .

ولم يكن هركانوس أشرف منهم، بل وجدها فرصة أيضاً أن يتخلَّص مـن هيرودس، فأبلغ هيرودس الطلب رسمياً للحضور، ولمَّا حضر أمام الـسنهدريم كاد أن يحكم عليه، فلما أحس بالمكيدة هرب بجيشه إلى سوريا واحتمـى في عاهلها سكستوس قيصر، الذي عيَّنه سنة ٤٧ ق.م على “كويلا سـوريا ”، وهو السهل المعروف الآن “بالبقاع” الجزء المتاخم للبنان شرقاً والممتد مـن دمشق شمالاً حتى أطراف الجنوب، والمسمى أيضاً في سفر المكـابيين ببقـاع سوريا وفينيقية (٢مك ٥:٣ ) .

وقد تغيَّرت الأمور فجأة، إذ لمَّا نزل قيصر إلى شمال إفريقيا لإخضاع بقايا أتباع بومبي، قام أيضاً أتباع بومبي في سوريا وقتلوا سكستوس وتحفزوا لغـزو البلاد شمالاً وجنوباً، ولكن سارع أنتيباتر مع ابنيه واستنجدوا بمقاطعة بارثيـا الموالية لليهود منذ أيام السبي (جنوب بحر قزوين والتي كانت في عداء مـستمر للسلوقيين ودائمة الثورة ضد الحكم الروماني، ومناوئةً لكل امتداد له ناحيـة الشرق) وحاصروا أتباع بومبي سنة ٤٥ قزم، وأعانهم قيصر نفسه إذ أرسـل لهم كتائب رومانية مجهزة . وظلَّت الحرب حتى سنة ٤٤ ق.م، وفجأة اغتيـل  قيصر نفسه.

فاصل

المراجع:

  1. تاريخ بني إسرائيل – الأب متى المسكين

فاصل

النزاع بين قيصر وبومبي اليهودية تحت الحكم الروماني أنتيجونيس كملك ورئيس كهنة 
تاريخ العهد القديم

 



اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى