مر3:14-9 جاءت امرأة معها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن
3وَفِيمَا هُوَ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ، جَاءَتِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ. فَكَسَرَتِ الْقَارُورَةَ وَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ. 4وَكَانَ قَوْمٌ مُغْتَاظِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالُوا:«لِمَاذَا كَانَ تَلَفُ الطِّيبِ هذَا؟ 5لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ». وَكَانُوا يُؤَنِّبُونَهَا. 6أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ:«اتْرُكُوهَا! لِمَاذَا تُزْعِجُونَهَا؟ قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَنًا!. 7لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَمَتَى أَرَدْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِمْ خَيْرًا. وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ. 8عَمِلَتْ مَا عِنْدَهَا. قَدْ سَبَقَتْ وَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ جَسَدِي لِلتَّكْفِينِ. 9اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ، تَذْكَارًا لَهَا». (مر3:14-9)
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“وفيما هو في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص وهو متكئ
جاءت امرأة معها قارورة طيب نادرين خالص كثير الثمن،
فكسرت القارورة وسكبته على رأسه” [3].
كان السيد في بيت عنيا، أي في بيت العناء أو الألم، عيناه تنظران إلى الصليب بسرور، كقول الرسول بولس: “الذي من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي” (عب 12: 2). وكان يرى التحركات الضخمة والسريعة بين جميع القيادات اليهودية المتضاربة، تعمل معًا لأول مرة بهدف واحد، هو الخلاص منه! وسط هذا الجو المّر وُجدت امرأة استطاعت أن تلتقي به في بيت سمعان الأبرص لتقدم حبها الخالص وإيمانها الحيّ العملي، لتتقبل من السيد مديحًا ومجدًا أبديًا!
التقت بالسيد في بيت سمعان الأبرص، وقد دُعي هكذا لأنه كان أبرصًا وطهره السيد، وقد حمل هذا الاسم تذكارًا لما كان عليه ليمجد السيد المسيح الذي طهّره.
ولعل بيت سمعان الأبرص يشير إلى الكنيسة التي ضمت في داخلها من الشعوب والأمم أولئك الذين سبقوا فتنجسوا ببرص الخطية وقد طهرههم السيد بدمه المبارك! في هذه الكنيسة توجد امرأة، لم يذكر الإنجيلي اسمها ولا مركزها إذ هي تشير إلى كل نفس صادقة في لقائها مع السيد.
تشير قارورة الطيب الناردين الخالص كثير الثمن إلى الحب الداخلي، حب النفس لمخلصها، هذا الذي رائحته تملا الكنيسة كلها وترتفع إلى السماوات عينها، إن كسرت القارورة، أي احتمل الإنسان الألم وقبل الموت اليومي من أجل المصلوب.
إن كان اسم السيد المسيح دهن مهراق (1: 2)، فاحت رائحته الذكية حين أُهرق دمه مجتازًا المعصرة وحده، فإن الكنيسة بدورها تقدم حياتها مبذولة كقارورة طيب منكسرة لتعلن رائحة محبتها الداخلية.
أما عن سكب الطيب على رأس السيد، ففي نص منسوب للقديس جيروم قيل أن المرأة سكبت الطيب من القدمين حتى بلغت الرأس، لكن الإنجيلي حسبها سكبته على رأسه. ولعل ذلك يشير إلى نظرة السيد المسيح إلى أعمال المحبة أنها جميعًا تقدم لحسابه. فما قدمه للفقراء والمساكين والمرضى والمسجونين والمتضايقين والحزانى من أعمال محبة إنما يتقبله السيد المسيح نفسه كرأسٍ الكل. بمعنى آخر نحن نسكب الطيب على الأعضاء فيُنسب هذا العمل إلى الرأس، ويحسبنا سكبناه عليه.
لم يطق يهوذا محب الفضة هذا العمل الكنسي المفرح، إذ كان يود أن يُقدم ثمن القارورة له ليضعه في الخزانة لحساب الفقراء فينهبه. لهذا أثار تبرمًا وسط المحيطين به، إذ يقول الإنجيلي: “وكان قوم مغتاظين في أنفسهم، فقالوا: لماذا كان تلف الطيب هذا؟ لأنه كان يمكن أن يُباع هذا بأكثر من ثلاث مئة دينار ويعطى للفقراء وكانوا يؤنبونها” [5].
لم يهتم يهوذا أنه يفقد حياته كلها وخلاصه الأبدي، لكنه أثار نفوس التلاميذ لأجل ما يراه فقدانًا بالنسبة لأكثر من ثلاثمائة دينار!
في نص منسوب للقديس جيروم ورد التفسير للقصة بمفهوم رمزي، إذ قيل:
[سمعان الأبرص يعني العالم الذي كان دنسًا (أبرصًا بعدم الإيمان) لكنه تحوّل إلى الإِيمان. المرأة بقارورة الطيب إيمان الكنيسة القائلة: “أفاح نارديني رائحته“ (نش 1: 12). دُعي ناردين خالص بكونه الإِيمان الثمين. البيت الذي امتلأ من رائحته هو السماء والأرض. أما كسر القارورة فهو كسر الشهوات الجسدية عند الرأس الذي به تشكّل الجسد كله، فقد تنازل الرأس وأخلى ذاته حتى يستطيع الخاطيء أن يبلغ إليه. هكذا انطلقت المرأة من القدمين إلى الرأس، ونزلت من الرأس إلى القدمين، أي بلغت بالإِيمان إلى المسيح وأعضائه.]
لقد حسب يهوذا هذا الطيب خسارة، لأن يساوي أكثر من ثلاثمائة دينار، ولم يدرك أن ما قد حسبه خسارة هو ربح في عيني الرب الذي يشتاق أن يتقبل من كل إنسان ذات الطيب. فان رقم 300 يشير إلى تقديس الإنسان تقديسًا كاملاً خلال الطاعة لوصية الله في الداخل والخارج فإن كان رقم 300 هو محصلة (10×10×3)، فإن رقم 10 الأولى تشير إلى طاعة الوصية (الوصايا العشر)، ورقم 10 الثاني يشير إلى تقديس الحواس الخفية (خمسة حواس) والظاهرة، ورقم 3 يشير إلى تقديس النفس والجسد والروح بالتمتع بالحياة المقامة التي في المسيح يسوع الذي قام في اليوم الثالث، كما يشير رقم 3 إلى تقديس النفس والجسد والروح خلال الإيمان بالثالوث القدوس.
على أي الأحوال إن كانت هذه المرأة قد انتقدها الناس لكنها تمتعت بمديح الرب نفسه الذي أعلن ارتباط قصتها بالكرازة بإنجيله في العالم كله!
أخيرًا فان قصة سكب الطيب على السيد المسيح وردت في الأناجيل الأربعة (مت 26: 6؛ مر 14: 3؛ لو 7: 21؛ يو 12: 3). وواضح من الأناجيل أن سكب الطيب تكرر أكثر من مرة، وقد اختلفت الآراء في تحديد شخصيات هؤلاء النسوة اللواتي سكبن الطيب، غير أن الرأي السائد هو:
أولاً: المرأة المذكورة في إنجيل يوحنا هي مريم أخت لعازر.
ثانيًا: المرأة المذكورة في إنجيل لوقا هي خاطئة قامت بهذا العمل إثناء خدمة السيد.
ثالثًا: المرأة المذكورة في إنجيلي متى ومرقس سكبت الطيب في أيام البصخة، يرى البعض أنها غير الخاطئة، ويرى آخرون أنها هي بعينها الخاطئة سكبته وهي خاطئة تطلب بدموع المغفرة وأخرى تقدمه طيب حب وشكر أثناء البصخة، بل ويرى آخرون أنها مريم أخت لعازر ومرثا.
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (3): “وفيما هو في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص وهو متكئ جاءت امرأة معها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن فكسرت القارورة وسكبته على رأسه.”
فكسرت= كل من يقبل كسر جسده ويقدمه ذبيحة حيَّة يكون له رائحة الطيب. فقارورة الطيب تشير للحياة التي طالما كانت مغلقة فلا فائدة منها، وعندما تنفتح بالحب للمسيح، بل عندما يهلكها الإنسان ويحطمها لأجل الرب تفوح منها رائحة مباركة أبدية (الشهداء والرهبان مثلا). متكئ= هذه عادة رومانية وتعني الإستناد على المائدة. فكانوا يجلسون على الأرض ويتكئون بيدهم اليسرى على المائدة ويسندون رأسهم على يدهم اليسرى ويأكلون باليد اليمنى. فيما هو في بيت عنيا= بيت عنيا تعني بيت العناء والألم. فالمسيح أتى إلى بيت عنيا استعدادًا لأسبوع آلامه وللصليب ولكنه الآن في بيت أحبائه يفرح بحبهم له ونحن الآن في العالم في بيت الألم ولكنه مازال وسطنا يفرحنا ويعزينا بوجوده معنا. جاءت امرأة= نلاحظ أن متى ومرقس لم يذكرا اسمها. ولكن يوحنا ذكره وحده. كما نلاحظ أن متى ومرقس لم يوردا القصة في مكانها الزمني، بل في سياق قصة الآلام وبدء المشاورات لقتل المسيح. فهما أرادا أن يظهرا التضاد بين موقف الخيانة لليهود وموقف الحب من مريم (CONTRAST) . ومتى ومرقس لم يذكرا اسمها لأنهم خافوا أن يقتلها اليهود ولأنهم أرادوا أن يجعلوها كرمز لكل نفس أحبت المسيح وعلى استعداد أن تكسر نفسها وحياتها (2كو10:4، 11) + (رو35:8-39) لأجل المسيح الذي أحبها. صارت مريم تشير لكل نفس صادقة في لقائها مع السيد، صادقة في حبها وفي احتمالها للآلام لأجله، تشير لكل نفس بل وللكنيسة كلها التي تقدم حياتها مبذولة كقارورة منكسرة لتعلن رائحة محبتها. ولاحظنا أن يوحنا قال أن الطيب سُكِبَ على قدميه أما متى ومرقس فقالا أنه سُكِبَ على رأسه. وفي هذا إشارة لطيفة هي أن الحب يمكن أن يقدم للمسيح نفسه (في جلسة هادئة في الصلاة.. وهذا تمثله مريم..= سكب الطيب على رأسه) ويمكن أن نقدم الحب لأولاد المسيح.. وهذا تمثله مرثا الخادمة..= سكب الطيب على القدمين). فالمسيح رأس الكنيسة والكنيسة تحت قدميه.
آية (8): “عملت ما عندها قد سبقت ودهنت بالطيب جسدي للتكفين.”
للتكفين= كان سكب الطيب نبوة عن آلامه فالمريمات لم يقدرن على تكفين الجسد الطاهر مساء الجمعة مماّ دفعهن للذهاب بالأطياب فجر الأحد. المحبة التي في قلب مريم جعلتها تشعر بما سيحدث ليسوع بينما أن التلاميذ لم يصدقوا حتى اللحظة الأخيرة أن يسوع سيسلم للموت مع أنه قال هذا كثيرًا لهم.
آية (9): “الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها.”
يخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها= والكنيسة تتبع نفس ما قاله المسيح وهي تذكر لنا قصص محبة الشهداء والقديسين في السنكسار cuna[arion يوميًا. وفي المجمع في القداس الذي نبدأه هكذا “لأن هذا يا رب هو أمر ابنك الوحيد أن نشترك في تذكار قديسيك.. وبهذا فالكنيسة تنفذ ما قاله المسيح هنا في أن تذكر من تشابه مع المسيح، فالمسيح سكب نفسه على الصليب، والشهداء سكبوا أنفسهم حبًا في المسيح كما سكبت هذه المرأة طيبها وكسرت زجاجتها رمزًا لموت أجسادهم. ولاحظ رقة المسيح في قوله لماذا تزعجونها (آية 6) فالمسيح يهتم بمشاعر أولاده ويطيب خاطرهم. تذكارًا لها= فما فعلته هذه المرأة هو من صميم الإنجيل أي أن يبذل الإنسان نفسه محبة في المسيح.