تفسير سفر يهوديت 9 للقمص تادرس يعقوب ملطي
صلاة يهوديت الأولى
مجَّدت يهوديت إلهها الذي أعانها على إنقاذ شعبها من أليفاز الذي عيَّر الله الحيّ، وأراد أن ينجس ابنة صهيون ويذلها، كما فعل شكيم بدينة (تك 34: 30). كما مجَّدت أباها شمعون الذي – في نظرها – قد غار مع أخيه لاوي على أختهما دينة.
لقد تطلَّعت إلى شعبها بكونه العذراء الروحية التي خطبها الرب له عروسًا روحية، وأراد أليفاز أن ينتزعها من عبادة الله الحيّ، ويلزمها بالعبادة الوثنية ورجاساتها.
كما تطلعت إلى نفسها بكونها الأرملة التي ترمَّلت منذ صباها ولم تكن قد أنجبت أطفالًا، وأصرَّت على تكريس حياتها للرب، فصارت أشبه بدينة ابنة يعقوب العذراء. وقد جاءت النسخة العبرية المختصرة تدعو يهوديت عذراء وليس أرملة(96). هذا وبلدها بيت فلوي Betulia تتشابه مع الكلمة العبرية التي تترجم بتولًا.
1. صراخ وانسحاق |
1. |
||
2. الله ضابط الكل |
2 –6. |
||
3. أشور يتكبر على الله |
7 –10. |
||
4. يَهوديتُ تطلب قوة إلهية |
11 –14. |
1. صراخ وانسحاق
وسَقَطَت يَهوديتُ على وَجهِها،
وأَلْقَت رَمادًا على رأسِها،
وخَلَعتِ المِسْحَ الَّذي كانَت تَرتَديه،
وكانتِ السَّاعةُ ساعةَ تَقدِمةِ بَخورِ ذلك المساءِ في بَيتِ اللهِ في أُورَشليم.
وصَرَخَت يَهوديتُ صُراخًا عَظيمًا إلى الرَّبِّ وقالَت: [1]
في وقت تقديم البخور في الهيكل (خر30: 8)، ألقت بنفسها على الأرض في تذللٍ شديدٍ وصراخٍ عظيمٍ، وكأنها طلبت أن تأخذ من الله إشارة للبدء في العمل لحساب شعبه.
2. الله ضابط الكل
“أَيُّها الرَّبُّ، إِلهُ شِمْعونَ أَبي،
يا مَن سَلَّمَ إلى يَدِه سَيفًا لِيَنتَقِمَ مِن غُرَباءَ حَلُّوا إِزارَ عَذْراءَ لِعارِها،
وعَرَّوا فَخذَها لِخِزْيِها،
ودَنَّسوا بَطنَها لِهَوانِها.
لأنَّكَ قُلتَ: لا يَكونُ كذلك.
ولكِنَّهم فَعَلوا [2].
في صلاتها تدعو يهوديت الله: “إله شمعون أبي“، وكما يقول العلامة أوريجينوس إن كان الله هو إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، فهو أيضًا إله أبيها شمعون أيضًا(97).
يريد الله أن يدخل في علاقة شخصية مع كل إنسان ومع كل أسرة ومع كل كنيسة، فيصرخ المؤمن: “يا الله إله آبائي”. أو “إله أبي”، الذي عمل مع الأجيال السابقة ويبقى يعمل مع كل مؤمن اليوم إن التصق به وطلب نعمته ومعونته.
لقد اشترك شمعون مع لاوي في الانتقام من بني شكيم بسبب إهانتهم دينة آختهما، مما تسبب عنه غضب أبيهما يعقوب عليهما (تك34: 30؛ 49: 5-7). غير أن يهوديت تمتدح أبيها لا أعمال القتل والغدر التي قام بها وإنما على غيرته على شعبه، فأرادت أن تحمل ذات الغيرة، لكن ليس بدون مشورة كما فعل شمعون، وإنما بمشورة أبيها السماوي، الله نفسه، ومباركة شيوخ الشعب.
لِذلكَ أَسلَمتَ رُؤَساءَهم إلى القَتْل،
ومَضجَعُهمُ المَفْضوحُ بِخِداعِهِم خُدِعَ حتَّى الدَّم،
وضَرَبتَ العَبيدَ إلى جانِبِ سادتهم واِلسادةَ على غروشهم [3].
وأسلَمتَ نِساءَهم فريسة،
وبَناتِهم إلى السَّبْيِ،
وجَميع غنائمهم إلى اَقتِسامِ البَنينَ المَحْبوبينَ إليك،
الَّذينَ غارُوا غَيرَتَكَ ومَقَتوا نَجاسةَ دَمِهم واَستَغاثوا بِكَ.
اللَّهُمَّ، يا إِلهي استَجِبْني أَنا الأَرْمَلة [4].
إن كان أبوها شمعون قد غار على أخته دينة التي أذلها شكيم بن حمور، فإنها تتطلع إلى شعبها بكونها دينة الطاهرة المقدسة للرب وهذا هو أشور يريد أن يفسد إيمانها ويُلزمها بعبادة الملك الذي يحسب نفسه إله الأرض؛ ويسمح للأشوريين أن يعتدوا على النساء والأرامل ويفسدوا طهارتهن.
فأَنت صَنَعتَ أَحْداثَ الماضي والحاضِرِ والمُستَقبَل،
وقَدَّرتَ الحاضِرَ والمُسْتَقبَل وما قَدَّرتَه كان [5].
إذ تطلب التدخل الإلهي لا تنسى يهوديت أن تشكر الله على معاملاته مع شعبه الماضي، وأنه لا زال يعمل في الحاضر، وتؤمن أنه سيعمل في المستقبل، فهو إله كل الدهور الدائم العمل لحساب مؤمنيه. تقوم ذبيحة شكر وتسبيح من أجل أعماله، قبل أن تسأله أن يعمل بها.
كأنها تمجده بكونه العامل بلا انقطاع، وتطلب منه أن يهبها أن تعمل هي لا بقدرتها وحكمتها البشرية، بل بنعمته وتحت قيادته.
عندما جاء السيد المسيح كلمة الله المتجسد ليتمم الخلاص قال: “أبي يعمل حتى الآن، وأنا أعمل” (يو5: 17). الله العامل يدفعنا أن نعمل على الدوام، وكما يقول يعقوب الرسول: “فمن يعرف حسنًا ولا يعمل فذلك خطية له” (يع4: 17). ويقول الرسول بولس: “الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته” (في2: 13).
وما أَرَدتَه كانَ فقال: “هأَنذا”.
فإنَّ طُرُقَكَ جَميعَها مُهَيَّأة،
وحُكْمَكَ حُكم بصير [6].
ترى يهوديت أن ما يحدث مع شعبها ليس بالأمر الغريب، فكثيرًا ما تعرض الشعب للضيقات، خاصة للهجمات العسكرية من الوثنيين عبر التاريخ. وقد سمح الله بذلك لكي يلجأوا إليه ويدركوا الإمكانيات الإلهية القادرة على الخلاص بالرغم من ضعفهم (مز33: 16). فإن تذمروا على الله ولم يلجأوا إليه يهلكون لا بسبب الهجوم بل بسبب شرّ قلوبهم.
3. أشور يتكبر على الله
ها إِنَّ الآشوريين قد تَباهَوا بِجَيشِهم،
وافتخروا بخيولهم وفُرْسانِهم،
وتَبهروا بِذِراعِ مُشاتِهم، وتَوكَّلوا على التُرسِ والرُّمْحِ والقَوسِ والمِقْلاع،
ولم يَعلَموا أَنَّكَ أَنتَ الرَّبُّ المُحَطِّمُ الحُروب [7].
الرَّبُّ هو اسمُكَ أَنتَ،
إِسحَقْ عُنفَهم بِقُدرَتكَ،
وحَطِّمْ قُوَّتَهم بِغَضَبِكَ،
لأَنَّهم أَرادوا أَن يُدَنِّسوا مَكانَكَ المُقَدَّس،
ويُنَجِّسوا خَيمَةَ راحةِ اسمِكَ المَجيد،
ويَهدِموا بِالحَديدِ قَرنَ مَذبَحِكَ [8].
تطلب يهوديت من القدوس أن يتدخل لا من أجل برّها، ولا لأن الشعب لم ينحرف إلى العبادة الوثنية، وإنما لأجل اسمه القدوس ومدينته المقدسة وهيكله ومذبحه. لقد عرفت يهوديت أن قوة شعبها في التصاقه باسم الله القدوس، وتمتعهم بالمدينة المقدسة والهيكل المقدس ومذبح الله المقدس. هكذا يليق بنا أن نصرخ في كل يوم: “ليتقدس اسمك”، طالبين أن يقدس هيكله القدوس فينا.
أُنظُرْ إلى كِبرِيائِهِم،
وأَنزِلْ غَضَبَكَ على رُؤُوسِهِم
وامنَحْ يَدي أَنا الأَرملَةَ القُوَّةَ الَّتي أَرتَقِبُها [9].
أما الجانب السلبي الذي تعرضه يهوديت أمام القدوس القدير فهو كبرياء العدو وتشامخه على الله نفسه، فهي تطلب ليديها القوة الإلهية لكي يغير الله على العدو المتشامخ، بإعلان قدرته ومجده في يدي أرملة تنتسب إليه.
اِضرِبْ بخداِعِ شَفَتَيَّ العَبدَ إلى جانِبِ الرَّئيس،
والرَّئيسَ إلى جانِبِ الخادِمِ
واسحَق تَعَجرُفَهم بِيَدِ أمْرَأَة [10].
تعترف يهوديت أنها تنطلق للعمل بشفتين ماكرتين لقتل العدو الماكر، ولعله ما كان يمكنها النطق بهذا وطلب معونة لمساندتها لو لم تكن قد تمتعت بإعلانٍ إلهي بطريق أو آخر لكي تتحرك نحو هذا العمل، بالرغم من ضعفها. إنها لا تقف عند نوالها إمكانية إلهية للبدء في العمل فحسب، وإنما تطلب أن يرافقها كل الطريق وحتى نهايته.
4. يَهوديتُ تطلب قوة إلهية
لأَنَّها لَيسَت قُوَّتُكَ بِالكَثرَة،
ولا قُدرَتُكَ بِالأَقوِياء
بل إِنَّكَ إِلهُ المتألمين ومُغيثُ المظلومين ونَصيرُ الضُّعَفاء،
وحامي المُهمَلين ومُخلِّصُ اليائسين [11].
تصلي يهوديت لله كي يسندها لا كمقاتلة وإنما كأرملة ضعيفة فهو حليف الضعفاء.
في صلاتها مجدت يهوديت إلهها الذي لا يعتمد على القوة البشرية والسلطان الزمني، فهو لا يهتم بالعدد ولا القدرة الزمنية. أنه إله المتواضعين، ومعين المتضايقين، وسند الضعفاء، والمدافع عن المتروكين ومخلص الذين لا رجاء لهم.
لم تستعرض يهوديت في صلاتها برّها وتقواها بل أبوة الله وحبه ورعايته لأبيها شمعون ولكل الشعب، وتدعوه رب السماوات والأرض وخالق المياه. وكأنها تشهد أنها وإن طلبت من أجل شعبها فهو منتسب لله، وإن سألت عن ما حلّ بالشعب من ظمأ فهو وحده خالق المياه. إنه الملك القدير على الخليقة كلها، في يديه شعبه، وكما نجت من سلطانه العدو الذي يسخر بالله.
نَعَم، نَعَم، يا إِلهَ أَبي،
وإِلهَ ميراثِ إِسْرائيل رَبَّ السماوات والأَرض،
وخالِقَ المِياه،
ومَلِكَ خَليقتِكَ كُلِّها،
اِستَجِبْ لِصَلاتي [12].
وهَبْ لِكلامي وخدِاعِي
أَن يَجرَحَ وُيؤلِمَ أُولئكَ الَّذينَ دَبروا المُؤامراتِ القاسِية على عَهدِكَ وبَيتِكَ المُقدَّس
وقِمَّةِ صِهْيون والبَيتِ الَّذي يَملِكُه أَبناؤُكَ [13].
أرادت يهوديت أن يستخدمها الله للشهادة له أمام الأمم الذين يتآمرون على عهد الله وبيته المقدس وشعبه. تطلب أن يسند كلماتها بقوته، فليس من إمكانية لتحقيق الخلاص إلاَّ به.
تعترف التقية يهوديت أنها قد وضعت في قلبها وفي خطتها أن تخدع أليفانا وقد طلبت من الله أن يستخدم كلماتها لجرح المقاومين لشعبه، والعاملين على تحطيم العهد الذي بين الله وشعبه، وتحطيم البيت المقدس وجيل صهيون.
وهَبْ لِكُلِّ أُمَّةٍ وكُلِّ عَشيرةٍ أَن تَعرِفَ أَنَّكَ أَنتَ الإِله،
إِلهُ كُلِّ قُدرَةٍ وكُلِّ قُوَّة،
وأَن لَيسَ لِنَسْلِ إِسْرائيلَ مِن حامٍ سِواكَ” [14].
ما يشغلها هو مجد الله حتى وسط الأمم الوثنية، ليدرك البشر أنه الله القدير مخلص شعبه ومؤمنيه.