البابا بطرس السابع (الجاولي)

البطريرك المائة والتاسع 

ولد بقرية الجاولى بمركز منفلوط ولذا أشتهر باسم بطرس الجاولي . وكان يدعى أولا منقريوس. ورسم قسيسا بدير القديس أنطونيوس باسم مرکوریوس ثم رقي الى درجة الايغامانوسية لما لاحظه فيه رئيس الدير من التقشف والاستقامة ولبث مواظبا على أفعاله النسكية حتى بلغ خبره مسامع البابا مرقس سلفه فاستدعاه اليه وكان في حاجة شديدة الى رجل صالح يرسمه للحبشة فانتخبه لهذه الوظيفة غير أن عناية الله أخرت تعيينه وحفظته لما هو اسمی من ذلك . الا أنه رسم مطرانا على الكنيسة عموما باسم وكيل الكرازة المرقسية ودعی ثاوفيلوس فأقام مع البابا مرقس في الدار البطريركية وشاطره في القيام بجميع مصالح الامة الى أن توفي البابا مرقس فأجمع رأي الكل على اقامته بطريركًا وقد تم تعيينه في يوم الاحد 16 كيهك سنة ١٥٢٦ ش و ١٨١٠ م بعد وفاة سلفة بثلاثة ايام وذلك في عهد خديوية محمد علي باشا .

وهو أول من وضعت عليه الايدي في مركز البطريركية.

كان هذا البابا تقيا ورعا زاهدا متقشفا محبا للخير قليل الكلام مع هيبة و وقار يقضي يومه منكباً على المطالعة أو مواظبا على الصلاة خصوصا لاجل سلام كنيسته و يروی ان احد اصحابه احتاج اليه في امر فدخل عليه حجرته فألقاه يصلي والدموع على خديه وليس عليه من الملابس الا ما يقيه من النظر فأمر بعد ذلك أن لا يدخل اليه احد وهو منفرد .

ولم يكن يهتم يوما ما يأكل أو يشرب حتی أنه أشتهي مرة طعاما فأبقاه الى أن أنتن ومن ثم أكل منه رغما عن اشمئزاز نفسه تعنيفا لها وتبكيتا . ومثل ذلك يقال عن لباسه فلم ير يوما لابسا لباسا أنيقا أو جالسا في مكان يدل على الابهة بل كان لا يلبس الا الصوف الخشن و ينتعل مركوبا مكعوبا أحمر بملعقة ولا يجلس الا على الأرض أو على دكة ولا ينام الا على حصير من القش و بالجملة فكان ودیعا متواضعا لم يزده ارتقاؤه الى رتبة البطريركية الا مبالغته في أنكار الذات فلم يغير نظام رهبنته حتى قيل أنه كان يجدل الخوص في اوقات فراغه.  وكان لا يتعرض الى أمر من أمور السياسة ولا يخرج من الدار البطريركية الا اذا دعته الحاجة واذا سار في الطريق ارخي على وجهه أثاما اسود واذا تكلم في التأدب والحشمة ولا ينظر الى وجه سامعه ولم يكن يرغب في حضور الاكاليل في المنازل واذا طلب أحد وجوده لنوال بركة فكان يطلب حضور العروسين بالكنيسة صباحا ليناولها الاسرار المقدسة بعد الاعتراف .  

قيل أنه أصيب مرة بألم في ركبتيه فوصف له العارفون لبس ثلاثة جوارب من الصوف فأبي بتة أن يبدل نظام معیشته النسكية معتقدا أن الله وحده هو الشافی وكان هذا البابا فضلا عن ذلك سامي الاخلاق واسع العقل كثير الرغبة في اصلاح كنيسته وكان ميله شديدا لمطالعة الكتب الدينية والعلمية والتاريخية حتى كانت تشغله المطالعة احيانا عن الأكل والشرب وهذا اهتم بنقل ونسخ الكتب النادرة ومن ضمنها سيرة القديس باخوميوس ابي الشركة و ينسب معظم ما يوجد اليوم في مكتبة البطريركية الى ما جمعه هذا البابا.

ووجد له مؤلف كتاب « نوابغ الاقباط ومشاهيرهم » في مكتبة البطريركية كتابين بخطه في الدفاع عن العقائد الأرثوذكسية الأول در مقالات في المجادلات » والثاني في الاعتقادات رد على المعاندین » وله أيضا مواعظ ورسائل وقصد بما كتب هداية من انسلخوا عن كنيستهم وانضموا للكنيسة الباباوية.

وأضاف البابا بطرس الى هذه الصفات الحلم في الرئاسة والحكمة في التصرف فاصبح موضوع الإحترام  الجميع وفاز بحظوظ قلما سبقه فيها غيره فكانت الحكومة راضية عنه وكان قومه حاصلين على الأمن والرفاهية والكنيسة مشهورة في القطر المصري حاصلة على اقامة شعائرها ونال حظوة لدى الوالی و بواسطته نجح الأقباط وعهدت الحكومة اليهم في الاشغال الكتابية والادارية ونالوا أوفر قسط من الحرية فكانوا يباشرون عبادتهم ويخرجون موتاهم وأمامهم الصليب بدون خوف وكان بالنوبة ۱۷ ابروشية ايام أن كان أهلها يدينون بالمسيحية فلما خضعت لمصر بعد الفتح العربي سقطت حكومتها المسيحية وأبدلت بحكومة أسلامية ولما تم لمحمد علي باشا فتحها سنة ۱۸۲۰ م كان لا يزال بها ألوف من الاقباط وعاد الذين تظاهروا بانکار الديانة المسيحية الى الاعتراف بها وطلبوا أن يرسم لهم اساقفة فرسم البابا بطرس أسقفين على التعاقب وأرسلها مع فيئة من الرعاة برضاء الهيئة الحاكمة وكان أفضل ما اشتهر به البابا بطرس زهده في المال و کراهته له فلم تجد السيمونية اليه سبیلا بل كان لا يسمح بوضع اليد على أي كاهن ما لم يتأكد من حسن سلوکه.

وفي مدته صار تجدید کنائس بالاقاليم البحرية والقبلية ورسم في عهده ۲۰ اسقفا ومطرانين للحبشة ومن الأساقفة المشهورين في أيامه يوساب الاخميمى واثناسيوس الغمراوی وتوماس المليجي وسرابامون المنوفي الشهير بابی طرحه.

وكان أقباط بلدة الجاولی مسقط رأسه متضايقين للغاية من قساوة العائلات الاسلامية القوية فيها فلكي يخلص البابا بطرس قومه من نيرهم استدعى اليه اكابر اقباط تلك البلدة وكلفهم بانتقاء مائتی فدان من أفضل أطيانهم وقدمها هدية لشريف باشا ورام بذلك أن يعين لها الباشا متی دخلت في حوزته مندوبا من قبله كالحاكم يكون له وحده حق الاشراف على شئون البلدة و بذلك استبداد المسلمين بالاقباط . وكان الرجل الذي عينه شريف باشا بايعاز البابا بطرس قبطيا . من أسيوط يدعى المعلم بشاي مليوش واعطاه شر یف باشا 36 فدانا من المائتين ليزرعها و يعيش من ایرادها وهذه الطريقة تمكن البابا من تحرير اقباط بلدته من الذل الذي كان واقعا عليهم ففاح حينئذ عبير فضائل هذا البطريرك الجليل في كل مكان وأصبح ذكر اسمه مقرنا بكل أجلال واحترام وتقاطر الى مجلسه كبار العلماء المتدينين للمباحثة فكان يجاوهم على اسئلتهم بكل حكمة .

و وشح الله علمه وتقواه بموهبة الآيات والعجائب فجرى على يديه منها الكثير ومن ذلك قيل أنه ذات يوم أتاه رجل مخبرا اياه بأنه ترك بيته مدة خمسة أشهر طلبا للمعاش ثاني يوم زواجه قبل أن يعرف زوجته ولما رجع إليها وجدها حبلى ولما سألها عن الحقيقة ازدرت به لعلمها بان اباها أسمي  منه مقاما وأعلى مركزا فاستدعى البطريرك تلك المرأة فأتت مع والدها وأخذ البطريرك يستخبرها عن الواقع و ينصحها أن تعترف له فأبت أن تجيبه الا بقولها « ان حملي هو من زوجي » ولما أدرك البطريرك أنها تكذب قال لها « ان الذي من الله يثبت والذي من الشيطان يزول » فلم تبال بهذا القول ولكنها لم تكد تضع رجلها على آخر درجات سلم البطريركية حتى سقط الحمل . فلما علم البطريرك بذلك أصدر حكم بطلاقها لعلة الزنا . وقد كان ذلك الرجل الوجيه يظن أن جاهه يحمل البطريرك على الحكم لمصلحته ولكن البطريرك خيب قوله وقال له « ليس بينكم احد أقوى من الضعيف من كان مع الحق ولا أضعف من القوي متى كان مع الباطل »

وفي أيامه توقف النيل عن الزيادة فضج الناس وعجوا وأمر الحاكم رؤساء الأديان برفع أصوات الإبتهال الى الله لتزيد مياه النيل فصلي أولا المسلمون وعقبه اليهود فلم يزد النيل قيراطا واحد فطلب من البطر برلك أن يصلي فتقدم الى ساحل البحر ومعه بعض الاساقفة والكهنة والشعب وعلماء الامة ورفع الأسرار الربية وبعد الانتهاء القى المياه التي غسلت به الأواني المقدسة في البحر مع قربانة البركة فشوهد البحر يتعالی حتی اخذ حده في الزيادة و وصل الى المكان الذي اقيمت فيه خيمة الصلاة قبل أن ترفع وكان ذلك في 19 مسری سنة ١٥٢٥ ش.

 وبلغت اخبار فضل البابا بطرس وتقواء مسامع محمد علي باشا فأجله وأكرمه وأنزله عنده منزلة سامية وحدث لما أحتل ابراهيم باشا الأراضي المقدسة وشي اليه بعض الاشرار بأن ما يدعی به المسيحيون من ظهور النور على قبر المسيح هو زور وبهتان فصدق ابراهيم باشا وشايتهم وزاده ریبا علمه أن النور لا يخرج الا على أيدي بطاركة الأروام بالقدس . ولما كانت ثقة ابراهيم باشا وابنة بالبابا بطرس عظيمة استدعاه اليه من مصر فسار البطريرك الى القدس ولما علم ابراهيم باشا بقدومه خف لاستقباله بحاشيته وقواد جيشه وعند حضور البطريرك أمسك بيديه وساعده على النزول من مركبه وأعلمه بالامر الذي أستقدمه بسببه وطلب منه أن يصلي ليخرج النور على يديه فأجابه البابا بطرس والدموع تفيض من عينيه « أن النور يظهر على يديك لا على يدي أنا الخاطىء » ولعلم البابا بطرس بان ذلك تترتب عليه عدواة بين الروم والاقباط اعتذر لابراهيم باشا طالبا منه أن يكون حاضرا معه بطريرك الأروام و يكون هو معه ليزول الريب فرافقها أبراهيم باشا وكانت كنيسة القيامة قد فاضت بالجماهير وتضايق الناس من الازدحام فأمر ابراهيم باشا عساکره باخراج جميع الفقراء والزائرين الى خارج كنيسة القيامة والاحداق بهم حتى يوقعوا بهم اذا لم يظهر النور فشعر البابا بطرس بسوء العاقبة اذا لم يظهر النور وكان قد قضى هو و بطريرك الأروام مواظبين على الصلاة والصوم مدة ثلاثة ايام كالعادة و بعد ذلك اقيمت الصلاة المعتادة فوق القبر ولم تتم حتى انبثق نور من القبر المقدس واجتاز من الاعمدة فشقها كما يرى اليوم الى ان وصل الجماهير المحتشدة خارج الكنيسة فضجوا هاتفين « النور . النور » وتلتهم اصوات الذين في الكنيسة قائلين كذلك بطريقة أرعبت ابراهيم باشا وصيرته  في ذهول وكاد يسقط على الارض وهو يقول ( امان بابا » وأستند على البطريرك  حتى هدأ روعه وعادت اليه قواه .

ومن ثم بالغ أبراهيم باشا في تعظيم البابا بطرس واعاده الى القاهرة بكل اجلال وقضی بقية حياته يقضي بين شعبه بكل حكمة وعلم منصفا للمظلوم من الظالم وللضعيف من القوى دون أن يراعي الا ما يمجد اسم الله القدوس .

وذات يوم جاء واحد من كبار الشعب يصلى بالكنيسة صباحا كالعادة فرأى أن الكاهن قد اطال في الصلاة فكلمه في ذلك وأفهمه أن ميعاد أنصراف الموظفين الى دواوينهم قد أزف فلم يلتفت اليه الكاهن بل استمر يصلي حتى انتهت العبادة فشکی الكبير الكاهن الى البطريرك فقال له ” هذا بيت الله ولا يصح تقديم أو تأخير العبادة فيه تبعا لرغائب الناس”.

 ومما يدل على عظم فضيلته انه اتاه يوما رجل يشكو من امرأته التي تزوجها بكرا فوجدها ثیبا فقال له الباب بطرس « ذلك هو الافضل لك حتى تقوم بخدمتك كما يجب » فكرر عليه الرجل الشكوى وهو يقول له “خير لك أن تكون امرأة لتقضی لوازمك ” ولما رآه الرجل لا يفهم المقصود احضر له اناء من اللبن الرائب مختوما بدون أن تمسه يد وقال له ان البكر تكون هكذا ثم غمس فيه أحد أصابعه وقال له هكذا تكون الثيب فقال البطريرك « لعن الله اليوم الذي عرفت فيه البكر من الثيب » ثم قضى في دعواه رسميا.

ولما كان محمد باشا يتقدم في فتوحاته وغزواته خشیت دولة روسيا أن يعظم أمره ويحول دون أمانيها في الشرق وفي المملكة العثمانية ففكرت أن تستعين بالامة القبطية على نيل أغراضها ضد محمد علي باشا فأرسلت أميرا روسيا يعرض على بطريرك الأقباط قبول حماية الروسيا لشعبه فذهب المندوب الى الدار البطريركية وكان يفتكر أنه يرى رئيس أكبر أمة مسيحية في أفريقية بحالة تدل على عظمة وتتم على أبهة وكانت قد وردت الاخبار البطريرك بزيارته فلم يبدل شيئا من نظام بطريركيته أو يهتم بتغيير هيئته حتى انتهى الية المندوب الروسي فالفاء والكتاب المقدس بیدیه يطالع فيه وهو بزعبوطه الصوف الخشن جالسا على مقعد خشبي وحوله مقاعد مثله مبعثرة فلم يخطر ببال المندوب أن هذا هو رئيس الأمة القبطية سليلة مجد الفراعنة وسأله این البطريرك ؟ فاجابه البابا بطرس ومن الذي يروم مقابلته فأجابه المندوب معرفا اياه بمركزه العظيم فقال له البابا بطرس بكل هدوء تفضل أجلس أنا البطريرك بنعمة الله فظهرت بغتة على المندوب دهشة عظيمة وكاد يكذب أنه هو ويخرج لولا انه رأى ملامح الصدق ظاهرة على وجه البطريرك ولعل دهشة المندوب نشأت من مقابلة بساطة البابا بطرس بفخفخة رؤساء الأديان في باقي الاقطار حيث يقلدون الملوك في مجالسهم وملابسهم وأبهتهم ولكن لو رفع بصره وتمثل أوامر رئيس المسيحية لرسله وكيف كان يعيش رؤساء المسيحية في عصورها الأولى لزال عجبه واعتبر أن هذا حقا خليفة رسل المسيح في بساطتهم ونسكهم ووقف المندوب برهة وهويشخص الى البطريرك باهتا حتى غلبته عظمة البابا بطرس الروحية لا الخارجية فاسرع اليه وأنحني أمامه ولثم يديه فقابله البابا بطرس بما يليق وأجلسه بجانبه عبد يسوع ثم أخذ المندوب يسأله لماذا يعيش بمثل هذه البساطة ولا يهتم بمركزه في العالم المسيحي فأجابه البابا بطرس « ليس الخادم أفضل من سيده أنا عبد المسيح الذي أتى الى العالم وعاش مع الفقير ولاجله و كان يجالس الخطاة ولم يكن له دار يأوي اليها أما أنا فلى مكان أقيم به وأحتمی فيه من حر الصيف و برد الشتاء . لم يكن للمسيح ملك الأرض والسماء ما يأكله مع رسله الأطهار ولا مخزن فيه مؤونة وها أنا آكل وأتمتع فهل أن أفضل من صاحب المعونة ؟ فتحير المندوب في كيف يجيب وتخلص بالسؤال عن حال الكنيسة القبطية فاجابه البابا أنها بنعمة مخلصها في خير ومادام هو يرعاها فلابد أن تجاوز جميع الصعوبات فبدأ المندوب يظهر ألمه على حالة الاقباط التعيسة وعرض على البطريرك حماية قيصر الروسية للشعب القبطى فاجابه البابا مستفهماً بشيء من البساطة « هل مليككم يحيا الى الابد » قال له لا يا سيدي الأب بل يموت کما یموت سائر البشر . فاجابه « أذن أنتم تعيشون تحت رعاية مليك يموت واما نحن نعيش تحت رعاية مليك لا يموت وهو الله » حينئذ لم يسع المندوب الا ان ينطرح على قدمي البابا بطرس واخذ يقبلها وترك الدار البطريركية وقد شعر بعظمة هذا البطريرك الروحية وانطلق الى محمد على باشا فسأله عما رأي بمصر فاجابه « لم تدهشنی عظمة الأهرام ولا ارتفاع المسلات و کتابها ولم يهزني كل ما في هذا القطر من العجائب بل أثر في نفسی فقط زيارتي للرجل التقى بطريرك الاقباط » ثم روى له ما جرى بينها فطفح السرور على وجه محمد على باشا وقام في نفس اليوم إلى الدار البطريركية وقدم الشكر الجزيل للبابا بطرس على ما أبداه من الوطنية الحقه ومن الاخلاص للبلاد قال له البابا بطرس لا . تشكر من قام بواجب عليه نحو بلاده » فقال له محمد على باشا والدموع تنهمر من عينيه « لقد رفعت اليوم شأنك وشأن بلادك فليكن لك مقام محمد على مصر ولتكن مركبة معده لركبك كمركبته ».

 وبعد هذه الحوادث حصل خلاف بين الانبا سلامة مطران الحبشة و بين ملكها وسببه انه لما فتح السودان طلب النجاشي من البابا بطرس رسم الكهنة على الحدود للحبشة فلبعد المسافات كلف الانبا سلامه باختيار الكهنة فرسم الانبا سلامه من العلمانيين الأقباط العدد المطلوب على الطقس القبطى فلم يرض بهم الكهنة الأحباش الذين معه ولم يعترفوا بهم وشنعوا عليه للنجاشی ثيودوروس فكان هذا مبدأ الخلاف الذي أتسع . والسبب الحقيقي لهذا الخلاف هو تحول الاحباش عن التمسك بالامانة المستقيمة فكان الانبا سلامه ينصحهم ليرجعوا إلى أعتقادهم الأصلي أبوا سماع صوته مدعين بأنهم وجدوا آباءهم على ما يسيرون عليه واذ رأى أن النصائح غير كافية لردعهم هددهم باستعمال أحكام الكنيسة فرفعوا الى البطريرك شكوى في حقه مؤداها أنه قاس عليهم فكتب إليه البطريرك يطلب منه أن يستعمل معهم اللين واللطف فارسل المطران للبطريرك يشرح له حقيقة المسألة فشجعه على ثباته ويذكر مؤلف « الكافي » سببا آخر لهذا الخلاف وهو أنه يوجد للقبط بارض بیت المقدس دیر عظيم يعرف بدير السلطان وهو على مقربة من كنيسة القيامة وكانت تأوي اليه جماعة من الحبشان المستوطنين ببيت المقدس کسائر الغرباء الذين لا مأوى لهم بتلك الديار فاتفق أن وقع شقاق بين أولئك الحبشان و بین رهبان ذلك الذير الى المخاصمة ثم إلى الملاكمة فلم يسع الرهبان الا اخراج اولئك الحبشان خارج الدير المذكور وسد أبوابه في وجوههم فتحزبوا وأرادوا الدخول عنوة فلم يفلحوا فشكوا أمرهم إلى أصحاب الحل والعقد فلم ينالوا غرضا وكان قد كبر مصابهم على قنصل الانجليز ببیت المقدس فتجرد للاخذ بناصرهم و بالغ في تعضيدهم لامر لم تصل الينا معرفته فقام اولئك الحبشان يدعون ملكية الدير المذكور وقالوا ان الذي انشأه هو أحد ملوك الحبشة ولذلك يسمى بدير السلطان وأما القبط فلا ملك لهم ولا سلطان منذ دخول المسيحية بارض مصر وقال القبط غير ذلك أنه بواسطة الأسعد أحد عظماء القبط في خلافة محمد المهدي ثالث خلفاء و العباس كان الخليفة المشار اليه احسن الى القبط بقطعة الأرض الواقع عليها بناء الدير المذكور ورسم ببنائه على نفقته فسماه جماعة القبط من يومئذ دير السلطان بني ولا عظم الخلاف وتحرجت الحالة أوعز قنصل الانجليز للحبشة برفع ظلامتهم للدولة العثمانية فسار من نفر الى القسطنطينية ووردت كتب النجاشي في ذلك للبابا بطرس فکتب الی مطران القدس ليفض هذا الخلاف بالحسنى فلم يفلح في أقناع جماعة الاحباش ولبث الشقاق يستفحل واشتد الخلاف بين مطران الحبشة واهلها كما ذكرنا فلم ير البطريرك بدا من تسوية المسألة خوفا من حدوث ما لا تحمد عقباه و كان في نيته السفر لبلاد الحبشة لفض هذا النزاع بنفسه فحالت دون ذلك شيخوخته . فأسرع بارسال القس داود رئيس دير انطونيوس الذي خلفه في البطريركية باسم كيرلس الرابع وأوفد معه راهبا بالدير أسمه برسوم الذي رقي فيها بعد مطران على المنوفية باسم انبا يؤنس وزود داود بالنصائح ليحل هذا الخلاف بالحكمة وسلمه ثلاثة كتب لكل من المطران والاكليروس والشعب الحبشي وقبيل سفر داود وعده البطريرك بأنه أذا حل المسألة على أحسن حال يكافئه مكافأة حسنة ووعده بالمطرانية أذا أتاه ناجحا فسار القس داود الى عزبة بوش وتأهب للسفر سنة ١٥٦٧ ش و١٨١٥م ثم وصل الى الحبشة بعد متاعب جمة كم سيذكر في تاريخه . وفي أثناء وجود القس داود ببلاد الحبشة مرض البابا بطرس وعند احتضاره سأله بعض كبار الامة عمن يخلفه في هذا المنصب فرفع عينه الى السماء لحظة ثم اطرق وقال « داود رئیس عزبة بوش » فارسلوا يستدعونه عاجلا وكان البابا بطرس قد کتب اليه قبل مرضه بايام كثيرة أن يحضر ولا يبطىء لشدة الحاجة اليه ولكنه لم يحضر الا بعد وفاة البطريرك بشهرين ونصف وبلغت مدة رئاسة البابا بطرس ٤٢ سنه وثلاثة أشهر و ۱۲ يوما وتنيح منشرح الخاطر من التحسين العظيم الذي تم في أيامه الا انه كان يظهر المه من تصرفات الارساليات الكاثوليكية التي كانت في مبدأ الأمر تعمل فقط لجذب الاروام ولكنها تعدت على الكنيسة القبطية وأغرت بعض أعضائها على ترك مذهبهم وروى السنكسار بانه عمل الميرون المقدس وعمر بدير أنطونيوس عمارة جسيمة وزار الديورة بالبراري المقدسة وزار كنيسة مار مرقس بالاسكندرية ووصف بانه كان طويل القامة ممتلىء الجسم ذا صحة معتدلة قلما يشكو ألمه و يعلون ذلك لتقشفه وزهده واعتداله وكانت وفاته في ليلة الاثنين أول جمعة عيد الفصح ۲۸ برمهات سنة ١٥٦٨ ش و ١٨٥٢ م ودفن بالاکرام بجانب سلفه وخلا منصب البطريركية بعده سنة واحدة و ۱۱ يوما.

فاصل

البابا مرقس الثامن القرن التاسع عشر عصر النهضة البابا كيرلس الرابع
تاريخ البطاركة
تاريخ الكنيسة القبطية

 

زر الذهاب إلى الأعلى