تفسير سفر المكابيين الثاني 7 للقمص أنطونيوس فكري
الآيات (1-42): “وَقُبِضَ عَلَى سَبْعَةِ إِخْوَةٍ مَعَ أُمِّهِمْ، فَأَخَذَ الْمَلِكُ يُكْرِهُهُمْ عل تَنَاوُلِ لُحُومِ الْخِنْزِيرِ الْمُحَرَّمَةِ، وَيُعَذِّبُهُمْ بِالْمَقَارِعِ وَالسِّيَاطِ. فَانْتَدَبَ أَحَدُهُمْ لِلْكَلاَمِ وَقَالَ: «مَاذَا تَبْتَغِي؟ وَعَمَّ تَسْتَنْطِقُنَا؟ إِنَّا لَنَخْتَارُ أَنْ نَمُوتَ وَلاَ نُخَالِفَ شَرِيعَةَ آبَائِنَا». فَحَنِقَ الْمَلِكُ وَأَمَرَ بِإِحْمَاءِ الطَّوَاجِنِ وَالْقُدُورِ، وَلَمَّا أُحْمِيَتْ، أَمَرَ لِسَاعَتِهِ بِأَنْ يُقْطَعَ لِسَانُ الَّذِي انْتُدِبَ لِلْكَلاَمِ، وَيُسْلَخَ جِلْدُ رَأْسِهِ وَتُجْدَعَ أَطْرَافُهُ عَلَى عُيُونِ إِخْوَتِهِ وَأُمِّهِ. وَلَمَّا عَادَ جُذْمَةً، أَمَرَ بِأَنْ يُؤْخَذَ إِلَى النَّارِ وَفِيهِ رَمَقٌ مِنَ الْحَيَاةِ وَيُقْلَى. وَفِيمَا كَانَ الْبُخَارُ مُنْتَشِرًا مِنَ الطَّاجِنِ كَانُوا هُمْ وَأُمُّهُمْ يَحُضُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى الْمَوْتِ بِشَجَاعَةٍ، قَائِلِينَ: «إِنَّ الرَّبَّ الإِلهَ نَاظِرٌ، وَهُوَ يَتَمَجَّدُ بِنَا كَمَا صَرَّحَ مُوسَى فِي نَشِيدِهِ الشَّاهِدِ فِي الْوُجُوهِ إِذْ قَالَ: وَسَيَتَمَجَّدُ بِعَبِيدِهِ». وَلَمَّا قَضَى الأَوَّلُ عَلَى هذِهِ الْحَالِ، سَاقُوا الثَّانِيَ إِلَى الْهَوَانِ، وَنَزَعُوا جِلْدَ رَأْسِهِ مَعَ شَعْرِهِ، ثُمَّ سَأَلُوهُ هَلْ يَأْكُلُ قَبْلَ أَنْ يُعَاقَبَ فِي جَسَدِهِ عُضْوًا عُضْوًا؟ فَأَجَابَ بِلُغَةِ آبَائِهِ وَقَالَ: «لاَ». فَأَذَاقُوهُ بَقِيَّةَ الْعَذَابِ كَالأَوَّلِ. وَفِيمَا كَانَ عَلَى آخِرِ رَمَقٍ قَالَ: «إِنَّكَ أَيُّهَا الْفَاجِرُ تَسْلُبُنَا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَلكِنَّ مَلِكَ الْعَالَمِينَ إِذَا مُتْنَا فِي سَبِيلِ شَرِيعَتِهِ، فَسَيُقِيمُنَا لِحَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ. وَبَعْدَهُ شَرَعُوا يَسْتَهِينُونَ بِالثَّالِثِ، وَأَمَرُوهُ فَدَلَعَ لِسَانَهُ، وَبَسَطَ يَدَيْهِ بِقَلْبٍ جَلِيدٍ، وَقَالَ: «إِنِّي مِنَ رَبِّ السَّمَاءِ أُوتِيتُ هذِهِ الأَعْضَاءَ، وَلأَجْلِ شَرِيعَتِهِ أَبْذُلُهَا، وَإِيَّاهُ أَرْجُو أَنْ أَسْتَرِدَّهَا مِنْ بَعْدُ». فَبُهِتَ الْمَلِكُ وَالَّذِينَ مَعَهُ مِنْ بَسَالَةِ قَلْبِ ذلِكَ الْغُلاَمِ الَّذِي لَمْ يُبَالِ بِالْعَذَابِ شَيْئًا. وَلَمَّا قَضَى عَذَّبُوا الرَّابِعَ وَنَكَّلُوا بِهِ بِمِثْلِ ذلِكَ، وَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ قَالَ: «حَبَّذَا مَا يَتَوَقَّعُهُ الَّذِي يُقْتَلُ بِأَيْدِي النَّاسِ مِنْ رَجَاءِ إِقَامَةِ اللهِ لَهُ، أَمَّا أَنْتَ فَلاَ تَكُونُ لَكَ قِيَامَةٌ لِلْحَيَاةِ». ثُمَّ سَاقُوا الْخَامِسَ وَعَذَّبُوهُ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْمَلِكِ وَقَالَ: «إِنَّكَ بِمَا لَكَ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى الْبَشَرِ مَعَ كَوْنِكَ فَانِيًا تَفْعَلُ مَا تَشَاءُ، وَلكِنْ لاَ تَظُنَّ أَنَّ اللهَ قَدْ خَذَلَ ذُرِّيَّتَنَا. إِصْبِرْ قَلِيلًا فَتَرَى بَأْسَهُ الشَّدِيدَ كَيْفَ يُعَذِّبُكَ أَنْتَ وَنَسْلَكَ». وَبَعْدَهُ سَاقُوا السَّادِسَ، فَلَمَّا قَارَبَ أَنْ يَمُوتَ قَالَ: «لاَ تَغْتَرَّ بِالْبَاطِلِ فَإِنَّا نَحْنُ جَلَبْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا هذَا الْعَذَابِ، لأَنَّا خَطِئْنَا إِلَى إِلهِنَا، وَلِذلِكَ وَقَعَ لَنَا مَا يَقْضِي بِالْعَجَبِ. وَأَمَّا أَنْتَ لاَ تَحْسَبْ أَنَّكَ تُتْرَكُ سُدًى بَعْدَ تَعَرُّضِكَ لِمُنَاصَبَةِ اللهِ. وَكَانَتِ أُمُّهُمْ أَجْدَرَ الْكُلِّ بِالْعَجَبِ وَالذِّكْرِ الْحَمِيدِ؛ فَإِنَّهَا عَايَنَتْ بَنِيهَا السَّبْعَةَ يَهْلِكُونَ فِي مُدَّةِ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَصَبَرَتْ عَلَى ذلِكَ بِنَفْسٍ طَيِّبَةٍ ثِقَةً بِالرَّبِّ. وَكَانَتْ تُحَرِّضُ كُلاًّ مِنْهُمْ بِلُغَةِ آبَائِهَا، وَهِيَ مُمْتَلِئَةٌ مِنَ الْحِكْمَةِ السَّامِيَةِ، وَقَدْ أَلْقَتْ عَلَى كَلاَمِهَا الأُنْثَوِيِّ بَسَالَةً رَجُلِيَّةً، قَائِلَةً لَهُمْ: «إِنِّي لَسْتُ أَعْلَمُ كَيْفَ نَشَأْتُمْ فِي أَحْشَائِي، وَلاَ أَنَا مَنَحْتُكُمُ الرُّوحَ وَالْحَيَاةَ، وَلاَ أَحْكَمْتُ تَرْكِيبَ أَعْضَائِكُمْ، عَلَى أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ الَّذِي جَبَلَ تَكْوِينَ الإِنْسَانَ، وَأَبْدَعَ لِكُلِّ شَيْءٍ تَكْوِينَهُ، سَيُعِيدُ إِلَيْكُمْ بِرَحْمَتِهِ الرُّوحَ وَالْحَيَاةَ، لأَنَّكُمُ الآنَ تَبْذُلُونَ أَنْفُسَكُمْ فِي سَبِيلِ شَرِيعَتِهِ. وَإِنَّ أَنْطِيُوخُسَ إِذْ تَخَيَّلَ أَنَّهُ يُسْتَخَفُّ بِهِ، وَخَشِيَ صَوْتَ مُعَيِّرٍ يُعَيِّرُهُ، أَخَذَ يُحَرِّضُ بِالْكَلاَمِ أَصْغَرَهُمُ الْبَاقِيَ، بَلْ أَكَّدَ لَهُ بِالأَيْمَانِ أَنَّهُ يُغْنِيهِ وَيُسْعِدُهُ إِذَا تَرَكَ شَرِيعَةَ آبَائِهِ، وَيَتَّخِذُهُ خَلِيلًا لَهُ وَيُقَلِّدُهُ الْمَنَاصِبَ. وَلَمَّا لَمْ يُصِخِ الْغُلاَمُ لِذلِكَ الْبَتَّةَ، دَعَا الْمَلِكُ أُمَّهُ وَحَثَّهَا أَنْ تُشِيرَ عَلَى الْغُلاَمِ بِمَا يُبَلِّغُ إِلَى خَلاَصِهِ، وَأَلَحَّ عَلَيْهَا حَتَّى وَعَدَتْ بِأَنَّهَا تُشِيرُ عَلَى ابْنِهَا. ثُمَّ انْحَنَتْ إِلَيْهِ وَاسْتَهْزَأَتْ بِالْمَلِكِ الْعَنِيفِ، وَقَالَتْ بِلُغَةِ آبَائِهَا: «يَا بُنَيَّ، ارْحَمْنِي أَنَا الَّتِي حَمَلَتْكَ فِي جَوْفِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَأَرْضَعَتْكَ ثَلاَثَ سِنِينَ وَعَالَتْكَ وَبَلَّغَتْكَ إِلَى هذِهِ السِّنِّ وَرَبَّتْكَ. اُنْظُرْ، يَا وَلَدِي، إِلَى السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَإِذَا رَأَيْتَ كُلَّ مَا فِيهِمَا فَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ صَنَعَ الْجَمِيعَ مِنَ الْعَدَمِ، وَكَذلِكَ وُجِدَ جِنْسُ الْبَشَرِ، فَلاَ تَخَفْ مِنْ هذَا الْجَلاَّدِ، لكِنْ كُنْ مُسْتَأْهِلًا لإِخْوَتِكَ، وَاقْبَلِ الْمَوْتَ لأَتَلَقَّاكَ مَعَ إِخْوَتِكَ بِالرَّحْمَةِ». وَفِيمَا هِيَ تَتَكَلَّمُ قَالَ الْغُلاَمُ: «مَاذَا أَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ؟ إِنِّي لاَ أُطِيعُ أَمَرَ الْمَلِكِ، وَإِنَّمَا أُطِيعُ أَمَرَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أُلْقِيَتْ إِلَى آبَائِنَا عَلَى يَدِ مُوسَى. وَأَنْتَ أَيُّهَا الْمُخْتَرِعُ كُلَّ شَرٍّ عَلَى الْعِبْرَانِيِّينَ إِنَّكَ لَنْ تَنْجُوَ مِنْ يَدَيِ اللهِ. فَنَحْنُ إِنَّمَا نُعَاقَبُ عَلَى خَطَايَانَا، وَرَبُّنَا الْحَيُّ، وَإِنْ سَخِطَ عَلَيْنَا حِينًا يَسِيرًا لِتَوْبِيخِنَا وَتَأْدِيبِنَا، سَيَتُوبُ عَلَى عَبِيدِهِ مِنْ بَعْدُ. وَأَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْمُنَافِقُ، يَا أَخْبَثَ كُلِّ بَشَرٍ، فَلاَ تَتَشَامَخْ بَاطِلًا وَتَتَنَمَّرَ بِآمَالِكَ الْكَاذِبَةِ، وَأَنْتَ رَافِعٌ يَدَكَ عَلَى عَبِيدِهِ، لأَنَّكَ لَمْ تَنْجُ مِنْ دَيْنُونَةِ اللهِ الْقَدِيرِ الرَّقِيبِ. وَلَقَدْ صَبَرَ إِخْوَتُنَا عَلَى أَلَمِ سَاعَةٍ، ثُمَّ فَازُوا بِحَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ، وَهُمْ فِي عَهْدِ اللهِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَسَيَحِلُّ بِكَ بِقَضَاءِ اللهِ الْعِقَابُ الَّذِي تَسْتَوْجِبُهُ بِكِبْرِيَائِكَ. وَأَنَا كَأِخْوَتِي أَبْذُلُ جَسَدِي وَنَفْسِي فِي سَبِيلِ شَرِيعَةِ آبَائِنَا، وَأَبْتَهِلُ إِلَى اللهِ أَنْ لاَ يُبْطِئَ فِي تَوْبَتِهِ عَلَى أُمَّتِنَا، وَأَنْ يَجْعَلَكَ بِالْمِحَنِ وَالضَّرَبَاتِ تَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ هُوَ الإِلهُ وَحْدَهُ، وَأَنْ يَنْتَهِيَ فِيَّ وَفِي إِخْوَتِي غَضَبُ الْقَدِيرِ، الَّذِي حَلَّ عَلَى أُمَّتِنَا عَدْلًا». فَحَنِقَ الْمَلِكُ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ ذلِكَ الاِسْتِهْزَاءَ، فَزَادَهُ نَكَالًا عَلَى إِخْوَتِهِ. وَهكَذَا قَضَى هذَا الْغُلاَمُ طَاهِرًا، وَقَدْ وَكَّلَ إِلَى الرَّبِّ كُلَّ أَمَرِهِ. وَفِي آخِرِ الأَمْرِ هَلَكَتِ الأُمُّ عَلَى أَثَرِ بَنِيهَا. وَبِمَا أَوْرَدْنَاهُ عَنِ الضَّحَايَا وَالتَّعْذِيبَاتِ الْمُبَرِّحَةِ كِفَايَةٌ.”
لم يصخ الغلام (آية 25) = لم يستجب لما يسمعه من الملك ورجاله.
بَسَالَةً رَجُلِيَّةً (آية 21) = بسالة كالرجال. كما قال القديس بولس الرسول “كونوا رجالًا” (1كو13:16) وهذه قالها للرجال والنساء.
هنا قصة استشهاد رائعة لأم وأبنائها السبعة لرفضهم تناول لحوم الخنزير. أتوا بهم لرجال أنطيوكس، والشكوى ضدهم أنهم يرفضون الثقافة والحياة اليونانية ويتمسكون بشرائعهم. والأم لم تشفق على أبنائها والأولاد لم يشفقوا على حياتهم مؤثرين عليها طاعة شريعة الله. يسلخ جلد رأسه= يحز بالسكين جلد الرأس على شكل دائرة ثم ينزع. تجدع أطرافه= الأنف والأذنين والأصابع. جذمة= بدون هذه الأطراف. الطواجن والقدور= أواني نحاسية يلقون فيها الشخص ويشعل تحتها النيران، وربما يضعوا فيها ماء أو زيت أو قطران. ولاحظ كيف كان الكل يشجعون بعضهم بعضًا. ولاحظ إيمانهم بالقيامة للأبرار. نزعوا جلد رأسه مع شعره (7) أي نزعوا جلد رأسه بشد الشعر بعنف. لغة آبائه= أي العبرية.
هؤلاء الشهداء وهذه الأم التي احتملت كل هذا في أولادها كانت ناظرة إلى ما لا يُرى أي النصيب السمائي (2كو18:4). هي شعرت أنهم ليسوا ملكًا لها بل الله استخدم أحشائها ليصنع هؤلاء أولادًا له. صنع الجميع من العدم وكذلك وجد جنس البشر (28). لأتلقاك مع إخوتك بالرحمة (29)= حتى ألقاكم في الحياة الأخرى بمراحم الله علينا. فخالق الجنس البشري قادر أن يعطينا خليقة جديدة. الروح والحياة (22)= فالروح هي النسمة التي وهبها الله للإنسان (تك7:2). والحياة إشارة للنفس التي يشترك فيها الإنسان والحيوان. ولقد كرم أباء الكنيسة هؤلاء الشهداء. ونرى أنطيوخس يتحول لأسلوب الوعود، ولكن من انفتحت عينه على الأبدية بأمجادها قطعًا سيحتقر كل هذه الوعود. المخترع كل شيء (31) لقب أطلق على الشيطان.