كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار

الرب يسوع صُلب من أجلي

للأنبا إبيفانوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار


في تسبحة أسبوع الآلام التي نكررها كل يوم مرات كثيرة، نقول في المقطع الأول منها: “لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد، آمـين. يا عمانوئيل إلهنا وملكنا”، في صيغة الجمع. وفي مقطعها الثاني نقول: “يا ربي يسوع المسيح مخلصي الصالح” بصيغة المفرد؛ والغرض من ذلك، التأكيد على أن ما عمله المسيح على الصليب يحتاج إلى إيمان شخصي لقبوله. كما يؤكد أن المسيح عندما مات على الصليب، مات لأجلي ولأجلك شخصياً، مات لأجل كل إنسان فينا باسمه وشخصه. لذلك نجد الرسول بولس يؤكد عل هذا المفهوم الشخصي بقوله: “أحبني (أنا شخصياً) وأسلم نفسة لأجلي» (غل 2: 20).

وفي نص قانون الإيمان الذي تردده الكنيسة كل يوم، ترد هذه العبارة: “الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وتأنس وصلب عنَّا”. هذه العبارة اللاهوتية الهامة تشير إلى أن صلب المسيح على الصليب كان لأجلي ولأجلك، فمحبته لنا محبة شخصية وعميقة جداً. ويمكننا أن نردد مع إشعياء النبي ترنيمة العبد المتألم بصيغة الجمع، كما يمكننا أيضاً أن نرددها بصيغة المفرد: “لقد حمل أحزاني، وأوجاعي تحملها. وهو مجروح لأجل معاصي، مسحوق لأجل آثامي. تأديب سلامي عليه، وبجلداته شُفيت”. من أجلي عُلق على الصليب، بسبب خطاياي، ومن أجل أن يمنحني الغفران.

في كتاب: “سيرة مختصرة لحياة يسوع المسيح”، يذكر العالم الفيزيائي والفيلسوف الرياضي والأديب الفرنسي بليز باسكال (1623-1662م)، وهو من أعظم المفكرين الذين أنجبتهم البشرية، يذكر قصة تحوله للإيمان. فكتب يقول: “في منتصف ليلة 23 نوفمبر 1654م، تكلم مع الرب يسوع قائلاً: بليز، لقد كنت أفكر فيك أثناء آلامي”. هذا الاختبار كان سبب إيمان هذا الفيلسوف. لقد شعر أن صليب المسيح كان لأجله هو شخصياً. لقد قال المسيح: “بليز، إنه من أجلك احتملت كل هذا”. لقد تألم الرب يسوع ومات ودفن وقام ثانية، ليس من أجل البشرية عامة، لكن من أجل كل إنسان في هذه البشرية بصفة خاصة.

قديس روسيا العظيم تيخون زادونسكي (1724-1783 م) في هذا المعنى قائلاً: “لقد باعوك، أيها الرب، وأسلموك للخطاة، حتى تمنحنا نحن العبيد الحرية. خضعت لمحاكمة جائرة، أنت يا من تحكم كل الأرض، حتى نخلص نحن من الحكم الأبدي. تعريت حتى تكسونا برداء الخلاص. وضعوا على رأسك إكليل شوك حتى ننال إكليل الحياة. وضعت في قبر حتى تقيمنا من موت القبر. هذا فعلته من أجلنا، نحن عبيدك غير المستحقين، أيها الرب”.
لا يمكننا أن نحيط بكل مفهوم الصليب والقيامة، إن لم نفهم أن ما فعله المسيح كان من أجلنا، ومن أجل كل شخص فينا بالتحديد.

حدث مرة في يوم الجمعة العظيمة أن مر ثلاثة من الشباب المستهتر أمام إحدى الكنائس في باريس، ولاحظوا وجود صف طويل من المؤمنين ينتظرون أن يقدموا اعترافهم أمام كاهن هذه الكنيسة. ولعدم إيمان الشبان الثلاثة بالمسيح، بدأوا في التهكم على هؤلاء المؤمنين، معتبرين أن كل ما حدث في هذا اليوم – يوم جمعة الصلبوت – كان مجرد مهزلة
تاريخية.

وقرر أحدهم أن يدخل ويقابل كاهن الكنيسة ليقول له رأيه في المسيح والمسيحية. ولما مثل أمام أب الاعتراف، قال له: “لقد كنا نسير خارج الكنيسة ورأينا هذا الجمع من الشعب منتظرين لتقديم اعترافهم. فرأينا أن كل ما يحدث هنا ليس إلا مسرحية هزلية، وقررنا أن ندخل ونقول لك رأينا”.
فأجابه الكاهن: “حسناً، لكن أطلب منك شيئاً واحدا قبل مغادرتك الكنيسة، ادخل إلى داخل الكنيسة وتقدم أمام الهيكل الرئيسي، وانظر إلى يسوع وهو معلق على الصليب، وقل له: “لقد متَّ من أجل، أيها المسيح، لكن هذا الأمر لا يهمني على الإطلاق . وأريدك أن تكرر هذه العبارة ثلاث مرات، ثم يمكنك مغادرة الكنيسة”.

فوافق الشاب المستهتر على ذلك، وتقدم أمام الهيكل ونظر إلى جسد الرب يسوع المعلق على الصليب، وبصعوبة بالغة قال مرة واحدة: “لقد متَّ من أجلي..”، وتحول مسرعاً من أمام الهيكل. فاستوقفه الكاهن وقال له: “لقد وعدتني أن تقولها ثلاث مرات”. فرجع الشاب متردداً، ونظر الى المسيح، وجفت الكلمات على شفتيه، ولكنه أخيراً فعلها وقال: “لقد مت من أجلي”، وجفل مبتعداً عن الهيكل. فاستوقفه الكاهن ثانية وقال له: “لقد وعدت أن تقولها مرة ثالثة”. فرجع بعد تردد شديد، وأخذ ينظر إلى الصليب متأملاً في جروح المصلوب مدة طويلة، ثم عاد إلى الكاهن وقال له: “أبي، أنا مستعد أن أُقدم اعترافي”.

من يستطيع أن ينظر إلى الرب يسوع المصلوب من أجلنا، ولا يقول له: “ارحمني، يا رب، لأني خاطئ” .

رسالة حب:

الصليب ليس فقط حقيقة قائمة بذاتها، لكنه أيضا نافذة نطل منها على حقيقة أخرى عظيمة، وهي محبة الله للبشر: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو 3: 16). الله لم يعد صامتاً، ولم يعد محتجباً بعيداً عن أنيننا كما كان في الماضي: «حقاً أنت إله محتجب يا إله إسرائيل المخلص» (إش 15:45)؛ لكنه تخلى عن احتجابه وأظهر محبته من فوق الصليب.

+ “وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا. ” (رو 8:5)
+”فِي هذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا.”(1يو 10:4)
+”لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولاً. 5وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا.” (إش 53: 4و5)
+”كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ” (مت20: 28)
+ “عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، ” (1بط 1: 18و19)
+ “الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ بِدَمِهِ، غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ،” (أف 1: 7)

+ بعد هذا أشفقت علينا كإله صالح ومحب البشر، وأردت أن تخلصنا من يد الذي سبانا؛ وأردت أن تعيدنا مرة أخرى إلى فردوس النعيم. فأرسلت أنبياءك، فلم يقدروا أن يخلصونا. أعطيت الناموس فلم يصر لنا عونا. فرضيت بإرادتك أن تبذل ذاتك للموت عنا وعن حياة العالم ” (خولاجي الدير الأبيض (٢٠١٤) ص ١١٠.)

زار أحد الكهنة إنساناً يحتضر، ولم تكن الفرصة مواتية لسماع أية عظة قبل رحيله، فما كان من الكاهن إلا أن أمسك بالصليب وعليه صورة المصلوب وقربه من عيني المريض، وقال له: “انظر، ما أعظم محبة الله لك”!

عندما مات الرب يسوع على الصليب كان كمن يقول لنا: لا شيء يمكنكم أن تصنعوه بي قادر أن يوقف محبتي من نحوكم. من الممكن أن تضربوني وتسحقوني وتجلدوني، ويمكنكم أن تقتلوني على الصليب، لكنني لن أتوقف عن محبتكم، هذا هو عظم محبتي لكم “يا أبتاه اغفر لهم”. إن كل ما حدث على الجلجثة كأن نافذة يمكننا أن نرى من خلالها
قلب المحب المتألم من أجلنا. لقد قدم الإنسان لله، ذبائح كثيرة لعدة قرون خلت، أما على الجلجثة فقد رأينا الله يقدم ذاته ذبيحة فدية عن الإنسان: “لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ. “ (يو 15: 13). هذا هو حب الله لكل واحد منا.

هل يحبني؟

قال أحد الرعاة: إن أسعد إنسان عرفته إنساناً كان قد سقط وهو في الخامسة عشرة على ظهره، وأصابه كسر في العمود الفقري؛ وبذلك صار طريح الفراش لمدة أربعين عاماً. ربما لم يمر عليه يوم طوال تلك السنوات دون آلام مبرحة أثناء أي محاولة للحركة. ويوماً ما طرح أحدهم عليه هذا السؤال: “ألم يحاربك الشيطان أبداً، لكي يشككك في الله، ويلقي في فكرك أنه إله قاس”؟ فأجابه بتلقائية: ” نعم ، لقد حاول ذلك مرات كثيرة. عندما كنت أجلس وأرى أصدقاء مدرستي القدامى وهم يقودون سياراتهم، كان الشيطان يوعز إلي قائلاً: “لو كان الله صالحاً، فلماذا يتركك هنا كل هذه السنين طريح الفراش؟ ربما كنت الآن رجلاً غنياً تنعم بقيادة سيارة ليموزين”! وعندما كنت أرى إنساناً كنت أعرفه منذ الطفولية، وهو يسير في صحة تامة، كان الشيطان يهمس في اذني: “إن كان الله يحبك، ألم يكن قادراً أن يجنبك هذا المصير الأليم”؟ وعندما سألوه: “كيف كنت تجيب الشيطان عل هذه الوساوس”؟ فأجاب فوراً: “كنت آخذه إلى الجلجثة واريه يسوع، واشير له على الجروح البادية في يديه ورجليه وجنبه، ثم أقول له: “هل هناك حب أعظم من هذا؟

كم أنت عزيز في عيني الله:

كما أن الصليب يُظهر محبة الله لنا، فهو أيضاً يبين كم أنت عزيز في عيني الله. إذا قدم إنسان حياته من أجلك، فمن الضروري أن تكون شخصاً مهماً؛ فإن كان هذا الإنسان هو الله ذاته، فمن البين أنك مهم جداً. فمثلما نحكم عل قيمة اللوحة الفنية بالثمن المدفوع فيها، هكذا يمكننا أن نقيم ذواتنا بالثمن الذي دفعه الله فدية لأجلنا: “عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء. بل بدم كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح” (1بط 18:1 و19).

حضر طفل صغير إلى الكنيسة لأول مرة، وكان ذلك يوم الجمعة العظيمة. وهناك أصغى باهتمام إلى قصة الرب يسوع المصلوب، ومقدار محبته العظيمة لنا: كيف تألم من أجلنا، وكيف غفر لنا خطاياناً مانحاً إيانا الحياة الأبدية؛ وفي نهاية خدمة يوم الجمعة العظيمة، بدأ المصلون في الانصراف الى بيوتهم. فلم يفهم هذا الطفل لماذا يبدو على المصلين وكأنهم لا يبالون لما استمعوا إليه. فجلس الطفل في كرسيه وبدأ يجهش بالبكاء. فاقترب منه والده وقال له: “يا ولدي، لا ينبغي أن تتأثر هكذا بشدة وتجعل هذا الأمر يسيطر عل حياتك، لئلا يظن بك الناس أنك غير ناضج”.


يبدو أن هذا هو ما يحدث معنا أحياناً عندما نحضر صلوات هذا اليوم العظيم سنة بعد أخرى، ومخرج من الكنيسة وكأننا نشاهد تمثيلية يوم الجمعة العظيمة، غير مدركين قيمة الفداء العظيم الذي حققه المسيح من أجلنا، وقيمة المحبة التي دفعته ليبذل نفسه من أجلنا: « الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ، صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا(اليهود والأمم)، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، وَيُصَالِحَ الاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ. » (أف2: 13-16)

 

محاكمة يسوع أمام السنهدريم كتب أنبا إبيفانيوس الفرح الحقيقي
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى