الثورة المكابية بقيادة يهوذا المكابي

(١٦٦-١٦٠ق.م )

تقلَّد يهوذا المكابي القيادة، وابتدأ حرب العصابات، وأحرز نـصراً ضـد الحاميات السورية بقيادة أبولونيوس ثم ليسياس اللذين أوفـدهما أنطيـوخس لمقاومة اليهود. وهذه المواقع وأوصافها وردت كلها في سفر المكابيين :
+ «وجمع أبلونيوس أمماً ومن السامرة قوة عظيمة لمحاربـة إسـرائيل . » ( ١مك ١٠:٣ ).
+ «فقال يهوذا يسير على االله أن يدفع كثيرين بيد قليلين وليس اخـتلاف عند إله السماء أن ينجَّي بكثير أو بقليل؟» ( ١مك١٨:٣).

+ «وسمع يهوذا ونهض هو والمقتدرون ليضربوا جيش الملك (أنطيـوخس إبيفانس) الذي كان في عمَّاوس، فإنه إلى ذلك الوقت أيـضاً كانـت الجيوش متبدَّدة من المعسكر، وأتى جُرجيَّاس (أحد قوَّاد الجيش اليوناني ) إلى معسكر يهوذا ليلاً ولم يجد أحداً، وكان يطلبهم في الجبال لأنه قال : إن هؤلاء يهربون منَّا . ولمَّا أصبح النهار ظهر يهوذا في البقعـة بثلاثـة آلاف رجل إلاَّ أنه ما كان لهم من أتراس ولا سـيوف كمـا كـانوا يختارون(١مك ٣:٤-٦ ). 
+ «وبينما يهوذا يتكلَّم هذا الكلام ظهر مكان إدبارهم من الجبل، ورأى جُرجيَّاس أنه قد انهزم وهم يحرقون المعسكر (معسكر جُرجيَّاس ) فـإن الدخان المنظور كان يظهر، فلمَّا رأوا هذه خافوا خوفاً شديداً لأنهـم رأوا أيضاً معسكر يهوذا في السهل مستعداً للقتال، فهربوا جمـيعهم إلى أرض الغرباء»( ١مك٤ :١٩-٢٢).

وفي سنة ١٦٤ ق.م مات أنطيوخس إبيفانس في بلاد الفرس حيث كـان مهموماً بسلب المدن وجمع الأموال. وخلفه ابنه أنطيوخس الخـامس (١٦٤-١٦٢ م. ق ). وفي ديسمبر سنة ١٦٤ ق.م قام يهوذا المكابي وبقيـة الثـائرين بتطهير الهيكل وترميمه وإعادة تكريسه، وذلك تقريباً بعد مرور ثلاث سنوات منذ أن أقام فيه الوثنيون ذبيحتهم ( ١مك ٤ :٥٢-٥٩). وجُعل هـذا اليـوم تذكاراً سنوياً يُعيد له اليهود باستمرار وهو المـدعو “حنوكـا ” أي “عيـد التجديد”، الذي جاء ذكره في إنجيل ق . يوحنا (٢٢:١٠). أمَّا في سفر دانيال فيحدَّد المدة بين بداية إبطال المحرقة الدائمة وترميم الهيكل بعد أن صار رجساً وخراباً أنها ١٢٩٠ يوماً أي ثلاث سنوات ونصف . أمَّا بداية إقامة الذبيحـة واستعادة العبادة فبعد ذلك بمدة ٤٥ يوماً أي نحو شهر ونصف( دا ١٢:١٢).

وهكذا عادت حرية العبادة التي كانت منتهى غاية الثائرين، والـتي ظلـوا يتمتعون بها حتى مجيء المسيح، وانسحب الجيش السوري واستمر الهدوء مـن سنة ١٦٤ إلى سنة ١٦٢ ق.م بسبب موت أنطيوخس إبيفانس . هنا تنتـهي المرحلة الأُولى من الحرب والتي يمكن أن نسميها: «حرب للرب ولمقدساته» وتبدأ المرحلة الثانية من الحرب والتي يمكن أن نـسميها : «حـرب الطمـع والاتساع والضلالة» ويُلاحظ أن االله أعانهم جداً في المرحلة الأُولى التي فيهـا استعادوا حريتهم الدينية، والتي أبقاها لهم االله حتى مجيء المسيح، ولكنه خذلهم في محاولتهم للتحرير السياسي ومقاومة السلطات بلا أدنى داعٍ .

فقد طمع يهوذا المكابي في الامتداد وفتح أراضٍ جديدة، فامتد إلى الشمال وفتح عدة مدن في أرض جلعاد وعاد أدراجه إلى أورشليم . ولكن “ليسياس” والي سورية، رغبة منه في العودة إلى سوريا، عقد مع يهوذا المكـابي شـروطاً للهدنة سخية جداً وباحترام بالغ الوصف ( ٢مـك ١١ :١٣)، ولكـن سرعان ما نقضها يهوذا طمعاً في أرباح سياسية جديدة، وبذلك انتقـل مـن الدفاع عن الدين والهيكل وحرية العبادة التي أقام عليها ثورته إلى محاولة للتوسع والغزو وامتلاك أراضٍ جديدة .

وقد حاول يهوذا في هذه المدة عقد معاهدة مع روما (مـارس ١٦٠ق.م ) ونجح فيها وحصل عليها ( ١مك ٨: ١-٣٢) ، غير أنه لم يستفد منها شيئاً إذ أن الجيش السوري اليوناني هجم عليه وقتله قبل عودة رسله الذين أرسـلهم لعمل المعاهدة مع روما . والذي أثار عليه هذه الحملة الأخـيرة مـن الجـيش اليوناني هو رئيس الكهنة “الكيمُس” المدعو “يـواكيم ” وهـو “الراعـي الأحمق” الذي وصفه زكريا النبي هكذا: «فقال لي الرب: خذ لنفسك بعـد أدوات راعٍ أحمق لأني هأنذا مقيم راعياً في الأرض لا يفتقـد المـنقطعين ولا يطلب المنساق ولا يجبر المنكسر ولا يربي القائم، ولكن يأكل السمان ويـترع أظلافها، ويل للراعي الباطل التارك الغنم، السيف على ذراعه وعلـى عينـه اليمنى، ذراعه تيبس يبساً وعينه اليمنى تكل كلولاً» ( زك١١: ١٥- ١٧). وقد رعى ثلاث سنين ومات سنة ١٥٩ ق.م بالشلل، كما وصفته الرؤيا تماماً، ولم يخلفه أحد وظلت أُورشليم بدون رئيس كهنة سبع سنوات.

ويذكر يوسيفوس المؤرَّخ حادثة موته أنها كانت مفاجئـة وكنقمـة بيـد الرب، لأنه حاول أن يزيل حائط السياج المتوسط بين رواق الأُمم وبين القدس حتى يجعل للأُمم حق الدخول إلى القدس ( Josephus, Antiq. XII, X, 6).

وكان الكيمُس هذا من شيعة اليهود اليونانيين، وقد عيَّنه الملـك اليونـاني ديمتريوس الأول (١٥٠-١٦٢ق.م )  بناءً على رشوة ( ١مك ٩:٧)، وقد جرَّ ويلات الحرب على يهوذا المكابي من جديد، إذ استعان بالملك ديمتريوس الذي أرسل له القا ئد “نيكانور” مع حملة لمحاربة يهوذا، فانهزم الجيش الـسوري في البدء وقُتل القائد “نيكانور” مما اضطر الملك ديمتريوس إلى إرسال جيش كبير بتعزيزات قوية، فدارت الدائرة على اليهود وسقط يهوذا المكابي ومات في هذه الموقعة سنة ١٦٠ق.م.

أمَّا الوصف الروحي لتدخل االله في حرب المكابيين ضد اليونان في مرحلتها الأُولى لما كان كل هدفهم هو تخليص الهيكل من أيديهم وتطهيره من نجاساتهم وإعادة العبادة فيه، فيصفه سفر زكريا بوضوح :
+ «لأني أوترت يهوذا لنفسي، وملأت القوس أفرايم، وأنهضت أبناءك يـا صهيون على بنيك يا ياوان (اليونان ،) وجعلتك (يا صهيون ) كـسيف جبارٍ، ويُرى الرب فوقهم وسهمه يخرج كالبرق، والسيد الرب ينفخ في البوق ويسير في زوابع الجنوب . رب الجنود يحـامي عنـهم فيـأكلون ويدوسون حجارة المقلاع … ويخلِّصهم الرب إلههم في ذلـك اليـوم كقطيع شعبه بل كحجارة التاج مرفوعةً على أرضه، ما أجـوده ومـا أجمله»( ١٣:٩-١٧).

ومما يعزز نبوة زكريا النبي أن اليهود لم يحاربوا اليونان قـط إلاَّ في أيـام المكابيين! والحرب في بدايتها كانت قائمة أساساً على غيرة إلهية صادقة وحماس روحي وأمانة الله رغبةً في تطهير الهيكل وتكريم اسم يهوه بين الأُمم، لـذلك هبَّ الرب في معونتهم، وأنجح طريقهم، وحامى عنهم، وخلَّـصهم وكلَّـل جهودهم بعيد التجديد .

وهكذا تنطبق نبوَّة زكريا ( ١٣:٩-١٧) على ما جرى بالفعل، والمـذكور في (١ مك ٣ :١٠-١٢) شهادة على أمانة االله وتحقيقاً لوعده وعهده .

ومن الأعداد التي اشتركت في الحرب من كلا الجانبين يظهر بوضـوح أن االله فعلاً تدخل بصورة فعَّالة في صف اليهود . فالجيش اليوناني السوري كـان عدده ٤٠٠٠٠ محارب، ٧٠٠٠ فارس، أمَّا جيش المكابيين فلـم يـزد عـن ٦٠٠٠ محارب جميعاً.( ١مك ٣٩:٣ ،٢مك ١٦:٨).

لذلك يعترف المكابيون، كما أشارت نبوَّة زكريا، أن النصرة كانت بالرب فقط ( ١مك٥٥:٤، ١٨:٣-٢٢). ويُلاحظ هنا كيف تأثَّرت نبوَّة زكريا بهذا الموقف، ووصفت الرؤيا مجيء المسيح كملك، وديعاً منصوراً راكباً على حمار !

والعجيب أن في وسط أوصاف زكريا النبي لمواقع المكابيين وحروبهم بالسيف واستعادة حريتهم الروحية بالقوس والرمح وتجديد العبادة بالقوة والمقلاع، فإن النبوَّة تنطلق إلى مسافة أبعد لتصف المسيح كملك آتٍ بنصرة أخرى وتحريـر آخر وتوطيد سلام جديد، لا بقوة ولا بسيف ولكن بوداعة واتضاع :
+ «ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أُورشليم، هوذا ملكـك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار …» (زك ٩:٩).

ومن خصائص ملك صهيون الجديد أنه «يقطع المركبة من أفرايم والفـرس من أُورشليم وتقطع قوس الحرب، ويتكلَّم بالـسلام للأُمـم » (زك ١٠:٩).
وتفسير هذا أنه منذ المسيح فصاعداً لا يعود االله يدخل في حروب، لأن كافـة الأُمم تكون شعبه ولا يتكلَّم معهم إلاَّ بالسلام: «ليس يهودي ولا يوناني … لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع» (غل ٢٨:٣). وأُورشليم لا تعود قلعـة صهيون لتحصين الجيوش ومقاتلة الأعداء وتكتل اليهود، بل تـصير حـصناً للرجاء «ارجعوا إلى الحصن يا أسرى الرجاء» (زك ١٢:٩). ولا تكون أعمال الرب بعد بقوة ذراع الإنسان ولا بواسطة آلات حرب «لا بالقوة ولا بالقدرة بل بروحي يقول رب الجنود.» (زك ٦:٤ ).

والواقع أن الذي جعل زكريا النبي ينطلق بالرؤيا بسرعة من منظر حـروب المكابيين إلى منظر مجيء المسيَّا باتضاعه وسلامه الجديد الغامر، وإنهـاء عهـد الحروب الدينية إلى الأبد، هو اعتبار حروب المكابيين عملاً أساسياً للتمهيـد لمجيء المسيَّا فقط من أجل تطهير الهيكل وتجديده، مع إحساسه الشديد بقرب مجيء سيد الهيكل بغتة . فعمل المكابيين للهيكل هو بمثابة إعداده لدخول المسيح المنتظر، وهذا تمَّ بالفعل عند دخول المسيح أُورشليم واقترابه للهيكل راكباً على حمار رمز الاتضاع والوداعة والسلام (مت٢١ : ١-١١). وهذه الترتيبات التي أكملها المكابيون هي بعينها التي أشار إليها حجَّي النبي بعين النبوَّة وقال :
+ «فالآن … تشددوا يا جميع شعبِ الأرض، يقول الرب، واعملوا فـإني معكم، يقول رب الجنود، حسب الكلا م الذي عاهـدتكم بـه عنـد خروجكم من مصر وروحي قائم في وسطكم . لا تخافوا، لأنه هكـذا قال رب الجنود، هي مرة بعد قليلٍ فأزلزل السموات والأرض والبحـر واليابسة، وأزلزل كل الأُمم ويأتي مشتهى كل الأُمم، فأملأ هذا البيت مجداً، قال رب الجنود … مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجـد الأول، قال رب الجنود، وفي هذا المكان أُعطي الـسلام، يقـول ربالجنود» ( –  حج٢: ٤-٩) .

فاصل

المراجع:

  1. تاريخ بني إسرائيل – الأب متى المسكين

فاصل

كما يمكنك أن تقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى