القديس بفنوتيوس

 

ولد بمدينة مصر بعد نصف الجيل الثالث ونما مفعما بالبركات السماوية والنعم الالهية الغير الاعتيادية . واذ تأمل جيدا في حسن ذلك السبيل الذي سلكه المتوحدون في براری مصر وطيبة الذين زهدوا الدنيا واعتزلوا في القفر شغف به وتاق الى اقتفاء أثرهم و بعد قليل ترك العالم بعد أن عاف كل أمجاده وطلب سعادة السماء واتجه نحو تلك الأماكن قائلا في نفسه « انه اذا كانت السماء تستحق أن تفضل على الارض وان الفردوس العلوى هو وطني الحقيقي بينما الأرض تحسب كمنفی لي فلماذا اذا لا أوجه كل رغائبی نحو السماء وأهرب بكل جهدى من الأرض وأنفر منها »

واذ ادرك أن سكناه مع النساك القريبين من وطنه بمصر يجعل اقرباءه يحولون دون قصده ويعوقونه عن متابعة سيره ابتعد ومضي الى المدير المدعو بیسار في آخر حدود الاقليم المصرى الاعلى في طيبة الخارجية حيث كان القديس انطونيوس يدبر أحوال الرهبان و يقبل اليه كل يوم عددًا عظيمًا من الذين أخذوا بحسن صيته وأرادوا السير على خطته .

فعرض بفنوتیوس نفسه على القديس وأخبره بميله الى المعيشة النسكية فثبته القديس ووضعه بين تلاميذه فبدأ القديس بفنوتيوس يمارس الفرائض النسكية التي يرشده إليها معلمه بنشاط کلی وأخذ يميت حواسه بالتقشفات الصارمة حتى أنه أخضع جسده لروحه اخضاعا تاما . فكان يقضي أوقاته في التأملات الروحية و يتلقی من الارشاد الالهي الاوامر المقدسة – حتی أصبحت نفسه مستودع الحكمة الالهية وظهرت ثمار فضائله في عدة سنين قليلة وصار معتبرا في نظر الجميع ليس في مصاف المبتدئين بل كأحد الآباء معلمى السيرة الروحية .

وقد شهد القديس انطونيوس مرات كثيرة لعظم فضائلة ومزید فطنته وجز يل محبته فوافاه كثيرون طالبين منه أن يرشدهم الى كيفية السير في طريق الكمال وحدث يوما أن بعض النساك اشتكوا أحدهم بذنب كان هو ينكره بتاتا وهم يكررون عليه شكايتهم فقال لهم القديس بفنوتيوس « انني قد رأيت على شاطىء النهر رجلا مغروسا في الوحل ثم نظرت واذا ببعض الرجال قد أتوا لانقاذه ولكنهم عوضا عن أن ينتشلوه الى الخارج أسقطوه فيه الى عنقه » واراد القديس بهذا القول أن يفهمهم انه يمكن معالجة المذنب بالكلمات اللينة لا بالقساوة التي تجدد فيه زلات جديدة كالنكران والكذب والإصرار على الاثم ولما سمع القديس انطونيوس ما خاطب به البار بفنوتيوس المشتكين قال لهم « هذا هو الرجل الذي يعرف ان يحكم بموجب الحق على الأشياء و يستطيع أن يفهم الافكار العميقة ».

 وشاء الرب بعد ذلك أن يجعل القديس بفنوتيوس بركة لاهل مدينة من مدن اقليم طيبة فاختير اسقفا لها ولكنه تألم من هذا الاختبار كثيرا وحاول التخلص منه غير انه تحقق بعد الصلوات العديدة أن الله هو الذي اصطفاه لهذا المركز فقبل السيامة وترك البرية وأقام في ابروشيته ولم يلبث في دار اسقفيته طويلا حتى انتشر خبر سيرته الطاهرة في كل مكان فصارت له في عيون الناس منزلة سامية أما هو فشرع یدبر رعيته بالحكمة التي اكتسبها من القديس انطونيوس فطفق يعظهم و يرشدهم إلى الحق ساهرا على تصرفاتهم جميعا .

ثم اعتنى بوضع قوانین کنسية وتعالیم انجیله فنمت أبروشيته وتقدم أهلها في كل الصفات الحسنة ولما ثار اضطهاد دیوکلتیانوس ومکسیمیانوس القيصرين على مسیحی مصر وقعت على هذا القديس وعلى رعيته مصائب جسيمة وأخيرا قبض عليه سنة 308 م وعذب اعذبة شديدة وقاسية من أجل اعترافه بالمسيح .

ومنها أنه حكم عليه بقلع عينه اليمنى و بقطع مفاصل ركبته اليسرى وبربطه بالسلاسل و بأخذه الى امكنه حفر المعادن ومقالع الرخام . وقد أبوا أن يميتوه ليطيلوا زمن عذابه وليذيقوه الموت في كل لحظة واضحت حياته على هذه الصورة سلسلة استشهادات ولو لم يستشهد . ومع انه كان يشتكي قبلا من ترکه للبر ية واقامته بالعالم الا انه عندما وقع تحت طائلة العذاب اظهر سروره لانه لولا وجوده بالعالم لما استحق أن يتألم من أجل مخلصه الأمر  الذي يعتبره شرفا عظيمًا  وكان وقتئذ كثيرون من المعترفين باسم المسيح في براری مصر في المكان المسمی برفيريتوس لوجود الرخام فيه فكانوا يلزموهم باستخراجه وأخذوا سبعة عشر شخصا ما عدا النساء والصبيان وأتوا بهم إلى بلاد فلسطين حيث اعترفوا جهرا بالايمان المقدس قدام فرمیلیانوس الوالی فأمر هذا بأن تحرق أعصاب الرجل اليسرى لكل منهم وتقلع العين اليمنى كذلك . ثم ارسلهم الى معادن تلك البلاد  ليفنيهم هناك بالتعب الشديد فكان القديس بفنوتيوس من أولئك المعترفين الذين أرسلوا من مصر الی فلسطین كما روى أوسابيوس وكان عددهم مائة وثلاثين شخصا فبقی القديس في تلك المعادن مع سائر المعترفين الى نحو سنة ۳۱۱ م التي التزم فيها الملك غاليريوس المغتصب أن يأمر بازالة الاضطهاد عن المسيحيين لاجل مرض اعتراه فرجع أكثر المعترفين الى وطنهم ورجع القديس بفنوتيوس الى مصر وأقام في أبروشيته وأخذ يجاهد في سبيل انهاضها بما بقي له من القوة التي كادت تنسحق تحت شديد العذاب وعند ظهور الشيعة الار یوسية اشتدت غيرة هذا القديس في المحاماة عن الايمان المستقيم . وحينما اجتمع مجمع نيقية المسكوني الأول سنة ٣٢٥ م ذهب اليه هذا الأب وكان من اعضائة المحترمين الذين تجلت غيرتهم وظهرت فضائلهم حتى اكتسب مقاما ساميا لدى الملك قسطنطين فكان يدعوه مرارا كثيرة و يتفاوض معه على وضع التدابير اللازمة لراحة الكنيسة وتأييد الايمان وقطع دابر هرطقة اریوس .

ولم يكن قسطنطين يسمح له بالخروج من دیوانه قبل أن يقبل عينه اليمني المقلوعة من اجل اعترافة بالمسيح وكان هذا القديس أحد الآباء الذين وضعوا قانون الإيمان الأرثوذكسي في المجمع المذكور . و بعد انحلال المجمع رجعا الأساقفة الى أبروشياتهم وعاد القديس الى كرسيه و بعد ذلك كان متحدا بالالفة والوداد مع البابا اثناسيوس الرسولی ورافقه مع القديس بوتامون الذي من هراكليا وسبعة أسقفا الى المجمع الذي التأم بصور سنة ٣٥٣ م و كان أكثر اعضاء هذا المجمع يعتقدون اعتقاد أر یوس . أما القديس فلما تحقق ذلك ورأي بينهم مكسيموس أسقف اورشليم اخذ بيده وقال له لا يليق أن يكون في مجمع الاشرار أسقف ارثوذكسي اعترف بالمسيح في الاضطهاد الاخير وكيف يحتمل أن رجلا نظيرك مشهورا بالغيرة في المناضلة عن الايمان يعرض نفسه لان يضله و يغره الهراطقة الذين قصدوا أن يهلكوا القديس اثناسيوس الذي هو اشجع محام عن هذه القضية الاساسية من قانون الايمان . ثم اعلمه بتعصب الاريوسيين الذي كان يجهله مكسيموس لهذا الوقت . وتمكن من أن يفصله عن حزبهم و يثبته في شركة الكنيسة الإسكندرية ولما عاد هذا القديس الى كرسيه ثالثا قضى بقية حياته مجتهدا في المحافظة على الايمان ومقاوما بكل قوته بدعة ار یوس و بعد أن خدم مخلصه مدة سنين طويلة انتقل الى فردوس النعيم بشيخوخة صالحة في سنة لا نعلمها ولكنا نعلم أنه جاهد الجهاد الحسن ونال الاكليل المجيد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى