تفسير سفر إرميا أصحاح 4 للعلامة أوريجانوس
عظة 5
تفسير للآيات من : ” ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفي عصيانكم ” ( إر 3: 22) ، إلى : ” من أجل ذلك تنطقوا بمسوح ” ( إر 4 :8). (جزء 2)
–
١١. ثم يقول الرب بخصوص إسرائيل : ” إن رجعت يا إسرائيل يقول الرب إن رجعت إلي وإن نزعت مكرهاتك من أمامي ( من فمك ) فلا تتيه . وإن حلفت حي هو الرب بالحق والعدل والبر ( فإن الشعوب سوف تبارك الله فيك ) “ . ما هي الأشياء التي يجب علي إسرائيل القيام بها حتى تبارك الشعوب الله فيه ؟ ” إن نزع مكرهاته من فمه ” ، ولكن ماذا يعني هذا ؟ إن كل ما نقوله من شر هو ومكرهات في فمنا ، فلننزعها إذا بنزع الشتائم ، الكلمات الفارغة ، والكلمات العقيمة التي من شأنها إدانتنا ، لأنه ” بكلامك تتبرر وبكلامك تدان ” . فإذا أردنا أن تحقق بشأننا الآية ” فإن الشعوب سوف تبارك الله فيك ، وبه يفتخرون ” ، فلننفذ ما قيل في البداية .
۱۲. فلننظر إلى أنفسنا ، نحن الذين نحلف ، ولنر كيف أننا لا نحلف بالعدل وإنما نحلف بدون عدل ، لدرجة أن أقسامنا أصبحت أكثر علي سبيل العادة وليس علي سبيل الحق . إن المشكلة أننا نترك أنفسنا لتساق من الخطية وبالتالي نعتاد علي تلك الخطية ، وهذا ما ينتقده الرب بقوله : ” إن حلفت حي هو الرب بالحق والعدل والبر ” . ونحن نعلم أن الرب قال لتلاميذه في الإنجيل : ” وأما أنا فأقول لكم لاتحلفوا البتة ” . فلندرس أيضا هذه الآية ، وسوف تتضح الآيتين معاً إن شاء الرب . ربما يجب أن نبدأ بالقول : احلفوا بالحق وبالعدل والبر ، حتى إذا ما تقدمنا ونمونا في النعمة بعد ذلك ، نكون مستعدين ألا نحلف البتة ، بل أن تكون لنا الـ ” نعم ” التي لا تحتاج إلي شهادة لإثبات أن هذه الأمور هكذا هي ؛ وأن تكون لنا الـ ” لا ” التي لا تحتاج إلى شهادة لإثبات أن هذه الأشياء ليست هكذا.
“وإن حلفت حي هو الرب بالحق والعدل والبر ” :
فبالنسبة لمن يحلف ، لابد أولاً ألا يكون كاذباً بل صادقاً حتى يحلف بالحق – وأما نحن البائسين فإننا كثيراً ما نقسم أقساماً كاذبة وباطلة – ولكن على افتراض أننا نحلف بالحق ، فإن هذا القسم أيضا ضد الشريعة ، فإنه يجب أن يكون إلي جانب الحق ” العدل ” ، لأنه فلنفترض أنني أحلف كعادة ، ففي هذه الحالة لن يكون هناك عدل . وإذا كنا بالنسبة لقسم من هذا النوع ، ناخذ رب هذا الكون ومسيحه كشاهد على أمر معين ؛ فما أهمية هذا الأمر حتى أنحني علي ركبتي وأقسم ؟![1] …
13. ” فإن الشعوب سوف تبارك الله فيك ” . لقد جمع بين النسلين : بني الشعوب ( الأمم ) وبني إسرائيل . ثم يضيف : “ لأنه هكذا قال الرب لرجال يهوذا ولأورشليم ” . لقد تحدث إلى أبناء الأمم ، وتحدث إلى أبناء إسرائيل ، وإلى أبناء يهوذا . وأنني أتذكر ما قيل حديثاً حول المعني الرمزي ليهوذا وسكان أورشليم : فإننا نحن أيضا ، إذا لو أعطانا الرب هذه النعمة ، نكون سكان أورشليم . بما أنه ” حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا ” ، فإن كان كنزنا في السماء يكون قلبنا أيضا في أورشليم السمائية ، التي يقول عنها الرسول : ” وأما أورشليم العليا التي أمنا جميعاً فهي حرة ” ( غل 4 : 26) .
” احرثوا لأنفسكم حرثا ولا تزرعوا في الأشواك ” ( إر 4 : 3 ).
هذا الكلام قيل بالأخص للمعلمين والمبشرين حتى لا يقولوا كلمات الإنجيل للسامعين قبل أن يهيئوا حقول جديدة ( حرثاً) في نفوسهم ( السامعين ) . أنهم متي هيأوا حقولاً جديدة في النفوس ، ومتي أصبح الناس معدين لاستقبال التعاليم كما في الأرض الجيدة والصالحة ، فإنهم حينما يزرعون ، عندئذ لن يزرعوا في الأشواك.
فإذاً علي العكس ، وقبل أن نعد حقولاً جديدة في عقول الناس ، قمنا بزرع البذور المقدسة التي هي عقيدة الآب والابن والروح القدس ، وعقيدة القيامة ، والعقاب والراحة الأبدية والشريعة والأنبياء وغيرها من كل تعاليم الكتاب المقدس ، فإننا بذلك نخالف الوصية التي تقول أولاً: ” احرثوا لأنفسكم حرثاً ( أعدوا لأنفسكم حقولاً جديدة ) ” ، وثانيا : ” ولا تزرعوا في الأشواك”.
قد يقول أحد السامعين : إنني لا أعلم وبالتالي فإن هذه الوصية ليست لي . ليكن ! كن أنت أيضاً زارعاً ( معلماً) لنفسك ولا تزرع في الأشواك ، وإنما أعد حقلاً جديداً من قطعة الأرض التي سلمها لك الرب. اهتم بهذه الأرض ، ابحث أين توجد الأشواك ، أين توجد الهموم والاهتمامات المادية وإغراءات الغني وحب الشهوة ، وبمجرد أن تنزع تلك الأشواك الموجودة في نفسك ابحث عن المحراث الروحي الذي قال عنه يسوع : ” ليس أحد يضع يده علي المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله ” ( لو 9 : 62) . وبهذا تكون قد أعددت حقلاً جديداً. ثم بعد إعداد هذا الحقل ، اذهب وخذ بذارا من المعلمين ومن الشريعة ومن الأنبياء ومن الكتابات الإنجيلية ومن كلمات الرسل ، وازرعها في نفسك بتذكرها وبتنفيذها . وسوف يبدو لك أن هذه البذار تنمو من تلقاء نفسها ، ولكن الحقيقة أنها لا تنمو من مجرد تذكرك لها ، وإنما الرب هو الذي ينميها : ” أنا غرست وأبلوس سقي لكن الله كان ينمي ” ( 1 کو 3 :6) . وكما قال لنا الله من قبل ، إن هذه البذار لا تصبح قمحاً في الحال وإنما تكون أولاً نباتا ثم سنبلاً ثم قمحاً معداً للحصاد ( مز 4 : 28) .
14. ثم يقول : ” اختتنوا للرب وانزعوا غرل قلوبكم ” ( إر 4 : 4 ) . كان لابد أن يقول ” اختتنوا للرب ” . فإن الختان من الجانب الجسدي لم يقتصر على أهل الختان بحسب شريعة موسي وحدهم ، وإنما على أناس آخرين كثيرين . فكهنة الأوثان المصريين كانوا يختتنون لها ( للأوثان ) ، فكان هذا الختان من أجل الأوثان وليس للرب ، بينما ختان اليهود ربما كان للرب . فإذا كنا قد فهمنا معني اختتنوا للرب بالمعني الحرفي ، فلننتقل إلي معناها الرمزي حتى نعرف كيف يوجد بين المختونين بعضاً منهم مختتن للرب ، والبعض الآخر مختتن ولكن ليس للرب.
توجد كلمات أخري بخلاف كلمة الحق أي عقيدة الكنيسة : فإن الذين يمارسون الفلسفة ، قد ختنوا أخلاقهم وقلوبهم ويمارسون ما يمكن أن نطلق عليه ضبط النفس ؛ فإن الهراطقة يمارسون ضبط النفس وهم في الوقت نفسه مختتنين جسدياً، ولكن في هذه الحالة فإن ختانهم ليس للرب ، لأن الختان عندهم ينفذ بموجب عقيدة كاذبة . ولكن حينما تذهب إلى الكنيسة وتتبع تعاليمها الحقة ، فإنك لن تكون فقط مختناً، وإنما مختتن للرب .
” اختتنوا للرب وانزعوا غرل قلوبكم “.
إذا فهناك غرلة في القلب يجب نزعها. إن الغرلة هي خليقة منذ الولادة ، ثم يأتي الختان بعد ذلك ؛ فإذاً، الذي جاء بالولادة هو الذي نزع بالختان .
فإذا كانت الوصية تقول غرل قلوبكم ، فإنه لابد أن يكون هناك في القلب شيء منذ الولادة يسمى غرلة ، يجب علينا نزعه حتى نكون مختتنين من غرلة قلوبنا.
وإذا دققنا النظر في الآيات الآتية : ” لقد كنا بالطبيعة أولاداً في الغضب ” وأيضاً “جسد هذا الموت ” الذي ولدنا فيه ، إذا تأملنا في أنه ” ليس أحد طاهراً من دنس ولو كانت حياته يوماً واحداً علي الأرض ” ، فسوف نستخلص كيف أننا ولدنا بخطايا وبغرلة في قلوبنا. لأنه إذا كان القلب الذي فينا هو الذي يحمل العقل ، حيث توجد الأفكار ، ومن حيث تخرج الأفكار الشريرة ، فإن الإنسان الذي ينزع الأفكار الشريرة ينزع أيضاً غرلة القلب. أما الإنسان الذي لا ينزع غرلة قلبه ، فلننظر ما يتوعده به الله : ” لئلا يخرج كنار غيظي فيحرق وليس من يطفئ ” . إذا فإن غضب الله يشتعل مثل النار للذين لم يختتنوا له ، للذين لم ينزعوا عنهم غرل قلوبهم ، ” وليس من يطفئ بسبب شر أعمالكم ” . إن طعام هذه النار هو الأعمال الشريرة التي نفعلها ، وحيث لا توجد أعمال شريرة فإن النار لن تجد مأكلاً لها .
” اخبروا في يهوذا وسمعوا في أورشليم وقولوا اضربوا بالبوق في الأرض . نادوا بصوت عال”.
ان كلمة الله التي توقظ السامع ، والتي تعده للحرب ضد الشهوات ، وللحرب ضد القوات الشريرة ، والتي تهيئه أيضاً للاحتفالات السماوية ، هي هنا بمثابة البوق . ” نادوا بصوت عال وقولوا اجتمعوا فلندخل المدن الحصينة“.
إن الله لا يريدنا أن ندخل إلى مدينة غير محصنة وإنما إلى مدينة حصينة . فإن كنيسة الله قد حصنت بالحق الذي في المسيح يسوع ، فهو نفسه حصنها ، كما يقول داود النبي في المزمور ۱۸ : ۲ : ” الرب صخرتي وحصني ومنقذي”.
وأنتم جميعا الذين كنتم خارج صهيون ” ارفعوا الراية نحو صهيون ( اهربوا إلي صهيون ) احتموا . لا تقفوا ” : أنتم الذين كنتم في تقدم ونمو احتموا في صهيون ” لأني آتي بشر من الشمال وكسر عظيم ” . وعند مجيء هذا الشر ، فإن كل من لم يحتم ولم يدخل إلى المدن الحصينة أي إلى كنائس الله ، وبقي خارجاً، فسوف يؤخذ من الأعداء ويقتل . ومن هو هذا العدو ؟ لننظر إلى تكملة الآيات :
” قد صعد الأسد من غابته وزحف مهلك الأمم ” ( إر 4 : 7 ) ، هذا هو العدو الذي يجب أن نهرب منه . فمن هو هذا الأسد الذي يتتبعنا ؟ ينبهنا القديس بطرس ويقول لنا : ” إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو ، فقاوموه راسخين في الإيمان ” ( 1 بط 5 :8-9)
إذا يوجد أسد قد صعد من غابته : فأين هي هذه الغابة ؟ إنه سقط إلى أسفل . لقد نزل إلى أسافل الأرض ، إلى أعماقها.
أنت إنسان ، أنت أعلي من الشيطان ، لأنك أفضل منه علي أي حال من الأحوال . أما هو فبسبب فساده قد هبط إلى أسفل.
فإذا ما خرج هذا الأسد من غابته أي من مكان عقابه فإنه سوف يقال : ” قد صعد الأسد من غابته وزحف مهلك الأمم . خرج من مكانه ليجعل أرضك خراباً ” ( إر 4 : 7 ) . إنه يريد أن يدخل إلى أرضك أنت ، ويريد أن يفترس كل منا.
” تخرب مدنك فلا ساكن . من أجل ذلك تنطقوا بمسوح “.
إذاً، بما أن الأسد قد صعد إليك ليهددك وليبيد أرضك ، البس المسوح ، وابك وتنهد وتضرع إلى الله بالصلوات أن يفني ويهلك هذا الأسد حتى تتخلص منه ، ولا تسقط بين أنيابه . لأن هذا الأسد يحاول أن يصطادك عن طريق أذانك ، حين يلقي إليك بكلمات كاذبة محببة إلى نفسك ، حتى يجعلك تحيد عن طريق الحق . وهو يريد أيضا أن يفترس قدميك وينزعهما من فوق أرض الحق . ليكن ! تمنطق بمسوح واقرع صدرك ، أبك ، واصرخ صرخات الحرب حينما ترى العدو يهددك ، حتى يرتد حمو غضب الرب عنك ، لأنك ستكون قد دخلت إلى المدينة الحصينة . فلنشكر الله الذي ينقذنا في المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الأبدين آمين.
- أكمـل أوريجيـنوس : ” يمكنني أن أحلف كأمر طارئ لكي أتلافي عدم تصديق البعض لكلامي ، أما إذا كانت أقسامي بلا تبصر فإنها في هذه الحالة تكون خطية ” . وهذا لا يقبله أباء الكنيسة مثل القديس يوحنا الذهبي الفم .